الرحلة البحريّة بين المنحى التوثيقي وتوظيف المتخيّل: "فلاح مصري في بلاد الفرنجة" لخيري شلبي


فئة :  قراءات في كتب

الرحلة البحريّة بين المنحى التوثيقي وتوظيف المتخيّل: "فلاح مصري في بلاد الفرنجة"  لخيري شلبي

الرحلة البحريّة بين المنحى التوثيقي وتوظيف المتخيّل:

قراءة في "فلاح مصري في بلاد الفرنجة"* لخيري شلبي


تُعدّ رحلة "فلاح مصري في بلاد الفرنجة" للروائي المصري الراحل "خيري شلبي" من بين أهم نصوص الرحلة في أدبنا العربي الحديث، ومن أطرفها وأخفها روحاً بما اكتسته من روح دعابة، ومن حس ساخر، وبما تضمنته من معارف ومعلومات عن البلاد التي زارها الكاتب، وبما احتوته من تأملات وملاحظات في طبائعِ الإنسانِ وعوائدِه، يسوقها الكاتب مساقاً سردياً روائيَّ الطابع، لا يسلم من نكهة خيالية بديعة، ومن مَيْل توثيقي واضح. كل هذا وهو يمتطي صهوة السفينة التجارية المصرية "رمسيس" التي جابت به البحار وأوصلته إلى بلاد عديدة على اليابسة كانت تثير خيالَه وتحرك وجدانَه، وهي البلاد التي تعرّف عليها وسمع بها من خلال شغفه بقراءة رحلات من سبقه من كُتّاب ومبدعين وصحفيين عرب، أو ما قرأه في أعمال الروائيين وكُتّاب المسرح والقصة العالميين، وبلاد أخرى وقفت السفينة في موانئها مضطرة نظراً إلى إشاعة راجت بين طاقم السفينة وركابِها مفادها أنّ عطباً أصاب خزان مائها، فكان لزاماً عليها أن تتوقف للتزود بالماء الصالح للشرب عند أقرب ميناء يصادفها، وهكذا كانت هذه المصادفة فرصة أخرى لمشاهدة بلاد لم تكن تخطر على بال الروائي/ الرحالة زيارتَها.

ينطلق خيري شلبي، وعلى غير عهدنا في كتابات الرحلات، من عرض ملامح من سيرته في القرية، وطبيعة علاقته بالكتابة، والظروف التي لابست سفرته هذه، فجعلته يَكُون ضمن المسافرين على ظهر سفينة نقل البضائع "رمسيس"، وهو الكاتب الصحفي، أو "الفلاح"، كما ينعت نفسه في رحلته هذه، التي أتيحت له خلالها إمكانية القيام بجولة بحرية إلى بلاد الفرنجة، دَوَّنَها في شغف ودقة، وفي توليفة سردية جمعتِ الخيالي والتوثيقي في شكل فني راق.

يركز الرحّالة، في هذا النص، على طبيعة (السفر البحري) وتصوير مدى معاناة الملاح (البحار). وهذا الجانب قلما اهتم به الكتّاب/ الرحالة في العصر الحديث، أي الالتفات إلى تصوير طبيعة معاناة الملاح وطبيعة عمله، ليس باعتباره رفيق رحلة، بل باعتباره عنصراً جوهرياً في هذه الرحلة وهو محركها الأساس، وهو الجندي المجهول الذي يعمل في الخفاء، وفي الآن نفسه وقف "خيري شلبي" عند أبعاد الاختلال في سلم التراتبية البحرية، وفي سلوكات شخصيات مختلفة تستفيد من الاحتيال والغش في كسب مزيد من المال عن طريق خداع الشركة التجارية البحرية التابعة للحكومة المصرية. ولعل تركيز الكاتب على هذه الجوانب يأتي في سياق اهتمامه في أدبه الروائي بالفئات المهمّشة وتركيزه على رصد طبيعةِ حياتها، وقسوةِ عملها وظروفها. وهو الذي عُني أدبه بتقديم نماذجَ إنسانيةٍ كثيرة من الفلاحين والعمال والصيادين والمتسولين وغيرهم من فئات المجتمع. وهذه السمة التي وسمت سرده الروائي نجد لها امتداداً في رحلته هذه، وهي تحمل سمات كتابته السردية الأخرى التي لمسناها في رواياته، ومنها روح السخريةِ والدعابةِ وتوليد الفكاهة، مع توجيه النقد إلى ما يعجّ به الواقع الاجتماعي من اختلالات واضطرابات. يقول في الصفحات الأولى من رحلته، وفي سياق ساخر:

