تجديد أصول الفقه الحنفيّة: أبو بكر الرازي الجصاص أنموذجاً


فئة :  مقالات

تجديد أصول الفقه الحنفيّة: أبو بكر الرازي الجصاص أنموذجاً

يعلم الباحثون في حقل أصول الفقه أنّ القرن الثالث للهجرة لم يصلنا منه أيّ كتاب من كتب علم أصول الفقه، وأنّ رسالة الشافعي المتوفى سنة 204 للهجرة، وهي الأثر التأسيسي لهذا العلم، ظلّت مؤثرة في كتابات القرن الثالث التي لم تبلغنا منها إلا شذرات متفرقة في المصادر المتأخرة لمختلف علماء المذاهب والفرق السنيّة وغير السنيّة.

وينبغي انتظار أواخر القرن الرابع للهجرة لكي نجد ثاني كتاب أصولي، وهو كتاب "الفصول في الأصول"[1] للإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص (ت 370هـ) إمام الحنفيّة في بغداد في عهده. والمرجّح أن يكون تاريخ تأليف هذا الكتاب بعد وفاة أبي الحسن الكرخي (ت 340هـ) أستاذ الجصاص، لأنّ هذا الأخير ألّفه بعد أن تولّى كرسيّ الحنفيّة إثر شيخه الكرخي.

ويعتبر هذا الكتاب بمثابة المقدّمة العلميّة والمدخل الأصوليّ لكتاب الجصاص "أحكام القرآن"، وهو في نظر بعض الباحثين المعاصرين أهمّ محطّة في التجديد الأصولي بعد الإمام الشافعي، لأنّه "تضمّن إضافات على مستوى المضمون والشكل. فعلى مستوى المضمون أكمل المباحث اللغوية، ومدلولات الألفاظ، والموضوعات المشتركة بين الكتاب والسُنّة، والمباحث التي تستقلّ بها السُنّة عن الكتاب، كما طوّر البحث في دليل الإجماع، والقياس، والاستحسان، ومبحث الاجتهاد. أمّا على مستوى الشـكل والصياغة، فقد تجاوز العرض المتفرّق لمباحث الأصول الذي شهده كتاب "الرسالة" للشافعي، وذلك بترتيبه للأبواب والفصول ترتيباً منطقياً، وعرضه لمباحث الكتاب عرضاً علمياً منظماً".[2]

وتتأسس قيمة كتاب الجصاص في نظرنا على أنّه من المؤلّفات الأولى التي تقدّم لنا صورة وافية وشاملة للمرة الأولى عن التأليف الأصولي إثر "رسالة الشافعي". وهذا ما تنبئ عنه الأبواب الموجودة في كتاب "الفصول في الأصول"، والتي لم نعهدها في "الرسالة". وهذه الأبواب ستضحي أبواباً تقليديّة تتكرّر في المدوّنات الأصوليّة اللاحقة على غرار أبواب الحقيقة والمجاز والمحكم والمتشابه والأمر والنهي وغيرها. ويمتاز كتاب الجصّاص بقيمة وثائقيّة مهمّة، لاشتماله على آراء ونصوص لأصوليين من الحنفيين المتقدّمين الذين فقدت كتبهم، مثل عيسى بن أبان (ت 221هـ).

ولعلّ وصف كتاب الجصاص بأنه محطة من محطات تجديد علم أصول الفقه ليس مجانياً، ذلك أنّ صاحب هذا الكتاب استطاع تجاوز ظاهرة الاحتفاء برسالة الشافعي التي هيمنت على الفكر السنّي منذ القرن الرابع بالخصوص، فوجّه لهذا الأثر نقداً واضحاً لعلّه كان في بُعدٍ من أبعاده نتيجة التأثر بالفكر الاعتزالي، من ذلك إشارة الجصاص إلى أنّ القرآن يستمدّ وجوده من كونه ضرباً من النظام المعجز للإنس والجنّ[3]، وأنّه يخالف سائر الكلام بنظمه المعجز وتأليفه البديع الذي لا يُضاهى.[4]

ويظهر جليّاً تأثّر هذا الرأي بنظريّة النظم الاعتزاليّة القائمة على نظم الألفاظ والحروف والأصوات لا نظم المعاني. ويتعزّز تأويلنا هذا، إن علمنا اتفاق الجصاص مع المعتزلة في كثير من المواقف الكلاميّة. من ذلك نفيه إمكان رؤية الله، وحمله أخبار الرؤية على العلم لو صحّت[5]. ولعلّ هذه الآراء هي التي دفعت بأحد مؤرّخي المعتزلة إلى عدّ الجصاص ضمن الطبقة الثانية عشرة من علماء هذه الفرقة.[6]

