بين الذات والآخر: تفسير الأنانية في ضوء النظرية التفاعلية الرمزية

فئة :  مقالات

بين الذات والآخر: تفسير الأنانية في ضوء النظرية التفاعلية الرمزية

بين الذات والآخر: تفسير الأنانية في ضوء النظرية التفاعلية الرمزية

- حول مفهوم الأنانية (نظرة تمهيدية):

يُنظر إلى الأنانية بوصفها نزعة لتبني آراء إيجابية حول الذات، وتعزيزها. ويتضمن عادةً رأياً محابياً للذات بشأن السمات والأهمية الذاتية، سواء من الناحية العقلية أو البدنية أو الاجتماعية أو غيرها. فالشخص المغرور يكون لديه شعور غامر بمركزية الذات (أي بسماته الشخصية). وتعني الغرورية أن يجعل الإنسان من ذاته مركزاً لعالمه دون الاهتمام بالآخرين، بما في ذلك من يحبهم أو يعدّهم "مقربين"، إلا في الإطار الذي يحدده هذا الشخص. والأنانية اصطلاحاً تعني رؤية النفس، وكل ما يضيفه العبد لنفسه؛ من حبه لذاته، كأن يقول: نفسي، وروحي.

خلاصة القول، يمكننا تعريف الأنانية بأنها حب الذات المطلق والشديد حتى ولو على حساب الآخرين، وبغض النظر عن الأذى الذي يمكن أن يلحق بهم. هذا الحب الفردي يخلق في الإنسان الأناني رغبة ذاتية وغيرة جنونية للسيطرة على الآخر وامتلاك ما هو له بدون حق، حتى يصل لدرجة حرمان الآخر من كل شيء يمتلكه وانتزاعه منه حتى لو لم يكن الأناني بحاجة لهذا الشيء. مما يترتب على هذه الصفة (الأنانية) العداء بين الناس مع كل ما يندرج معه من: الغرور والتكبر، الاتكالية، إراحة النفس والتسلق على أكتاف الآخرين بضمير ميت وبدون مبالاة وعد الإحساس بآلام الآخرين، الحسد والكره والحقد، الطمع والجشع.... كما يمكننا القول بأنها "سلوك أو توجه نفسي يتمثل في وضع مصالح الذات فوق مصالح الآخرين، مع إعطاء الأولوية للرغبات الشخصية والمنافع الفردية دون الاهتمام الكافي باحتياجات أو مشاعر الآخرين. يمكن أن تكون الأنانية سمة شخصية أو سلوكاً ظرفياً يظهر في مواقف محددة".

بذلك تعدّ الأنانية من الصفات السلبية التي تؤثر في العلاقات الاجتماعية، وتُفسد توازن المجتمع، حيث يعيش الشخص الأناني في عالم يركز على نفسه، مفضلاً مصالحه الشخصية على احتياجات الآخرين، حيث تؤدي الأنانية إلى آثار سلبية على العلاقات الاجتماعية، فالشخص الذي يفكر في نفسه فقط يهمل مشاعر الآخرين، مما يخلق شعوراً بالاستغلال، فعندما يدرك الأصدقاء أو أفراد العائلة أن شخصاً ما يضع مصلحته فوق كل شيء، تبدأ الثقة في التآكل، على سبيل المثال: قد يشعر أحد الأصدقاء بالإحباط إذا كان صديقه لا يستمع لمشاكله، مما يؤدي إلى تباعد العلاقة وفقدان التواصل. وعلى مستوى أوسع، تؤثر الأنانية في المجتمع كله، عندما يسيطر التفكير الأناني على الأفراد، يتراجع التعاون، وتغيب قيم التشارك والعطاء، المجتمعات التي تنتشر فيها الأنانية تعاني من ضعف الروابط بين الأفراد، حيث يصبح التعاون نادراً، مما يؤدي إلى صراعات وأزمات، وفي مثل هذه البيئات، يسعى كل فرد لتحقيق مصالحه الشخصية دون الاكتراث بالآخرين.