".. غير أنّ الرياح التي تأتي دائماً بما لا تشتهي السفن جاءت هذه المرّة بما يشتهي "الفلاح" و"حامل القلم"، و"الذي يرى"، ضحك "الفلاح" وجز على أنيابه من فرط الغبطة، وحاول الكاتب أن يترفع عليه بعضَ الشيءِ، ولكن الذي يرى أخرج لهما لسَانه وعيَّرهما بالجهل في اللغات وبالتخلف الفني والفكري والاجتماعي، وهنا صرّح الكاتب للفلاح بأنه السبب في كل ذلك إذ هو بطيء الفهم في عصر يفهمها وهي طائرة، طَيب القلب في بيئة بلا قلب، ولو طالت المناقشة لانتصر "الفلاح" على الكاتب وأبقاه رهين المحابس. وإذ وضع الكاتبُ قدمه على ظهر السفينة كان يظن أنه انسلخ من "الفلاح" وتركه في الدار يرسف في قيوده، ويجترّ ذكرياته البائسة، لكن السفينة ما إن تحركت في عُرض المتوسط، واجتازت البوغاز، حتى أطلّ "الفلاح" برأسه من النافذة، وكانت القمرةُ وممراتُ السفينة وطاقمُها وصالونُها ومياهُ البحر، كل ذلك يشهد أنّ الذي كان على ظهر السفينة لم يكن سوى "الفلاح" و"الفلاحُ" فحسب." (ص7-8).

تتولد السخرية من الذات ومن عقلية الفلاح الساذج، في هذا النص المستشهد به وفي الرحلة، عن طريق تجريد السارد من ذاته مُضَاعَفاً ثلاثي الأبعاد يتمثل في: "الفلاح" و"حامل القلم" و"الذي يرى"، وعن طريق هذه الخدعة/ اللَّعبة الروائية يتمكن الرحالة/ الروائي من تحليل الواقع المحيط به على ظهر السفينة أو خارجها، ومن الكشف عن اندهاشه وإعجابه، ومن وصف ما يراه ويُبصره من مناظر طبيعية، ومن سلوكات إنسانية، ومن مواقفَ ومفارقات، في مشاهد روائية واضحة تخللت الرحلة من بدايتها إلى نهايتها. وبهذه الكيفية يضع السارد مسافة بين ذاته ككاتب، وبينه كرحالة ينجز فعل السفر، وبينه كصحفي يقوم برحلة ينبغي أن يوثق ما يعيشه ويراه. وبذلك كان الكاتب/ السارد في هذه الرحلة ينظر إلى ما يجري في مرايا ثلاث تتجاور أحياناً، وتمتزج أحياناً أخرى. وهذا البعد الناتج عن لعبة التخييل وتشكيل الكتابة اللاحقة على فعل السفر منح النص حيوية كبيرة في استرجاع اللحظات المتميزة التي مرّت بها الرحلة البحرية، والوقوف عند مفارقات ومواقف مضحكة، وأخرى حزينة عاشها الرحالة في أثناء تلك المغامرة العجيبة. وعن طريق هذه التقنية الفنية يتمكن "خيري شلبي" من تلوين فعل السفر بصبغة الخيال والتخييل، وعبرها يتحول السفر إلى فعل تخييلي، بحيث تتداخل حالات المسافر/الفلاح مع حالات الكاتب/حامل القلم، ومع حالات المراقب الذي يترصد فعل المسافر، وفعل شركاء الرحلة، ويقتنص ما يُسعفه في صوغ نصه الرحلي الذي يؤدي فيه الخيال دوراً فعّالاً، وبذلك ينتصر الرحالة لفعل الكتابة السردية الروائية ويمنحها الأولوية في نسج نصه الرحلي. والمتأمل في المشهد الآتي يتبين له هذا البعد الروائي المتخيل في أجلى مظاهره:

"خلع الفلاح ملابسه وارتدى (البيجامة) وتمدّد في قمرته، وأحسّ برأس "حامل القلم" الذي يريد أن يكتب، ففرح به قليلاً، وظل برهة طويلة يراقبه فلم يجد إلا شروداً وركوداً.. فسحب الفلاح جفنيه على عينيه، فاختفى الكاتب ليظهر "الذي يرى". تضايق الفلاح بعض الشيء وأحسّ بأنه سيخضع هو وحامل القلم لبعض نظرات ساخرة لا يبرأ منها أي منهما، إذ لا بد أن يتضح للذي يرى أنّ الفلاح قد عطل مواهب الكاتب أو أنّ الكاتب قد جنى على الفلاح، ربما لهذا انتفض الفلاح جالساً في سعادة حين طرق بابه بعض الضباط من جيرانه ولم يسمح لهم بالانصراف، حالفاً لهم بالطلاق إنّه لم يكن نائماً أو حتى على مشارف النوم. وكان أكثر سعادة حين راحوا يسألونه بشقاوة مصرية جريئة عمّا فعله في مالطة، وهل جاء بعد خرابها أم وجدها عامرة؟ وعلى الرغم من أنه لم يدخل أيّ تجربة، فإنّ حبه لهم في تلك اللحظة أشعره بالأسف، لا لشيء إلا لأنه لم يفعل شيئاً يستحق أن يحكى لهم ويمتعهم.." (ص21-22).

