الصورة في الرواية: المفهوم والأنماط والوظائف


فئة :  قراءات في كتب

الصورة في الرواية: المفهوم والأنماط والوظائف

الصورة في الرواية: المفهوم والأنماط والوظائف

قراءة في كتاب: "وظيفة الصورة في الرواية: النظرية والممارسة"

لعبد اللطيف الزكري


عن دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع بالأردن، صدر كتاب "وظيفة الصورة في الرواية: النظرية والممارسة" للناقد والكاتب المغربي عبد اللطيف الزكري، وهو الكتاب الذي انتظر كثيرا في أدراج مكتب صاحبه قبل أن يفرج عنه أخيرا. إن أصل الكتاب بحث جامعي أنجز أوائل تسعينيات القرن العشرين تحت إشراف الدكتور محمد أنقار. وكان من البحوث الأولى التي حاولت مقاربة مفهوم الصورة في الرواية، ومحاولة تجذير هذا الفهم في قراءة الرواية، إلى جانب ما كان يُنجزه - حينها - المرحوم الدكتور محمد أنقار ومن دار في فلكه من باحثين في الصورة الروائية والقضايا المتصلة بها. فما مفهوم الصورة الروائية كما يحاول تحديده عبد اللطيف الزكري؟ وما هي وظيفة الصورة في الرواية؟ وكيف يُشغل الكاتب نتائجه النظرية في قراءة المتن الروائي الذي اشتغل به، وهو رواية "بدر زمانه"؟

انطلاقا من هذه الأسئلة، سنعمل على قراءة الكتاب وتقريب عوالمه النقدية من المتلقي.

مفهوم الصورة الروائية:

بما أن استعمال مصطلح الصورة كان شائعا في الدراسات النقدية التي تناولت الشعر بالقراءة والتحليل عند النقاد الغربيين والعرب على السواء، فإن الباحث سيقف عند مفهوم الصورة وعلاقتها بالأجناس الأدبية، عارضا الآراء التي حاولت تحديد المفهوم العام للصورة، ثم تناول مفهوم الصورة الشعرية وطبيعتها وخصائصها وأنماطها ووظائفها، وأخيرا علاقة الصورة بالأجناس الأدبية الأخرى، وخاصة في النثر؛ قبل أن يحدد مفهومه للصورة في الرواية، بحسب اجتهاده نظرا إلى ندرة الدراسات النقدية التي تناولت الصورة في الرواية خاصة.

وفي هذا السياق، بيّن الكاتب مدى ارتباط الإنسان بالصورة، فالإنسان كما يقول غاستون باشلار: "... يعيش بالصور". ولعل "أقدم تاريخ للوعي هو تاريخ الفكر الصُوَري (الفني)، الذي ينطوي على ما للصورة من أسرار كثيرة طمستها مع الزمن تراكمات بالغة التعقيد" حسب رأي غيورغي غاتشف.

ونظرا لأهمية الصورة ودورها المهم في حياة الإنسان، وفي الأدب الذي عبر باللغة عن رؤى الإنسان وأفكاره وأحلامه اشتغل المفكرون والفلاسفة والنقاد... وغيرهم بقضاياها، ومن خلال هذا الاشتغال انبثقت تعاريف عديدة ومفاهيم متنوعة للصورة، يقف الباحث عند بعضها. وينطلق في البداية من المفهوم المعجمي للصورة كما حدده معجم روبير: "إن كلمة صورة يقصد بها على العموم كل تفكير.. يقدم للذهن رسما بطريقة ما"، أما نورمان فريدمان فيقول: "الصورة استعادة ذهنية لإحساس أنتجه إدراك فيزيقي، فإذا أدركت عين واحد منا لونا ما، فإنه يسجل صورة لذلك اللون في ذهنه، وهي "صورة" لأن الإحساس الذاتي الذي خبره المدرك سيكون نسخة ظاهرية، أو مجرد انعكاس للون الموضوعي نفسه، ويمكن للذهن أن ينتج صورا عندما لا يعكس المدركات الفيزيقية المباشرة، كما يحدث عندما يحاول المرء تذكر بعض الأشياء التي أدركها ذات مرة، إلا أنها لم تعد موجودة في مجال الإدراك المباشر، أو عندما ينتقل الذهن بطريقة غير مباشرة إلى خارج حدود التجربة، كما يحدث في مجموعات الصور التي يشكلها الخيال من إدراك حسي، أو في هلوسة الأحلام والحمى، أو ما شابه".

هكذا يعقد نورمان فريدمان الصلة بين الصورة والإحساس، وبينهما يكون الإدراك الفيزيقي الذي يلتقط المعطيات المنثورة في الوجود والحياة، وسيلة للتمثل، ومن ثم تكون الصور.

ويميز فريدمان بين مفهوم الصورة في معناه العام image، وهو الذي وقفنا عنده، ومفهوم الصورة الفنية imagery التي "تستخدم في مجال الآداب على وجه التخصيص لتشير إلى الصور التي تولدها اللغة في الذهن، حيث تشير الكلمات أو العبارات: إما إلى تجارب خبرها المتلقي من قبل، أو إلى انطباعات حسية فحسب".

