تأويل الخطاب القرآني وفق أغراض منفعية


فئة :  مقالات

تأويل الخطاب القرآني وفق أغراض منفعية

تأويل الخطاب القرآني وفق أغراض منفعية

إن الكشف عن مفهوم النص في مشروع (أبو زيد) التأويلي، يعد أمراً مركزياً تقتضيه التحولات اللغوية أو البنيوية التي طرأت ليس فقط على النص أو الخطاب القرآني، وإنما على التأويلات المتعسفة التي جعلت فهمي هويدي يقر بأن "القرآن محبوس فعلا في قفص حديدي يحيط به رجال غلاظ شداد، وأن المعتمَد منه فقط هو بعض الصفحات، بل بعض الكلمات التي توظَف وتطوَّع لخدمة أوضاع قائمة، وأكثرها علينا وليس لنا". (1)

ويَصدر هويدي عن وقائع ذات صلة بتأويل الخطاب القرآني، وَفق أغراض منفعية آنية عابرة يحددها، في الغالب، أركان السلطة السياسية، وهو أمر ليس مقتصراً على فترة زمنية محددة؛ فقد رفع الأمويون القرآن على رؤوس الأسنّة في صراعهم مع الخليفة الراشدي الرابع، وفعل الأمر ذاته بعض الخلفاء العباسيين في مسألة خلق القرآن، حينما وظفوا خطاب المعتزلة من أجل التنكيل بخصومهم السياسيين، وما يزال التوظيف الإيديولوجي للقرآن مستمرا حتى الآن.

هذا الاشتجار حول المعنى القرآني عائدٌ إلى أن النص الديني ما يزال يحتل مركز الدائرة في الثقافة العربية الإسلامية، وبالتالي، فإن الكشف عن مفهوم النص يعد "كشفاً عن آليات إنتاج المعرفة، بما أن النص الديني صار المولّد لكل- أو لمعظم - أنماط النصوص التي تختزنها الذاكرة/الثقافة".(2)

إن الأطروحة المركزية في منهج التأويل عند (أبو زيد) تنهد، في بعض وجوهها، إلى إعادة حركة الوحي إلى سياقها الأول؛ أي حركة الوحي النازلة من الله إلى الإنسان، والتي تعني الكشف والإفصاح والبيان، إذ تحولت هذه الحركة "في الفكر الديني المتأخر إلى حركة صعود من جانب الإنسان سعياً إلى الله ذاته"، فتعطلت بذلك حركة الوحي التي كانت تستهدف، في بدايتها، الإنسان بما هو عضو في جماعة، ومن ثمَّ تستهدف إعادة بناء الواقع لتحقيق مصلحة الإنسان وإشباع حاجاته المادية والروحية.(3)

فالرؤية الحقيقية للدين تنبثق، وَفق شبستري، "من آلام البشر وحاجاتهم، ومن التجارب الدينية للإنسان المحتاج والحائر ليحقق له الغنى، والشفاء، والسير في خط الرسالة والاستقامة".(4)

وما دعوة (أبو زيد) إلى "أنسنة" الخطاب الديني، إلا خطوة نحو تحرير هذا الخطاب من التفسيرات التعسفية والرؤى الأسطورية التي رانت عليه، مما أدى إلى نشوء الممارسات الغيبية، والتأويلات التي تخدم السلطات السياسية، وتقدم للاستبداد والجهل مبررات بقائهما واستمرارهما وتغولهما. لذا، فإن (ابو زيد) يقرّ بأن "البحث في تاريخ القرآن، ورصد التحولات التي مرّ بها من خلال مرحلة التقعيد، وما بعدها من خلال مسألة القراءات، يعتبر من المناطق المحرّمة في فكرنا الديني السائد. لكن، لا بد مما ليس منه بد، إثباتاً لأن التناول العلمي للقرآن وتاريخه لا يهدد عقيدتنا بقدر ما يمنح هذه العقيدة صلابة اليقين الراسخ الأسس. إنما الذي يهدد عقيدتنا حقا هذا الجنوح المزري إلى التقليد، وتصوّر أن الإسلام من الضعف والهُزال، وأن إيمان الناس على درجة من الإعياء والتهافت، حيث لا يصمدان لإجراءات البحث العلمي، ولا يستقيمان على هدى العقل وبصيرته".(5)