- النظرية التفاعلية الرمزية:

تعدّ النظرية التفاعلية الرمزية إحدى النظريات الأساسية في علم الاجتماع التأويلي (قصيرة المدى)، التي تركز على دور الرموز والمعاني في تشكيل التفاعلات الاجتماعية. وتنطلق من فكرة أن الواقع الاجتماعي ليس ثابتاً، بل يُبنى من خلال التفاعلات اليومية بين الأفراد، حيث تُستخدم الرموز (كاللغة، الإيماءات، الرموز الثقافية) كأدوات للتواصل وتبادل المعاني. وترتكز هذه النظرية أن المعاني الاجتماعية تُبنى عبر التفاعل وليست مُسلّمة مسبقاً، فعلى سبيل المثال نجد أن كلمة "حرية" - حسب هذه النظرية - قد تحمل معاني مختلفة بناءً على السياقات الاجتماعية المختلفة. 

ظهرت في أوائل القرن العشرين على يد جورج هربرت ميد، الذي رأى أن الهوية الذاتية تتشكل عبر التفاعل مع "الآخر" (المجتمع). ثم طورها تلميذه هربرت بلومر الذي صاغ مصطلح "التفاعلية الرمزية" في الثلاثينيات، مؤكداً على مرونة المعاني وقابليتها للتغيير، كما ارتبطت أيضاً بمدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع، التي اهتمت بدراسة السلوك البشري في الحياة اليومية.

إن عملية التفاعل هي الفعل الاجتماعي، وهي النظام الرمزي، والأصل اللغوي الكلمة نظام يقال: نظم الشيء ينظمه ونظمه، نَظْماً ونِظاماً أي ألفه وجمعه في سلك واحد فانتظم وتنظم. وفي الدلالة الاجتماعية يُراد به مجموعة المبادئ والتشريعات والأعراف، وكل الأمور التي تنتظم بها حياة الأفراد والمجتمعات والدول. والنظام الرمزي قيمته تتجلى في تحقيق عملية التواصل الإنساني ويرى" ليفي شتراوس" أن الثقافة مجموعة من المنظومات الرمزية التي تحتل المرتبة الأولى فيها اللغة، الفن، الدين والعلم.

ويقابل عملية التفاعل الرمزي فهم الرمز وهذا يعتمد على عملية ذهنية مرهونة بنشاط العقل ومخزونه المعرفي من المعاني والتصورات والمعتقدات. إن أول من أطلق مصطلح التفاعل الرمزي هو العالم هربرت بلومر وكان يعني فيه: "إن الفعل الاجتماعي التوجه للحصول على استجابة من آخرين يؤدي إلى عملية التفاعل، وهذا يعتمد على الخاصية الرمزية للعقل ضمن إطار عملية التفاعل والاتصال. والمتفاعلون لا يتبعون وصفات اجتماعية ثقافية ثابتة، إنّما يؤولون معنى العقل والرمز ولهذا لا تعتبر العمليات الاجتماعية والعلاقات ونواتجها من بناءات اجتماعية ثقافية كأشياء ثابتة، إنما عمليات ديناميكية متغيرة ومفتوحة". إضافةً إلى هذا التعريف تعتبر اللغة هي أساس النظام الرمزي، والتي هي رموز دالة تعبر عن عمليات التفاعل والاتصال، تفهم من خلال خبرات الجماعة، وسياق الفعل، ولهذا يعتبر اكتساب الفرد لخبرة الجماعة في النظام الرمزي هو أساس قدرته على التفاعل. وبالنظـر إلى مصطلـح النظرية التفاعلية الرمزيـة نجـد أنه يتضمن مصطلحات عديدة، وهي كالآتي:

1- التفاعل INTERACTION: وهي سلسة متبادلة ومستمرة من الاتصالات بين فرد وفرد أو فرد مع جماعة أو جماعة مع جماعة أخرى.