وكان تعريف فريدمان دقيقا، لأنه قلص الاضطراب الذي يكتنف هذا المفهوم النقدي لدى الدارسين. أما المحاولة التي قام بها استيفان أولمان لرفع اللبس في المصطلح، فقد كانت مهمة جدا، يقول: "ليست الصورة بالضرورة استبدال شيء بشيء آخر أو تشبيه شيء بشيء آخر، وإنما قد تكون أية كلمة حسية تستدعي استجابة الحواس، وبالخصوص حينما تستعمل لشرح أو توضيح حجة مجردة، إن تحديدا من هذا القبيل يضع على نفس المستوى ظواهر لغوية خالصة (الاستعارة والتشبيه) وكذلك اللجوء إلى التصوير (ألفاظ ملموسة للكشف عن استدلال مجرد)".

ويميز أولمان بين "الصورة" من حيث هي: "تعبير لغوي عن تمثل ما، و"الصورة" من حيث هي تصور ذهني". ويضعنا هذا التصور أمام مستويين:

أولهما يتعلق بالصورة البلاغية (بكل ما تتضمنه من إمكانات).

وثانيهما يتعلق بالصورة الذهنية التي تنقل صورا ما.

وهكذا يخلص اللطيف الزكري إلى التسليم مع نورمان فريدمان بأن الصورة: "تنبع من موضوع المتكلم، إذا تضمن شخصا، أو مكانا، أو حدثا، أو فعلا، كما تنبع من اتحاد رمزي بين موضوع ومعنى، إذا عثر فكر المتكلم على الإطار الذي يعبر به عن تجربته الفيزيقية، كما تنبع من التماثل الخارجي، إذا استخدم المتكلم مجاز الكلام، ويمكن تفسير الصورة على أنها توظف لبث الحيوية في الموضوع، أو الكشف عن الحالة النفسية للمتكلم، أو تجسد فكره، أو توجه مواقف القارئ وتقود توقعاته".

وبهذا يتيح هذا التعريف الانفتاح على كل الإمكانات التصويرية التي تتيحها اللغة، كما يشرع الأبواب لكافة أنماط الصورة، ويتلمس وظائفها.

بعد الوقوف عند الفهم العام للصورة، ينتقل الكاتب إلى الحديث عن مفهوم الصورة الشعرية، وفي هذا الصدد يعرض آراء بعض الباحثين والنقاد غربيين وعربا، مبينا أن هذا المفهوم اكتسب معاني وتحديدات عديدة من لدن المنظرين، فالصورة الشعرية حسب فوجل، هي: "العنصر الحسي في الشعر"، وعند أرسطو هي "إدراك التماثل الخفي بين الأشياء"، أو هي: "الإدراك البديهي فيما هو متباين". في حين يذهب باحث آخر إلى "أنها صورة رسمت بكلمات، وربما تَحدث الصورة من وصف واستعارة وتشبيه، أو تقدم إلينا في تعبير أو فقرة هي حسب الظواهر وصفية خالصة الوصف، ولكنها توصل إلى خيالنا شيئا هو أكثر من مجرد الانعكاس الدقيق للواقع الخارجي، ومن ثم نمضي إلى القول بأن كل صورة شعرية هي إذن بدرجة ما استعارية، وهي تبدو لنا من مرآة لا ترى الحياة فيها وجهها، بل ترى بعض الحقائق عن وجهها".

والخلاصة التي ينتهي إليها الكاتب هي أنه على الرغم من تعدد معاني مفهوم الصورة في فروع المعرفة في عصرنا الحديث، إلا أن الدراسات النقدية الحديثة تكاد تجمع على أن الصورة بمعناها الفني يراد بها كل "هيئة تثيرها، الكلمات الشعرية بالذهن شريطة أن تكون هذه الهيئة معبرة وموحية في آن".

وإذا كانت الصورة ميسم الشعر وسراجه المضيء، فهي تندغم في نسيج التجربة الشعرية، باعتبارها الدعامة الرئيسة التي تتأسس عليها القصيدة، ومن خصائصها نذكر ما يلي:

- تميزها بالخرق الدلالي المنطقي قبل أي شيء آخر.

- استثارتها لمكنونات الذات الإنسانية، لأنها رؤيا داخلية تنشأ من الواقع العادي من حيث تبتعد عنه، فهي تنطلق من وقائع الأشياء، ولكنها لا تعود إليها.

- قدرتها على تمكين الذهن من النفاذ إلى آفاق عليا من الحرية والتجديد، والتماس المتعة القصوى في استخدام الملكات التي لم يسبق للغة العقلية تحريرها على الإطلاق.

- يتلاقى في كنفها الإحساس بما هو عفوي عابر وبما هو جوهري دائم في نفس الوقت، ويتجاوز عندها الشعور بالزمان والمكان..

- تدفع الصورة الشعرية آلية اللغة بكليتها إلى الحركة.

- ليست الصورة مجرد نتيجة لحساسية الشاعر، بل هي القصيدة نفسها وقد تم إبرازها ابتداء من الأشياء.

ولعل هذه الخصائص التي تميز طبيعة الصورة الشعرية عن غيرها تسمح للباحث الكشف عن أنماطها. والمتمعن في الدراسات المتراكمة حول الصورة قديما وحديثا يمكنه أن يلاحظ أن هنا اتجاهين بارزين في تحديد أنماط الصورة:

1- اتجاه قديم يكتفي بالصورة البلاغية (استعارة، تشبيه، كناية، مجاز مرسل...)

2- اتجاه حديث يضيف إلى الصورة البلاغية نوعين آخرين هما: الصورة الذهنية، والصورة باعتبارها رمزا.

