بين التاريخ والتأريخ


فئة :  مقالات

بين التاريخ والتأريخ

بين التاريخ والتأريخ

علم التّاريخ من العلوم الإنسانيّة الحساسة والمهمة جداً، لما يوفره من معلومات تساعدنا في معرفة السنن (=القوانين) الإلهية التي تحكم مسيرة الأمم، ولهذا نجد القرآن الكريم قد حفل كثيراً بقصص الأمم الغابرة وما في تاريخها من دروس وعبر.

وهنا ملاحظة مهمة حول الفارق الكبير ما بين تأريخ القرآن للأحداث وتأريخ المؤرخين؛ فالقرآن الكريم لا يحفل بذكر التواريخ المفصلة، وكثيراً ما يغفل الأسماء والأحداث الجانبية ليصوغ الأحداث صياغة تاريخية هي أقرب إلى المعادلات الرياضية، التي تصدق على الأمم في كل زمان ومكان، على النقيض من أعمال المؤرخين التي تخالطها الكثير من المغالطات والإشكاليات التي نذكر بعضها فيما يأتي:

1. إن "الوقائع" التي وقعت فعلاً في التاريخ هي في الأعمِّ الأغلب غير الوقائع المدوَّنة في كتب التاريخ، ولاسيما ما يتعلق بالتاريخ البشري؛ لأن عملية التأريخ تنفذ عادة من خلال الوثائق التي تصل إلى المؤرخ الذي ـ لسبب ما في نفسه ـ لا يدونها كما وصلت إليه، وإنما يدونها بالطريقة التي تروق له، فتخرج من بين يديه في حلة جديدة لا يكاد يجمع بينها وبين الأصل إلا العناوين، أضف إلى هذا أن المؤرخين يميلون في العادة إلى ترسيخ آراء الجماعات التي ينتمون إليها، أكثر من ميلهم إلى تصويب تلك الآراء، وهذا ما يؤيده المؤرخ البريطاني الأشهر أرنولد توينبي (1889 – 1975م) ولا يكاد ينجو من هذه العلل مؤرخ من المؤرخين مهما ادعى النزاهة والموضوعية، وهذا ما يجعلنا نقرأ روايات التاريخ بحذر شديد، ولا نسلِّم بما جاء فيها إلا بعد نقدها وتمحيصها، ولا شك بأن هذه العلة التي تعتري عملية التأريخ ترتب على المؤرخين واجباً أخلاقياً يحتم عليهم الالتزام بأعلى درجات الحياد، حتى يدونوا التاريخ كما حصل فعلاً، لا كما يتمنون لو أنه حصل، وحينئذ فقط يمكن أن نستفيد مما دوَّنوه.

2. إن عامة المؤرخين مولعون بالتهميش والعزل والحذف والتعتيم على الأحداث التي لا تروق لهم، ولهذا نجد فراغات واسعة في سجلات التاريخ كانت مخصصة لوقائع "التاريخ السري" و"التاريخ المسكوت عنه" و"التاريخ الممنوع" وقد لاحظنا أن تلك الفراغات يمكن أن تملأها أشكال أخرى من المدونات، وبخاصة منها الأعمال الأدبية، من قصص وروايات وأشعار وسير ذاتية، فالأدب يمثل فضاء واسعاً أكثر حرية من التاريخ، وهو يتسع لسرد المهمَّش والمنسي والممنوع والمسكوت عنه، وقد حفلت النصوص الأدبية قديماً وحديثاً بالكثير من النصوص التي تعبر عن تلك العلاقة الشائكة بين الأدب بصفته مشاهداً حراً، وبين التاريخ بصفته شاهداً كتوماً مولعاً بالعزل والتهميش والحذف والتعتيم، وهذا يعني أن الأدب يشكل رديفاً غنياً يمكن أن يحدثنا عن التاريخ المسكوت عنه والمهمش والممنوع والمحذوف، بل إن دراسة العلاقة بين النص الأدبي ومضمونه التاريخي من جهة، وبين المدونات التاريخية من جهة أخرى، يمكن أن يعيد القيمة الحقيقية لكل من الأدب والتاريخ معاً، وإذا ما نجح الباحث في هذه المهمة ـ التي نعترف بصعوبتها وإشكالياتها المعقدة ـ فإنه يمكن أن يعيد للتاريخ صفحات مهمة، فيجعل منه مرجعاً غنياً نستفيد من دروسه العظيمة، وإلا بقي التاريخ كتاباً مشوهاً مليئاً بالفراغات، حافلاً بالغريب والعجيب والأساطير والشعوذات والتدليس!