يروي السارد، كما نتبين في النص وفي الرحلة ككل، بضمير الغائب، وهو ضمير روائي بدرجة أولى، وهو الضمير الذي يتيح له وضع مسافة بينه وبين الشخصيتين المتخيلتين الأخريتين. والناظر في النص السابق يلاحظ أنّ الكاتب يربط السخرية بفعل التوثيق والكتابة، فعجز الكاتب عن الكتابة تلك اللحظة، وميل الفلاح إلى النوم والخلود إلى الراحة، جعلهما مناط سخرية من "الذي يرى"، لكن الضباط الذين أقبلوا على قمرة الفلاح انتشلوه من لحظته الروائية المتخيلة، إلى لحظة أخرى مشمولة بدفء الحوار ومتعة الحكي على الرغم من أسفه، لأنه لم يغامر في أحياء عاصمة مالطة السُّفلية، بما تعُجّ به من ثمار وملذات بهيجة.

وبما أنّ السخريةَ لمحةٌ فنية روائية بامتياز في كتابة "خيري شلبي"، فقد استثمرها الكاتب منذ بداية الرحلة إلى آخر سطر منها. وتبدو السخرية في بداية هذا النص الرحلي أثناء رصد أوجه علاقة المصريين بالسوفيات الذين يبيعون لهم أدواتٍ وأشياء غير صالحةٍ للاستعمال، كما هو حال السفينة "رمسيس" التي تتسرب مياهها الصالحة للشرب بسبب عطل في خزاناتها، وهو بذلك يقف عند أوجه خلل في علاقة الذات الجماعية الوطنية بالآخر، ويعالجها عن طريق السخرية اللاذعة. وتطال هذه السخرية أيضاً الشخصيات التي يعايشها على ظهر الباخرة، كما يمسّ بعض الأمكنة التي يزورها الروائي الرحالة، فمثلاً حينما يتحدث عن "مالطة" التي يبدي إعجابه بهندسة عاصمتها (فاليتا)، يعرج على مقولة شهيرة يرددها المصريون تتعلق بالأذان في "مالطة" ويكشف عن دواعي تردادها مفسراً ذلك من خلال تصوير طبيعة البلاد، ويسوق ذلك في سياق لا يخلو من حس ساخر، ومن تفكه ودعابة. يقول:

"أهذه إذن هي مالطة؟ حقاً إنه من العبث أن يؤذن الإنسان فيها! جزيرة كهذه يسمونها جزيرةَ العشاق ليس من اليسير أن يكون لصوت المؤذن فيها أصداء، ولكم ودّ الفلاح لو عرف من الذي بنى جامعَها الوحيد؟ ومتى بناه؟ وكيف؟ ليسأله سؤالاً واحداً: لماذا لم يَبن للجامع مئذنة؟ ألإيمانه بأنّ الأذان في مالطة لا جدوى منه؟" (ص17-18).

بهذه التساؤلات المتتالية يُجسّد الكاتب سخريته، ويبين عدم جدوى رفع الأذان في مالطة، وهي الجزيرة التي لا يمكن سماعُ الأذان فيها بأي وجه من الوجوه نظراً إلى طبيعة بناياتها وشكلها المعماري الفريد. وهو الجانب الذي وقف عنده طويلاً في الفصل الأول من رحلته: "كيف اكتشف الفلاح معنى خراب مالطة؟". وهذا الحسّ الساخر يرتبط بالرحلة وبمختلِف المشاهد التي رصدها الكاتب في بلاد الفرنجة، وصورها تصويراً سردياً روائيَّ الطابع يؤدي فيه الخيال دوراً جوهرياً.