ويؤكد الزكري أن كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة تمثل اتجاها قائما بذاته في دراسة الأدب الحديث. أما الأنماط الثلاثة، فيشمل أقساما:

فالصورة البلاغية تتضمن كل الإمكانات المتاحة في البلاغة. والصورة الذهنية تنطوي على كل من الصورة البصرية، والصورة السمعية، والصورة الذوقية، والصورة اللمسية... وغيرها.

أما وظيفة الصورة، فتتبدى في التكثيف العاطفي للفكرة الأساس التي يتوخى النص إبلاغها للقارئ. وإن هذا التكثيف العاطفي للفكرة لا يقصد لذاته، بل يصبو الشاعر من خلاله النفاذ إلى قلب القارئ، والتأثير عليه وتوجيه توقعاته. وكما يقول باشلار: "إن قدرة الصورة الشعرية على التواصل مع المتلقي هي واقعة ذات دلالة أنطولوجية".

فكيف تؤدي الصورة الشعرية وظيفتها؟

يجيب نورمان فريدمان قائلا: "إن الصورة - أيا كانت خصائصها الحسية - يمكن أن تؤدي وظيفتها بطريقة حرفية، أو مجازية، أو رمزية، أو بالجمع بين هذه الطرائق".

والصورة الشعرية، كما بين الشكلانيون الروس، لم تعد خاصية اللغة الشعرية الأولى، وإنما اقتصر دورها على أداء وظيفة فنية تتفق معها في أدائها أدوات أخرى.

وإذا كانت الصورة حاضرة في جميع أنماط التعبير الأدبي، ومن ضمنها الرواية، فإنها وإن كانت خاصية شعرية، لكنها ليست خاصة بالشعر. ومن ثم كان الاهتمام باللغة الفنية وسيلة لقراءة الصورة في الرواية. وقد اعتبر ميخائيل باختين الرواية كشكل من أشكال اللغة شأنها شأن الشعر، إلا أن لغة الرواية أغنى بأبعادها ومقاصدها من اللغة الشعرية. وتمظهر الصورة، كمكون أسلوبي في الشعر والرواية، ينطوي على كثير من الأبعاد والدلالات، كما أن طرائق تشكله واندغامه في هذا الجنس أو ذاك يستدعي أكبر قدر من التأمل والإنصات.

ومن ثم، فإن قراءة الصورة في الرواية يقتضي تتبعها في السياق والمقام الواردة فيه، وحسب منطوق الكلام. والنص المنطوق يتحدد بانسرابه في هذا الجنس الأدبي أو ذاك. وتحديد هوية هذا الجنس بالاحتكام إلى مواصفاته وقواعده، وكل ما يتعلق به هو ما يهم بالدرجة الأولى. فالصورة في الرواية، من هذا المنظور، تخضع لكل متطلبات الجنس الروائي. وهذا ما ينبغي أن يعيه الناقد ويعمل على الامتثال له حتى يتمكن من كشف الصورة الروائية وإبراز فنيتها ووظيفتها في الرواية.

فما مفهوم الصورة الروائية كما يحاول تحديده عبد اللطيف الزكري؟

في الفصل الثاني من الكتاب الذي يحمل عنوان "الصورة والبناء الروائي" يعمل الكاتب جاهدا على تقديم تصوره لمفهوم الصورة الروائية، مبينا في البداية ومؤكدا أن الصورة حاضرة، وبقوة في نصوص الرواية العربية منذ رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل. ويقف عبد اللطيف الزكري عند مقاطع تصويرية دالة من رواية "رامة والتنين" لإدوار الخراط، ليكشف عن جمالية التصوير الروائي وكيفية اشتغاله، انطلاقا من تجذر الصورة في الرواية وتمثيلها للحياة.

إن الإبداع الروائي يمتزج بتجذير دافع المحاكاة، وهذا الدافع يحتضن مبدأ التمثيل، ما دامت أنساق العلامات تتكون في سياق الواقعي، وما دام اشتغالها واستمرارها ينجليان بوضوح تام فوق أرضية الواقعي، الذي يحيل بدوره من حيث هو جزء من المضمون على الفرد أو على الطبقات والفئات الاجتماعية. وتسهم "الصورة" إلى حد كبير في تحقيق النمذجة الجمالية للرواية، باعتبارها عنصرا تكوينيا (بنائيا) وأسلوبيا، بما تضفيه على العمل الروائي من أبعاد، لم تكن لتتحقق لولاها.

وبعدما يثبت الكاتب حضور الصورة في الرواية من خلال قراءتها في متن إدوار الخراط الروائي، واستناده بأقوال بعض النقاد الغربيين الذين تناولوا موضوع الصورة في الرواية، ينتقل إلى تحديد مفهوم "الصورة الروائية"، وفي هذا الحيز يعود إلى بعض العلامات المضيئة في النقد ليبلور نظرته عن المفهوم، حيث يقف عند جيرار جينيت الذي كتب عن الخطاب الروائي في مؤلفه "صور 3" figures 3، وكان يتحدث عن الصور البلاغية الخاصة بالحكي، وليس عن الصور البلاغية الخاضعة لسلطة الاستعارة، وقد وضح جينيت أن عمله يندرج في سياق بلاغة جديدة لفهم الخطاب السردي. وفي نفس الاتجاه سار هنري متران في كتابه "خطاب الرواية" الذي خصص فصلا للكشف عن الصور في رواية Germinal لإميل زولا، وقبل هؤلاء النقاد اشتغل كل من بيرسي لوبوك وستيفن أولمان على الصورة الروائية في عدد كبير من الروايات.