وقد التقى الموقف الحنفي ممثلاً في الجصاص مع الموقف الاعتزالي المحترز من اعتبار منسوخ التلاوة قرآناً، ذلك أنّ الجصاص يعتبر أنّ هذه المرويّات وردت من طريق الآحاد، لذلك من غير الجائز إثبات القرآن بها. وبناء على هذا، يعتبر أنّ خبر عمر في الرجم يحتمل لفظه معنيين ولا دلالة فيه على أنّ المراد به أنّه كان من القرآن، ولو كان عمر يعتبر هذا الخبر آية حقاً لكتبها في القرآن، وما همّه ما يكون موقف الناس منه[7]. وقد كان للجصاص حسّ تاريخي جعله يكشف الخلفيات التاريخية التي سكت عنها الفكر الأصولي في أغلب مدوناته، فذكر أنّ وراء هذا الاحتراز مطاعن وجهها بعض المسلمين المنافقين. يقول: "وأمّا ما طعن به بعض أهل الإلحاد ممّن ينتحل دين الإسلام وليس منه في شيء ثم كشف قناعه، وأبدى ما كان يضمره من إلحاده، بأنّ القرآن مدخول، فاسد النظام لسقوط كثير منه، ويحتجّ فيه بما روي أنّ عمر قال: إنّ آية الرّجم في كتاب الله ..."[8]. وهذا الفريق، وإن لم يفصح الجصاص عن هويته، فإنّ حنفيين آخرين صرّحوا أنّ المقصود به فريق من الشيعة. يقول الفقيه الحنفي ابن عبد الشكور تعليقاً على حديث عائشة عن نسخ الرضعات العشر: "لكن فيه انقطاع باطن، فإنه ليس في القرآن خمس رضعات، ولو قيل إنّه كان قرآناً لكنّ القوم تركوه لكان هذا قول شياطين الروافض إنّه ذهب من القرآن شيء كثير...".[9]

ومن مظاهر تجديد الجصاص في دراسته للخبر المتواتر نقده الشديد للمواقف المختلفة والمتباينة التي ضبطت أعداداً معيّنة للمخبرين لا يفيد هذا الصنف من الأخبار العلم واليقين إلا ببلوغها لذلك نلفيه يقول: "وليس لما يقع العلم به من الأخبار عدد معلوم من المخبرين عندنا إلاّ أنّا قد تيقنا أنّ القليل لا يقع العلم بخبرهم، ويقع بخبر الكثير إذا جاءوا متفرّقين لا يجوز عليهم التواطؤ في مجرى العادة"[10]، وإذن فإنّ البديل لفكرة العدد المضبوط الضروري لإفادة المتواتر العلم فكرة العدد الكثير مضافاً إليها فكرة تفرّق الرواة تفرّقاً لا يجيز عليهم الاتفاق على الكذب عادة، فكأنّ هذا الأصولي الحنفي أدرك أنّ مقياس العدد وحده ليس ضمانة كافية لحصول العلم بالمتواتر لأنّ إمكانية التواطؤ بين الأفراد ممكنة، وإن كبر عددهم.

وقد يكون الجصاص من رواد المذهب الحنفي الذين لم يكتفوا بصنف الخبر المشهور سبيلاً من سبل توسيع مجال الخبر المتواتر فأضافوا إليه ما أسموه الخبر الواقع في حيز التواتر، وهو خبر آحاد تلقاه الفقهاء بالقبول فأوجب العلم عند علماء الحنفية. يقول الجصاص: "وهذه أخبار قد تلقاها الناس بالقبول واتفق الفقهاء على استعمالها فهي عندنا في حيز التواتر، ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك"[11]، ومن أمثلة هذا النوع حديث البيّنة على المدعي واليمين على المدعى عليه ويعلّق السرخسي عليه قائلاً: "وهذا وإن كان من أخبار الآحاد؛ فقد تلقّته العلماء بالقبول والعمل به، فصار في حيز التواتر، وعُدّ هذا من جوامع الكلم"[12]. وهكذا لئن شرط في المشهور توفر صفات معيّنة في من يبثّ الخبر، فإنّ ما اشترط في الخبر الواقع في حيز التواتر يتعلّق بمن يتقبّل الخبر. وهذا تحوّل مهمّ جداً في تاريخ الحديث النبوي، لأنّه يحوّل مركز الثقل من راوي الخبر المنتمي إلى السلف الصالح إلى متقبّله في كلّ عصر، لكنّه ليس أيّ متقبّل، وإنما الأمر مقصور على فئة العلماء.

