الحسّ النّقديّ في مقاربة "تاريخ الفكر الفلسفيّ الغربيّ": آفاقه وحدوده من خلال مشروع الطّيب بوعزة الفكريّ


فئة :  قراءات في كتب

الحسّ النّقديّ في مقاربة "تاريخ الفكر الفلسفيّ الغربيّ": آفاقه وحدوده من خلال مشروع الطّيب بوعزة الفكريّ

تعدّ كتب "في دلالة الفلسفة وسؤال النّشأة، نقد التّمركز الأوروبي" (2012م)، و"الفلسفة اليونانيّة، ما قبل السّقراطية، الفلسفة الملطيّة أو لحظة التّأسيس" (2013م)، و"فيثاغور والفيثاغوريّة؛ بين سحر الرياضيّات ولغز الوجود" (2014م) للدّكتور الطّيب بوعزة، الأعمال الخامسة والسّادسة والسّابعة على التّوالي، لصاحبها بعد: "مشكلة الثّقافة" (1991م)، و"قضايا في الفكر الإسلاميّ المعاصر" (2002م)، و"مقاربات ورؤى في الفنّ" (2007م)، و"نقد اللّيبراليّة" (2007م)، وهذه الأعمال الثّلاثة، نحى فيها المؤلّف المنحى النّقديّ لمقاربة تاريخ الفكر الفلسفيّ الغربيّ، من خلال البحث في نشأة هذا الفكر ودلالات الفلسفة، كما تبلورت لدى اليونان، وفي الثقافة الهيلينيّة. فما ملامح هذا الحسّ النّقدي ّكما تتمثّل في العمل الأوّل من هذه الأعمال؟ وما هي آفاقه ونتائجه؟ وما هي حدوده وخلاصاته؟

انطلاقًا من هذه الأسئلة؛ ستكون قراءتنا للكتاب الأوّل الدّكتور: الطّيب بوعزة الجديد.

1 - القسمات الكبرى لمشروع الطّيب بوعزة:

قسّم الطّيب بوعزة كتابه الأوّل إلى فصلين اثنين، ومقدّمة حملت عنوان "هذه السّلسلة"، وتقديم.

يبسط في المقدّمة تصوّره لنقد التّمركز الأوروبيّ في فهم تاريخ تطوّر الفكر الفلسفيّ الغربيّ، مشيرًا إلى أن هذا الكتاب يعدّ لبنة أولى في مشروع نقديّ فلسفيّ، ويرمي إلى تأمّل تاريخ الفلسفة الغربيّة من منظور جديد، لا يُسلّم بنزعة التّمركز الأوروبيّ، ولا يسقط في نزعة الانبهار والتّسليم بما يزعمه الأوربيّون حول نشأة الفلسفة ومفهومها، وتطوّرها، وتنوّعها، وسنقف طويلًا عند هذا الكتاب، نظرًا إلى أهميته، ونظرًا إلى أنّه يضع أسس الفعل النّقديّ الّذي يبني عليه مشروع الطّيب بوعزة، فضلًا عن أنّ كثيرًا من البذور الّتي بذرها الكاتب في هذا السّفر، ستتبلور وتتطوّر في الكتابين اللّاحقين، وستجد طريقها - أيضًا - في الأعمال الأخرى التي ينجزها الكاتب لتكملة مشروعه.

يتساءل الكاتب - في بداية المقدّمة - عن الحاجة إلى دراسة جديدة للفكر الفلسفيّ الغربيّ، مع وجود دراسات عربيّة كثيرة تُقدّم هذا الفكر، وتؤرّخ للحظاته، وتحوّلاته، ورموزه، مبينًا أنّ الدّافع الّذي يستوجب هذه الدّراسة - حسب رأيه - آتٍ من أمرين: أوّلهما: غياب الحسّ النّقديّ عن كثير من التآليف المنشغلة بتقديم هذا الفكر، وثانيهما: ضعف منهجيّة النّقد المنتهجة في بعضها الآخر. ويؤكد الكاتب أنّ غياب الحسّ النّقديّ، وضعف منهجيّته، ويستوعب مختلف أنماط البحث العربيّ في حقل الفلسفة، بحيث يمكن تصنيف الكثير من الكتابات العربيّة الّتي تناولت الفكر الفلسفيّ الغربيّ إلى صنفين اثنين:

1 - صنف التآليف العربيّة المنبهرة بهذا الفكر، الّتي تنساق إلى عرضه، والدّعاية لمدارسه ومذاهبه، دون أدنى موقف نقديّ. وبهذا لم تستطع هذه الكتابات تجاوز موقف الدّعاية، والإشهار إلى موقف النّقد؛ فظلّت وثوقيّة في دفاعها وتبجيلها، ومغتربة باستلابها وانبهارها. ويلفت الطّيب بوعزة نظرنا إلى أنّ هذا النّمط من الكتب المهتمة بتقديم النّتاج الفلسفيّ الغربيّ، لا ينتبه أصحابها إلى أنّ نهجهم في تلقّي الفلسفة، يناشز روح التّفكير الفلسفيّ ذاته، من حيث كونه تفكيرًا مسكونًا باستهجان التّقليد والتّلقي السّلبيّ، وأنّ ما يغني الفكر الفلسفيّ؛ هو أن يجتهد المثقّف/ المفكّر في بلورة رؤية فلسفيّة، تعكس خصوصيّة سياقه الثّقافي والحضاريّ، فيبدع ويضيف، ويرقى من العقليّة الاتّباعية إلى العقلية الإبداعية.

2 - صنف ثانٍ من التّآليف؛ حملت عناوينه ألفاظ النّقد، والدّحض، والنّقض، والتّهافت، وما شابه، في سياق رفضها لما يسمى بالأيديولوجيّات والمدارس الفلسفيّة الغربيّة، ممّا أنتجه "الخطاب الإسلاميّ المعاصر" خاصّة، وهو صنف تميّز بعدد من السّمات حصرها الطّيب بوعزة في أربع نقاط:

 - السّطحيّة في عرض مذاهب الفكر الفلسفيّ الغربيّ؛ حيث يقف العرض عند الخطوط المعرفيّة العامّة، دون غوص إلى أعماق وتفاصيل هذه المذاهب، ممّا يشكّك في حقيقة قدرة هذه الكتب على أداء دورها النّقديّ المزعوم.

 - الميل إلى لغة الهجاء لا اللّغة المعرفيّة القادرة على الغوص في تفاصيل الفكر الفلسفيّ، والكشف النّقديّ عن نقائضه الدّاخلية.

 - اختزال هذه التآليف "النّاقدة" مبادئ الفكر الفلسفيّ الغربيّ في عبارات أقرب إلى لغة الشّعارات، ممّا يؤكّد أنّ أكثر هذه الكتب، يعتورها نقص كبير من حيث إدراك دقائق وتفاصيل الفكر الغربيّ، وتاريخه، واتّجاهاته، حيث لا تجد فيها إلّا معلومات مبتسرة، وانتقادات قلّما تنفذ إلى العمق والصميم.

 - غياب مؤلّفات الفيلسوف المنتقد عن لائحة مصادر ومراجع هذه الكتب، وتعويضها بتصانيف موجزة ومختصرة، توضح ألف باء فلسفته فحسب، ومثل هذا المستند، لا يعدّ كافيًا لتأسيس الفهم، بل لتأسيس الحسّ النّقديّ.

وبعد الحديث عن أشكال تفاعل الكتابات العربيّة مع الفلسفة اليونانيّة الغربيّة، ينتقل الباحث إلى بسط رؤيته النّقديّة للفكر الغربيّ، انطلاقًا من فرضيّتين اثنتين:

الفرضيّة الأولى:

ناتجة عن تأمل الكاتب في صيرورة الفكر الفلسفيّ الأوربيّ، والبحث في متونه؛ حيث انتهى إلى فكرة صارت تشكّل ناظم رؤيته إلى تاريخ الوعي الغربيّ، وهي: أنّ علاقة هذا الوعي بالوجود شهدت ثلاثة أنماط ممنهجة لفعل التّفكير في حقيقة الوجود، يصطلح عليها الكاتب بما يأتي:

1 - علاقة الإدراك؛ أساسها اللّوغوس.

2 - علاقة الحيازة؛ أساسها التّقنيّة.

3 - علاقة الالتذاذ؛ أساسها الإيروس.

ويؤكّد الدّكتور الطّيب بوعزة: أنّ طبيعة نزعة الفلسفة موصولة بالكيفيّة الّتي تنهض عليها علاقة الوعي بالوجود عندها؛ حيث إنّ طبيعة هذا التّعالق وكيفيّاته، تحدِّد وتتحدَّد على نحو يناغم طبيعة ذلك النّزوع الفلسفيّ، وهكذا؛ فإنّ التّقليد الفلسفيّ الأوربيّ، منذ الإغريق حتى ديكارت، أُسّس - حسب رؤيته للوجود - على علاقة إيبستمولوجيّة تتقصّد الإدراك المعرفيّ، ويتّضح هذا الأمر من خلال تحليل صيرورة فعل التفكير الفلسفي الأوربي، وتحوّلاته، كما أنّه أُرسي مع أفلاطون وأرسطو، بناءً على توليفهما بين الفلسفتين؛ البارمينيديّة والهيراقليطيّة، واعتمادهما مفهوم الحدّ الماهويّ السّقراطيّ، ثمّ انتقل الجهاز المفاهيميّ المؤسّس للنّظر إلى الوجود، وتحوّله من نمط العلاقة الإدراكيّة - وقد ثُبّتت منطقيًّا مع الأرسطيّة - إلى نمط العلاقة الحيازيّة مع ديكارت وفرنسيس بيكون، ومع هذين الفيلسوفين، تحوّل مطلب إدراك الوجود من إشباع معرفيّ إلى قراءة تقنيّة للوجود، تسعى إلى ضبط قوانينه، بهدف السّيطرة عليه، تلك السّيطرة التي ستنتظم وفق علاقة الحيازة والسّيادة على الكون، بواسطة المنظومة التّقنيّة، الّتي ستؤول - في النهاية - إلى الإخلال بنظامي الوجود (الطّبيعيّ والإنسانيّ) معًا، وقد عجز التّفكير الفلسفيّ الأوربيّ عن الاستمرار في تأسيس العلاقة الإدراكيّة، وانتهى إلى نوع من العدميّة، بإقامته تعالقًا جديدًا مع الوجود يتمثّل في "علاقة الالتذاذ".

وإذا كان ديكارت وضع العقل على أنّه مرجعيّة معرفيّة، باعتباره جوهرًا مفكّرًا قادرًا على بلوغ الحقيقة بمفرده، وبمعزل عن أيّ سند ما ورائيّ؛ فإنّه بذلك أرسى لأوربا - كما يؤكّد الباحث - "عقيدة جديدة، ألّه فيها العقل ورفعه إلى مقام المطلق" (ص 16)، لكنّ العقل لن يستطيع البقاء طويلًا في هذا المقام؛ إذ سرعان ما شُكّك في إمكانه المعرفيّ مع الفلسفة التّجريبيّة، في نموذجها الشّكّي مع ديفد هيوم؛ الّذي أيقظ الوعي الأوربيّ من وثوقيّته العقلانيّة، فكان - بشكّيته - مزعزعًا للعقلانيّة ويقينها، غير أنّه لم يقدّم بدائل - أو بديلًا آخر - للوعي الأوربيّ؛ فالحسّ الّذي تعلّق به هيوم يؤول - في النّهاية - إلى العقل، الّذي سيصوغ المعطيات الآتية من الحواسّ، لهذا؛ كان من الطّبيعيّ لهيوم ألّا يقدّم أيّ بديل ينأى عن الشّكّ.