وفن الرواية بما أنه مجال لإثراء خصوبة الحياة، ونوعا من المناقشة بين أنواع الدهشة التي تنبه وعينا وتمنعه من الخدر، فإنها بمثابة تجربة إنسان معين يمكن روايتها. وإن الطريقة المباشرة لتقديم هذه التجربة ستكون بالنسبة إلى الراوي هي أن ينظر إلى الماضي يتأمل أحداثه ثم يعالجها، يستذكر الأحداث ويمعن التفكير فيها ثم يلخصها. تلك هي عملية تكوين الصورة في شكلها الطبيعي، وباستخدام أسلوبها الخاص بها.

ويمكن اعتبار هذه الإشارات بمثابة إضاءات عن كيفية صنع الصورة الروائية من طرف مبدع أو مؤلف ما، ونكون بذلك أمام سمات تكون الصورة الروائية، وهي السمات التي وقف عندها محمد اسويرتي في قوله: "..إذا انتاب الذات خوف، أو فرح، أو قلق، أو حزن، أو أمل، فإن موضوع هذه الإحساسات يتخذ صورا، وملابس، وروائح، وأذواق لم نتعود عليها". ومن هنا تكون الصورة الروائية وليدة طازجة من بوتقة الأحاسيس.

فما هي حدود الصورة وتخومها الظاهرة والخفية؟ وما هي العناصر المكونة لها؟ وكيف تتعالق الصورة الروائية مع المكونات الأخرى في الرواية؟

لتحديد الصورة وضبط تخومها المعلنة والخفية يقف الكاتب عند العناصر المكونة للصورة، وفي هذا السياق ينطلق من تصور فيليب هامون الذي يبين: "أن كل ما يتعلق بالحيل التي يستخدمها الكاتب (الروائي) أو الراوي الذي ينوب عنه لعرض الشخصيات وترتيب الزمن وتحديد زاوية النظر إلى كل شخصية، والقطع الزمني، وتوزيع الأدوار العاملية، وسكونية أو تغيير الصفات والأسماء والطباع السيكولوجية لدى الشخصيات، ثم ما يتبع ذلك من تسلسل منطقي للمتواليات وترصيعها، وتبادلها، كل هذه الوسائل والحيل، يعتبرها هامون صورا أساسية أسلوبية لتنويع الكتابة الروائية".

ويستعرض عبد اللطيف الزكري علاقة الصورة الروائية بعناصر تسهم في تكوينها مبتدئا بالرمز، حيث يمكن التمييز بين الرمز symbole وبين الصورة image حسب ما يوضح ناقد إنجليزي بقوله: "الرمزية هي وسيلة أدبية يستخدمها الروائي للدلالة على شيء ما بشيء آخر... أما الصورة، فإنها أقرب ما تكون إلى الرمز، ولكنها تختلف عنه في اتسامها بالصفات المحسوسة أكثر من المعاني المجردة التي يتصف بها الرمز".

أما الوصف، فيطرح إشكالات نقدية عدة، ولعل أبرز التباس نلقاه هو التصور الذي يجعل الوصف متضمنا للصورة ومهيمنا عليها في الكتابة السردية بخلاف الكتابة الشعرية، وينضاف إليه التباس آخر لا يقل إثارة عنه، وهو التصور الذي يمزج بين الوصف والصورة ويجعلهما شيئا واحدا. ويسعى الكاتب إلى تفنيد هذين التصورين مبينا كيف أن الصورة أشمل من الوصف، وأن الوصف يصبح عنصرا مكونا للصورة، حيث تسهم العناصر الوصفية في بلورة الصورة وإبراز سماتها المشعة، تماما كالرمز.

وهكذا تقيم الصورة الروائية علاقات متباينة بين عناصر كتابية متعدد، وتقتضي قراءتها مراعاة خصوصيتها داخل النسق العام لتجذير مفهوم الصورة الروائية.

وبما أن العمل الروائي قائم أساسا على مجموعة من القوانين الداخلية التي تتحكم في حدود العمل وتحولاته... فإن الصورة الروائية لا تكتسب دلالاتها إلا بالعلاقات التي تجمعها مع مكونات البناء الروائي.

الصورة في الرواية: أنماطها ووظائفها

يؤكد الكاتب عبد اللطيف الزكري أن أهمية تصنيف الصور الروائية تتجلى في نواحي متعددة، أهمها تمكين الناقد من الوقوف عند المستويات المتعددة لتمظهر الصورة في ثنايا الخطاب الروائي. وينبه إلى مشكل على جانب كبير من التعقيد يعترض الناقد، ويتمثل في المفارقة أو المقابلة الحاصلة بين مستويين:

- المستوى النقدي النظري الذي يسعف على الانطلاق في قراءة الصورة.

- المستوى الإبداعي الروائي الذي يمنع من مواصلة ذلك الانطلاق، وذلك بخلق فجوات وهوات بين ما هو مقول في النقد وما (يقوله) المتن الروائي الجانح عن سلطة النقد (الفوقية).