2- المرونة FLEXIBILITY: ويقصد بها قدرة الإنسان أن يتصرف في مجموعة ظروف بطريقة واحدة في وقت واحد وبطريقة مختلفة في وقت آخر وبطريقة متباينة في فرصة ثالثة.

3- الرموز SYMBOLS: وهي مجموعة من الإشارات المصطنعة يستخدمها الناس فيما بينهم لتسهيل عملية التواصل وهي سمة خاصة في الإنسان وتشمل عند جورج ميد اللغة وعند بلومر المعاني وعند جوفمان الانطباعات والصور الذهنية.

4- الوعي الذاتي SELF CONSCIOUSNESS: وهو مقدرة الإنسان على تمثل الدور، فالتوقعات التي تكون للآخرين عن سلوكنا في ظروف معينة هي بمثابة نصوص يجب أن نعيها حتى نتمثلها على حد تعبير جوفمان.‏

بذلك تعتبر التفاعلية الرمزية شكلاً أو وجهاً من أوجه سوسيولوجيا الفهم والتأويل، وهي تنتمي إلى السوسيولوجيا الأمريكية المعاصرة، حيث ركزت هذه النظرية المعاصرة على قضايا ومشكلات معقدة تتمثل في دراسة السلوك والتفاعل والمواقف الاجتماعية والجماعات الصغرى والفرد والمواقف والانفعالات، وغير ذلك من مشكلات متعددة، أو يمكن القول إن التفاعلية الرمزية هي عملية التفاعل الاجتماعي التي يكون فيها الفرد على علاقة اتصال بعقول الآخرين، وحاجاتهم، ورغباتهم الكاملة، وتعتبر التفاعلية الرمزية عن ذلك التفاعل الذي يحدث بين مختلف العقول التي تميز المجتمعات الإنسانية، وهي ترتكز على مبدأين هامين إذ تهتم بوحدة التحليل (التفاعل) وتعتمد على الرموز والمعاني، أي أن العلاقات الاجتماعية ما بين الأفراد في المجتمع هي نتاج للرموز والمعاني.

- المقولات النظرية للتفاعلية الرمزية في رؤيتها للواقع الاجتماعي والإنسان:

في حقيقة الأمر تعتقد النظرية التفاعلية بأن الحياة الاجتماعية وما يكتنفها من عمليات وظواهر، وحوادث ما هي إلا شبكة معقدة من نسيج التفاعلات والعلاقات بين الأفراد والجماعات التي يتكون منها المجتمع. فالحياة الاجتماعية يمكن فهمها واستيعابها، واستيعاب مظاهرها الحقيقية عن طريق النظر إلى التفاعلات التي تقع بين الأفراد.

بناءً على ما سبق، تنطلق هذه النظرية في رؤيتها للواقع الاجتماعي والإنسان من التفاعلات الفردية أو الجماعات الصغيرة (كالعائلة) بدلاً من البنى الاجتماعية الكبرى كالطبقات الاجتماعية، حيث تعدّ الرموز ومعانيها مثل (الكلمات، والإيماءات، والأشياء) حجر الزاوية في التفاعل الاجتماعي، وتعطي هذه الرموز معانٍ للأشياء والأحداث، وهي مفتاح فهم سلوك الآخرين، إلا أن المعاني ليست جوهرية للأشياء، بل تُشتق من خلال التفاعل بين الأفراد. مثال ذلك تعدّ "الوردة الحمراء" رمزًا يعبر عن الحب في ثقافة ما أو معنى آخر في ثقافة أخرى، مما يدل أن المعاني تتغير باستمرار مع تطور التفاعلات، فيجعل الواقع الاجتماعي عملية تجدد مستمر.