إلّا أنّ مشروع كانط الإيبستمولوجي، كان أعمق؛ لأنّه كان أرضيّة الحداثة، سواء في مسندها العقلانيّ أو التّجريبيّ، والخلاصة الّتي انتهى إليها كانط: هي أنّ العقل محدود بحدود عالم التّجربة والظّاهر، وليس قدرة معرفيّة مطلقة، وبذلك، كانت الفكرة المنهجيّة الّتي قدّمها كانط في كتابه "نقد العقل الخالص"، إرهاصًا بتبلور نقد جذريّ للوعي الفلسفيّ الحداثيّ؛ إذ إنّ المراجعة النّقديّة - الّتي أراد صاحب مشروع "النّقد" أن تكون مجرّد تعيين لحدود اشتغال القدرة الفاهمة - ستنقلب إلى التّشكيك في العقل بأكمله، لتخلص إلى تخطّيه مع فلسفات ما بعد الحداثة التي بدأت في التّبلور نهاية القرن التّاسع عشر؛ حيث انقلب الأمر إلى تأسيس علاقة إيروسيّة تتقصّد الالتذاذ، وهذه النّقلة– كما يعتبرها الطّيب بوعزة - تعدّ تحوّلًا جذريًّا في تمثّل الوجود، وفي أساليب التّفاعل معه، وهو ليس مجرّد انتقال إلى صيغة جديدة في التّعالق مع الوجود؛ بل هو - في العمق - تعبير عن أزمة عميقة تثوي داخل الفكر الفلسفيّ، ناتجة عن فقدان الإمكان الميتافزيقيّ لتأسيس العلاقة الإدراكيّة؛ فالتّراجع عن العلاقة الإدراكيّة إلى العلاقة الالتذاذيّة الإيروسيّة، يجد تفسيره - كما يؤكد الباحث - يجد تفسيره في أزمة الحقيقة، وفقدان المعنى نتيجة تقويض الميتافزيقا، سواء في أبنيتها الفلسفيّة التقليديّة أو بنائها الدّينيّ، لذا؛ لم تجد فلسفة ما بعد الحداثة من مسلك، سوى التّوصية بالالتذاذ بالوجود، بعدما عجز اللوغوس الفلسفيّ عن محاولة إدراكه وفهمه.

انطلاقًا ممّا سبق؛ يرى الطّيب بوعزة أنّ مدخل الإيروس ليس مدخلًا إيبستمولوجيًّا؛ بل مدخلًا التذاذيًّا، بسبب ما يستشعره المتفلسف المعاصر من فراغ المفاهيم المؤسّسة للتّفكير، وعدم إمكان اليقين بوجود الحقيقة، وهو فراغ لا يمكن تعويضه– كما يؤكّد الكاتب - إلّا بإعادة تجديد الوعي الفلسفيّ تجديدًا دينيًّا.

الفرضيّة الثّانية:

يفترض الكاتب أنّ الإحالة إلى الماوراء شرط لضمان المعنى، وتأسيس الإمكان الأنطولوجيّ للحقيقة، ومن ثمّ؛ تسويغ بحث إمكانها الإيبستمولوجيّ، وهذا ما ينبغي أن تستفيده الفلسفة من الدّين؛ لأنّه ليس ثمّة إمكان إيبستمولوجيّ لتأسيس الوعي الفلسفيّ خارج الدّين، وهذا الشّرط– الإحالة إلى الماوراء - بدا منذ أولى تجلّيات الوعيين؛ الدّينيّ والفلسفيّ؛ حيث رفع الكائن الإنسانيّ نظره إلى السّماء لتفسير الأرض؛ لأنّه أدرك أنّ الوجود - بفعل تغيّره وعرضيّته غير مكتفٍ بذاته، ولا يمكن أن يستمدّ معناه من كينونته المحكومة بالصّيرورة والفناء، من ثمّ؛ كان لا بدّ للوعي أن يحيل إلى الماوراء، وهذه الإحالة المتعالية (التّرنسندنتاليّة)، تعدّ جوهر الوعي الدّينيّ وأساسه، كما أنها أساس إمكان قيام الوعي الفلسفيّ.

ينبّه الدّكتور الطّيب بوعزة - في هذا الصّدد - إلى أنّ انهيار المؤسّسة الدّينيّة الغربيّة، تحت معاول الفكر النّقديّ الّذي أنجزته الحداثة والأنوار، أدّى إلى انهيار إمكانيّة الإحالة على الماوراء، بالتّالي، انهار الإمكان الأنطولوجيّ للمعنى، كما انهار إمكانه الإيبستمولوجيّ، وبانهيار هذا الإمكان آلَ الفكر الفلسفيّ - في سياق ما بعد الحداثة - إلى العدميّة، ويبيّن الكاتب أنّ مقصوده بعبارة "الإمكان الأنطولوجيّ": هو أنّ الاعتقاد بكينونة ما ورائيّة، يمكّن تفسير الوجود والحياة بالإحالة عليها، أُلغيت مع هذا الفكر ما بعد الحداثيّ.

يؤكّد الطّيب بوعزة أنّ قراءته لتاريخ الفكر الفلسفيّ الغربيّ، أفضت إلى هذه "النّظريّة"، لكنّه لن يصادر - انطلاقًا منها - الفلسفة، ويطوّعها لتوكيد وجهة نظره عسفًا؛ بل سينفتح على الميراث الفلسفيّ الغربيّ بأداة التّحليل - المفاهيميّ والإشكاليّ - لبنيته المعرفيّة، وأنظمته، جاعلًا من نظريّته فرضيّة للاختبار، لا مقياسًا جاهزًا يحكم من خلاله على المادة الفلسفيّة المدروسة.

2 - أهم قضايا الكتاب الأوّل، ولبنة المشروع الممتدّ إلى العملين الآخرين:

بعد هذا التّقديم المهمّ لمشروع الكاتب، وتحديد الخطوط العامّة لرؤيته النّقديّة، وقراءته الخاصّة لتطوير الفكر الفلسفيّ الغربيّ؛ يتناول - في الفصل الأوّل من الكتاب - إشكاليّة دلالة الفلسفة، وهي الإشكاليّة الّتي أثارت وما تزال تثير الكثير من النّقاش والجدل، ويستعرض الكاتب رؤى متنوّعة ومتضاربة قاربت دلالة الفلسفة، وانطلق من تصوّرات أفلاطون، وإيزوقراط، وأرسطو، وعرض التّصوّر الشّكاكيّ؛ فالتّصور الأبيقوريّ، ثمّ التّصوّر الرّواقيّ للوقوف على أسباب استشكال مفهوم الفلسفة، وهي أسباب خمسة - كما سنفصّلها فيما سيأتي من مقالنا هذا - فما دلالة الفلسفة في التّصوّرات الّتي أشرنا إليها؟ وما أسباب استشكال المفهوم وانغلاقه كما يبيّن الباحث؟

لن نستعرض المفهوم اللّغوي للفظة الفلسفة، وأصولها واشتقاقاتها، والغرض منها، كما فصّلها الكاتب في هذا الفصل، وإن كانت الضّرورة تقتضي الإلمام بهذه الجوانب في عجلة، بقدر ما يهمنا الوقوف عند تصوّرات الفلاسفة المشار إليهم عن الفلسفة، والكشف عن أسباب استشكال المفهوم وانغلاقه، كما يبيّن الكاتب، وفي هذا السّياق؛ يذكر الطّيب بوعزة أمرًا مهمًّا، هو: أنّ لفظ "صوفيا" الذي يشكّل الجزء الثّاني من كلمة "فيلوصوفيا"، ليس إغريقيًّا، والدّليل على ذلك ما كتبه أفلاطون - نفسه - في محاورة "أقراطيلوس"، عندما وصف كلمة "صوفيا" بأنّها: "كلمة غامضة جدًّا، ويبدو أنها ليست من أصل محلّي" (ص. 40 من كتاب الطّيب بوعزة الأوّل).

وقد احتار أفلاطون في تعيين أصل اللّفظ؛ حيث لم يلحظ له صلة اشتقاقيّة باللّسان اليونانيّ؛ فأشار إلى أن اليونان استعاروه من "البرابرة" (الشّعوب الأخرى خاصّة الشّرقية)، ومن ثمّ كان لا بدّ من البحث في أصل الكلمة، وعدم الجزم أنّ لفظ الفلسفة - في أصله - يونانيّ، ويلاحظ الطّيب بوعزة أنّ استعمال كلمة فلسفة لم يظهر بدايةً، سوى في صيغة "فيلو - صوفوس"؛ أي فيلسوف (محبّ الحكمة)، أو الرّاغب في الحكمة والطّالب لها. كما يظهر لفظ آخر في التّراث اليونانيّ القديم، هو "فيلو - صوفين"؛ أي التّفلسف، ولكن بما أنّها تداول هذين اللّفظين القريبين من لفظ "فيلوصوفيا"؛ فإنّهما - حسب استعمالهما آنذاك - لا يدلّان على وجود وعي بكون الفلسفة تشكّل ممارسة معرفيّة متميّزة، ونتيجة لذلك؛ يمكن القول مع الباحث "مالينغراي": إنّه قبل أفلاطون، ليس هناك استعمال للفظ الفلسفة بمدلولها على أنّها حقل معرفيّ متميّز.

ويشير الطّيب بوعزة إلى أنّ المرحلة الأولى من مراحل ظهور "الفكر الفلسفيّ" لدى اليونان، كانت مرحلة "الحكيم" لا "محبّ الحكمة"، كما يزعم بعض الدّارسين؛ لأنّ مرحلة البدء مع طاليس، وأنكسيمندر، وأنكسيمانس، ..إلخ، وكان الفيلسوف يقدّم فيها - بوصفه حكيمًا لا محبًّا للحكمة - هذا فضلًا عن أنّ فكرة قيام الأنساق التي يقصد بها المرحلة الأفلاطونية وما تلاها، فكرة مهزوزة، لأنّه؛ لا بدّ من أخذ التّوصيف المحدّد لبدء ظهور النّسق مع أفلاطون بحذر شديد؛ لأنّه ليس موثقًا أيضًا، ومن ثم؛ لا يمكن التّسليم به، خاصّة، أنّه يمكن ملاحظة ملامح أنساق بادية على كثير من البنيات الفكريّة، أنتجها مفكّرون سابقون؛ سقراط وأفلاطون وغيرهما، ممّن تعزى إليهم فكرة تشكيل النّسق الفكريّ/ الفلسفيّ.

ويخوض الكاتب، بعد هذا، في إشكال ابتداع لفظي فيلسوف وفلسفة، ويعمل على إثبات ابتكار هذين المصطلحين لأفلاطون، من خلال أدلّة وحجج كثيرة، ويبيّن أنّ نسبتهما إلى فيثاغور أو سقراط غير صحيحة، كما بيّن كثير من الباحثين، منهم؛ ريتر، وهادوت، وباركيرت...، ويبيّن الطّيب بوعزة كيف أن السّوفسطائية أقرب في فهمها للممارسة الفكريّة من مفهوم الفلسفة والفيلسوف، نظرًا إلى أنّها تؤكّد أنّ الوعي "الفلسفيّ" يقوم على أساس إدراك جهل الذّات المفكرة، ومحدوديّة إدراكها المعرفيّ، ومن ثمّ وجوب النّزوع الدّائم نحو طلب الحقيقة، ومن ثمّ؛ فإنّ السّوفسطائية لا تقوم على زعم امتلاك المعرفة، كما يقدّمها المتن الأفلاطونيّ والأرسطيّ؛ بل - على العكس - تنهض على أساس الشّكّ في إمكانها، ولهذا؛ إذا كان الدّاعي الفلسفيّ إلى ابتداع لفظ "الفيلسوف"، هو الإحساس بنسبيّة المعرفة، وعدم القدرة على امتلاكها؛ فالأنسب بحمل هذا المعنى هو السّوفسطائيّ.

