تجديد الأفق النقدي وتنويع آليات القراءة في كتاب "جمالية البين- بين في الرواية العربية" لرشيد بنحدو


فئة :  قراءات في كتب

تجديد الأفق النقدي وتنويع آليات القراءة في كتاب "جمالية البين- بين في الرواية العربية" لرشيد بنحدو

تجديد الأفق النقدي وتنويع آليات القراءة في كتاب "جمالية البين- بين في الرواية العربية"* لرشيد بنحدو


ما المراد بجمالية "البين- بين" في الكتاب موضوع قراءتنا؟ وبماذا تتميز هذه الجمالية عن غيرها من الجماليات النصية والإبداعية في الرواية؟ وهل تمكن الناقد من الكشف عن جمالية جديدة في النص الروائي العربي يمكن تسميتها بجمالية "البين- بين"؟ وهل يضيف هذا البعد جديدا إلى أفق النقد الروائي العربي؟ وكيف يُسهم في منح الناقد آليات جديدة لتنويع القراءة وتطويرها؟

هذا غيض من فيض، أسئلة تثرى على ذهن المتلقي، وهو يقرأ الكتاب الأخير للناقد الدكتور رشيد بنحدو، وهو الكتاب الذي يسعى إلى الانخراط في صلب الجدل النقدي الذي تشهده الحركة النقدية في المغرب والعالم العربي، بين النزوع الموضوعي/العلمي للنقد والانفتاح على النسبي والذاتي في المقاربة النقدية، من جهة، والانخراط في صلب النقد الروائي الذي ما فتئ يتخصب بجهود أقلام أخلصت له، ومن بينها كتابات رشيد بنحدو، من جهة ثانية. ولقراءة الكتاب والسعي إلى تناول بعض ما فرضته الأسئلة السابقة، سنركز على محاور ثلاثة، وهي:

1- حول مفهوم جمالية البين- بين.

2- حدود جمالية البين- بين في الرواية العربية وبعض تجلياتها النصية.

3- إضافة كتاب "جمالية البين- بين" للنقد الروائي وآلياته القرائية.

1- حول مفهوم جمالية البين- بين:

ما مفهوم "جمالية البين- بين" كما يحدده رشيد بنحدو؟ وما هي الأسس النظرية التي ينبني عليها المفهوم؟ وما المرجعيات النقدية التي بنى الناقد استنادا إليها فهمه لهذه الجمالية؟

بدءًا، يجب التنبيه إلى أن هذا المفهوم لا يوضح الناقد قسماته في مدخل كتابه، وحده، ولا في الفصل الأول من الكتاب دون غيره من الفصول، وإنما نجده يمتد في كل فصول الكتاب التي جمعت بين البعدين النظري والتطبيقي، وجعلت منهما وحدة متكاملة في الكشف عن جمالية البين-بين في أعمال روائية عربية ومغربية (كُتب بعضها باللغة الفرنسية). ونظرا إلى أن الإمساك، تبعا لما أشرنا إليه، بكل ما ورد في فصول الكتاب من قضايا نظرية تتصل بالمفهوم، ارتأينا أن نقف عند أهم ملامحها، كما جلاها الناقد في مدخل كتابه، وفي التوطئة التي مهد بها لهذا الكتاب، كما بثها، أيضا، في صفحات مختلفة من فصوله.

يشير الأستاذ رشيد بنحدو في البداية إلى أنه اهتم " في معظم دراساته النقدية للرواية المغربية والعربية، بخاصية جمالية وفكرية هي تذبذب النصوص بين مقتضيين (أو أكثر) يتجاذبانِها على نحو عجيب، سواء أكانا شكلين فنيين أم تقنيتين في السرد أم لغتين حكائيتين أم شفرتين ثقافيتين أم رؤيتين للعالم أم سوى ذلك من الثنائيات الموحية بالتعارض". (الكتاب، ص 11)

هكذا، يبين هذا المقتطف كيف اهتم الناقد بجمالية البين- بين، التي تتجلى في تذبذب النصوص الروائية بين أمرين دائما، وثنائيتين توحيان بنوع من التعارض في صلب تكوين تلك النصوص. وقد دأب الكاتب على إبراز تجليات النزعة المابينية في النصوص، وفحص آثارها وتأويل رهاناتها، دون تأطير تلك النزعة في متصورات تجريدية ومصطلحات دقيقة.