والقراءة "العلمية" للخطاب القرآني تتم في ضوء الامتثال لقواعد العقل التي صاغ ملامحها المعتزلة الذين اعتبروا أن العقل هبة من الله، كما أعلى الفلاسفة المسلمون، وبخاصة ابن رشد، من شأن النظر العقلي في حال وقع تعارض مع الشريعة، لأن النص الديني، بحسب محمد عابد الجابري، "لم يُشِد بشيء آخر إشادته بالعقل، وذلك إلى درجة يمكن القول معها إن القرآن يدعو إلى دين العقل؛ أعني إلى الدين الذي يقوم فيه الاعتقاد على أساس استعمال العقل، انطلاقا من الاعتقاد في وجود الله إلى ما يرتبط بذلك من عقائد وشرائع. والحق أن ما يميز الإسلام، رسولا وكتابة، من غيره من الديانات هو خلوّه من ثقل الأسرار التي تجعل المعرفة بالدين تقع خارج تناول العقل".(6)

وثمة من جعل العقل المصدر الأول من مصادر التشريع، بخلاف موقف الغزالي؛ لأن "دلالة العقل على الأحكام الشرعية، والتجارب الإنسانية التي يعيشها المسلمون في هذا العصر بأزماته وتحدياته، تحتّم أن يكون العقل هو المصدر الأول من مصادر التشريع، من أجل تشجيع الأمة على الاجتهاد، وحتى لا يحجب النص بين العقل والواقع،فيضيع الواقع في سوء فهم النص لغةً أو تنزيلاً أو نسخاً".(7)

لقد مضى (أبو زيد) يضع العقل في التاريخ لا خارجَه، فقارب معنى الوحي، وساءل مفهوم كون القرآن مقدساً، أو متعالياً على التاريخ، وتساءل عن معنى المقدس، ومعنى التاريخ، وما علاقة الوعي بالتاريخ، معتبراً أن هذه الأسئلة الضرورية لم تناقش، ولم تخضع لآليات الفحص المنهجي.

ويتقاطع (أبو زيد) مع حسن حنفي في فهم الوحي وتأويله، وفي أن تحقق الوحي لا يكون إلا في التاريخ، لأن الكلمة في التاريخ. وفي ضوء ذلك، فإن "الوحي قصْدٌ من الله إلى الإنسان، يتوجه إليه بالخطاب، ويتحول إلى تجربة مثالية في أقوال النبي، وتجربة جماعية في إجماع الأمة، وتجربة فردية في اجتهاد الشخص، ثم يتم فهمه باللغة الإنسانية التي من خلالها يُفهم الكلام، ثم يتم تحقيقه كمقاصد إنسانية".(8)

وفي صلب الأسئلة التي يقدمها (أبو زيد) لإنطاق الصمت المحيط بالخطابات والنصوص الدينية : ما معنى كلام الله؟ وهو لا يسعى إلى إجابة من نمط تاريخ الإسلام الأول، وإن كان كلام الله قديماً أزلياً، أم محدثاً مخلوقاً، بل إنه يضع السؤال في سياق الدرس العلمي والفهم الموضوعي لطبيعة الوحي وكيفيته، وما إذا كان تواصلاً باللغة، أم تواصلاً بالإيحاء والإلهام.

يقول (أبو زيد): إن "القرآن نفسه يتحدث عن الوحي بوصفه اتصالاً غير لغوي، وهذا ما حلله كثير من الباحثين دون أن يتجاوزوا الخط الأحمر المفروض على القراءات التراثية لقوله تعالى [ في الآية51 من سورة الشورى]: (وما كان لبشر أن يكلمه إلا وَحْياً، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء)".(9)

وتقسّم القراءات التراثية لهذه الآية الطرائقَ التي يتواصل الله من خلالها مع البشر إلى ثلاث؛ الأولى هي الإلهام، كما في كلام الله لأم موسى؛ والثانية هي كلام الله مع موسى من وراء حجاب: الجبل أو النار؛ والثالثة هي نمط الوحي في الإسلام، عن طريق الرسول الوسيط (جبريل) إلى النبي محمد. وترى القراءة التراثية أن "التواصل بين جبريل ومحمد كان تواصلاً لغوياً؛ أي أن جبريل تحدث إلى محمد بالعربية، وهو تفسير تتأبى عليه الآية التي تنص على أن الرسول (يوحِي) إلى البشر بما يشاء الله، ومعنى ذلك أن الاتصال بين جبريل ومحمد كان اتصالاً غير لغوي، كان بالوحي؛ أي الإلهام".(10)

وتعزز هذه القراءة، وفق (أبو زيد)، المرويّاتُ الكثيرة التي تُنسب إلى الرسول، والتي يحكي فيها أن الوحي كان يأتيه أحياناً، مثل "صلصلة الجرس"، وأحيانا مثل "طنين النحل"، وبالتالي "لا يمكن أن يكون هذا الوصف دالاً على تواصل لغوي بالمعنى المعتاد".(11)