وفي الأخير: يرجّح الطّيب بوعزة أنّ لفظة "فيلسوف"، وما اشتقّ منها؛ أي "فلسفة" من نتاج الأفلاطونيّة، لأنّنا في متون أفلاطون: "المأدبة"، و"الجمهوريّة"، و"دفاع عن سقراط" استعملت اللّفظتان على نحو تظهر من خلالهما، أنّ الفلسفة ممارسة معرفيّة متميّزة عن غيرها من أنماط التّفكير الإنسانيّ، والأهمّ في طرح هذه القضيّة - حسب الكاتب - ليس هو تعيين أوّل من أطلق هذا اللّفظ؛ إنّما معرفة كيف تمثّل اليونان دلالة هذه الصّناعة المعرفيّة، الّتي يزعم التّاريخ الغربيّ أنّها من إبداع أوروبيّ خالص.

وفي هذا السّياق؛ يعرض المؤلّف أهم تصوّرات الفكر الفلسفيّ اليونانيّ عن دلالة الفلسفة ووظيفتها، ومن خلال العرض المستفيض لتلك التّصوّرات، يحدّد أسباب استشكال مفهوم الفلسفة في خمسة عناصر، وهي:

1 - كثرة تعاريفها.

يؤكّد الكاتب - في هذا الصّدد - أنّه لا ينبغي الاكتفاء بجرد التّعاريف المختلفة للفلسفة، وجعلها سببًا لإشكال المفهوم؛ بل لا بدّ - ابتداءً من بحث الباعث إلى إنتاج تلك التعاريف المختلفة - ذلك لأنّ الفلاسفة اختلفوا في تعريف الفلسفة؛ لقبولها احتمالات دلالات مختلفة، وأن لا تتأطّر داخل تعريف واحد ووحيد، وحدّ دلاليّ جامع مانع.

2 - الصّبغة الشّخصيّة للإنتاج الفلسفيّ:

يبيّن الكاتب - في هذا السّياق - كيف تُظهر عمليّة إنتاج الفكر داخل مجال الفلسفة، أنّ كلّ فلسفة مرتبطة بشخص صاحبها، ومن ثمّ؛ من الطّبيعي أن لا يكون محصول الممارسة الفلسفيّة عبر التّاريخ فلسفة واحدة؛ بل فلسفات متعدّدة بتعدّد مبدعيها، ومتباينة بتباين وجهات نظرهم، ولهذا يمكن القول: إنّ الفلاسفة لم يختلفوا في تحديد الفلسفة، إلّا لأنهم أنتجوا فلسفات مختلفة، ولعلّ كلّ واحد منهم عند تحديده للفلسفة كان - ضمنًا أو صراحةً - يعرف فلسفته الخاصّة، ومن ثمّ يسهل تعريف مفهوم الفلسفة عند الفيلسوف الواحد، ويصعب تحديد تعريف جامع يصدق على كلّ أشكال الفلسفة.

3 - ميوعة حدود موضوع الفلسفة:

هل للفلسفة موضوع محدّد، يسمح لنا– يقول الباحث - أن نصوغ به تعريفًا لها؟

إن موضوع الفلسفة - هو نفسه - سبب من أسباب استشكال مفهومها، ومن ثم؛ فإنّ هذا المسلك الّذي يُظهر نجاعته في مقاربة دلالات المعارف والعلوم، لا يساعد كثيرًا على فهم معنى الفلسفة؛ بل على العكس، يعمّق التباس مدلولها؛ لأنّ مجال النّظر الفلسفيّ يكشف - خلال تاريخ ممارسته - أنّ فعل التّفكير الفلسفيّ اهتمّ بكلّ شيء؛ حيث يكاد لم يترك مجالًا إلّا وقاربه، وبلور فيه أطروحات معرفيّة، وبذلك يتميّز موضوع الفلسفة بالموسوعيّة؛ حيث خاض في مختلف المجالات: الميتافزيقيّة والكوسمولوجيّة والأخلاقيّة والسياسيّة، وبذلك، كان موضوع الفلسفة شاملًا ومستوعبًا لكلّ حيثيّات الوجود والمعرفة والقيم؛ أي - بتعبير ديموقريطس - صارت "تتكلّم عن كلّ شيء"، ومن هنا، يبدو أنّ بناء تعريف الفلسفة على موضوع شموليّ متعدّد، كهذا الّذي يبدو في الممارسة الفلسفيّة، سيكون أشبه بمحاولة تعريف شيء واحد بكلّ شيء؟

4 - صعوبة تحديد ملامح المنهج الفلسفيّ:

يؤكّد الكاتب - في هذا الحيّز - أنّ الفلسفة ليس لها موضوعًا محدّدًا، ولا منهجًا واحدًا، وهذا لا يعني، رغم ذلك، أنّ الممارسة الفلسفيّة مطلقة من كلّ عقال منهجيّ، وبلا تحديد لموضوع اشتغالها، كما قد تبدو في سياقها العامّ، أمّا في السّياق الخاصّ؛ فإنّ كلّ فيلسوف يحدّد منهجه الخاصّ، وموضوع اشتغاله؛ بل إنّ ضبط المنهج يعدّ موقفًا أساسيًّا للفيلسوف، ولكن بما أن الفلاسفة يختلفون في المناهج، ويختلفون في الموضوعات الّتي يهتمّون بها، جاز القول: ليس للفلسفة موضوع محدّد ولا منهج محدّد، وهذا فارق نوعيّ يميّز الفكر الفلسفيّ عن غيره من أنماط التّفكير.

5 - حراك البنية المفاهيميّة:

إذا كان كثير من الدّارسين للفكر الفلسفيّ يشيرون إلى أن ميزة الفلسفة، هي: أنّها تصنع مفاهيم خاصّة بها؛ فإنّ هذا يطرح سؤالين مهمّين:

1 - لماذا لم تكتف الفلسفة بألفاظ اللّغة، وأسّست لها معجمًا مفاهيميًّا خاصًّا؟

2 - ما معنى المفهوم الفلسفيّ، وما سمته من حيث هو دالّ لفظيّ ودلالة سيمانطيقيّة؟

في سياق الإجابة عن السؤال الأول، يرى الطّيب بوعزة أنّ الفلسفة تضع نفسها في مستوى الثّقافة العالمة الّتي تختلف عن الثّقافة الأدبيّة، وأنّها تؤسّس خطابها على مسافة من المعرفة الشّائعة، ومن ثمّ؛ كان الضّبط الدّلاليّ للألفاظ من صلب اهتماماتها، لذلك؛ نجده حاضرًا منذ بواكير الممارسة الفلسفيّة، ولكن هل أثمر هذا الاعتناء بالدّلالة إنتاجًا مفاهيميًّا فلسفيًّا يضبط وينضبط له القول الفلسفيّ؟

يؤكّد الباحث قائلًا: لا أبدًا، لأنّ تاريخ الفلسفة ومسارها - حتى الآن - يكشفان عن فشل في إنتاج الدّلالة الحدّيّة، بشرطها المنطقيّ المعروف القائمّ على الفصل الماهويّ، وقد تحوّلت العناية بضبط الدّلالة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، إلى "فوبيا لغويّة" تمثّلت في الخوف من اللّغة الطّبيعيّة، وحلم عدد من الفلاسفة بتأسيس لغة فلسفيّة دقيقة في مثل دقّة اللّغة العلميّة الرّياضيّة، دون أن يفلحوا في تحقيق المتمنّى، ولذلك؛ ظلّت البنية المفاهيميّة للفلسفة - إذا استثني المنطق - معبّرًا عنها بالصّيغة اللغويّة الطّبيعيّة لا بالصّيغة التّرميزيّة الرّياضيّة، ومن ثمّ لم تفلح الفلسفة في التّخلّص من اللّغة الطّبيعيّة، ومن الخاصيّة المائعة الّتي تتميّز بها، لأنّ؛ الممارسة الفلسفيّة لم تثمر - هي نفسها - كيفيّات دلاليّة بديلة تحفظ لغتها من الالتباس.

وجوابًا عن السّؤال الثّاني؛ يشير الكاتب إلى أنّ المفهوم، في حقيقته، تجريد وتعميم، يتمّ اختزاله في صيغة "اسميّة" معرفة لا نكرة (الحدس - الكوجيتو - العلّة - ..)، بالنّظر إلى الطّبيعة اللّسنيّة للمفاهيم الفلسفيّة؛ فإنّ الصّيغة الاسميّة أساسيّة في تشكيل وصناعة المفهوم، وحتى الفعل، حين يرفع إلى درجة المفهوم يُحوّله إلى اسم، ومن، هنا، نخلص إلى أنّ المفهوم الفلسفيّ، يتميّز بكونه لفظًا دالًّا، معطى في صيغة اسمية لا في صيغة فعليّة، فهل يمكن لهذا السّمت اللّغوي الّذي يمنحنا الشّرط الأوّل لضبط المفاهيم الفلسفيّة، أن يساعدنا في تحديد دلالة الفلسفة وتعريفها.

يؤكّد الباحث: أنّه ليس لأنّ هذا السّمت اللّغوي لا يكفي لتعيين المفاهيم، وإمساكها داخل المتون الفلسفيّة، خاصّة، أنّ الأسماء الواردة في الكتب الفلسفيّة ليست كلّها مفاهيم، هنا، ينبغي أن نميّز بين مستويين اثنين في المقاربة المفاهيميّة:

1 - إذا رامت هذه المقاربة تعريف فلسفة فيلسوف ما؛ فلا بدّ لها أن تنتبه إلى الخصوصيّة الدّلاليّة للمفهوم داخل متن ذاك الفيلسوف، ومن ثمّ؛ سيكون لزامًا عليها أن تتجاهل - إلى حدّ ما - المعجم المفاهيميّ الفلسفيّ عامّة، وتعتني بالشّبكة المفاهيميّة الخاصّة بالفيلسوف، فإذا كانت المقاربة المفاهيميّة ذات نجاعة إجرائيّة في تعريف فلسفة ما؛ فهل لها ذات القيمة في تعريف الفلسفة بإطلاق؟ هذا السّؤال يفضي بنا إلى المستوى الثّاني.

2 - إذا رمنا من المقاربة مفاهيميّة أن تعطينا تعريفًا للفلسفة عامّة من مدخل مفهوميّ؛ فإنّها - في هذه الحالة - ستسقط في مأزق صعب؛ لأنّ المفاهيم الفلسفيّة رمال متحركّة، يتغيّر سمتها الدّلاليّ من نتاج فيلسوف إلى آخر، ومن ثم؛ نرى أنّ المقاربة المفاهيميّة تصلح لتعريف "الفلسفات" وليس "الفلسفة"، وإذا أخذنا المفاهيم مدخلًا إلى تعريف الفلسفة، هكذا بإطلاق؛ فإنّنا - بذلك - نطلب من الاختلاف أن يعطينا وحدة دلاليّة جامعة، وإذا حقّقنا ذلك؛ فإنّنا سنمسخ القول الفلسفيّ، ونفقده أهمّ سماته؛ أي: الاختلاف.

بعد خوض الباحث طويلًا في هذه الإشكاليّات الفلسفيّة المهمّة، ينتقل إلى تعريف التّفلسف من خلال التّركيز على ما أسماه "ميّزات فعل التّفلسف"، وهي:

1 - الحسّ النّقديّ.

2 - الرّؤية المنهجيّة.

3 - النّظرة الكلّيّة.

4 - غياب التّراكم التّجاوزيّ.