ووعيا منه بهذا المأزق يقترح جملة معطيات نظرية تتصل بأنماط الصور الروائية، على أساس أن لا يلزم نفسه بها ضرورة عند معالجة أنماط الصور الروائية في رواية "بدر زمانه" التي اتخذها متنا للكشف عن وظائف الصورة وأنماطها. ويستأنس الكاتب بتصورات الباحث الفرنسي ستيفان أولمان للوقوف عند أنماط الصور. ويقف عند أول نمط من أنماط الصور، وهو الصورة البلاغية التي تتنوع تبعا للإمكانات التي تتشكل منها، فهي بوتقة لعناصر منصهرة قابلة للانشطار. ومن ثم يمكن الحديث عن صور بلاغية كثيرة لا صورة واحدة، كالصورة الاستعارية، والصورة الكنائية، والصورة المجازية، والصورة التشبيهية...وتوجد هذه الصور البلاغية في العمل الروائي مثلما توجد في أي عمل إبداعي أدبي آخر، إلا أن شكل تجليها في المتن الروائي يتخذ لبوسات متميزة. ويبدو أن الحديث عن الصور البلاغية يتشعب ويتشابك، وذلك لتعدد هذه الصور من جهة، ولتباين آراء النقاد والمنظرين حولها من جهة ثانية، بيد أن قراءة النصوص الروائية تحيل الباحث على المستويات والمراتب التي تتحكم في انتظام الجمل والكلام والزخارف والصور القائمة في المتخيل الحكائي، ومن ثم يصبح تحليل النصوص الروائية تحليلا لإوالياتها البلاغية والجمالية، وبالتالي استكناها لعمليات النقل والتكثيف وللتقارب والتشابه والمشاركة ببحث الاستعارة والكناية وغيرهما.

ويقف الناقد عبد اللطيف الزكري عند أنماط الصورة الروائية التي يعدد منها:

- الصورة البلاغية،

- والصور الرمزية،

- والصور الأخرى.

مؤكدا أن النص الروائي المدروس هو الذي يمنح لدارسيه استخراج أنماط صوره الثاوية فيه، مثل وجود أنماط الصور السابقة، أو أنماط أخرى، مثل "الصور النفسية أو السيكولوجية"، و"الصور التعبيرية"، و"الصور السيريالية"، وغيرها.

وينتقل الكاتب بعد تناوله هذا الجانب إلى الحديث عن وظائف الصورة الروائية، لأنها تكتسي أهمية فريدة في مقاربة الصور، لأن للصورة وظيفة هامة تؤديها في البنية الكلية للعمل الروائي. وهذا يتطلب من الناقد موضعة هذه الوظيفة "ضمن خطاطة المجموع، يعني في سياق العمل في كليته". وينطلق عبد اللطيف الزكري من أطروحات الناقد الإنجليزي ستيفن أولمان، ونقاد آخرين ليعاين وظائف الصورة الروائية التي يحاول حصرها في ثمان وظائف، نجملها على الشكل الآتي:

1- اتخاذ الصورة صبغة الرمز، أو تأخذ على الأصح بعدا رمزيا في الرواية من خلال تكرارها وترددها داخل نسيج النص الروائي. وبكلمة أخرى، فالصورة التي ترقى إلى مستوى الرمز، يتسع مفعول وظيفتها في ثنايا العمل الروائي برمته. وذلك بالتحكم في سياقات النص، وتوجيه الخط السردي توجيها معلوما يخدم الغرض المقصود والهدف المنشود. ومن ثم تكون وظيفة الصورة الرمزية استجماع الخيوط العامة للمعمار الروائي في دائرة موحدة تنهمر فيها جداول الأحداث والحكي وعلامات الشخصيات...

2- تتبدى وظيفة الصورة الروائية، أيضا، في استراتيجية انبثاقها، ذلك أن دورها الحاسم يتجلى في بعض المنعطفات التي تحفرها، والتي توجه بموجبها مصير الشخصيات والأحداث. إن وظيفة الصورة، هنا، ترتبط ارتباطا حميما بالمقام، إذ تنبجس في لحظات معينة تؤدي دورا خطيرا في البنية الروائية.

3- والمستوى الثالث من وظائف الصورة تبرزه أحكام القيمة، "فالعودة المستمرة لبعض المشابهات تعبر عن حكم قيمة حقيقي. وهكذا تهين الناس وتنزل بهم إلى مستوى البهائم من كثرة تشبيههم باستمرار بالحيوانات" (عن ستيفن أولمان). ويتكثف مدلول هذه الوظيفة بانسكابه إيحيائيا. إن وظيفة الصورة الروائية في هذا المستوى تبرز لاعتبارها تضمينا وتلميحا.

4- وقد تؤشر الحركة العامة للصور عن مجموعة من الأفكار الفلسفية أو التأملات الذاتية لكاتب معين.

5- كما أن وظيفة الصورة تتمثل في مساعدة الروائي على احتضان بعض التجارب وصياغتها، والتي ليس بالإمكان التطرق إليها لولا الصورة، بل لم يكن ليتصورها بصيغة أخرى غير تلك التي تمنحها الصورة. فوظيفة الصورة - هنا - تمثُل للعيان باعتبارها ملاذا للروائي، وفي الآن نفسه الملجأ الذي يعبر الروائي من خلاله إلى آفاق رحبة، إذ يغني تجربته الروائية ويخصبها بمعطيات معينة، اعتمادا على الصورة.

6- وعندما نقف على تشكيل لغوي، أو "كاريكاتور" لغوي لشخص ما، نكون لحظتئذ إزاء مستوى آخر من المستويات الوظيفية للصورة الروائية. إن الوظيفة في هذا السياق، تتعالق مع التشخيص أو التجسيد الذي يضفيه الكاتب على بعض شخصياته، أو الذي تضفيه الشخصيات على بعضها البعض.

