"في صناعة الثقافة الحكي الشعبي نموذجاً" عبد السلام شرماط


فئة :  قراءات في كتب

"في صناعة الثقافة الحكي الشعبي نموذجاً" عبد السلام شرماط

"في صناعة الثقافة الحكي الشعبي نموذجاً" عبد السلام شرماط

الكتاب "في صناعة الثقافة الحكي الشعبي نموذجاً" لعبد السلام شرماط صدر عن دار مؤمنون بلا حدود سنة 2023م. يتكون الكتاب من مقدمة ومدخل وفصلين؛ وهما: الفصل الأول: الحكاية الشعبية، وقد اشتغل الكاتب من خلاله على نموذج ألف ليلة وليلة، والفصل الثاني: من السيرة الشعبية تناول فيه نماذج من السير من بينها التغريبة الهلالية.

لا شيء يلغي الحكاية في نظر الكاتب، الحكاية موجودة دائماً، وبهذا الشأن يطرح الكاتب سؤالا مهما في موضوعه مفاده لماذا الحكاية مهمّة جدّاً؟ فجزء كبير من هذا الكتاب يسعى للإجابة عن هذا السؤال في زمن هيمن فيه الفهم الرياضي والعلمي الدقيق على كل شيء، وبالتالي أصبحت المعارف والتجارب التي لا يمكن بحال من الأحوال إدخالها إلى المختبر، ينظر إليها بنوع من الريبة والحيرة، وتزداد حيرة الجميع، لماذا هي باقية؟ وما السر من وراء اللجوء إليها في كل وقت وحين؟ وهذا يشعرنا بأن الحكاية نوع من الصناعة الفنية والأدبية والثقافية بشكل عام، أليست الحياة حكاية أفراح وأحزان، ربح وخسارة، سعادة ومعاناة؟

يقربنا الكاتب من موضوع الصناعة الثقافية، فمفردة الصناعة هنا توحي بأن الحكاية الشعبية تتطلب مهارات في النسج والحكي فضلا على مهارات التأويل والقراءة التي يتميز بها الحكواتي أو الراوي... الحكاية الشعبية إذن صناعة لها طرائقها وآلياتها، وتكمن من ورائها، مواقف وتصورات وتوجيهات ومعاني ودلالات متعددة. أما عن تعريف الحكاية الشعبية، فهي تلك التي تناقلها الناس عن طريق الرواية الشفوية منذ القدم، ويؤثر الخيال الشعبي في صياغتها، وفي تطاير بعض الأحداث التاريخية والشخصيات، بالمبالغة والغرائبية، تأثير كبير، وتأتي الحكاية الخرافية في الإطار نفسه، وإن تميزت عن الحكايات الشعبية بأن أبطالها هم من البشر أو الجن، بينما تقف الحكاية الشعبية عند حدود الحياة اليومية والأمور الدنيوية العادية.[1]

أهمية الكتاب

تأتي أهمية هذا الكتاب بكونه يسلط الضوء على جانب مهم من الثقافة العربية في جانبها الشعبي خاصة في مجال الحكاية والسيرة؛ إذ ينبغي استثمار سردية الحكاية الشعبية في الوطن العربي والإسلامي، بكونها تشكل مجالا مشتركا لمختلف البنيات الثقافية في العالم الإسلامي، فاستثمار قراءة هذا الجانب المشترك، والذي يحضر عبر العالم الإسلامي بصور مختلفة ومتعددة، سيجعلنا ندرك جيدا ما تختزنه الذاكرة الشعبية من قيم التواصل والانفتاح على الآخر، وما تزخر به من قيم التراحم والتسامح، فضلا على الاقتراب أكثر من مميزات الجانب الإبداعي في بعده المركب والمفتوح على العالم الذي تتميز به الثقافة الشعبية في العالم العربي والإسلامي.

وربما قد يستغرب البعض مبادرا بالقول وما هي الفائدة يا ترى من الحكاية الشعبية؟ والجواب هنا يكون باستحضار الأدوار التي قام بها الاستعمار الغربي من أجل طمس جزء كبير من التراث الشعبي، مستهدفاً الهوية الوطنية على اعتبار أن التراث المحكي يختزن عقلاً جماعياً وثقافياً للمجتمع، مما ساهم في خلق قطيعة بين الشعوب وتراثها.[2]