وهو يفصّل كلّ ميّزة من هذه الميّزات، مبيّنًا طبيعتها، والخصوصيّة الّتي تمنحها لفعل التّفلسف، وحتّى لا نطيل في هذا الحيّز، نتابع إلى أهمّ ما في الكتاب، وأهمّ ما بنى عليه الكاتب مشروعه، وعمل على بلورته، وتوسيعه، في كتابيه الآخرين، وهو: مراجعة نشأة الفكر الفلسفيّ اليونانيّ وتبدّلاته وتطوّراته، ومساءلتها.

وهكذا، يتناول الطّيب بوعزة - في الفصل الثّاني - إشكاليّة أخرى لا تقلّ عن إشكاليّة دلالة الفلسفة، وتعريف التّفلسف أهميّة وخطورة، إنّها إشكاليّة النّشأة، أو كما يطلق عليها الكاتب "سؤال النّشأة"، وفي هذا السّياق؛ يبدأ الكاتب - في مقدّمة الفصل - بنبرة تهكميّة ساخرة: "فجأة، وبلا مقدّمات، يولد اللوغوس الفلسفيّ، دون أن تسبقه علامات حمل ولا وحام! إذ في أحد أيام القرن السّادس قبل الميلاد.. على شاطئ مدينة ميلوتوس تولد الفلسفة من فراغ؛ فتنبجس هكذا على نحو معجز، مدهش، غريب" (ص. 123)

وهي خلاصة الرّواية الرّسميّة الّتي رسّخها مفكرو "المركزيّة الأوروبيّة" على مرّ العصور، وهي رواية مضادّة للعقيدة الفلسفيّة الّتي تؤسّس العقل الإغريقيّ، وتشكّل المشترك التّصوريّ المتّفق عليه بين مختلف مذاهب وتيارات الفكر الفلسفيّ اليونانيّ، تلك العقيدة الّتي تقول: "لا شيء من لا شيء"، حيث تلقي المركزيّة الأوروبيّة بمنطق اللوغوس الإغريقيّ عرض الحائط، في إطار سعيها إلى تبجيله وتوكيد الانتماء إليه، مدّعية أنّ الفلسفة اليونانيّة خلقت من عدم!

هذا الادّعاء هو الّذي جعل أحد كبار مؤرخي الفكر الفلسفيّ - وهو إدوار زيلر - يدعو إلى تجنّب البحث عن عوامل وأصول خارجيّة، ساهمت في نشأة الفلسفة اليونانيّة؛ لأنّ ما يمتلكه اليونان من عبقريّة، يكفي لتفسير تلك النّشأة، وقد أبدى بعض مؤرخي الفلسفة العرب القدامى والمحدّثون، أمثال: (الشّهرستاني - وابن النّديم - أحمد أمين - زكي نجيب محمود - عبد الرّحمن بدوي - عبد الرّحمن مرحبا - حنّا الفاخوري - خليل الجر - ..إلخ) رأيًا مشابهًا لما زعمه زيلر، وإذا كان للعرب القدامى عذرهم في ردّ نشأة الفلسفة إلى اليونان؛ لأنّ المصادر الشّرقية المتعلّقة بالحضارات (الهنديّة والفارسيّة والمصريّة) كانت غائبة عنهم؛ فإنّ المؤرخين المعاصرين لا عذر لهم في تكرار أطروحة المركزيّة الأوروبيّة، دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء التّحقق والبحث والاستدلال، خاصّة، أنّ المصادر الشّرقية صارت بين أيديهم.

انطلاقًا من هذه الملاحظات النّقديّة، يؤكّد الطّيب بوعزة: أنّ الضّرورة تقتضي الانتقال - أثناء تناول سؤال نشأة الفلسفة اليونانيّة - من أطروحة الفصل عن سياق حضارات الشّرق السّابقة على اليونان، إلى سياق يجعل نشأة فلسفة اليونان "نشأة مستأنفة"؛ أي أنها انطلقت بفضل إسهام تلك الحضارات السّابقة فيها، وهذا ما سيركّز عليه الكاتب في المباحث الأربعة الّتي تشكّل الفصل الثّاني من كتابه هذا.

وأوّل هذه المباحث يتعلّق بتأسيس فرضيّة الوصل، الّتي يحدد الكاتب مسوّغاتها في أربعة عناصر:

1 - السّبق الزّمنيّ لحضارات الشّرق.

2 - طبيعة السّياق الجغرافيّ اليونانيّ المنفتح.

3 - قانون تطوّر الحضارة في حوض البحر الأبيض المتوسط، على اعتباره يدلّ على كونها حصيلة اشتراك أجناس بشرية كثيرة، وليس نتاج جنس واحد.

4 - مستجدّات البحث في حضارات الشّرق.

والغاية من الدّفاع عن أطروحة الوصل هذه؛ قدرتها على إثبات نشأة الفكر الفلسفيّ اليونانيّ متّصلًا بالحضارات السّابقة، وتفسير ذلك.

يرى الطّيب بوعزة أنّ أطروحة الفصل لم تكن صادرة عن مسوّغ معرفيّ؛ بل ناتجة عن عقدة التّمركز حول الأنا؛ حيث بنيَت على منظور واهم يعتقد بنظريّة "المركزيّة الأوروبيّة"، الّتي تضع أوروبا في مركز العالم، وغيرها من الأقطار والشّعوب على هامش التّاريخ، تنفعل وتتأثّر، ولا تفعل وتؤثّر، ووراء هذه النّظريّة عقل كامن يحتاج إلى فهمه وإدراك حدوده التي تمنعه من الانطلاق خارج الإطار الّذي رسمه لنفسه.

إنّ هذا العقل الّذي يتحكّم في "النّظرية" استعلائيٌّ، يتمركز حول أناه تمركزًا عرقيًّا، صريحًا أو كامنًا، ونلاحظ ملامحه في القديم، لكنّ قراءة التّاريخ البشريّ - بامتثال كلّيّ - لهذه الرّؤية بدأ في القرن الثّامن عشر؛ إذ إنّه بعد مرحلة النّهضة - بما أنتجته من نزعات إنسيّة وإصلاح دينيّ - وبعد التّأسيس الفلسفيّ للمشروع الحداثيّ على الكوجيتو، على اعتباره (أنا مفكّر) يقصد السّيادة على الكون، وبما أنّ لحظة النّهوض استلهمت التّراث الإغريقيّ والرّومانيّ؛ فإنّ الوعي الأوروبيّ بدأ - بعد أزيد من ثلاثة قرون من بدء نهضته - بمحاولة لتّأريخ منجزه النهضويّ، وتمديد سيادته على التّاريخ - ماضيه وحاضره - هكذا انطلقت الكتابة التّاريخية، على أساس وصل مرحلة النّهضة باللّحظة الإغريقيّة والرّومانيّة، وهو الوصل الّذي سيخلص إلى بناء صيرورة تاريخيّة مترابطة، بناء على "إطار منهجيّ كليانيّ"، سمّي بـ"التّاريخ العامّ"، ولم يُرد بلفظ "العامّ" ما يقتضيه مدلوله؛ أي الانفتاح على تواريخ الشّعوب الأخرى، وتقدير إسهامها؛ بل نُظر إلى تاريخ أوروبا على اعتباره تاريخًا للعالم بأسره؛ فاستوى التّاريخ الأوروبيّ كأنّه "تاريخ البشرية"، وبفعل هذه القراءة الاختزاليّة الخاطئة لصيرورة البشريّة وسيرورتها، كان لا بدّ أن يتبدّى هذا "التاريخ العامّ": تاريخًا مملوءًا بالثّقوب والفجوات؛ بل مقطّع الأوصال ومفصول الأعضاء؛ لأنّه لا يمكن إقامة إطار هذا التاريخ - وفق منظور التّمركز الأوروبيّ - دون اشتغال آليّة الفصل، لتقطيعه عن غيره من التّواريخ المتماسّة والمتفاعلة معه، ليبدو - وحده - سامقًا بارزًا مهيمنًا.

هكذا، كان مشروع كتابة صيرورة تاريخ الفكر مرتبط بهذا النّزوع المتمركز حول الأنا الأوروبيّ، وهنا، نجد أنفسنا أمام عمليّة تزييف كبيرة، بدأت - منذ القرن الثّامن عشر - في رسم التّاريخ العامّ لأوروبا، عن طريق تبنّي نظريّة الفصل وإجراءها عن طريق تأكيد صورة التّاريخ الأوروبيّ النّقيّ من الأخلاط والمؤثّرات الخارجيّة؛ حيث جعلت الهويّة الثّقافيّة لأوروبا تنبجس في اليونان بلا مقدّمات ولا مؤثّرات من حضارات خارجيّة.

هنا، توسّل العقل الأوروبي باللّامعقول ليفسّر ظهور الفلسفة اليونانيّة؛ إذ إنّه قدّم - عوض التّعليل والتّفسير - عبارة إنشائيّة جوفاء، تدّعي أنّ بروز الفلسفة عند اليونان كان "معجزة"، كما استندت نظريّة الفصل إلى التّصوّر البيولوجيّ الّذي يزعم سموّ العرق الآريّ، وأحقيّته في قيادة العالم، ونقله إلى الحضارة لتعليل النّشأة المزعومة للفلسفة اليونانيّة؛ إذ صارت "معجزة" ظهور العقل الفلسفيّ مبرّرة عرقيًّا؛ بل ولا تحتاج إلى أيّة مساءلة تطالبها بالتّعليل، لأنّ الجنس الآريّ من طبيعته القدرة على التّحليل والتّركيب والعقلنة، ومن ثمّ؛ لا غروّ أن ينتج العلم والفلسفة، ولا تنتجهما الحضارات الأخرى.

وقد بدت نزعة "المركزيّة الأوروبيّة" في نموذجين اثنين:

1 - نموذج التّمركز حول الأنا، لكن دون التّصريح بالاستعلاء العرقيّ.

2 - نموذج المركزيّة العرقيّة الصّريحة في المفاضلة بين الحضارات والشّعوب على أساس بيولوجيّ عرقيّ.

ولا فارق جوهريّ بين النّموذجين، سوى: أنّ الأوّل يسكنه استعلاء عرقيّ "كامن"، وأنّه لا يفصح عن نفسه بوضوح، بينما يكشف النّموذج الثّاني عن هذا الاستعلاء، متوسّلًا فكرة بيولوجيّة/ سيكولوجيّة متهافتة، وكلاهما يسقط في تفسير لا عقلانيّ لنشأة الفكر الفلسفيّ.

ويفصل الطّيب بوعزة في هذا الجانب، متتبّعًا تجلّي النّموذجين لدى عدد من المؤرخين والفلاسفة الغربيّين (قدامى ومحدثين)، تبنّوا هذا التّفسير: ديوجين اللّايرسي، وهيجل، ونيتشه، وهيدغر، وفرانسوا شاتلي، وراسل، وإرنست رينان، ج. دي بور، وغيرهم.

ويؤكّد الكاتب - انطلاقًا ممّا سبق - أنّ "المركزيّة الأوروبيّة" انتهت إلى صياغة تفسير لا تاريخيّ لظاهرة نشأة الفلسفة؛ لأنّ التّفسير التاريخيّ يستلزم بحث السّياق المجتمعيّ، وصلاته بمحيطه، بينما تكتفي النّزعة العرقيّة بتقديم تفسير بيولوجيّ، يعتمد على اعتقاد وهميّ بكمال جنس بشريّ دون أجناس أخرى.

ويقف الطّيب بوعزة عند نماذج من الفلاسفة ومؤرخيها، يكيلون بمعايير مزدوجة، كما هو حال برتراند راسل الّذي سطر في كتابه "حكمة الغرب" عبارات مثقلة بالإعجاب لعقلانيّة اليونان، ثمّ وقف يتأمّل شعر هوميروس، ليكتشف أنّ روح اليونان يتنازعها عنصران، أحدهما عقليّ منظّم، والآخر غريزي أهوج.