يتم بناء الواقع الاجتماعي من خلال التفاعلات المستمرة بين أفراد الجماعة، ومن خلال التفاعل القائم، نفهم معنى الأفعال ونطور توقعاتنا حول سلوك الآخرين، حيث تشمل عملية التواصل اللغة، الإيماءات، الرموز الثقافية كالملابس أو العادات مما يجعلها تلعب (الرموز) دوراً أساسياً في تسهيل عملية التفاهم المشترك، لكن تفسيرها يعتمد على السياق والتجربة الشخصية. وفيما يتعلق بالبناء الاجتماعي للذات تعتقد هذه النظرية أن الهوية الفردية لا تولد بل يتم بناؤها من خلال التفاعلات الاجتماعية، حيث نرى أنفسنا من خلال عيون الآخرين ونطور صورة ذاتية بناءً على ردود أفعالهم الاجتماعية. بمعنى آخر، تتشكل الهوية من خلال "النظر في مرآة الآخرين" أي تأثير رؤية المجتمع للفرد على تصوره عن ذاته، فالطفل يتعلم أدواره الاجتماعية عبر تقمص أدوار الآخرين كالتفاعل مع الأقران من خلال عملية التنشئة الاجتماعية. وفي مجال التسويق تؤول التفاعلية الرمزية تفاعل المستهلكين مع العلامات التجارية كرموز للهوية (مثل اقتناء الفرد موبايل آيفون كرمز للرفاهية).

خلاصة القول، تؤكد نظرية التفاعلية الرمزية على دور اللغة في صياغة الأنشطة الذهنية للأفراد ودورها في الاتصال الاجتماعي في بناء معاني الرموز من خلال التفاعل الاجتماعي، كما أنها تعدّ مدخلاً لتفسير كيفية اكتساب الفرد المعاني التي تشكل الصور والانطباعات والتوقعات عن الآخرين بواسطة الرموز، ويمكن تحديد المقولات النظرية للتفاعلية الرمزية وطريقة توظيفها من خلال ما يلي: 

أ- يعد المجتمع نظام تتشكل فيه المعاني والرموز التي تُعد جزءاً من النشاط الاجتماعي الإنساني. 

ب- يتم بناء الحقائق والاتفاق عليها من خلال التفاعل الرمزي بين الأفراد في المجتمع؛ أي إن الحقيقة للواقع لا تتوافر بمعزل عن تفاعل الناس، وتأويلهم لما هو موجود.

ج- تُعد الانطباعات التي يكونها الأفراد عن أنفسهم وعن الآخرين بمثابة بناءات شخصية للمعاني الناتجة عن التفاعل الرمزي والتي بدورها تمثل أهم حقائق الحياة الاجتماعية. 

د- يعد السلوك الإنساني حيال المواقف الحياتية المختلفة عبارة عن بناءات شخصية عن الذات وعن الآخرين في المجتمع. 

ه- إن الكائنات البشرية تسلك إزاء الأشياء في ضوء ما تنطوي عليها هذه الأشياء من معاني ظاهرة لهم. بمعنى آخر، إن البشـر يتصـرفون تجاه الأشياء على أساس ما تعنيه لهم تلك الأشياء ووفق ما يرونها بنظرهم. 

و- إن المعاني هي نتاج التفاعل الاجتماعي في المجتمع الإنساني، وهذه المعاني تتغير وتتعدل وتُستخدم عبر عملية فهم وتأويل يستخدمها كل فرد في تعامله مع الإشارات التي يواجهها. 

ز- تكمن أهمية التفاعلية الرمزية في فهم السلوك البشري، حيث تساعدنا هذه النظرية على فهم لماذا يتصرف الناس بالطريقة التي يتصرفون بها وكيف يؤثر السياق الاجتماعي على سلوكهم. كما تساعدنا في تحليل الظواهر الاجتماعية وبالأخص (المنمنمات الاجتماعية)، حيث يمكننا استخدام التفاعلية الرمزية لتحليل مجموعة واسعة من الظواهر الاجتماعية، مثل الانحراف والجريمة والتمييز والتنمر الاجتماعي، بالإضافة إلى تطوير العلاقات بين الأفراد من خلال استخدام مبادئ التفاعلية الرمزية لتحسين التواصل والتفاهم الاجتماعي بينهم.