الكتاب فيه توجيه لأهمية وضرورة العناية بالثقافة الشعبة، وهي "تواجه اليوم صعوبات في عرضها وتناولها بشكل يليق بها حتى تؤدي مهمتها المنوطة إليها. فأمام ظهور وسائل إعلامية من تلفزيون وراديو، بدأت هذه الأشكال تختفي وتتراجع لتحتويها أشكال فنية حديثة من قصص وروايات ومسرحيات وما إلى ذلك من الأشكال التعبيرية. ومع تطور وسائل التواصل الرقمية، أصبح لزاماً ضمان استمرار هذا اللون الحكائي عبر حفظه وتخزينه ونقله مع الانفتاح به على الخارج وتسويقه في الداخل، وبالتالي حمايته من الطمس والتشويه".[3]

ولا شك في أن الثقافة مفهوم مركب يغطي ويشمل مختلف مجالات الإبداع، فضلا عن أن الثقافة تشكل صلة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا يعني أن مشاريع النهوض الثقافي في العالم الإسلامي بالضرورة تنحو المنحى التكاملي في الرفع من شأن الثقافة كمدخل لا غنى عنه في التنمية والبناء الحضاري.

الثقافة الشعبية مفتاح لمعرفة المجتمع

الاهتمام بالثقافة الشعبية؛ في حد ذاته اهتمام بالهوية والخصوصية الثقافية لكل شعب من الشعوب عبر العالم؛ فالثقافة الشعبية تؤدي دورًا مهما في إبراز تراث الأمم وتعزيز خصوصيتها، فمن داخل الثقافة الشعبية تتجمع مختلف التجارب والأحداث والوقائع الكبرى التي مر بها شعب من الشعوب، فضلا على أنها تعكس جانبا كبيرا من الثقافة الضاربة في القدم من جهة واقع الناس وعيشهم واستقرارهم وابتكاراتهم وفنونهم في مختلف مجالات الحياة... فمعرفة جانب من الثقافة الشعبية لشعب من الشعوب، قد تأخذنا إلى طبيعة الحضارة والعلم والمعارف التي مر بها أجداد ذلك الشعب، وبالتالي فالثقافة الشعبية بالرغم من بساطتها، فهي مفتاح لا غنى عنه في مجال أنثروبولوجيا المجتمعات البشرية عبر العالم، فكل الثقافات في الهند وفي الصين واليابان والعالم العربي وأوروبا وأمريكا...لها وجه من وجوه الثقافة الشعبية التي يتشارك فيها الجميع بتعبيرات مختلفة ومتنوعة داخل النسق والثقافة الواحد؛ فالثقافة الشعبية إذن مشاع وملك للجميع لا تراهن على قاعدة الانسجام والمنطق والمعقولية، في مقابل الثقافة العالمة التي ترتبط بالنخبة المختصة في مجال من مجالات الثقافة التي تراهن على العلمية والمعقولية والمنطق.

ففي الوقت الذي تراهن فيه الثقافة العلمية على دور المدرسة المعلم والمتعلم الكتابة والتدوين... تراهن فيه الثقافة الشعبية على الحكي والراوي والرواية، وبهذا فالثقافة العلمية مدرسة النخبة، بينما الثقافة الشعبية مدرسة الجميع؛ فالراوي والحكواتي في مختلف الثقافات يحوم حوله كل الناس من مختلف الأعمار في الأسواق والساحات العامة والشوارع والدروب والأزقة والمناسبات...فهو لا يلزمهم بشيء إلا بالحضور فقط، وهذا يجعل من الثقافة الشعبية ذات حضور وتتبع كبير مقابل الثقافة العالمة. فالسؤال هنا من هي الجهة التي تؤثر في الأخرى هل الثقافة الشعبية لها تأثير على الثقافة العلمية؟ أم إن الثقافة العلمية ما هي إلا ترتيب وتنظيم وغربلة لكل ما هو شعبي؟ مع العلم أن مختلف أنواع الإبداع الأدبي في ثقافة ما، تجده يعكس جزءا كبيرا من المخيلة الشعبية للثقافة التي ينتمي إليها، وهذا وجه من وجوه التواصل الثقافي عبر العالم؛ ولأن "الثقافة الشعبية هي الثقافة الأكثر تعبيراً عن تفاعلات الحياة اليومية بوصفها ثقافة تنبع من الذات وتتجه نحو الذات، فإن شروط العصر بكل تحولاته تفرض علينا اليوم أن تخرج هذه الثقافة بكل أشكالها التعبيرية من دائرة الذات لتتجه نحو الآخر، حتى يطلع عليها ويعرف مضمونها وخصوصيتها، وهذا لا يتأتى إلا باستثمار النصوص وتطويرها وفق ما يقتضيه العصر، وبهذا قد يتحقق بعض التكافؤ بين الانبهار بالتقدم التقني والإعجاب بأشكال التعبير في الثقافة الشعبية التي لا تخلو من إعجاب وإثارة تثير بال الآخر، لينبهر بها ويجد نفسه يكرّرها ويمارسها في حياته اليومية، وبهذا تكون ثقافتنا الشعبية أدت دوراً مزدوجاً؛ تَمّثل الأول منها في الحفاظ على الخصوصيات الأصيلة لهذه الثقافة، وأصبح الثاني واجهة لثقافتنا عند الآخر، وبدل أن نعيش في دائرة الانبهار الثقافي الذي يؤدي إلى الغزو الثقافي، فإننا نمارس تبادل الثقافات بنوع من التكافؤ".[4]