من الأوّل - يقول راسل - جاءت الفلسفة والفنّ والعلم، ومن الثّاني العقيدة الأكثر بدائيّة المرتبطة بطقوس الخصوبة، وهكذا سيشغل راسل آليّة الفصل تارة، وآليّة الوصل تارة أخرى في تناقض واضح، ليفسر هذين العنصرين المتناقضين: بالنّسبة إلى العنصر الأوّل: عقلانيّة الرّوح اليونانيّة فلا إشكال معه؛ بل هو عنصر ثمين ينبغي استبقاؤه كملكيّة خاصّة وخالصة لليونان، لم يكن للشّرق أي فضل في نشوئه وبلورته. أمّا العنصر الثّاني؛ فيجعل الفيلسوف راسل يشعر بالحرج، وهكذا سيتذكّر - فجأة - أنّ ثمّة شرقًا غير بعيد عن جغرافية اليونان، يمكن أن يحمل عنه وعن الإغريق ثقل خطيئة الغريزة الهوجاء، ويلقي بذلك بآليّة الفصل - الأثيرة لديه باعتباره مؤرخًّا مندمجًا في خدمة أطروحة المركزيّة الأوروبيّة - ليستعير آليّة الوصل، لينسب إلى الشرق ما يلقاه من قبح وهمجيّة في الرّوح والسّلوك اليونانيّين!

وهذا مثال من أمثلة النّزوع العرقيّ والتّمركز الأوروبيّ حول الأنا، لتفعيل نظريّة الفصل المتهافتة في تفسير نشأة الفكر الأوروبيّ.

وبعد هذا الطّرح المستفيض عن نظريّة الفصل الأوروبيّة، ينتقل الطّيب بوعزة إلى تناول أطروحة الوصل، مشيرًا إلى أنّه إذا لم يكن هناك من خلاف حول وجود فلسفة لدى اليونان؛ فإنّ السّؤال يتعلّق بطبيعة هذا الوجود وكيفيّة حدوثه وتكوينه، فهل كان "نشأة مبتدئة" أم "نشأة مستأنفة"؟ وبعبارة أخرى: هل بدأت الفلسفة في الظّهور داخل السّياق اليونانيّ، أم أنّ ظهورها فيه كان "نشأة مستأنفة" لصيرورة تطوّر فكريّ سابق ينبغي تتبّع خيوطه في مسارات تنقلنا إلى خارج المدار الجغرافيّ اليونانيّ؟

إنّ أوّل من يؤكّد "النّشأة المستأنفة"؛ أي أطروحة الوصل - يقول الطّيب بوعزة - هم أصحاب الشّأن أنفسهم؛ أي فلاسفة اليونان الأوائل، وقد كان الأولى بمؤرخيّ المركزيّة الأوروبيّة الّذين تحدّثوا عن الطّبقة الأولى من فلاسفة اليونان، على نحو يرجع نشأة التّفكير الفلسفيّ إليهم باستقلال عن أيّة صلة بالحضارات الشّرقية، أن ينصتوا، قليلًا، إلى ما يقولونه - هم أنفسهم - في وصف مصادر تكوينهم الفكريّ.

وهكذا يقف الكاتب عند شهادات الفلاسفة والمؤرّخين الإغريق الأوائل، الّذين صرّحوا باستفادتهم من معارف مصر والهند وبابل وعلومها، وكذلك، من الفنيقيّين، ويذكر - هنا - شهادات طاليس، وإيزوقراط، وفيثاغور، وبلوتارك، وديموقريطس، وهيرودوت، ..إلخ، كما يقف عند مؤثّرات حضارات أخرى.

وكلّ هذه الإشارات وغيرها، تتضافر لتؤكّد أنّ حضارة اليونان لم تكن منفصلة عن سياقها التّاريخيّ والجغرافيّ؛ بل لكونها حضارة نشأت على الماء، وتطوّرت لديها الملاحة التّجاريّة تطوّرا بالغًا؛ فإنّها كانت مدفوعة نحو الاتّصال والتّفاعل مع الحضارات الشّرقيّة، الّتي جاورتها وسبقتها إلى بلورة العلوم والمعارف.

وهكذا يتبيّن لنا من الشّواهد التّاريخيّة - حتّى إن شككنا في ضعف سند بعضها - فإنّها تؤكّد أنّ الّذين يقال: إنّ الفلسفة بدأت بهم، تتلمذوا على الفكر الشرقيّ، ونهلوا منه، وكلّ هذه الشّواهد والنّصوص القديمة، تجعل نظريّة الوصل أكثر مصداقيّة من نظريّة الفصل، ولمزيد من التّأكيد؛ يقف الطّيب بوعزة عند أثر ثلاث حضارات، هي: المصريّة، والفينيقيّة، والهنديّة، لكن دون نسيان أثر الحضارة الفارسيّة - كما أشار تلميذ أفلاطون يودكسوس الكندوسي - الّذي قارن بين الزّرادشتيّة وفلسفة أفلاطون عن طريق التّكريز على التّشابه الملحوظ بين الثّنائية الزرادشتيّة والثّنائية الأفلاطونيّة؛ بل إن أحد الباحثين المعاصرين - وهو (جثري) - ذهب في سياق بحثه عن مصادر الثّنائية الأفلاطونيّة، نحو الفكر الصينيّ وثنائيّة "اليانج/ين"، الّتي يمكن اعتبار من بين جذور ثنائيّة أفلاطون.

وسنقف، هنا، عند أثر الحضارات الثّلاث الّتي ركّز عليها الطّيب بوعزة لإثبات نظريّة الوصل:

1 - الأثر المصريّ في نشأة الفلسفة اليونانيّة:

عند الحديث عن الأثر المصريّ في هذه النّشأة، تنفي أطروحة الفصل المحكومة بعقدة المركزيّة الأوروبيّة التّاريخ، وهنا، يبدو ضعفها واختلال أساسها، من هنا، كان لزامًا لتقويض هذه الأطروحة، وخلخلتها من استحضار ما تغيبه وتنفيه، وفي سبيل ذلك؛ يقوم الطّيب بوعزة بالاستدلال المعكوس والانطلاق من افتراضات يبيّن بها تهافت الأطروحة.

في رأيه كان من الممكن أن تصحّ أطروحة المركزيّة الأوروبيّة، لو أنّ الحضارة اليونانيّة خضعت لعناصر خمسة، نجملها فيما سيأتي:

1/ لو أنّ الحضارة اليونانيّة ونتاجها الفلسفيّ، بدأ مبكرًا بالقياس إلى بدء حضارات الشّرق، لكنّ الواقع التّاريخيّ لا يمكن أن يؤسّس لشرط الصّحّة هذا، فإذا قارنا التّوقيت الزّمني لبدء الحضارة اليونانيّة بالتّوقيت الزّمنيّ لبدء الحضارة المصريّة مثلًا، سنجد فارقًا زمنيًّا هائلًا: "فالتّاريخ المكتوب للحضارة المصريّة القديمة - مثلًا - يعود إلى حوالي القرن الأربعين قبل الميلاد، بينما لم تعرف بلاد اليونان الحضارة إلّا منذ حوالي القرن العاشر قبل الميلاد" (عن مصطفى النّشار، مدخل جديد إلى الفلسفة، 1998م، ص 27).

2/ تصحّ أطروحة المركزيّة الأوروبيّة لو أنّ هذا السبق الحضاري المصريّ، ظلّ محصورًا في سياقه الجغرافيّ على نحو منعزل عن اليونان، فيكون ابتداءً حضارة الإغريق بدءًا ذاتيًّا مستقلًّا عن أيّ تأثّر، والواقع عكس ذلك تمامًا؛ لأنّ اليونان لم يكونوا يملكون ما يسدّ حاجتهم؛ إذ بفعل التّضاريس الوعرة لم يتوسّع النّشاط الزراعيّ، بشكل يكفيهم، وبفعل كون الجغرافيّة اليونانيّة مجرد جزر بحريّة، فقد تطوّرت لديهم الملاحة التّجاريّة بما تعنيه من تكثيف الاتّصال بشعوب الحوض الشّرقيّ للبحر الأبيض المتوسط؛ حيث كانت رحلات اليونان إلى مصر جدّ مكثّفة.

3/ وكانت الأطروحة ستصحّ لو كان الاتّصال بين اليونان ومصر، مجرّد تعالق اقتصاديّ محدود في تبادل البضائع والسّلع التجارية، لكنّ المؤكّد في قراءة تواصل الشّعوب، أنّ التّبادل لا ينحصر في مستوى البضاعة التّجارية؛ بل عبرها تتناقل السّلع الفكريّة أيضًا.

4/ كان من الممكن تزييف فعل نقل "السّلع الفكريّة"، لو كان للإغريق وقت نشأة الفلسفة إرث فكريّ، يمكن أن يجعلهم معتزّين بذاتهم الثّقافيّة، ومستشعرين شيئًا من الاستعلاء يمنعهم من التّأثّر والتّتلمذ على المصريّين والأخذ عنهم، والحال أنّ التّاريخ لا يمنح لدعاة هذه الأطروحة ما يتيح لهم الإعلان، وتأكيد هذا الزّعم؛ فحتّى المتن الفلسفي اليونانيّ يُظهر إعجابًا بينا بالثّقافة المصريّة إلى حدّ استصغار الذّات اليونانيّة في مقابلها.

5/و كان من الممكن تبرير النّشأة المستقلّة للفكر الفلسفيّ اليونانيّ، لو أنّ أوائل فلاسفة الإغريق - الّذين بدأت بهم الفلسفة في السّياق الأوروبيّ - لم يزوروا مصر، ولم يتواصلوا مع حضارتها، ولكنّ الواقع التّاريخيّ لا يمنح لدعاة أطروحة الفصل هذه الفرصة؛ حيث تواتر في المتون القديمة - التّاريخيّة والفلسفيّة على السّواء - القول: إنّ فلاسفة اليونان لم يكتفوا بزيارة مصر فحسب؛ إنّما تتلمذوا على مدارسها الفكريّة.

وفي هذا السّياق يستشهد الطّيب بوعزة بنصوص تبيّن أن كلا من هيرودوت، وطاليس، وجامبليك، وأفلاطون، وإيزوقراط، وبلوتارك، وديوجين، ..وغيرهم من القدامى، قد نصّوا على تتلمذ فلاسفة الإغريق في المدارس الفكريّة المصريّة، ونهلهم من العلوم المصريّة المعروفة آنذاك: علوم الرّياضة والهندسة والفلك، كما وقف طويلًا عند تأثّر الفكر الدّينيّ اليونانيّ بشتّى تجلّياته بالفكر الدّينيّ المصريّ القديم، وفي هذه المذاهب الدّينيّة جميعًا يمكّننا أن نرصد فكرة واحدة مهيمنة، هي عمليّة ردّ الآلهة جميعًا إلى إله واحد، خلقهم وخلق معهم الإنسان والكون وسائر الموجودات.

ويعدد الطّيب بوعزة أوجه تشابه عدد من الأفكار الّتي برزت في الفكر وفي الفلسفة اليونانيّين، مع مثيلاتها المصريّة السّابقة عليها، كما يقف عند بعض أوجه الاختلاف بينها، ولكنّه يؤكّد أنّ الكشف عن هذه التّماثلات والتّشابهات، لا يعني نفي كلّ أصالة وإبداع في مجال تأسيس الفكر الفلسفيّ، كما لا ينساق وراء بعض المحاولات المختلة الّتي تزعم أنّ "الفلسفة اليونانيّة فلسفة مصريّة مسروقة".