7- وتتضاعف وظيفة الصورة الروائية حين نكون حيال كتابة تنحو إلى الشاعرية "حيث الصور الرقيقة والشعرية مفخمة جدا..." (أولمان).

8- كما أن وظيفة الصورة تغمر المسار الروائي، من خلال الإضاءة الشاملة للمكونات الروائية (الشخصيات - المكان - الزمان...).

ويقف الناقد عبد اللطيف الزكري عند صورتي الشخصية الروائية والمكان ليبلور رؤيته للإشكال، وليقف عند وظيفة الصورة في تعالقها بهذين المكونين، كما نحاول أن نقف عنده، هنا، وبإيجاز:

صورة الشخصية الروائية:

يتساءل الكاتب في بداية تناوله لهذا الموضوع قائلا: ما هو العمل الروائي، إن لم يكن هو تصوير الشخص؟ وما هو الشخص إن لم يكن هو ما تقدمه لنا "صورته" عبر تنامي العمل من بدايته إلى نهايته؟

إن المسافة المتبادلة بين هذين السؤالين تحدد صورة الشخصية الروائية، وبالتالي وظيفة الصورة في تقريب الشخصية إلى المتلقي. هل نقول إذن، إن "الصورة" تُخرج "الشخصية" من العتمة إلى الوضوح، من الظلمات إلى النور، من اللامحدد إلى المحدد...؟

ويجيب الناقد قدر إمكانه مبينا: أن الرواية إذا كانت - كما أكد سابقا - عبارة عن نسيج متكامل يتشكل من ائتلاف المكونات، وتمازجها مع بعضها بعض، فإن صورة الشخصية الروائية تفصح عن نفسها من خلال انتظامها في أفعال وحوادث، ومن خلال مواقفها المتمايزة حول العالم وما فيه.

وإن المكانة المتألقة التي تحتلها الشخصية في الرواية، تفرض على الروائي، أن يستثمر كل الإمكانات المتوفرة من أجل إبرازها. ولا شك أن توظيف العنصر التصويري في بلورة الشخوص الروائية يحظى بعناية المؤلف واهتمامه. وسواء مسّ التصوير للشخصية هذا الجانب أو ذاك، فإن المرغوب فيه هو تقريب صورتها من القارء حتى تكتمل رؤيته للكون الروائي. والحق أن مهارة الروائي تجسدها تلك القدرة الفائقة على إيهام القارئ بواقعية ما يحكيه، فتصبح الشخصيات المعروضة حية فاعلة يشاركها القارئ الحياة. ولا يتأتى للروائي الوصول إلى هذه الدرجة إلا بالاتكاء على الصورة.

صورة المكان:

يمثل المكان عنصرا بارزا في البناء الروائي، حيث يعتبر، كما يقول ياسين النصير: "الأرضية التي تشد جزئيات العمل كله؛ فهو إن وضح وضح الزمن الروائي... وإن درس بعناية، فهمت الشخصية، وإن تناوله الروائي بصدق تاريخي وصدق فني، مكن عمله من أن يمتد في التاريخ. وإن فهم فهما جادا بعلائقه الأخرى، استنطق الكاتب أسلوبا..." (الرواية والمكان، 1980، ص. 6)

تلمع صورة المكان، باعتبارها ملمحا مورفولوجيا وسيميائيا في التعبير الفني الروائي، له دلالاته وأبعاده فيما يفصله أو يوصله، فيما يقاربه أو يباعده، فيما يكشفه أو يطمسه. ومن هنا تكمن أهمية المكان، خاصة أن الإنسان عبر تاريخه الطويل لجأ إلى المكان لتشكيل تصوراته وصوره عن العوالم المادية وغير المادية على السواء. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل المكان في الرواية منفصل عن المكان الجغرافي المبثوث في "خريطة العالم"؟ أم متصل به ومعبر عنه؟

إن المكان على الأرض أو في الواقع لا يوحي لنا إلا بخطوط عامة، وبمعلومات أعم، يقول الباحث عبد اللطيف الزكري، بينما المكان في الرواية يحول تلك العمومية إلى خصوصية اعتمادا على معطيات تصويرية تقوم برسم الأبعاد الدلالية المتضمنة في علامات المكان. وكما يقول جيرار جينيت، فإن "الصورة، هي في الآن نفسه الشكل الذي يتخذه الفضاء، وهي الشيء الذي تمنح اللغة نفسها له، بل إنها رمز فضائية اللغة الأدبية في علاقتها مع المعنى" (وجوه 2، ص47)

وعادة ما يقدم الروائي الإشارة المكانية اللازمة كيما تكون نقطة انطلاق لتحريك خيال القارئ، ولتحقيق استكشافات منهجية للأماكن.

وخلاصة القول، إن وظيفة الصورة في هذا المستوى، تتجسد في الظلال والتلوينات التي تضفيها الصورة على المكونات الروائية، فيصبح من اليسير، تأسيسا على ذلك، ولوج الكون الروائي والإنصات لنبضاته الدقيقة.

فهل يتمكن الناقد الباحث الدكتور عبد اللطيف الزكري من الإنصات لنبضات رواية "بدر زمانه" في الباب التطبيقي من كتابه؟

هذا ما سنعمل على تجليته في المحور اللاحق.