بدت طرافة كتاب الجصاص في أصول الفقه أيضاً أثناء دراسته للإجماع؛ فقد تجاوز بكثير ما ورد في رسالة الشافعي، فقد خصّص له أكثر من مئة صفحة لمناقشة مسائله ودافع عن حجيته بأدلّة متنوعة من القرآن والسُنّة.

وفي مبحث القياس، تميّز الجصاص بالخصوص بتكثيف النصوص القرآنية المؤسسة للقياس، من ذلك أنه يحتج بأربع وعشرين آية، أمّا السرخسي والبزدوي؛ فكلاهما يعتمد ثلاث آيات تأصيلاً للقياس، ولعلّ ما يفسر هذا الاختلاف أنّ الجصاص شهد عصره وما قبله حملة على حجية القياس بسبب مواقف أهل الحديث والحنابلة منه، لذلك كان يتخيّل أنّ العدد الكبير من الأدلة يعزّز موقفه.

ولئن حمل الشافعي على الاستحسان حملته المشهورة، فإنّ الجصاص أعاد النظر في هذا الموقف سعياً منه إلى شرعنة هذا الأصل التشريعي. وقد اعتبر أبو بكر الجصاص والسرخسي أنّ من مدلولات لفظ الاستحسان استعمال الاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولاً إلى رأي الإنسان، وهو ما تبنّاه ابن جزي المالكي حين قال: "وأشبه الأقوال أنّه ما يستحسنه المجتهد بنظره".[13] واعتمد علماء أصول الفقه في إثبات حجيّة الاستحسان على حديث وحيد هو "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"[14]، وشذّ عن هذا الموقف أصولي واحد هو القرافي[15]. ويعدّ الجصاص أوّل أصولي يورد هذا الحديث، ليشرّع جواز استخدام لفظ الاستحسان، فما دام هذا الحديث يشتمل على لفظ الحسن فذلك يدلّ على صحّة إطلاق لفظ الاستحسان.[16] ولعلّ مبرّر سعي هذا الأصولي للدفاع عن حجيّة الاستحسان بالانطلاق من لفظه، ما برز في الواقع التاريخي من مواقف أنكرته لفظاً ومعنى، وفي صدارتها موقف الشافعي؛ فقد فضّل في بعض كتبه استخدام لفظ الاستحباب بدل الاستحسان.[17]

ويمكن اعتبار أبي بكر الرازي الجصاص أوّل الأصوليين الحنفيّين الذين وصلتنا منهم مباحث مطوّلة نسبيّاً في التنظير للاستحسان وبيان ماهيته وحجيّته وأقسامه[18]. وقد بنى موقفه من هذا الأصل على أطروحة ونقيض هذه الأطروحة. ففي نقيض الأطروحة عرض رأي الذين نفوا حجيّة الاستحسان وعلى رأسهم الشافعي مستخلصاً أنّهم أساءوا فهم الموقف الحنفي.[19] أمّا في الأطروحة، فإنّه بيّن أنّ: "جميع ما يقول فيه أصحابنا بالاستحسان، فإنّهم إنّما قالوه مقروناً بدلائله وحججه لا على جهة الشهوة واتّباع الهوى".[20] وبناء على هذا يعتبر أنّ استخدام الاستحسان جائز لفظاً ومعنى. فالقرآن والسنّة والفقهاء استخدموا لفظ الاستحسان. بل إنّ الشافعي نفسه زعيم القائلين بنفي الاستحسان يقول: "أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين درهماً"[21] وفضلاً عن هذا فالاستحسان ـ في مستوى المعنى- ضرب من الاجتهاد لا يسع الفقهاء مخالفته. يقول: "لفظ الاستحسان يكتنفه معنيان أحدهما استعمال الاجتهاد وغلبة الرّأي في إثبات المقادير الموكولة إلى اجتهادنا وآرائنا نحو تقدير متعة المطلقات... فسمّى أصحابنا هذا الضّرب من الاجتهاد استحساناً، وليس في هذا المعنى خلاف بين الفقهاء، ولا يمكن لأحد منهم القول بخلافه"[22]. بناء على ما تقدّم وعلى مواقف أخرى للجصاص عارض لفيف من الباحثين المعاصرين ما ذهبت إليه بعض كتب طبقات الحنفية، حين اعتبرت أنّ الجصاص من المقلدين الذين لا يقدرون على الاجتهاد أصلاً؛ فمنذ القديم شهد له علماء الحنفية وغيرهم بالتقدّم وأقروا بتقليدهم له، وبأنّ الفتوى على ما اختاره في كثير من الاجتهادات.[23]