3. إن الحدث التاريخي يتكون من معطيات عديدة، منها الحدث نفسه، ومنها الانطباع الذي يخلفه فيمن عاشوه وتأثروا به، ومنها الأشخاص الذين شاركوا فيه، ومنها التوظيف الإعلامي للحدث، ولهذا نجد أن حدثاً معيناً يحدث لأشخاص هامشيين يمكن أن يمضي بهدوء دون أن يحس به أحد، وفي المقابل يمكن للحدث نفسه أن يثير ضجة إعلامية صاخبة، وقد يثير حروباً طاحنة إذا ما تعلق بأشخاص ذوي مكانة خاصة في المجتمع، كما أن إعصاراً مدمراً يودي بحياة مئات الآلاف من البشر يمكن أن لا يثير من الاهتمام والذعر ما يثيره انفجار تافه يصيب زعيماً ما بجروح طفيفة، ولهذا فإن تقييم الحدث التاريخي لا يتوقف على الحدث وحده، بل يتوقف على جملة من الظروف التي تحيط به، دون إغفال للتوظيف الإعلامي للحدث، فإن القدرة الإعلامية الهائلة التي أصبحت اليوم لدى بعض الدول والهيئات والمؤسسات والأحزاب والجماعات يمكن أن تجعل من الحدث التافه حدثاً مدوياً قادراً على تحريك الرأي العام العالمي، وقد يكون له تأثير حاسم في تغيير مسار السياسة العالمية ..

4. إن الحدث التاريخي لا يمكن تكراره أبداً، فهو بمجرد أن يقع يكون قد عبر بوابة الحاضر إلى الماضي، وأمسى خبراً في سجلات التاريخ، ومن ثم فإن العبارة التي تقول: (التاريخ يعيد نفسه) هي في الحقيقة عبارة شاعرية لا تمتُّ إلى الواقع بأية صلة، اللهم إلا إذا أريد بها السنن الإلهية التي تحكم مسيرة التاريخ، فما من شك بأن تاريخ الوجود يخضع لسنن صارمة لا تتبدل ولا تتحول كما بين الله عز وجل في آيات كثيرة، منها قوله تعالى : (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) سورة الأحزاب 62، وهذه السنن قد تتيح الفرصة لوقوع أحداث تتشابه في خطوطها العريضة. أما الحدث نفسه، فلا يستعاد إلى يوم القيامة.

5. إن حوادث التاريخ سلسلة مترابطة من الأحداث التي يأخذ بعضها برقاب بعض، فالحاضرُ غَرْسُ الماضي، والمستقبل جَنْيُ الحاضر، وكلُّ حدث هو نتيجة للحدث الذي سبقه، وهو في الوقت نفسه مقدمة للحدث الذي سوف يليه، وهكذا تتلاحق الأحداث تباعاً، حدثاً في إثر حدث بما يشبه الانفجار الذري المتسلسل الذي ينتشر في كل اتجاه، ولو قُدِّر لنا أن نرى في وقت واحد كل ما حدث منذ بدء الخليقة وحتى يومنا الحاضر لرأينا تلك الشبكة الخفية المعقدة من العلاقات التي تربط أحداث التاريخ بعضها ببعض، وعندها سوف نرى أن تاريخ البشرية أشبه بشجرة عملاقة متشابكة الفروع والأغصان والأوراق، نبتت من تلك الحبَّة الشَّهية التي اختلسها آدم وحواء في لحظة فريدة من لحظات الضَّعف البشري .. تلك الحبة التي مازلنا نسدِّد ثمنها حتى اليوم!