ويشير الناقد، في توطئة كتابه، إلى أن حال المراوحة بين نداءين، أو بين غوايتين، تنطبق، إن قليلا أو كثيرا، على بعض الروائيين العرب الذين يمكن أن نتلمس في نصوصهم هذا التوق إلى الإقامة البرزخية في أفضية البين-بين الفاتنة، وكأنهم يجسدون فكرة أن "الروائي الحق لا يكتب ليَثبُت على حال واحدة"، بل يلزمه إدمان تغيير المواقع بالمغامرة والتجريب، لأن الاستكانة إلى قالب بعينه أو تقنية محددة أو موضوع معين... تؤول به حتما إلى التكرار فالجمود. (ص 12)

وقد عمل الناقد رشيد بنحدو على إبراز هذا البعد من خلال وقوفه على جمالية البين-بين في أعمال عديدة، كشفت عن إبداعيتها الفذة وارتباطها بالمغامرة والتجريب كأفقين أساسيين للكتابة. وقد ألمح الكاتب إلى أن اهتمامه بهذه الجمالية جاءت نتيجة قراءته للروايات التي انشغل بها، والتي تشكل متن كتابه هذا، وهو المتن الذي يوحي بوجود "رؤية مانوية للوجود"، هي التي وسمت نصوصهم بالتأرجح بين ثنائيات متنافرة.

ولترسيخ مفهوم البين-بين، يركز الناقد في مدخله الموسوم بعنوان "في القوة التداولية لمفهوم البين-بين" على استعمالات استعارة البين-بين في حياتنا اليومية، وفي تقديرنا للأشياء وتحديدنا للزمن والمسافة والطقس... وغيرها من الاستعمالات، كما يؤكد أن هذا المفهوم يرتبط لا شعوريا لدى الإنسان من خلال أفضية العبور (المطارات-الجسور-المقاهي...)؛ وهو أيضا، سمة أنطولوجية ترتبط بتشكل وجود الإنسان على نحو ما بيني، حداه مرسومان سلفا: طفولة/ مراهقة- كهولة/شيخوخة-حياة/موت. وعلى العموم، يبدو أن "البين-بين" يتسم بقوة تداولية كبرى، تتعدد تجلياتها في حياة الإنسان. أما التعريف المعجمي للمفهوم في اللغة العربية، فينطلق من كلمة "بين" التي تعد ظرفا يفيد وسط شيئين، كما يعني الفرقة والوصل، وكذا العداوة والصداقة، وهو بذلك من الكلمات الأضداد. ويدل المركب "بين-بين" على كل ما يحتل موقعا وسطيا بين شتى أنواع الثنائيات المتعارضة. وفي اللغة الفرنسية يعني "L’entre-deux"، الحيز الواقع بين حدين متباعدين، كما يفيد الحالة أو السعة الموجودة بين طرفين نقيضين، ويدل أيضا، على ما يقع بين قطبين متعارضين مع وثاقة صلته بهما، واستمراره من خلالهما. (ص 23)

وهذا المفهوم ذو قوة كشفية (heuristique)، تمتد آثارها إلى كافة حقول المعرفة الإنسانية: في السيكولوجيا والتحليل النفسي، وفي سوسيولوجيا الهجرة، والدراسات الجَندرية الحديثة - تلك الدراسات التي تهتم بالمرأة بين كونها جنسا ومعطى بيولوجيا، وبين كونها نوعا؛ أي بنية سوسيوثقافية- وفي الأنثروبولوجيا الثقافية، وفي الحقل اللساني، وفي النظرية والنقد الأدبيين، وفي الإبداع الأدبي. ويقف رشيد بنحدو على حدود المفهوم في هذه الحقول جميعا، لكننا سنتوقف هنا عند تجليات مفهوم "البين-بين" في النقد الأدبي، وفي الإبداع، لنستخلص بعض ملامح المفهوم كما وظفه الناقد في كتابه هذا، وللوقوف عند الخلفيات المرجعية التي استند إليها في بلورة فهمه الخاص لـــــ"جمالية البين-بين".