ح- يجب على الباحث ربط السلوك الضمني (الكامن) بالأنماط السلوكية الظاهرة، حيث يبدأ من الأنماط السلوكية الظاهرة ثم يحاول الكشف عن المعاني التي يضفيها الفاعلون على هذه الأنماط.

ط- يجب على الباحث أن يركز على الذات كموضوع وعملية في نفس الوقت، فيدرس السلوك من وجهة نظر الأفراد موضوع الدراسة والبحث، موضحاً تحول الذات عبر المعاني المختلفة في المواقف السلوكية المختلفة.

ك- وأخيراً يجب على الباحث أن يربط الرموز والمعاني التي يستخدمها الأفراد بالدوائر الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية الأوسع لكي يفهم ويؤول الحقيقة الاجتماعية من خلال المعاني التي يضفيها الأفراد على أفعالهم خلال عملية التفاعل الاجتماعي، وإلا ظل التحليل الذي يقوم به عند مستواه السيكولوجي.

- تفسير نظرية التفاعلية الرمزية لمشكلة الأنانية:

تُعرف نظرية التفاعلية الرمزية بأنها إطار نظري يركز على الرموز والخطابات اليومية كوسائط لتفاعل الأفراد وتكوين المعاني الاجتماعية تعتمد النظرية على الفكرة الأساسية التي تقول إن الرموز عموماً، والرموز الاجتماعية تؤثر في سلوك الفرد وتشكيل هويته وتفاعله الاجتماعي، وتحاول النظرية فهم كيفية استخدام وتفسير هذه الرموز في سياقات متنوعة ومتعددة الثقافات.

تُعرف التفاعلية الرمزية الأنانية من خلال السياق الاجتماعي الذي يحدد معاني السلوكيات. فـ"الأنانية" قد تفهم كسلوك سلبي في ثقافة تقدر التعاون، بينما تعتبر استراتيجية بقاء في مجتمعات تنافسية على سبيل المثال، إذا كان الفرد يعيش في بيئة تشجع الفردية (كالرأسمالية)، قد يُنظر إلى الأنانية كـ "ذكاء عملي" بدلاً من انحراف أخلاقي.

تسعى النظرية التفاعلية الرمزية إلى تقديم رؤية فريدة لفهم مشكلة الأنانية، حيث تركز على كيفية تعلم الأفراد وتفسيرهم للرموز والمعاني المتعلقة بـ "الذات" و"الآخرين" من خلال التفاعل الاجتماعي. وتذهب نظرية التفاعلية الرمزية في تفسير مشكلة الأنانية أن الأفراد لا يولدون بفهم فطري للذات، بل يتطور هذا المفهوم من خلال التفاعل مع الآخرين (تكوين الذات). يتعلم الأطفال أولاً تمييز أنفسهم ككيانات منفصلة، ثم يبدؤون في استيعاب معاني ورموز الأدوار الاجتماعية والتوقعات المرتبطة بها. وفي سياق مفهوم الأنانية، قد يتطور لدى الفرد مفهوم مشوه عن الذات، حيث يُركز بشكل مفرط على احتياجاته ورغباته الخاصة، مع إهمال أو تجاهل احتياجات ورغبات الآخرين. وقد يكون هذا نتيجة لتجارب اجتماعية مبكرة، مثل تلقي اهتمام مفرط أو نقص في التوجيه حول أهمية التعاطف والمشاركة.