1ـ الجصاص، الفصول في الأصول، تحقيق عجيل جاسم النشمي، ط1، الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1988م، 4 أجزاء.

[2]ـ حليمة بوكروشة، معالم تجديد المنهج الفقهي نموذج الشوكاني، الإصدار 90- 91

[3]- يقول الجصاص: "قيل له ما ذكرت لا يمنع نسخ الرسم والتلاوة على الوجه الذي ذكرنا. وذلك لأنّ القرآن إنّما كان قرآناً لوجوده على هذا الضرب من النظام المعجز للإنس والجنّ والله قادر على إزالة النظم ورفعه من قلوب عباده..." الفصول في الأصول، 261/2

[4]- يقول الجصاص: "ولو كان كلام النبي معجزاً لتحدّى به العرب كما تحدّاهم بالقرآن، ولاستغنى الناس به عن طلب الشبه لمباينته لكلام غيره من البشر في إعجاز نظمه كما بان القرآن من سائر الكلام بالنظم المعجز والتأليف البديع الذي ليس في وسع أحد من الخلق الإتيان بمثله"، المصدر نفسه، 118/2

[5]- راجع الجصاص، أحكام القرآن، 118/2

[6]- ابن المرتضى، طبقات المعتزلة، ص 130. وانظر المسائل التي وافق فيها رأي الجصاص أقوال المعتزلة لدى النشمي "الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص، ص ص 50-58 نقلاً عن زهير شفيق كبّي: أبو بكر الجصاص، الإجماع، دراسة في فكرته من خلال تحقيق باب الإجماع، ص 115

[7]ـ راجع تفصيل هذا الموقف لدى الجصاص، الفصول في الأصول، 257/2

[8]ـ المصدر نفسه، 254/2

[9] ـ ابن عبد الشكور، شرح مسلّم الثبوت، 73/2

[10]- لجصاص، الفصول في الأصول، 53/3

[11]- الجصاص، أحكام القرآن، 89/2

[12]- السرخسي، المبسوط، 28/17

[13]- ابن جزي، تقريب الوصول إلى علم الأصول، ص 64

[14]ـ أحمد بن حنبل، المسند، 379/1

[15]ـ استند القرافي إلى حديث آخر في بيان موقف جواز الاستحسان قائلاً: "حجّة الجواز أنّه راجح على ما يقابله على ما تقدّم تحريره فيعمل به كسائر الأدلّة الراجحة، ولقوله (ص) نحن نقضي بالظاهر"، شرح تنقيح الفصول، ص 452

[16]ـ يقول الجصاص: "فإذا كنا قد وجدنا هذا اللفظ أصلاً في الكتاب والسنّة، لم يمنع إطلاقه بعض ما قامت عليه الدلالة بصحّته على جهة تعريف المعنى" الفصول في الأصول، 227/4-228

[17]ـ قول البخاري: "وقد قال الشافعي في بعض كتبه: أستحبّ كذا وليس بين اللفظين فرق، بل الاستحسان أفصحهما"، كشف الأسرار، 24/4

[18]- انظر كتابه الفصول في الأصول، 223/4-253

[19]ـ انظر مثلا الشيخ السيد عفيفي، التجديد والمجددون في الإسلام الإمام الأعظم أبو حنيفة، دراسات في مذهبه وطبقات فقهائه، مجلة الأزهر، شعبان 1360هـ

[20]- يقول الجصاص: "فهذا يدلّ على أنّه لم يعرف معنى ما أطلقه أصحابنا من هذا اللفظ، فتعسّفوا القول فيه من غير دراية"، الفصول في الأصول، 225/4

[21]- المصدر نفسه، 226/4

[22]- المصدر نفسه، 229/4

[23]- المصدر نفسه، 234/4