قراءة "بدر زمانه" لمبارك ربيع: حدود النظرية وآفاق التطبيق:

إن المطلع على الباب الثاني من كتاب "وظيفة الصورة في الرواية: النظرية والممارسة" يجد تطبيق النظرية وآلياتها التي عمل الناقد على تجليتها وبسطها في الباب الأول الذي وقفنا عنده، جاء في فصول مكثفة قليلة الصفحات تناولت جوانب تتعلق بتمثل الصورة وطرائق حضورها واشتغالها في رواية "بدر زمانه". وفي هذا الصدد، وفي إطار محاولة الناقد لملامسة البنيات المشكلة للصورة الروائية في "بدر زمانه"، يستوقفه تصريح الخطاب الروائي بـ "الصورة". خاصة حينما ينصب على الشخصيات الروائية. ولقد ورد هذا التصريح في ثنايا المتن الروائي عشرين مرة تقريبا، والسمة الغالبة عليه هو اهتمامه بصورة الشخصية الروائية، ويكاد يكون التصريح بصورة الشخصية مؤديا لنفس المعنى الذي أثبته الباحث عبد اللطيف الزكري عن صورة الشخصية. وتتنوع صورة الشخصيات بين تقديم معطيات أو علامات جديدة عنها خلال تنامي الأحداث الروائية، وبين التساؤل عن صورتها/صورها. ويبين الناقد أن محاولة استقصاء كل الإشارات الواردة في النص التي تصرح بوجود الصورة، تجعله يصل إلى نتيجة أساس، وهي الوعي المسبق لدى الروائي بمسألة الصورة الروائية، ووعيه بأهميتها في تفسير الدلالة الروائية العامة، بل ودلالة الكتابة الروائية نفسها.

ثم ينتقل عبد اللطيف الزكري إلى تفكيك البنية الروائية للمتن المشتغل به، ليكشف عن عناصر الصورة فيه وأنماطها. ويعتبر، من ثم، أن عناصر الصورة الروائية في "بدر زمانه" تشكيلا متمازجا، يقوم على تقنية التداخل-التجاور ليصبح في النهاية وحدة متآلفة. وأول ما يقف عنده من عناصر الصورة حضور الصور البلاغية في الرواية، وبالأخص حكاية "كغاشي" باعتبارها استعارة تمثيلية يستهدف الكاتب من خلالها التعبير عن مواقف وأشياء وقضايا لا سبيل إلى البوح بها دون التوسل بالصورة الاستعارية التمثيلية.

ويقف الناقد عند عدد من الصور التشبيهية ليكشف عن دلالاتها، وعن وظائفها المتصلة بتصوير الشخصيات، وحالاتها المختلفة، مبرزا علاقتها بالبناء الكلي للرواية. ثم يقف عبد اللطيف الزكري عند إمكانات تصويرية أخرى في رواية "بدر زمانه"، ومنها:

- عنصر الحلم الذي يحتل أهمية قصوى في الرواية نظرا إلى تكراره المستمر، حيث أصبح علامة بارزة تشد خيوط الأحداث وتوجهها في مسار تأويلي متميز. ومن ثم كان الحلم في "بدر زمانه" علامة أو صورة تعكس هواجس معينة تسكن صاحبها (الشخصية الروائية المحورية/السارد: أحمد بن الحاج مهدي). ويؤكد عبد اللطيف الزكري أن اعتبار "الحلم" عنصرا من عناصر الصورة الروائية في رواية "بدر زمانه" لا يجعله يشتط إلى اعتبار هذا العنصر أساسا من أسس الصورة الروائية في أي متن روائي كان. وتميُز "بدر زمانه" بتوظيف هذا العنصر محملا بمعانيه الرمزية جعله علامة بارزة وجزءا حيويا من الصورة الروائية في هذا المتن السردي المغربي المتميز.

- عنصر الوصف الذي يؤدي، بدوره، وظيفة مهمة في رواية "بدر زمانه"، إذ يتوسل به الخطاب الروائي في أوضاع متباينة لتصوير الشخصيات والأحداث والمكان... وغير ذلك من المكونات. ويتجلى الوصف بجميع مظاهره وأشكاله في متن الرواية ليؤسس الصورة الروائية. وهذا الاهتمام بالوصف كان ضروريا في الصوغ الروائي قصد تقريب الصورة إلى المتلقي كيما يتفاعل أكثر مع النص ونزداد متعته به.

- عناصر أخرى: وفي هذا السياق، يؤكد عبد اللطيف الزكري أن الصورة الروائية في "بدر زمانه" لا تنبني على تضافر العناصر البلاغية وعنصري الحلم والوصف، فحسب، وإنما تتأسس، أيضا، بالاعتماد على طرائق معينة في الحكي (تجاور الحكي)، وأشكال تقديم الشخصيات وتراكم المعلومات حولها، وإبراز الأحداث وتأطيرها في المكان الذي تدور فيه وتحديد زمان معلوم لها. ومعنى هذا، أن الصورة الروائية تختزل الكتابة في "بدر زمانه" وتخصصها، فعملية الاسترجاع والاستباق - مثلا - هما وجهان من وجوه الصورة الروائية. وكذا عملية التأطير المكاني.

وهكذا يمكن اعتبار الصورة الروائية في "بدر زمانه" جُماع عناصر غنية ومتنوعة تتواشج فيما بينها برباط خفي أو ظاهر، لتؤسس مكونا من أخصب المكونات الروائية.