وفي هذا السياق، تلعب اللغة والرموز دوراً حاسماً في تشكيل فهمنا للأنانية من خلال الكلمات والعبارات المستخدمة لوصف السلوك الأناني، مثل "مُتمركز حول ذاته"، "غير مُبالٍ"، أو "مُستغل"، تحمل معاني سلبية تعزز فهمنا للأنانية كمشكلة اجتماعية. ومن خلال التفاعل مع الآخرين، يتعلم الأفراد هذه المعاني ويبدؤون في تطبيقها على أنفسهم وعلى الآخرين. إذا تلقى شخص ما باستمرار تعليقات سلبية حول سلوكه الأناني، فمن المرجح أن يُطور هوية ذاتية تتضمن هذه الصفة. وهكذا تتشكل هوية الفرد من خلال تفاعله مع الآخرين. إذا تعرض شخص لانتقادات متكررة بسبب سلوكياته "الأنانية"، فقد يتبنى هذا الوصف كجزء من هويته، أو قد يعيد تعريفه بناءً على السياق. مثلاً، قد يرى نفسه "واقعياً" بدلاً من "أناني" في بيئة عمل تنافسية.

كما تؤكد النظرية التفاعلية الرمزية على أهمية التفاعل الاجتماعي في تشكيل السلوك. من خلال التفاعل مع الآخرين، حيث يتعلم الأفراد توقعات الأدوار الاجتماعية (التصرف ضمن توقعات الآخرين) وكيفية التفاعل مع الآخرين بطرق مقبولة. وفي حالة الأنانية، قد يفشل الفرد في استيعاب أو تطبيق الأدوار الاجتماعية التي تتطلب التعاون والمشاركة والتعاطف. قد يكون هذا بسبب نقص في فرص التفاعل الاجتماعي الإيجابي، أو بسبب تفسير خاطئ للأدوار الاجتماعية، حيث يُعتبر تلبية الاحتياجات الشخصية أولوية مطلقة بغض النظر عن تأثير ذلك على الآخرين. كما يشير مفهوم "الآخر المُعمم" في التفاعلية الرمزية إلى مجموعة التوقعات والقيم والمعايير الاجتماعية التي يشترك فيها أفراد المجتمع ويساعد هذا المفهوم الأفراد على فهم كيفية رؤية الآخرين لهم وكيفية تقييم سلوكهم، فالشخص الأناني قد يكون لديه فهم ضعيف أو مُشوه لـ "الآخر المُعمم"، مما يجعله غير قادر على فهم كيف ينظر إلى سلوكه من قبل الآخرين، وبالتالي لا يشعر بالحاجة إلى تغييره. مثال ذلك طفل نشأ في بيئة تركز بشكل كبير على تلبية احتياجاته ورغباته دون توجيه حول أهمية مشاركة الآخرين أو مراعاة مشاعرهم، قد يطور سلوكاً أنانياً. من خلال التفاعل مع الآخرين في المدرسة أو في الأنشطة الاجتماعية، قد يتلقى الطفل تعليقات سلبية حول سلوكه، مثل "أنت لا تشاركنا ألعابك" أو "أنت لا تهتم بمشاعر الآخرين". هذه التعليقات تساعد الطفل على فهم المعنى السلبي للأنانية وتبدأ في التأثير على مفهومه لذاته.

خلاصة القول، تسعى التفاعلية الرمزية إلى فهم الأنانية كناتج لعملية اجتماعية، حيث يتعلم الأفراد المعاني والرموز المتعلقة بالذات والآخرين من خلال التفاعل مع الآخرين. كما يمكننا تطوير استراتيجيات فعّالة من خلال التفاعلية الرمزية لتغيير السلوك الأناني وتعزيز السلوكيات الاجتماعية الإيجابية. وتظل النظرية التفاعلية الرمزية أداةً قوية لفهم كيفية بناء الأفراد للواقع الاجتماعي عبر التفاعل الاجتماعي اليومي. يؤخذ على هذه النظرية أنها تركز على التفاعلات الفردية وتتجاهل تأثير الأبنية الاجتماعية والأنساق الكبرى كالمؤسسات الاقتصادية والسياسية في ترسيخ مفهوم الأنانية، كما تواجه هذه النظرية صعوبة بالغة في قياس المشكلة المدروسة، حيث يصعب تحويل المفاهيم الرمزية والمعاني إلى بيانات قابلة للقياس الكمي وبالأخص في كيفية قياس مشكلة الأنانية لدى الفرد، وأخيراً نجد أن هذه النظرية تهمل الدوافع المادية أو البيولوجية المؤثرة في السلوك الإنساني.