وفي هذا السياق، نجد الناقد يبين كيف انتقلت النظرية الأدبية الحديثة من الاهتمام بالنص في ذاته ولذاته إلى الالتفات إلى تخومه، إلى درجة يمكن معها الحديث عن "نظرية أدبية"، من حيث هي بلاغة خاصة بهوامش النص، تلتمس "نصية النص" في عتباته وحواشيه وتعلقه التناصي بنصوص أخرى، بل ويلتمسها في ما قبل النص(مسوداته وطبعاته..)، وفي ما تحته (تملكه من لدن القارئ..)، وفي ما فوقه (الجنس الجامع..)، وفي ما بعده (لا شعور النص..)، وهو تحول يغري بتخويل "البين-بين" حق الانتماء إلى جمهورية الأدب بكل جدارة. (ص 28)

ومن هنا يتموقع "البين-بين" نقديا في سياق الأجهزة الاصطلاحية، التي تنتمي إلى الشعرية المعاصرة، والتي تبني عددا مهما من مفاهيمها على أساس ازدواج بين-بيني تكويني. وهو الأمر الذي ينطبق على الرواية، باعتبارها موضوع تقاطب مزدوج خاص، تتجاذب مقاربته النقدية وجهتان متعارضتان خاصتان، وهو ما يجعله في صميم البين-بين، وهو ما يكشف عنه تطور عدد من المفاهيم النقدية الحديثة منذ الشكلانية الروسية، ومرورا بباختين، والبنيوية الفرنسية، والمقاربة "السردانية" narratologique، والنقد السوسيولوجي ذو المنحى السيميائي... وغيرها. وفي هذا الصدد يجرد الناقد رشيد بنحدو بعض المفاهيم التي تكشف عن البعد المابيني، من مثل: المتن الحكائي/المبنى الحكائي، القصة/ المحكي، المتخيل/السرد، الكرنفال والحوارية والتهجين والأسلبة، والمطلع/ والمقطع... إلخ.

وأيا كانت هذه المفاهيم والتسميات، فهي تفيد في البداية والنهاية، مراوحة النص السردي بين مستوى تداولي وآخر تركيبي دلالي يعد من صميم الكتابة الإبداعية السردية، ومن بينها الرواية، التي يعترف الناقد، في آخر هذا المدخل، أن تجليات "البين-بين" فيها تتعدد وتتنوع إلى درجة لا يمكن ادعاء إمكانية رصدها، ومن ثم، فإنه سيحاول الوقوف عند بعضها فقط.

2- حدود جمالية البين- بين في الرواية العربية وبعض تجلياتها النصية:

ينطلق الناقد من أسئلة أساس لمقاربة بعض تجليات "جمالية البين-بين" في الرواية العربية، وهي: ما أثار "البين-بين" (بعض آثاره) في الرواية العربية؟ وكيف يتم تدبيرها نصيا؟ وما هي وظائفها الممكنة؟ ولماذا إيثار الرواية الإقامة في ما بين الشفرات واللغات والأساليب والأشكال؟

وفي ضوء هذه الأسئلة، عمل على وضع حدود لـــ"جمالية البين-بين" في الرواية العربية، مستعرضا بعض تجلياتها، ومنها: بين النص/ واللانص، بين من أنا/ ومن غير أنا، بين الماضي/ والمضارع، بين الاستلاحة/ والخيال المؤمثل، بين تفضية الوهم/ وتوهيم الفضاء، بين النص/ والمُناص، بين الكتابة/ وقراءة الكتابة في الكتابة، بين الطرس كتابةً/ والطرس محوا، بين كابوس/ وكاووس، بين اللارواية/ والرواية، وهي الجماليات التي شكلت فصول الكتاب العشرة، وقد جلاها الناقد من خلال متن روائي مغربي وعربي متنوع ومتعدد فاق العشرين رواية.