ويؤكّد الكاتب أنّ الموقفين معًا؛ سواء ذاك الّذي ينطق بمنطق المركزيّة الأوروبيّة، أو الّذي يزعم أنّ كلّ المنجز الفلسفيّ اليونانيّ مسروق من مصر، يفتقران إلى البصيرة المنهجيّة المتوازنة في قراءات الحضارات، ونواتج النّظر والتّفكير، وإنّ الأطروحة البديلة الّتي نريدها هي الّتي تصل الفكر اليونانيّ بأصوله، مع الحرص على تقدير إضافته، ومن ثمّ؛ ينبغي قول ما تقوله النّصوص الفلسفيّة اليونانيّة ذاتها؛ أي أنّ ثمّة اتّصالًا - لا انفصالًا - بين الإغريق والمصريّين، وهو الأمر الّذي يؤكد أنّ هناك تأثيرًا للفكر المصريّ القديم للفلاسفة الأوائل، وهو التّأثير الّذي نعتقد أنّ إغفاله يشكّل إعاقة معرفيّة لتأسيس قراءة تاريخيّة صحيحة، قادرة على فهم وتعليل ظهور التّفكير الفلسفيّ في السياق الأوروبيّ.

 

2 - الأثر الفينيقيّ في نشأة الفلسفة اليونانيّة:

هناك عامل مهمّ أدّى دورًا كبيرًا في عمليّة نشأة الفكر الفلسفيّ اليونانيّ، غُيّب من قبل دعاة المركزيّة الأوروبيّة، بينما يعدّ عاملًا حاسمًا في بروز هذا الفكر، وهو تطوير الأبجديّة اليونانيّة؛ حيث انتقل التّفكير من التّقليد الشّفويّ إلى أنواع متعدّدة من الأدب المكتوب، كما يؤكّد جون بيير فرنان.

يشير فرنان إلى مسألة مهمّة تتعلّق بتزامن نشأة الفلسفة مع انتقال اليونان إلى الكتابة؛ فإذا نظرنا إلى توقيت النّشأة، سنلاحظ أنها جاءت لاحقة لتطوّر نوعيّ في النّظام اللّغوي الإغريقيّ، وبما أنّ ظهور الفلسفة اليونانيّة ارتهن بتطور النّظام اللّغويّ، فلا بدّ هنا - ضدًّا على نزعة المركزيّة الأوروبيّة - من استحضار الفضل الفينيقيّ؛ إذ كان إسهام الحضارة الفينيقيّة حاسمًا في تطوير ذلك النّظام اللّسانيّ؛ فمعلوم "أنّ الكتابة الأبجديّة ابتُكرت من قبل الفينيقيّين في مطلع الألف الأوّل ق.م، وأنّها انتقلت إلى اليونانيّين في نحو القرن الثّامن أو السّابع ق.م، وأنّ هؤلاء الأخيريْن قد استغرقوا قرنًا آخر من الزّمن قبل أن يطوّروها، ويضيفوا إليها الحروف الصّوائت الّتي تحتاجها كتابة لغتهم (إذ إنّ الفينيقيّة - ككلّ اللّغات السّامية - لا تعرف سوى الصّوامت)، فلنا أن نقدّر أنّ اللوغوس ما كان له أن يعلن عن ظهوره قبل القرن السّادس ق. م، وذلك هو القرن عينه الّذي تهجّى فيه طاليس بأوّل حروف الفلسفة، وليس من قبيل الصّدفة أن تكون مدينة جبيل الفينيقيّة، قد أضحت - في ذلك القرن أيضًا - أوّل مرفأ في العالم المتوسطي مصدّر لورق البرديّ المستورد من مصر" (عن جورج طرابيشي، نظريّة العقل، ص ص 74 - 75).

ونظرًا إلى أنّ الفينيقيّين من الجنس السّامي، فلم تكن هذه الصّلة المفسّرة لتطوّر النّظام اللّغوي اليونانيّ، ترضي أصحاب المركزيّة الغربيّة العرقيّة؛ لذا نجدها عند تحليلها للّحظة النّشأة تسكت عنها قصدًا، لكن لا شأن لنا بصمت المركزيّة الأوروبيّة، ويكفينا أنّ الإغريق القدامى - أنفسهم - اعترفوا بدَيْنهم للفينيقيّين: تصريحًا بلسان هيرودوتس، أو ضمنيًّا؛ باحتفاظهم بأشكال حروف وترتيب وأسماء رموز من الأبجديّة الفينيقيّة؛ بل إنّهم أطلقوا عليها اسم فوينيقيا (phoinikeia)؛ لأنّ الفينيقيّين هم الّذين أدخلوها إلى اليونان.

3 - الأثر الهنديّ في نشأة الفلسفة اليونانيّة:

هل كان الفكر الفلسفيّ الهنديّ مؤثّرًا أم متأثّرًا بالفكر اليونانيّ؟ وهل كان موصول الصّلة به أم مقطوعها؟

صياغة هذين السّؤالين يفرضها توقيت نشأة الفكرين الفلسفيّين الهنديّ واليونانيّ؛ حيث إنّ بداية الفلسفة الهنديّة متزامنة مع بداية الفلسفة اليونانيّة، وحتى إذا قلنا بالسّبق الهنديّ؛ فلا ينبغي أن يذهب إلى أكثر من قرن أو قرن ونصف، على اعتبار أنّ كتب اليوبانيشاد والرسائل البوذيّة والجاينيّة كلّها ترجع إلى القرن السّابع والسّادس ق.م.

ومن الملاحظ أنّ دعاة المركزيّة الأوروبيّة حين نظروا إلى الفكر الفلسفيّ الهنديّ، راعهم وجود خصائص فلسفيّة رصينة؛ فتعلّقوا بهذا التّزامن التّاريخيّ، ليقولوا بناء عليه إنّ الفلسفة الهنديّة: هي الّتي نقلت وتأثّرت بالفلسفة اليونانيّة، وليس العكس. وفي الرّدّ على هذا الطّرح؛ عمل الطّيب بوعزة على تفنيد هذه المزاعم، مؤكّدًا أنّ هناك نوعًا من التّأثّر والتّأثير المتبادلَين بين الفلسفتين، الهنديّة واليونانيّة، كانا نتاجًا للتّواصل الحضاريّ بين البلدين (الهند واليونان عبر الملاحة اليونانيّة) ونتاجًا لتزامن النّشأة، ولا يكتفي الكاتب بهذا الرّأي الّذي تؤكّده كتب التّاريخ فحسب؛ بل يعود إلى نصوص وردت لدى فلاسفة اليونان ومؤرّخي الفلسفة الإغريق، تشير إلى استفادة الفلاسفة اليونان من الفكر الفلسفيّ الهنديّ، وفي هذا السّياق؛ يورد يشير إلى أرسطو الّذي بيّن أنّ من مصادر فلسفة ديموقريطس النّظرية الذّرية الّتي أخذها من الهند، ويورد إشارة أبولائيوس؛ الّتي تذكّر أنّ فيثاغور زار الهند، ودرس على البراهمة، ومن ثمّ نعثر على أوجه شبه كبيرة بين مبادئ الفلسفة الفيثاغوريّة والفلسفة الدينيّة الهنديّة.

وعلى العموم - يؤكّد الطّيب بوعزة - يكشف تاريخ الفلسفة عن وجود اتّصال؛ بل حوار مع الفكر الهنديّ، بلغ مرتبة الجدل والنّظر النّقديّ لدى اليونان، وهو ما يعزّز فرضيّة أنّ الفكر الفلسفيّ اليونانيّ كان على تماسّ مع هذا الفكر، ومطّلعًا عليه، وهذا ما يبيّن أنّ الفلسفة اليونانيّة ربطتها علاقة مثاقفة متبادلة مع الفكر الهنديّ.

وهذا التّثاقف الفكريّ لا يعني - بأيّ حال من الأحوال - نفي خصوصيّة الفكرين الفلسفيّين الهنديّ واليونانيّ؛ فالنّظر في سياق تطوّر الفكر الهنديّ يؤكّد أنّه احتفظ بخصوصيته، وتكفي الإشارة، هنا، إلى التّطوّر النّوعي للبحث المنطقيّ، وهو الّذي عرضه ألكسندر ماكلوفسكي في كتابه "تاريخ المنطق"؛ حيث "لا يؤكّد، فقط، وجود فلسفة هنديّة، حتّى بالمعنى اليوناني للكلمة؛ بل - كذلك - وجود منطق هنديّ لا يقلّ أصالة و"عقلانيّة" عن المنطق الأرسطيّ، كما لا يقلّ عنه قابليّة للتّعريف بأنّه "علم الفكر" أو "علم قوانين العقل" أو "علم نظريّة المعرفة"". (عن جورج طرابيشي، مرجع مذكور، ص 103)

وبهذه الكيفيّة يسعى الطيب بوعزة إلى تفادي الوقوع في نظرية بديلة للنظرة الأوروبية المتمركزة على الذات، إذ يؤكد أن تفاعل الحضارات والفلسفات والثقافات يتم من خلال التواصل والتفاعل في الاتجاهات المختلفة، وأن التأثير والتأثر في تاريخ الحضارات الإنسانية جدليين ولا يمكن أن يكون من جانب واحد.

وقبل أن نختم حديثنا عن أهم قضايا الكتاب الأول المؤسس لمشروع الطيب بوعزة النقدي، لا بد من الوقوف عند المبحث الأخير من مباحث هذا الكتاب الهام، وهو الذي حمل عنوان: "في طبيعة السياق الثقافي والمجتمعي اليوناني زمن ظهور الفلسفة"، وهو المبحث الذي يولي أهمية قصوى لربط نشوء الفلسفة بالسياقين الثقافي والمجتمعي، وقراءة تاريخ اتجاهاتها وتطورها في ضوئهما. وهذا التفعيل للسياقين الاجتماعي والثقافي هو الذي سيتحكم في قراءة الطيب بوعزة للفلسفة اليونانية ما قبل طاليس وفي زمنه، وفي قراءته للفلسفة الفيثاغورية وامتداداتها في كتابيه المشار إليهما.

وهكذا يؤكد الكاتب أن التصور، أو "اللحاظ" حسب تسميته، المنهجي الذي ينطلق منه هو أن نشأة الفلسفة اليونانية "لحظة تالية" لا "لحظة بادئة، بمعنى أنها حلقة في سلسلة صيرورة فكرية تنغرس جذورها عميقا في خلفية تاريخ حضارات الشرق القديمة. ولكن هذا لا يعني أن القيمة التي يحتلها العامل الخارجي تكفي وحدها لتعليل قيام نمط معرفي جديد داخل مجتمع ما، ما لم تكن ثمة دوافع داخلية ساعدت، من جهة، على استقبال الوافد الثقافي الخارجي، وأملت، من جهة ثانية، على النخبة الفكرية لذلك المجتمع وجوب تفاعل من نوع خاص مع ذلك الوافد، يتجاوز مستوى الترف الذهني إلى مستوى الاستمداد الثقافي الواعي، الذي وصل إلى درجة إحداث تغيير جوهري بالانتقال إلى بلورة نمط فكري جديد مغاير للسائد.