إن الأنانية ليست سلوكاً ثابتاً، بل تُبنى عبر التفاعلات الرمزية والسياقات الاجتماعية ففي مجتمعات تعاني من الفقر على سبيل المثال، قد يفسر حب الذات (الأنانية) كضرورة للبقاء، لا كسلوك سلبي. لذا تتطلب دراسة مشكلة الأنانية الاستعانة بالنظريات الجزئية (كالتفاعلية الرمزية) والكلية (كالماركسية) لفهم تأثير العوامل الفردية والبنى الاجتماعية معاً في تفسير مشكلة الأنانية.

- تقييم عام لنظرية التفاعلية الرمزية: أحد الانتقادات الرئيسية للتفاعلية الرمزية هو تركيزها الأساسي على التفاعلات الصغيرة النطاق، مما يجعلها أقل فاعلية في تحليل البنى الاجتماعية الكبرى. ينتقد إرفنج جوفمان هذا التركيز مشيراً إلى أن النظرية تميل إلى تجاهل السياقات الاجتماعية الأوسع التي تؤثر على التفاعلات يقول جوفمان: "تميل التفاعلية الرمزية إلى التركيز بشكل مفرط على التفاعل اليومي، متجاهلة البنى الأكبر التي تشكل هذه التفاعلات".

وغالباً ما تتهم النظرية بتجاهل دور القوة والصراع في تشكيل العلاقات الاجتماعية والمعاني فعلى سبيل المثال، قد تغفل النظرية كيفية تأثير العلاقات القوية غير المتكافئة على تشكيل المعاني والرموز يلاحظ أن التفاعلية الرمزية تفتقر إلى الاهتمام بالتحليل البنائي والقوى الاقتصادية والسياسية التي تؤثر على الأفراد. ويشير بيتر بيرغر وتوماس لوكمان إلى أن النظرية تفتقر إلى الأدوات اللازمة لتحليل البنى الاجتماعية الكبرى وتأثيراتها على التفاعلات الفردية. يقول بيرغر ولوكمان "التفاعلية الرمزية تركز على المعاني الفردية، لكنها تفتقر إلى فهم العوامل الهيكلية التي تشكل هذه المعاني".

تواجه النظرية تحديات في القياس والتعميم بسبب تركيزها على التفاعلات النوعية الصغيرة مما يجعل من عملية التحقق من النتائج وتعميمها على نطاق أوسع شبه مستحيلة. كما يذهب جيروم مانيس أن التفاعلية الرمزية تتجاهل كيف أن الفروق الاجتماعية (كالطبقة، والعرق، والجنس) يمكن أن تؤثر على طبيعة التفاعلات والمعاني التي يتم إنشاؤها خلال قيام العلاقات الاجتماعية.

لكن تظل النظرية التفاعلية الرمزية أداة مهمة في علم الاجتماع لفهم كيفية بناء الأفراد للمعاني والتفاعل مع عالمهم الاجتماعي من خلال الرموز ورغم كفاءتها في تفسير السلوك اليومي والهويات الشخصية والاجتماعية، فإنها تواجه تحديات فيما يتعلق بتفسير الظواهر الاجتماعية الكبرى ودور القوة والصراع في العلاقات الاجتماعية لذا، يتعين على الباحثين استخدام هذه النظرية بشكل تكاملي مع نظريات أخرى للحصول على صورة شاملة ودقيقة للواقع.