ويتساءل (أبو زيد) كذلك عن معنى نزول القرآن منجَّماً، وعدم نزوله دفعة واحدة، ولماذا حينما جُمع القرآن في مصحف لم يُرتب حسب زمان النزول، وما الحكمة من ترتيبه الحالي، وهل هو ترتيب إلهي "توقيفي"، أم ترتيب بشري "توفيقي"؟

وعلى الرغم من أن أبا زيد يحاول أن يُدرج هذه الأسئلة وسواها، في إطار ما يسميه محمد أركون "اللا مُفَكَر فيه"، إلا أن هذه الأسئلة طرحت كثيراً، وبخاصة في كتب المستشرقين ودراساتهم. لكنّ أبا زيد يرى أن الإجابة عن هذه التساؤلات، "لن تلغي القرآن، ولن تهدم الدين، ولن تزعزع اليقين، بل ستفتح لنا مجالاً للفهم يرى تجلي الإلهي في البشري، وانكشاف كلمة الله على لسان الإنسان. والتحقيق التاريخي، سيمكننا من استعادة السياق الغائب، فندرك فحوى كلام الله ودلالته، ونميز بين (التاريخي) و(الأزلي)".(12)

ويتتبع أبو زيد في أسئلته خطى فلاسفة التأويل المعاصرين الذين يرون أن المعرفة العميقة هي تلك التي توجد تحت السطح، وبالتالي، فإن "الحقيقة ستكون هي ما لم يقل، أو هي ما قيل بطريقة غامضة، ويجب أن تُفهم في ما هو أبعد من ظاهر النص".(13)

أسئلة أبي زيد، التي تهدف إلى فهم الخطاب الإلهي بالدرجة الأساسية كمقدمة لفهم الخطابات الدينية الأخرى، وفي طليعتها السُنة النبوية الصحيحة، لا تبرح دائرة الإيمان، بل إن الإيمان هو محركها الأساسي، لكنه ليس إيمان أولئك الذين تعاملوا، وما يزالون، مع الخطاب القرآني بوصفه أيقونة، مشياً على الدرب التي عبّدها أبو حامد الغزالي، حينما حوّل الخطاب القرآني إلى "شفرة خاصة لا يستطيع مقاربة فك رموزها إلا الصوفي العارف المتحقق، ونتيجة لذلك لم يبق للإنسان العادي- المسلم العامي- إلا أن يقنع بالتلاوة وفهم المستوى الظاهر من دلالة النص، وهو المستوى النقلي أو ما عرف بالتفسير بالمأثور".(14)

إن التأويل عند أبي زيد يرمي إلى إصلاح الفكر الديني في مختلف حقوله وتعبيراته، وتعميق أمداء الخطاب القرآني، وإفساح المجال أمام تعددية القراءات، ودغمها في أفق الفهم الحداثي، بعيداً عن التصورات غير الدقيقة التي لا تميّز بين جوانب الحقيقة والمجاز في الخطابات الدينية الرئيسة، وهو يقدم رؤية في التأويل تتوافق مع الحداثة العقلانية، بعد ما أصاب العطب الرؤية التأويلية التقليدية.


(1) فهمي هويدي، القرآن والسلطان، (ط2)، طرابلس: منشورات جمعية الدعوة الإسلامية، ص 20

(2) نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة، (ط 5)، بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، (2006)، ص 149

(3) نصر حامد أبو زيد،مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، (ط 6)، بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،(2006)، ص 245

(4) محمد مجتهد الشبستري، قراءة بشرية للدين، ترجمة: أحمد القبانجي، بغداد، بيروت: دار الجمل، (2009)، ص 96

(5) نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، (ط 2)، بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،(2005)، ص 257

(6) محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم(ج1)،(ط2)، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،(2007)، ص429

(7) حسن حنفي، من النص إلى الواقع، بيروت: دار المدار الإسلامي ،(ج1)، (2005)، ص30

(8) حسن حنفي، من النص إلى الواقع، بيروت: دار المدار الإسلامي،(ج2)، (2005)، ص124

(9) نصر حامد أبو زيد، وآخرون:غزاليون ورشديون: مناظرات في تجديد الخطاب الديني، إعداد وتقديم: حلمي سالم، القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (سلسلة قضايا الإصلاح 8)، (2006)، ص 116

(10) المرجع السابق، ص 117

(11) المرجع السابق، ص 117

(12) المرجع السابق، ص 118

(13) أمبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، (ط2)، ترجمة: سعيد بنكراد، بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،(2004)، ص 30

(14)مفهوم النص، ص 296