6. في التاريخ البشري كثيراً ما نرى "الماضي" يحضر بقوة في "الحاضر" بل إن الموتى كثيراً ما نراهم حاضرين في الحاضر حتى وإن مضى على موتهم آلاف السنين، وقد لاحظنا أن هذه العلة تلازم التاريخ البشري في كل أمة، وفي كل عصر، فالبشر مولعون بالماضي إلى حد الهَوَس، وهم يبدون ميلاً قوياً لاستحضاره في كل مناسبة، وكأن الحاضر لا يكتمل إلا بالماضي، مما يؤكد أن الماضي عند مختلف الأمم لا يفقد سطوته ونفوذه وجلاله وقدسيته حتى وإن مضى عليه قرون، ويبدو لي أن البشر لا يستحضرون الماضي بهذه الصورة الملحَّة إلا لخدمة أغراضهم الحاضرة، ولهذا نراهم يستعيرون من الماضي مقولاته وأفكاره وشخوصه ومواقفه ولغته، بل كثيراً ما يستعيرون حتى أزياءه مبالغة منهم في محاكاة الماضي حتى في شكله، لا في مضمونه فحسب، حتى ليخيل إليك في كثير من الأحيان أن البشر مجرد ممثلين للماضي في مسرح الحاضر، وهم في هذه الحال يشبهون من يتعلم لغة جديدة، فهو بطريقة غير شعورية يترجم اللغة الجديدة ذهنياً إلى لغته الأم لكي يستوعب معانيها، فكذلك يفعل ممثلو الماضي الذين لا يفهمون الحاضر إلا بعد ترجمته بلغة الماضي، غافلين عن أن هذا السلوك الماضوي ـ على ضرورته في بعض الأحيان ـ ينطوي على جرعة عالية من الخداع والوهم، لأن هذا السلوك يتجاهل أن لكل عصر واقعه وحقائقه وطبيعته وأدواته، وأن الماضي لا يمكن أن يعيش في الحاضر إلا كما يعيش السمك خارج الماء!

7. إن التاريخ البشري يسير باستمرار في خط صاعد من التطور، وهذا ما نلاحظه بوضوح في مضمار الكشوف العلمية والاختراعات والإنجازات المادية. أما على الصعيد الاجتماعي والسياسي، فليست الصورة بهذا الوضوح؛ لأن التحسن الفعلي على هذا الصعيد بطيء جداً إذا ما قورن بالتقدم المذهل المتسارع على الصعيد العلمي المادي، وهذا لا ينفي أن البشرية قد أحرزت تقدماً عظيماً على الصعيد الاجتماعي والسياسي، فقد حصل تحسن ملموس في مختلف أحوال البشر، فالتنظيم الإداري والقانوني والسياسي للمجتمع البشري أصبح أفضل بكثير مما كان عليه في الماضي، وكذلك الحروب التي كانت في الماضي هي المحرك الأهم للأحداث قد خمدت اليوم في معظم أرجاء المعمورة، ويبدو أنها ماضية إلى الخمود نهائياً عما قريب، بعد أن أدرك البشر أن "الصلح خير" وانتبهوا إلى فداحة الضريبة التي يدفعونها في الحروب، ولاسيما قد باتت الأرض مهددة بكوارث بيئية ماحقة تهدد البشرية بالفناء، وتفرض على البشر تناسي خلافاتهم التافهة، وتجبرهم على الالتفات إلى مصيرهم المشترك الذي بات مهدداً بأخطار فادحة توجب عليهم أن يعملوا معاً يداً بيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .. قبل فوات الأوان!