إذن، ما هي بعض ملامح جمالية البين-بين كما تمثلت في قراءة الناقد رشيد بنحدو لنموذجين من هذه النماذج الروائية المشتغل بها (سنركز على نموذج مغربي وآخر عربي)؟

النموذج الأول الذي نقف عنده هو الروائي المغربي محمد خير الدين، الذي يهيمن التدبير الازدواجي للأشياء على كتابته، كما يبين الناقد، مما يجعلها تنبض بتوتر تكويني بين حدين لا يعرف الفتور أبدا. فكيف أمكن لمحمد خير الدين أن يتدبر روائيا جمالية الثنوية هذه؟

في هذا السياق، ومن خلال مقاربة عدد من روايات خير الدين، يركز رشيد بنحدو على بعض سمات "جمالية البين-بين" التي لمسها في اشتغال الكاتب السردي، منها: بين هنا وهناك، بين الحاضر والغابر، بين انطلاق السرد وتعثره، بين الرؤية والرؤيا، بين تذويت الخطاب وتوضيعه، بين جاهزية اللغة وإبداعيتها، وهذه أهم الثنائيات التي تبين ما أطلق عليه الناقد "التدبير الازدواجي للأشياء" في أعمال خير الدين. فمثلا في حديثه عن جمالية الرؤية والرؤيا، يؤكد الناقد أن هذا النوع من البين-بين " يتعلق بتناوب الواقع والحلم على الكتابة، باعتبارهما حدين لا حد يفرق بينهما؛ وهذه لازمة فنية تتكرر في كافة روايات خير الدين. والمراد بـــــ"الرؤية" في السياق الروائي-كما يشرح الناقد بنحدو- هو نقل المرئي كما تراه العين عيانا. أما "الرؤيا"، فالمقصود بها أن تتولى العين ذلك المرئي كما يتراءى لها من خلال كثافة الكوابيس وغشاوة التخيلات. ويكون طموح النص حينئذ، هو خلق نوع من العالم الموازي المعبإ بتعدد دلالي ليس من سمات العالم الحقيقي. بيد أن بين الرؤية والرؤيا لا علاقة تضاد، وإنما علاقة تصاد قوية تجعل إحداهما لا تستغني عن الأخرى، بل وتجعل القارئ عاجزا أحيانا عن إدراك متى وأين تبدأ هذه، وأين ومتى تنتهي تلك.."(ص 270)

وإذا كانت الرؤية تزاول عملها عن طريق رصد السارد-المؤلف لما يتبادر إلى عينيه من مشاهد حقيقية، وبالكيفية التي تحدث بها في الواقع، فإن الرؤيا تزاوله بإحدى طريقتين: الأدرمة، وهي عرض المشهد في قالب مسرحي، والشعرنة، وهي عرضه في قالب شعري. ويبين الناقد هذا الجانب من خلال رواية محمد خير الدين الشهيرة: "أكادير"، التي تدشن وجودها بنبرة واقعية تسجيلية واضحة تتخللها مشاعر وانطباعات واعترافات، خاصة وأن الأمر يتعلق بمعاينة توصيفية ملموسة لوضع مدينة منكوبة، غير أن مشهدها الواقعي الافتتاحي ذاك ستغشاه أجواء الخيال التي ستحوله إلى ركح مسرحية سياسية مرتجلة متوهمة، وذلك باعتبار الخيال أنجع وسيلة لفهم الواقع: واقع دمار المدينة بسبب الزلزال الذي صار كناية كبرى عن وضع سياسي مأزوم بالمغرب. ويتتبع الناقد بدقة، مراوحة الرواية بين ما سماه "الأدرمة والشعرنة" في رواية "أكادير"، من خلال الوقوف عند مقاطع/ مشاهد كثيرة منها، ليخلص في أثناء ذلك إلى أن المراوحة المتواصلة بين التشخيص الواقعي والتشخيص الدرامي المتخيل، تجعل محمد خير الدين يستقيل من الواقع، لتزهو روايته بألوان من الشعر، حيث تتحول الرؤيا إلى فيض استعارات، والسرد إلى طوفان وصْلات لا يوجد بين ألفاظها المعتقة أي رابط منطقي، بل ولا تفصل بينها علامات ترقيم؛ فإذا بها جملة واحدة مهرولة نحو نهاية الرواية.