غير أنّ هذا التصوير الروائي الذي يطغى على نص الرحلة لا يجعلها خالية من المنحى التوثيقي، ومن العناية بالتفاصيل والجزئيات التي أثارت انتباه الرحالةَ في البلاد التي زارها. وإنّ قارئ النص الرحلي يكتشف مدى دقةِ وصف الأمكنة التي مرّ بها الرحالةُ/الروائيُ، وهو وصف لا يسلم، بدوره، من نزوع سردي/ روائي في عنايته بجمال اللغة وظلالِها الموحية ونبرتِها الساخرة أحياناً، حينما يتطلبُها مقامُ السرد. كما سيلمس القارئُ مدى عنايةِ الروائي الرحالة بسوق معلومات ومعارف تتعلق بالآليات التي تشتغل بها السفينة، ومن ثم نجد النص حافلاً بمصطلحات عالَم الملاحة والسفن، كما سيلمس اهتمامه بتقديم معلومات تاريخية أو جغرافية ترتبط بالبلاد التي زارتها السفينة، وخاصة حينما يقف عند عجائب بعض هذه البلاد. يقول على سبيل المثال عن دخول خليج "البَسْكاي"، ووصول السفينة إلى ميناء "لاكرونا" الإسباني: ".. وبرغم أنّ المضيق الذي صاروا يدخلون في عنقه لم يكن ضيقاً بالقدر المفهوم فإنه بدا كالبيت. وصارت الجبال تتضح وتتميز ذرا الأشجارُ عن قمم الربوات، ثم اعترضهم لسان مبني من الرخام يمتد في الماء مثل قوس، يقابله في المدى القريب قوس أخرى فكأنّ السفينة بمن فيها وما فيها جملةً بين قوسين.. وكانت القوسان تصنعان ميداناً فسيحاً من المياه تطل عليه عمائرُ المدينة، وكان "لَنْش" البايلوت-المرشد- يحاذي السفينة حيث هبط هو ثم صعد ليتولى قيادة السفينة. للمرة الثانية أو الثالثة كان الفلاحُ ينوي أن يتفرغ لـ"البايلوت" ويعايش فترة قيادته، لكنه للمرة الثالثة نسيه تماماً، ففجأة ظهرت العمائرُ الجميلة ليس فقط في المواجهة، بل على الجانبين، وإذا بالقوس المجردة تختفي في أعطافِ قوس كبيرة من العمائر والمنشآت، وإذا بالبحر العظيم مجرد ميدان صغير في قلب المدينة. نعم في قلب مدينة "لاكرونا" أول ميناء إسباني على خليج البَسكاي وآخر الحدود الإسبانية." (ص29).

بهذه الكيفية يقدم "خيري شلبي" معلوماته عن الأمكنة التي يزورها، وهي معلومات يعرضها في سياق سردي/وصفي، مشوق قائم على زوايا نظر متنوعة، بحيث يبدأ الكاتب بلقطة بانورامية كبيرة عن المشهد الذي يصوره، ثم يمضي إلى الجزئيات والتفاصيل، وكأنه يتحرك بتحرك السفينة، وبحسب تقدمها أو تراجعها. وتكثر في الرحلة المشاهد التي تتميز بهذه السمة في التصوير الفني، وكأنّ الروائي يوظف تقنية سينمائية تعتمد اللقطات القريبة واللقطات البعيدة حسب ما يستدعيه سياق التشكيل السردي في الرحلة.

ومما لا شك فيه أنّ مثل هذه التقنيات الجديدة التي يوظفها "خيري شلبي"، ويستعملها الروائيون المعاصرون، تمنح الرحلة آفاقاً جديدة في الصياغة الفنية، وهي متنوعة ومتعددة بحسب طبيعة النصوص الرحلية التي صاغها أصحابها. وقد مدت هذه الآلياتُ السردية الجديدة الرحلةَ بأنساغ غيرِ معهودة في الرحلة العربية ذات الطابع التقليدي المتوارث، وبخاصةٍ في عنايتها بتحليل نفسية الشخصيات، والوقوف عند الأمزجة وتقلباتها، وفي توظيفها ما جدّ من تقنيات حديثةٍ استمدتها الرواية، ومن ثم الرحلة من الفنون البصرية الحديثة: السينما والتشكيل، أو المسرح المعاصر.. وغيرها من أشكال التعبير الإنسانية. وبذلك تفتح هذه النصوص الرحلية التي يكتبها الروائيون آفاقاً جديدة للتخييل وتداخل الأجناس، وتلاقحِها، واستفادة بعضِها من بعض.

وما تكشفه رحلة "فلاح مصري في بلاد الفِرنجة" من إمكانات فنية لا تُعد ولا تُحصى. وهي الرحلة التي تنبئ عن مقدرة الروائي الكبيرة على الملاحظة واقتناص فرائد اللحظات، وعلى عرض رحلته في سياق يُدهش المتلقي ويفيدُه، وهو الأمر الذي يحفز القارئ على المضي في التهام صفحات الرحلة- التي تجاوزت المائتي صفحة- دون كلل أو ملل.


* خيري شلبي، فلاح مصري في بلاد الفرنجة، دار المعارف، القاهرة، د.ت. والإحالة على النصوص المستشهد بها تتم داخل متن الدراسة.

** قدمت هذه القراءة في إطار ندوة "الروائي والرحلة" التي نظمها منتدى الفكر والثقافة والإبداع بتنسيق مع مختبر السرديات بطنجة يومي 15-16 فبراير 2013 بمندوبية وزارة الثقافة.