ويخصص الناقد عبد اللطيف الزكري الفصلين الأخيرين من كتابه للحديث عن صورتي الشخصية والفضاء في "بدر زمانه". فهذه الرواية تحفل بشخصيات تحتل مكانة مهمة في المتن، إذ تحدد سير الحكي وقيمة الصورة وجدية المواقف أو هزلها. كما تحدد نوعية الوعي الصريح والضمني حول المجتمع وأشيائه الثابتة والمتغيرة. ويحكم منطق توزيع الشخصيات في "بدر زمانه" المسار الحكائي الذي تصب فيه "حكايتا" الرواية. فشخصيات "حكاية أحمد بن الحاج مهدي" تتحرك في عالمها طبقا لمقتضيات أعراف هذا العالم ومواضعاته. أما شخصيات "حكاية بدر زمانه-كغاشي" فتتمظهر في انسجام دقيق مع "عالمها الغريب"، سواء من حيث سيميائية أسماء الأعلام ودلالتها، أو من حيث حركات وأفعال ومبادرا هذه الشخصيات. ويعني هذا أن صور الشخصيات الروائية في "بدر زمانه" متنوعة ومتعددة بتعدد العوالم التي تحيا فيها. ويقتصر الباحث عبد اللطيف الزكري في تناوله لصورة الشخصية الروائية في "بدر زمانه" على صورة السارد، باعتباره شخصية محورية. والسارد المقصود هنا هو أحمد الذي يحكي عن نفسه وعن عائلته وعن كل ما يتعلق بتجاربه ومشاغله واهتماماته، لا السارد مصطفى لكرد الذي يحكي "تغريبة بدر الزمان". فأحمد سارد محوري يلملم شتات خطوط الحكي وينسجها في حبكة بؤرية. وتتلون صورة السارد أحمد تلوينات مختلفة، ويتمكن القارئ من اكتشاف ملامح هذه الشخصية وسلوكياتها وعاداتها وأحوالها وتجاربها من خلال الرواية ككل، ومن خلال صور جزئية تثرى في الرواية، وهذه الشخصية بحكم نموها المضطرد في الرواية وفقا للتعاقب الزمني في النمو البشري: من الطفولة مرورا بمرحلتي المراهقة والشباب، ووصولا إلى الكهولة، هو الذي جعل الصور تتكدس وتتراكم لتشكل في النهاية ملامح جوهرية لشخصية السارد: وعلى رأسها صورة الخوف والخجل وبعض النوازع النفسية الأخرى التي وسمت شخصية أحمد بن الحاج مهدي.

وفي تناوله لصورة الفضاء في رواية "بدر زمانه" سيعمل عبد اللطيف الزكري على تحديد بعض الإشارات الأولية حول صورة الفضاء، ويقصد بالفضاء المكان الذي تتأطر داخله الأحداث والشخصيات مع عدم تناول جميع أنماط الفضاء الأخرى. وإذا كان "المكان هو الذي يعطي للمتخيل مظهر الحقيقة"، كما يقول الناقد الفرنسي هنري ميتران في كتابه "خطاب الرواية"؛ فإن صور المكان في "بدر زمانه" محملة بثقل دلالي مشحون بالإيحاء التصويري مما يدثر المكان بغلالة الحقيقة "الواقعية" أو الحقيقة "الخيالية". ويتسع الفضاء الروائي في الرواية، ليشمل الأزقة والشوارع والسجن والمدينة والقرية والطبيعة... حتى ليخيل إلينا أن الفضاء - يقول الكاتب - يشكل عنصرا جوهريا من البنية التحتية للعمل الروائي. وإذا كانت الدار البيضاء، بكل طوبوغرافيتها، هي المكان الرئيس الذي نصل عبره إلى الكون التخيلي لحكاية أحمد بن الحاج مهدي، فإن "كغاشي"/ بلاد الملح هي المكان الأساس الذي تتأطر فيه أحداث حكاية "بدر الزمان". ويقف الناقد عند صورة "كغاشي"، وهذا المكان لا وجود له في عالمنا المعروف، فهو فضاء "غريب" تم استدعاؤه، ليؤدي وظيفة "سيميائية" متجانسة مع الأحداث والشخصيات والمواقف. مكان يحيلنا على أجواء "ألف ليلة وليلة"، ومع ذلك يمثل حقيقة عالمنا ويدل عليه دلالة رمزية. وبنيات الصورة المكانية في "بدر زمانه" تتأسس عادة بالاعتماد على "الوصف" ما يسميه السارد "مشهد" الذي يتخذ تقنية النص المسرحي، أو "الرمز"، أو من خلال تمازجهما.

بعد هذه الرحلة مع الجانبين النظري والتطبيقي من كتاب "وظيفة الصورة في الرواية: النظرية والممارسة" يمكن القول إن هذا الكتاب قد ظل وفيا لإشكال الصورة الروائية وبلور وجهة نظره حولها في فترة مبكرة قبل أن يصدر الناقد المرحوم محمد أنقار كتابه "بناء الصورة في الرواية الاستعمارية: صورة المغرب في الرواية الإسبانية"، وقد كان اجتهادا رائدا في فهم الصورة الروائية، وكان بحثا أُنجز بإشراف الدكتور محمد أنقار، وعلى الرغم من تأخر صدوره، فهو يضيئ جوانب من موضوع الصورة الروائية، ويعد إضافة لما أنجزه باحثون آخرون من طلبة محمد أنقار حول هذا الإشكال النقدي الأدبي الطريف والمتجدد دوما.

° عبد اللطيف الزكري، "وظيفة الصورة في الرواية: النظرية والممارسة"، دار كنوز المعرفة، عمان/الأردن، 2016