هذه بعض من ملامح جمالية بين الرؤية-الرؤيا كما تمثلت في كتابة خير الدين، وهي لمحة من ملامح اشتغال البين-بين في أعماله كما كشف عنها رشيد بنحدو. أما في مقاربة روايات إدوارد الخراط، فيكشف الناقد عن ملامح أخرى شكلت جمالية البين-بين في تجربة الكاتب المصري، ومن بينها: بين اللارواية/ والرواية- وبين نزوة اللعب/ ونزوة الموسيقى- بين صوت الرواية/ وأصوات الكولاج... وفي هذا الصدد، يركز الناقد على عدد من أعمال إدوار الخراط، ليكشف عن السمات التي ألمحنا إليها. وفي بداية مقاربته هذه، يؤكد أن إدوارد الخراط نذر على نفسه أن يبلغ الغاية في تجريب ترجح النص بين كونه رواية وكونه لارواية، وهو البين-بين الذي جربه روائيا، ونظر له نقديا، وعمل على إبرازه في نصوص مبدعين آخرين. ولطالما عمل إدوارد الخراط على خلخلة معيار تجنيس نصوصه، حيث راوح بين تسميتها "رواية" أو "نزوات روائية" أو "كولاج روائي" أو "تنويعات روائية". وهذه التسميات تدل على سمة الما بينية التي تطبع عتبات نصوصه التي حملت مثل هذه التجنيسات المركبة، ومن ثم تطبع النص بهذه السمة. والانطلاق من هذه الملفوظات المحدِّدَة لدراسة ملفوظ النص- وهو انتقال من الجزئي إلى الكلي- يؤول في النهاية إلى اعتبار النص، وبسبق تصميم-كما يقول الناقد-، حقلا جاهزا لتوكيد صحة المحدِد المعيارية، وهذه إمكانية في القراءة يعدل عنها إلى اتباع طريق آخر، وهو الانطلاق من النص الشامل لتحليله بحثا عن المسوغات الشكلية والجمالية للملفوظ الخاص بالمحدِّد النوعي: (نزوات روائية -كولاج روائي -تنويعات روائية...). ومن ثم يركز الناقد على الإنصات للنصوص ذاتها استنادا إلى زوايا نظر ثلاث متنوعة: الأولى هي محفِل الإنتاج، والثانية هي محفِل التلقي، والثالثة هي محفِل التحقق النصي. وعن طريق هذه المحافل يقف رشيد بنحدو على بينية اللا رواية/ الرواية كما تمثلت في نصوص: "اختراقات الهوى والتهلكة"، "إسكندريتي"، "تباريح الوقائع والجنون". فمحفل إنتاج هذه النصوص توحي بأن لكل نص من النصوص الثلاثة طرازه الخاص: حيث يوحي المحدد النوعي "نزوة" بأن "اختراقات الهوى والتهلكة" تقوم على غواية اللعب والاستطراد الموسيقي؛ أي تتميز بصيغة التوثبات الفجائية والانفجارات الطارئة والتبدلات غير المتوقعة. أما محدد "الكولاج" الذي وسم نص "إسكندريتي"، فيوحي بتشكله من عناصر وآثار سيميوطيقية جاهزة ومتنافرة، مما يضع فكرة وحدة النص واكتماله وشفافيته موضع سؤال وشك جذريين، حيث يكرس طابعه اللاقصدي مبدأ التشذر والانفتاح على نصوص أخرى، إنه السرد بصيغة "الإلصاق التشكيلي". وبالنسبة إلى محدد "التنويع" الذي بصم عتبة نص "تباريح الوقائع والجنون"، فيوحي بتهجين الجنس الجمعي للنص، وهو جنس الرواية، بلُغات ومقامات وحركات وإيقاعات غير متناغمة، بقصد إنتاج كلية نصية جديدة تتمظهر فيها قطائع وتنافرات متنوعة الآفاق، إنه السرد بصيغة "التنشيز الموسيقي"، كما ينعته الناقد. وبذلك، فإن حاصل هذه الصيغ الفنية هو أن انتماء تلك النصوص إلى "الجمالية السردية الجديدة" أو ما دأب إدوار الخراط على نعته بــ"الحساسية الروائية الجديدة". وفي محفل التلقي، يؤكد رشيد بنحدو أن للقارئ سلطة رفض تسميات الكاتب أو إقرارها، وذلك من خلال اعتبار مثلا نص "اختراقات الهوى والتهلكة" مجموعة قصصية، و"إسكندريتي" مذكرات أو رواية ترسلية، و"تباريح الوقائع والجنون" سيرة ذاتية، وكل تلك النصوص تنبض بما يوحي بأحد هذه الأنواع الأدبية والأنماط الحكائية.