 

 

- المراجع المعتمدة:

- إبراهيم عيسى عثمان: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار الشروق، عمان، ط1، 2008

- عبد الرحيم بو دلال: الفرق بين الأنانية والفردانية، مركز تكامل للدراسات والأبحاث، المغرب، 04 نوفمبر 2022

- مها علي حسن محمد يحيى: الأنانية في فلسفة الأخلاق المعاصرة بين الرفض والتأييد، مجلة كلية التربية، جامعة الإسكندرية، المجلد: 31، العدد: 01، مارس 2021

- رضا بن تامي، نوال قادة بن عبد الله: نظريات في خدمة العلوم الاجتماعية (قراءة في دور نظرية التفاعلية الرمزية)، مجلة منيرفا، المجلد: 04، العدد: 01، الجزائر، ديسمبر 2017

- طلبوي الحسين: كفاءة نظرية التفاعل الرمزي وحدودها التفسيرية في سياق دراسة ثقافة الشباب الحضري والخطاب اليومي لدى ممارسي فنون الشارع بالدار البيضاء المغرب، المجلى العربية لعلم الترجمة المجلد: 03، العدد: 09، الدار البيضاء (المغرب)، 2024

- إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد:244، أبريل/ نيسان، 1999

- جوناثان ه. تيرنر: علم الاجتماع النظري – مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود، ط1، 2019

- حسام الدين فياض: الإطار النظري في البحوث الاجتماعية؛ توظيف المقولات النظرية في تفسير الظواهر الاجتماعية (دراسة تحليلية – تطبيقية)، مجلة ريحان للنشر العلمي، المجلد: 5، العدد: 46، سوريا، 2024، ص(128-218).

- حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع (من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التأسيس)، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، ط1، 2021

- حسام الدين فياض: ماهية علم الاجتماع التأويلي، صحيفة الحوار المتمدن، العدد: 8031، 07/07/2024. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=835153

- حسام الدين فياض: منهجية الفهم والـتأويل عند ماكس ڨيبر ”إنك تدرس لكي تفهم“ (دراسة تحليلية – نقدية)، مجلة ريحان للنشر العلمي، المجلد: 7، العدد: 48، سوريا، 2024، ص(292-325)

- حسام الدين فياض: نظرية التشكيل البنائي لدى أنتوني جيدنز (محاولة للتوفيق بين البنية والفعل في فهم المجتمع الإنساني)، المجلة العربية للعلوم ونشر الأبحاث (مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية) مجلة علمية دولية محكمة، المجلد: 4، العدد7، يوليو 2020

- حسام الدين فياض: وجهات نظر في نظريات علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية - نقدية)، صحيفة الحوار المتمدن، العدد: 7395، 08/10/2022. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=770798

- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012

- سمير نعيم: النظرية في علم الاجتماع (دراسة نقدية)، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1985

- طلعت إبراهيم لطفي، وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، ط1، 1999

- عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012

- علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، المكتبة المصرية، الإسكندرية، سلسلة النظريات الاجتماعية، الكتاب الأول، بدون تاريخ.

- عبد الله شلبي: علم الاجتماع الاتجاهات النظرية وأساليب البحث، دار الشمس للطباعة، القاهرة، 2008.

- فيليب جونز: النظريات الاجتماعية والممارسة البحثية، ترجمة: محمد ياسر الخواجة، مصر العربية للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 2010

- محمد عاطف غيث: دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 1975

- محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2008

- مصطفى خلف عبد الجواد: نظرية علم الاجتماع المعاصر، دار المسيرة، عمان، ط2، 2011

- ميل تشيرتون وآن براون: علم الاجتماع النظرية والمنهج، ترجمة هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2075، ط1، 2012

- نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع (طبيعتها وتطورها)، ترجمة: محمود عودة وآخرون، مراجعة: محمد عاطف غيث، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1978