وهنا يطرح الطيب بوعزة أسئلة هامة تنظم فهمه لطبيعة الشرط السوسيو - ثقافي الذي حفز استقبال الوافد الفكري الشرقي، ومن ثم تغييره في أفق معرفي جديد. وهذه الأسئلة الأربعة، هي:

1 - لماذا بدأت النقلة الفكرية من الخطاب الأسطوري (الميثوس) إلى الخطاب الفلسفي (اللوغوس) في القرن السادس قبل الميلاد بالضبط، وليس قبله أو بعده؟

2 - لماذا حدثت هذه النقلة في جزيرة إيونيا قبل غيرها من الجزر والمناطق اليونانية؟

3 - ما الدوافع التي دعت اليونان إلى الانتقال إلى خطاب معرفي جديد (الخطاب الفلسفي)، وعدم الاكتفاء بنمط التفكير الذي كان سائدا (نمط التفكير الأسطوري)؟

4 - ما الإمكانيات التي ساعدت على ظهور نمط معرفي جديد (الفلسفة) ومكنت لوقوعه وتجذره في السياق الثقافي اليوناني؟

ويشير الباحث إلى أن هذه التساؤلات متداخلة ومترابطة، ولكن الضرورة المنهجية تقتضي الوقوف عند كل منها على حدة من خلال العناصر الآتية:

1 - في التأطير الزمكاني للنشأة:

لا نكاد نجد خلافا بين المؤرخين حول زمن ومكان بداية نشأة الفلسفة اليونانية، إذ يذهب الجميع إلى القول بأن حدث النشأة كان خلال القرن السادس قبل الميلاد في جزيرة ميلوتوس - ملطية حسب ما ترجمها المترجم العربي - حيث ظهر جمع من المفكرين الذين نظروا نظرة جديدة إلى مسألة الوجود، بعد أن لاحظوا تغيره وتنوعه، فتساءلوا عن أصله التكويني الأول. ولقد كان سؤال الأصل الأول هو المبحث الذي هيمن على بداية النظر الفلسفي الكوسمولوجي، كما كان هذا السؤال هو المشترك بينهم جميعا على الرغم من اختلافهم في الإجابة عنه، فكان ذلك كله إيذان بيقظة الوعي وحفز لانطلاق روح التفلسف. ولا يختلف مؤرخو الفكر على أن أول هؤلاء الذين ابتدأ بهم اللوغوس الإغريقي هو طاليس. ويركز الكاتب على التحولات التي زامنت ظهور الفلسفة قبيل وخلال القرن السادس قبل الميلاد. ومدخل ذلك يتمثل في تحليل البنية المكانية والصيرورة الزمنية لتشكيل التاريخ اليوناني القديم.

وفي هذا الحيز يبدي الطيب بوعزة ملاحظة هامة، وهي تنبيهه إلى عدم وجود تعالق حتمي بين تضاريس بلاد اليونان وتضاريس فكرها الفلسفي، ومن ثم، فإن وصف المكان لا يرد عنده إلا باعتباره جزئية من مشهد بالغ التنوع ومتعدد المكونات. وهذه الجزئية كان لها دور مثلما كان لغيرها من جزئيات. ومن هنا لا ينبغي الانزلاق في تقدير دور المكان والمبالغة في ذلك، خاصة أن المكان لا ينفصل عن الزمان، إذ لا بد من استحضار التشكيلات الحضارية التي تعاقبت على سطحه قبيل وخلال نشأة الفلسفة. ويستعرض الطيب بوعزة معلومات عن تضاريس اليونان وموقعها الجغرافي القريب من الشرق (خاصة ملطية التي تعد أقرب منطقة يونانية إلى الشرق)، وعن طبيعة أرض اليونان، وعن ارتباط حاجات الإنسان اليوناني التي فرضت عليه التفاعل مع الآخر والتواصل معه، خاصة أن بلاده شحيحة من حيث مواردها وإمكاناتها. وقد شكل هذا حافزا لتطوير الملاحة التجارية التي مكنت اليونانيين من الاتصال بحضارات الشرق (مصر، والشام، وبابل..). وقد ساهم الواقع الجغرافي اليوناني الذي يستعصي فيه التواصل بين الجزر اليونانية في توكيد انقسام اليونانيين، وتأصيل النزعة السياسية المستقلة في سلوكهم الجمعي، فتكونت ظاهرة المدينة/الدولة التي تمتلك قوامها السياسي المستقل والخاص. وهذه الملامح جميعا تؤكد فاعلية المؤثر الخارجي (الشرقي) في نشأة الفلسفة.

وفي تناوله للبعد الزماني يقف الباحث عند التشكيل الحضاري لليونان، ورصد نوع الهجرات التي استوطنتها وأسست لبروزها في مجرى التاريخ الإنساني. ويقف عند اللحظات التاريخية المتنوعة التي مرت بها حضارة اليونان، ويشير إلى ما أطلق عليه "عصر الظّلام" اليونانيّ الّذي امتدّ من القرن الثّاني عشر حتى القرن الثّامن قبل الميلاد، وهذا القرن الأخير؛ كان بداية النّهضة الإغريقيّة بعد الاحتكاك بالشّرق والتّواصل معه عن طريق تطوير حركة الملاحة التجاريّة، ولعلّ من أقدار التّاريخ - يؤكّد الطّيب بوعزة - أن يكون الشّرق مساهمًا أساسيًّا في النّهضة اليونانيّة بعد السّبات "الدّوري"، كما سيكون لاحقًا مساهمًا فعّالًا في النّهضة الأوروبيّة بعد سبات و"ظلام" القرون الوسطى، وقد مرّت بلاد اليونان في فترة لا تتجاوز القرنين - ما بين ق.8 وق.6 قبل الميلاد - بتجربة مختلف أشكال الممكن السّياسيّ في تقعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكان لهذا الحراك، الّذي مسّ المنظومة السّياسيّة، انعكاس وتفاعل مع حراك آخر على مستوى الوعي الدّينيّ، وهما عاملان داخليّان ساعدا على نشأة الفكر الفلسفيّ اليونانيّ.

2 - تأثير العامل السّياسيّ في نشأة الفلسفة:

يستعرض الطّيب بوعزة أنماط النّظام السياسيّ الّتي عرفتها بلاد اليونان، وجرّبتها في ظرف وجيز - كما ألمحنا سابقًا - وهو عمر قليل في تاريخ الشّعوب، ويقف طويلًا عند الشّكل الدّيموقراطيّ الّذي تزامن مع ظهور الفلسفة ونشأتها في السّياق اليونانيّ، ولعلّ من بين أهمّ العوامل الّتي ساهمت في هذه النّشأة؛ هي مناقشة الفرد للشّأن العامّ في إطار مناخ من الحريّة، ويستحضر الكاتب - في هذا الصّدد - تفسير هيجل لنشأة روح التّفلسف؛ إذ يربط بين الفلسفة والحريّة السّياسيّة: "من الوجهة التاريخيّة يتعلّق ظهور الرّوح هذا بازدهار الحريّة السّياسيّة، والحريّة السّياسيّة: هي الحريّة في الدّولة تبدأ هناك حيث يشعر الفرد بأنّه فرد، ويشعر الذّات بأنّه ذات وسط العامّة، أو هناك؛ حيث يظهر وعي الشّخص، وعي الإنسان بأنّ له في ذاته قيمة لا متناهية" (هيجل، محاضرات في تاريخ الفلسفة).

وهكذا، يتّضح أنّ تأثير النّظام الدّيموقراطيّ في نشأة الفلسفة، يتحدّد في كونه:

 - يدلّ على ميلاد الفرديّة السّياسيّة؛ هي - أيضًا - شرط مساعد لنمو الفرديّة الفكريّة، ومعلوم أنّ الفكر الفلسفيّ لا ينمو إلا بمقدار حريّة التّفكير الفرديّ، واقتداره على تجاوز الفكر الجمعيّ.

 - يدلّ على وجود حوار جدليّ تتبارى فيه الآراء السّياسيّة؛ فيضطر الرّأي السّياسيّ إلى أن يستدلّ كي يقنع. معلوم أنّ الفكر الفلسفيّ - منذ سيرته الأولى - تفسير لأصل الوجود، تميّز عن السّرد الأسطوريّ بالحرص على الاستدلال.

لكنّ هذا الطّرح الّذي يركّز عليه كثير من مؤرخي الفكر الفلسفي، يتعرض للشك ويقتضي التساؤل: فإذا كان ظهور الفكر الفلسفيّ مشروطًا بظهور الدّيموقراطيّة، فلماذا ظهرت الفلسفة في ملطية ولم تظهر في أثينا؟

وعلى الرّغم من أهميّة العامل السّياسيّ، ودوره في تشكيل الوعي الاستدلاليّ، إلّا أنّه لا يكفي وحده لتفسير نشأة ظاهرة التّفكير الفلسفيّ، فلو كان عاملًا حتميًّا؛ لكان ظهور الفلسفة قد حدث في أثينا تحديدًا؛ لأنّها كانت أسبق من ملطية إلى تطوير ديموقراطيّة المدينة/ الدّولة؛ لذا لا بدّ من استحضار المؤثّر الشّرقيّ الّذي توافر في ملطية أكثر منه في أثينا.

وهكذا نتبين مأزق مؤرّخ الفلسفة اليونانيّة، الّذي تمنعه نرجسيّة المركزيّة الأوربيّة من الاعتراف بالتّأثير الخارجيّ وتقدير إسهامه، ويستثقل الإفصاح عن تلك الأطروحة العرقيّة السّاذجة المتعلّقة بوهم تفوّق الجنس الآريّ؛ حيث لا يجد أمامه - داخل السّياق اليونانيّ - ما يبرر انبجاس الوعي الفلسفيّ؛ فيتعلّق بالعامل السّياسيّ، ويحمّله فوق ما يحتمل، حتى يكاد يجعله العامل الوحيد الّذي أدّى إلى نشأة الفلسفة.

3 - تأثير العامل الدّينيّ في نشأة الفلسفة:

يؤكّد الطّيب بوعزة أنّ ثمّة فكرة خاطئة في الكتابة التأريخيّة المتناولة لصيرورة الفكر الفلسفيّ اليونانيّ، تشكّل عائقًا أمام تأسيس نظرة صحيحة إلى هذا الفكر؛ وهذه الفكرة تضع قطيعة بين الانتقال من الميثوس إلى اللّوغوس، ولهذا؛ نجد مؤرخي الفلسفة اليونانيّة يفصلون هذه الأخيرة عن سياقها المتعالق بالدّين، وهو ما يعدّ نقصًا جوهريًّا في فهم دلالة هذا الفكر ونظامه المفاهيميّ، وتعليل تطوّر إشكالاته ونوعيّة معالجاته لها، وممّا يبرّر به المؤرّخون الّذين نهجوا هذا السّبيل كون اليونان لم تشهد كهانة دينيّة، ومن ثمّ يلغون العامل الدّينيّ من أدوات بحثهم لفهم تشكّل الفكر الفلسفيّ، غير أنّ التّركيز على مسألة الحريّة وغياب السّلطة الدّينيّة الكهنوتيّة، يجعل هؤلاء المؤرّخين يفقرون تفسير العلاقة بين الدّينيّ والفلسفيّ ولا يثرونها؛ إذ يوحي الأمر بأنّه ما دام الدّين لا سلطة له على الوعي؛ فإنّ تفسير تبلور الوعي الفلسفيّ لدى الإغريق لا يحتاج إلى بيان الصّلة بينه وبين الدّين، وهكذا، نخسر فهم دور العامل الدّينيّ في نشأة الفلسفة؛ حيث يؤول إلى تفسير مغلوط كأن يقول: إنّ دور العامل الدّينيّ هو أنّه لم يكن له دور، بينما استحضار مفاهيم الدّين يسهم في فهم طبيعة مفاهيم الفلسفة اليونانيّة ذاتها، فضلًا عن تعليل نشأتها.