ومن أجل تبادل الثقافات بشكل متكافئ يرى الكاتب قوله: وما يجب التنويه به، هو أن الإبداع الثقافي الأصيل والجاد، لا يسهم في تنمية الذوق فحسب، وإنما يساعد على تغيير المجتمعات والانتقال بها من دائرة الجمود والانغلاق إلى دائرة الإنتاج والنمو والتغيير. وعلى ضوء هذا، فإن المهتمين بالصناعة الثقافية مطالبون اليوم بتطوير المنتوج الثقافي والرقيّ بمحتواه، حتى يساير التطور التكنولوجي والرقمي أولاً، ويكون فضاءً قابلاً لتبادل المعرفة مع الآخر، بل وحماية الموروث الثقافي من الفوضى التي أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في إحداثها، وتسببت في إخراج هذا الموروث عن دوره الإنساني النبيل، وحلّت محله تفاهات قد تدمّره؛ لأنها أصبحت هي المنتوج المهيمن في السوق. فما أحوجنا إلى الحرص على تطوير عمليات الإنتاج الثقافي وفق ما يخدم الحس الإنساني النبيل، ويتماشى مع آليات السوق الداخلية والخارجية، ونحقق بالتالي صناعة ثقافية متوازنة يمكن استثمار الحكي الشعبي فيها لما يحتوي عليه من قيم إنسانية أصبح الإنسان اليوم في أمسّ الحاجة إليها، وتوظيفها في سلوكياته اليومية وفي علاقاته مع الجيران والأصدقاء وزملاء العمل. لذلك، تعد الحكاية الشعبية شكلاً تعبيرياً يطمح إلى تقويم الفرد حتى يكون عنصراً فاعلاً في المجتمع يدافع فيه عن هويته، ويؤمن بقيمه الأخلاقية ويضمن استمراره في محيطه، ولهذا لم تقف الحكاية الشعبية "عند تحقيق الرغبات، وإنّما ذهبت إلى أبعد من ذلك حينما أبلغتنا برسائل ذات قيّم إنسانية، أخلاقية وتربوية، مجملها مرتبط بالحياة الاجتماعية، ولهذا يمكننا اعتبارها نصاً إنسانياً".[5]

رسالة الى المختصين في صناعة الثقافة

كتاب "في صناعة الثقافة الحكي الشعبي نموذجاً" يعد رسالة ثقافية للمسؤولين على الشأن الثقافي في العالم الإسلامي، من هيئات ومنظمات ثقافية ووزارات للثقافة، بهدف التفكير في الحفاظ على تراث الحكي الشعبي، في زمن هيمنت فيه تكنولوجيا الإعلام والأنترنت، وأصبح للصورة عبر شاشة السينما والهاتف الدور الكبير في حياة الناس، وهذا له تأثير سلبي على الحكاية الشعبية خاصة من جهة أماكن العرض التي تناقص زوارها بشكل كبير. مثلا: اختفى الحكواتي في مقاهي المشرق؛ من بينها مقهى النافورة قرب المسجد الأموي بدمشق وحل محله التلفاز داخل المقهى، وفي ساحة جامع الفنا بمراكش، حيث كان للحكواتي دور كبير، وهو يحكي حكاية "سيف بن ذي يزن" أو "عنترة بن شداد" أو يحكي مقاطع من بطولات التاريخ الإسلامي (عمر بن الخطاب، علي بن أبي طالي، أو يوسف بن تاشفين...) لم يعد الوضع الآن كما كان عليه برحيل كثير من الحكواتيين، وهذا الوضع يتطلب ابتكار حلول تضمن استمرارية الحكاية الشعبية، والذي لن يتحقق إلا بفتح أوراش للصناعة الثقافية تستثمر ما هو حديث في الحفاظ على ما هو موروث.

[1] خالد غربي، الحكايات الشعبية والهوية الثقافية، نشر بتاريخ: 2021/09/01 موقع: https://aljadeedmagazine.com

[2] مقدمة الكتاب

[3] نفسه

[4] عبد السلام شرماط، المعتقد الشعبي والديني في أفريقيا، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود 24-أيار/مايو 2014

[5] الفصل الثاني من الكتاب.