هذه بعض ملامح جمالية البين-بين كما عكستها روايات إدوارد الخراط، ألممنا بها سريعا لنضيء للمتلقي الكريم بعض تجليات هذه الجمالية، كما وقف عندها رشيد بنحدو في قراءته لمتن روائي مغربي وعربي متنوع ومتعدد في صيغه الجمالية وإمكاناته الفنية التي تقع في صلب جمالية البين-بين.

3- إضافة كتاب "جمالية البين- بين" للنقد الروائي وآلياته القرائية:

عبر هذه الرحلة السريعة في بعض محاور كتاب "جمالية البين-بين في الرواية العربية"، يمكن أن نتساءل عن الآليات القرائية/ النقدية التي توسل بها الناقد للكشف عن هذه الجمالية، وعن مدى إضافتها للنقد الروائي المغربي/العربي؟

إن المطلع على الكتاب يلفي الممارسة النقدية فيه تتميز بغنى إمكاناتها وتنوع استراتيجية قراءتها، ما بين الاحتفاء بالعتبات والمفاتح الصغرى التي تكون منطلقا للوقوف عند عدد من سمات جمالية البين-بين، مرورا بقراءة مقاطع ومشاهد كاملة من بعض الأعمال الروائية، وانتهاء بالوقوف عند النص الروائي في قسماته الكلية وتجليات جمالية البين-بين في شتى صيغه ومكوناته الفنية. ولعل هذا التنوع القرائي أتاح للناقد أكثر من منفذ للكشف عن هذه الجمالية وبلورة أوجه اشتغالها في النصوص التي درسها، وعبر هذه الاستراتيجية المنفتحة التي لا تخضع إلى منهج أحادي ثابت، ولا تنطلق سوى من النصوص مع استئناسها بخلفية مرجعية نقدية كبيرة، استطاع رشيد بنحدو أن يضع يده على بعض خصائص جمالية البين-بين في تجليها النصي، ومن خلال تشغيل طاقة التلقي الغنية في قدراتها التأويلية، وفي تمكنها من استثمار ترسانة نقدية اصطلاحية ومفهومية انطلقت من الإرث البنيوي/ السردي أساسا، ومن إلماعات رولان بارث وكشوفاته، ومن آفاق نظرية التلقي، وإمكانات التأويلية ومشاغباتها النقدية. ولعل تفاعل كل هذه المرجعيات في كتاب "جمالية البين-بين"، هو ما منحه نوعا من الجدة في تناول موضوعه والوقوف عند تجليات هذه الجمالية، ليس فقط في المضامين والرؤى التي تحملها الروايات المشتغل بها، فحسب، وإنما في صيغها وأساليب تعبيرها وإمكاناتها الحكائية/ السردية، وهو، ولا شك، بكل ما احتواه من رؤى حول الرواية المغربية، وما انتهجه من سبل في تحليلها وتقويمها من أفق جمالية البين-بين يعد لبنة أخرى من لبنات النقد الروائي المغربي الذي يسعى خلال الألفية الثالثة إلى التخلص من المفاهيم والأدوات والرؤى الجاهزة، التي انتقلت بطريقة مبتسرة ومتسرعة إلى نقدنا من النقد البنيوي وتفرعاته المختلفة.


* رشيد بنحدو، جمالية البين-بين في الرواية العربية، منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب، فاس، 2011