وإنّ استحضار محاكمة وإعدام سقراط، والحكم بالإعدام - كذلك - على أناكساغور، واضطراره بسبب ذلك إلى الرّحيل عن أثينا - حتّى لا ينفّذ فيه الحكم - لأنّه انتقد الدّيانة الوثنيّة، ودعى إلى الوحدانيّة، وأيضًا؛ خروج أرسطو من أثينا، وإشارته إلى أنّ خروجه كان بسبب أن لا ترتكب في حقّ الفلسفة حماقة أخرى، مثلما حدث بإعدام سقراط، يؤكّد أنّ السّلطة الدّينيّة كان لها حضور في المجتمع اليونانيّ، ويدعونا هذا الأمر إلى تصحيح النّظرة إلى مسألة حضور الدّين في الثّقافة والسّلطة اليونانيّتين، ولكن هذا التّأكيد على حضور السّلطة الدّينيّة، لا ينفي وجود حراك ومقدار كبير من الحريّة في نقاش المعتقد الدّينيّ لدى اليونان، ويؤكّد الكاتب - هنا - أمرين اثنين:

1 - أنّ لحظة بداية النّشأة لم تكن فيها الدّيانة فاقدة للنّفوذ السّياسيّ على نحو مطلق، كما كان لهذا النّفوذ، في اللّحظات التّالية للنّشأة، حضور بمقادير متفاوتة حسب طبيعة اللّحظة، ونمط علاقة الدّين بالسّياسة فيها.

2 - أنّ الجرأة في نقاش المعتقدات الدّينيّة الّذي نلحظه في فترات ما بعد النّشأة، مع إيفيمير أو هيراقليط أو أبيقور، أو قبله مع بروتاغوراس الّذي أسّس لموقف لاإدريّ مطلق، كلّها حالات لها تفسيرها الخاصّ الّذي لا يلغي وجود مقدار من النّفوذ للمعتقدات الدّينيّة.

هذا من حيث نفوذ الدّين في الوعي والثّقافة اليونانيّتين، أمّا فيما يرتبط بوصف التّمايز بين الفكرين الفلسفيّ والدينيّ، فلا شكّ في أنّ الفكر الفلسفيّ حقّق نقلة تجاوزيّة كبيرة من الأسطورة نحو العقل؛ لكن يحصل، هنا أيضًا، اختلال في التأريخ الفلسفيّ، عندما يفسر هذا التّجاوز بحيث لا يُميَّز بين حدوث التّجاوز في الواقع التّاريخي، وبين إحداث التّجاوز في تأريخ ذلك الواقع، بذلك، يقع البحث التّاريخيّ في خطأ فادح؛ إذ ينزع إلى بلورة قراءة تجاوزيّة تترك بنية الميثوس، وتأخذ باللّوغوس وحده وكأنّه ولد من فراغ، دون فهم صلات التّجادل والتّثاقف الواصلة بينهما.

إنّ حدوث التّجاوز في التّاريخ لا يعني وجوب إحداثه في التّأريخ؛ فالتّجاوز التاريخيّ يدلّ على انتقال من لحظة سابقة إلى لحظة تالية، لكنّ التّجاوز في التأريخ ينتهي إلى حصر النّظر في اللّحظة التّالية على نحو منفصل عن سابقاتها، وهذا هو جوهر الخطأ الّذي وقعت فيه كتابات كثير من مؤرّخي الفكر الفلسفيّ اليونانيّ.

ويؤكّد الطّيب بوعزة، إضافة إلى ذلك، أنّ تلك النّقلة من الميثوس إلى اللوغوس، لا تعكس فعل التّجاوز على أنّه قطيعة جذريّة؛ بل يبرهن - بالأدلّة الكافية - أنّ النّسق الدّينيّ والأسطوريّ لم يكن تمهيدًا ضروريَّا - فقط - لتلك النّقلة؛ بل استمر في صلبها؛ حيث ظلّ السّؤال الدّينيّ وبنية مفاهيمه، حاضرين داخل أنظمة التّفكير الفلسفيّ.

والنّتيجة الّتي ننتهي إليها: أنّ استحضار المعتقدات الدّينيّة اليونانيّة، شرط ضروريّ لفهم الفكر الفلسفيّ، ولفهم نشأته وتطوّره معًا. هكذا، نتبيّن أنّ العلاقة بين نمط التّفكير الدّينيّ ونمط التّفكير الفلسفيّ ليست بذات الصّيغة القطائعيّة الّتي يصوّرها بعض مؤرّخي الفلسفة.

نكتفي في عرض أهم أطروحات الكتاب الأوّل من مشروع الطّيب بوعزة لنقد الفكر الغربيّ بهذا القدر، وقد ركّزنا على الكتاب الأوّل؛ الّذي يعدّ لبنة أساس في فهم المشروع، نظرًا إلى أنّه يؤسّس لما جاء بعده من أعمال، ونظرًا إلى أنّ منهج المقاربة وقسماتها الكبرى تتّضح مساربها وآفاقها في هذا الكتاب، ومن ثمّ؛ ننتقل إلى تناول طريقة المقاربة في مشروع الكاتب ونهجها.

3 - طريقة المقاربة ونهجها من خلال المشروع:

مما لا شكّ فيه أنّ قارئ الكتاب الأوّل من مشروع الطّيب بوعزة، وباقي كتب المشروع - الّتي اطّلعت عليها حتّى الآن وهما اثنين - سيشعر أنّ طريقة المقاربة تُبنى على أساس تأريخيّ، يتوخّى الموضوعيّة والدّقة في عرض الحقائق التّاريخية المتعلّقة بنشأة الفكر الفلسفيّ اليونانيّ وتطوّره، والفلسفة ما قبل السّقراطية وترسيخ النّشأة، وأسئلة الوجود، وسحر الرّياضيّات، ومنبعهما الشّرقي، وتفاعلهما اليونانيّ في الإرث الفيثاغوريّ، وهكذا. وقد حرص الكاتب على توثيق معلوماته، وردّها إلى مصادرها ومراجعها الغربيّة والعربيّة.

لكن ما يستوقف القارئ ليس هذا الجانب - فحسب - إنّما ستلفت نظره؛ قدرة الكاتب على مراجعة بعض الكتابات التّأريخية للفلسفة اليونانيّة؛ لإبراز تهافت أطروحتها المتمركزة حول الذّات وسعيها - أحيانًا - بطريقة متسرّعة، أو بكيفيّة متقصّدة، إلى نفي أثر الثّقافات الأخرى في حركيّة الفكر اليّونانيّ وخصوبته.

وقد اتّبع النّاقد الطّيب بوعزة منهجًا نقديًّا مضبوطًا لمراجعة تاريخ الفلسفة الغربيّة، في حصر موضوعات كلّ كتاب في محورين جوهريّين (فصلين أو بابين)، على الأغلب، ومن ثمّ طرح قضاياه ورؤاه في مباحث أو فصول دقيقة، وعبر هذا النّهج الّذي كشف عن حسّ تأمليّ واضح، وروح فلسفيّة لا تسلّم بالمعطى؛ إنما تنطلق من النّبش والمساءلة - على أنّهما نافذتان للقراءة والتّحليل - تمكّن الكاتب من نقد الفكر الغربيّ، وملامسة ملامح من تمركزه العرقيّ/ الثّقافيّ، وهذا ما لمسناه في الكتاب الأوّل، ووجدناه في الكتابين الآخرين، ونظرًا إلى أنّ مباحث كلّ كتاب من الكتب الثّلاثة متنوعة؛ بل مختلفة - سياقًا - مع طبيعة فلسفة الفلاسفة قيد الدّراسة، وتبعًا للإشكاليّات الّتي عنيت بها فلسفاتهم، إلّا أنّ النّهج الّذي رسّخه الطّيب بوعزة، يستمدّ أسسه ممّا وضع قسماته الكبرى في كتابه الأوّل، وبهذه الكيفيّة نلفي مراجعة الفلسفة المالطيّة والمدرسة الفيثاغوريّة تستحضر الأثر الشّرقيّ، وفاعليّة الدّين، وحدود الحريّة في الممارسة الفلسفيّة، والتباس الميثوس واللوغوس في الممارسة، وإشكاليّات النّسق الفلسفيّ، وهذه كلّها قضايا تنبع من أطروحات التّمركز الأوروبيّ، وقراءاتها لتاريخ الفكر اليونانيّ؛ المؤسّس الأكبر - حسب الزّعم الغربيّ - للإرث الفكريّ الأوروبيّ المعاصر.

يسوق الكاتب هذه القضايا مساقًا تاريخيًّا - متدرّجًا - عبر مراجعة توثيقيّة موضوعيّة، غير أنّ هذه الصّياغة التّاريخيّة كتبت بلغة دقيقة فلسفيّة وتاريخيّة، كما تميّزت بالوضوح والإشراق حتّى يلفي القارئ نفسه - أحيانًا كثيرةً، يقرأ نصوصًا أدبيّة مشوّقة لا كتبّا في تاريخ الفلسفة، تطرح قضايا فكريّة وتاريخيّة مشتبكة ومعقّدة.

إنّ نهج التّأمّل الفكريّ والبناء المنطقيّ القائمين على الاستنتاج والاستقراء، مع وضع الأولويّات والنّقط الضّروريّة في سياق تناول تدرجي، من بين أهمّ الصّيغ المنهجيّة الّتي منحت لكتب المشروع الثّلاثة، ملامح دقيقة في مقاربة موضوعها، وتبيانها، وإبراز تناقضات الأطروحة الغربيّة، وتهافت رؤاها في قراءة تاريخ الفلسفة اليونانيّة.

ولا شكّ في أنّ هذا النّهج في القراءة، سيستمرّ في الكتب الأخرى؛ الّتي ما زال الطّيب بوعزة ينبش فيها عن ملامح التّمركز الغربيّ في قراءة تاريخ الفلسفة اليونانيّة وغير اليونانية.

4 - تركيب وخاتمة:

من خلال ما سبق؛ نتبيّن أنّ مشروع الطّيب بوعزة في مقاربة تاريخ الفلسفة الغربيّة، ونقد تمركزها الأوروبيّ مشروع طموح، ومغامرة فكريّة لا تسلم، بدورها، من إمكانيّة الانزلاق نحو بعض الهفوات وأنواع القصور، بحكم أنّ هذا المشروع الضّخم ينبغي أن تضطّلع به جهود باحثين متعدّدين، ولكن يبقى التّحرّك إلى إنجاز هذه المهمّة شجاعة فكريّة يحيى من أجلها الكاتب؛ بل وينبغي أن يُشجّع على الاستمرار فيها ويُعان عليها، ومع ذلك، تبقى بعض الأسئلة تناوش نفس القارئ وفكره حول المشروع، نجملها على الشّكل الآتي:

 - ألّا ينطوي نقد المركزيّة الأوروبيّة على وجود مركزيّة أخرى، ثاوية في طيّ هذا الخطاب النّقدي الّذي يؤسّسه الطّيب بوعزة؟

 - هل المراجعة التّاريخيّة لفهم الأوروبيّين لتاريخ الفكر الفلسفيّ والرّد على أطروحتهم، ستفيد القرّاء العرب؟ وما جدواها في لحظتنا الرّاهنة الّتي تتلقّى فيها الحضارة العربيّة الإسلاميّة ضربة قاصمة تحت مسمّى "الرّبيع العربي"، والتّغيير، وما شابه ذلك؟

 - وهل هذه المراجعة يمكن أن تكون ذات جدوى وقيمة، والغرب لا ينصت إلّا إلى ذاته ولا يلتفت إلى آراء الآخر ومراجعاته؟ وهل إذا التفت إليها المفكّر والمؤرّخ الغربيّ ستجعله يتخلّى عن أطروحته العرقيّة الثقافيّة؟ وهل ستجعله يسلّم بتأثير الآخر ويراجع مواقفه الثّقافيّة والسّياسيّة إزاءه؟

هذه أسئلة ناوشتنا ونحن نتفاعل مع هذا المشروع الفكريّ الجادّ، وهو مشروع يعدّ اجتهادًا حسنًا من الدّكتور الطّيب بوعزة، ويحسب له، واجتهاد لا شك في أنّه يستحق الاهتمام والالتفات إليه عربيًّا وغربيًّا، وبهذا وجب الإعلام، والإعلان، والسّلام.