تحرير العلمانية بوصفها فهمًا للدين


فئة :  مقالات

تحرير العلمانية بوصفها فهمًا للدين

"العلمانية هي التأويلُ الحقيقيُّ والفهمُ العلميُّ للدين"

نصر حامد أبو زيد


تعني العلمانية، كما سبق أن أشرت في مقالة سابقة، حياد الدولة تجاه الدين، وهي الضمانة الأفضل لتطبيق الدين وفهمه فهمًا صحيحًا خالصًا من المنفعة والهوى والتوظيف، والواقع أنه لا يمكن فهم الإسلام، بل الدين عامة، فهمًا صحيحًا، ولا يمكن تطبيقه تطبيقًا صحيحًا، إلا في ظل نظام سياسي واجتماعي وثقافي علماني، أو بعبارة أكثر دقة، إن العلمانية هي أفضل بيئة مساعدة على الاقتراب من الصواب في فهم الدين وتطبيقه، لأن العلمانية هي أفضل ضمانة لعلاقة صحيحة بين الإنسان وبين الربّ. فالقرآن والكتب السماوية نزلت من السماء، باعتبارها رسالة من الله إلى الإنسان على نحو فردي، ولا علاقة لها بسلطة أو جماعة، وهذا التدخل السلطوي في العلاقة بين الإنسان وبين الله يفسد الدين ويضلل المؤمنين، ويدخل الهوى والرياء والمكاسب الدنيوية الفاسدة في التدين، ويحوّل الدين من رسالته الأساسية إلى أداة سلطوية ومورد مادي لفئة من الناس وطبقات من المجتمع.

وعندما يقابل الإنسان ربه يوم القيامة فردًا، كما ينص القرآن الكريم، إذ تقول الآية الكريمة: "وإن منكم إلا آتيه يوم القيامة فرداً"، فإنه يتحمل وحده مسؤولية أقواله وأفعاله ومعتقداته وأفكاره، ولن تفيده بشيء السلطات والهيئات الدينية والسياسية.

وكثير من التطبيقات المنسوبة إلى الدين والإسلام اليوم، جاءت بها أفكار وآراء بشرية تزعم صواب فهمها للدين، ولكنها لا تملك حقًا ولا تفويضًا بذلك سوى ثقة المؤمنين بها واتّباعهم إياها. ولكنها في كثير من الأحيان شوهت الدين وحرفته عن مقاصده، وألبست على المؤمنين الدين والصواب، وكان أصوب وأنقى للدين والتدين لو ترك الدين شأنًا فرديًا خاصًا بكل إنسان على حده، وأن ينشئ كل إنسان فهمه للدين وفق طمأنينته وقناعته وفطرته من دون أهواء أو شوائب أو منافع أو مؤثرات أو ترغيب أو ترهيب، ومن دون تأثير للسلطات والجماعات والتراث ودعاوى الوساطة بين الله والإنسان، فحتى الرسول لا يملك هذا الحق الذي ادعته جماعات وهيئات وسلطات، فـ"ما على الرسول إلا البلاغ". والمؤمن حين يعتقد أنه يفعل شيئًا أو يؤمن بفكرة، وهو يعلم أن هذا شأن روحي خالص لا علاقة لأحد به، فإنه يفعل ذلك معتقدًا أنه يبحث بصدق وفطرة سليمة عن الصواب وعما يصحح علاقته بالله، ويفترض أن ذلك ما يمنحه الثراء الروحي والارتقاء الذي يبحث عنه؛ لذلك ليس ثمة ضمانة قائمة للتدين الصحيح سوى العلمانية.

وللتوضيح الممكن بسطه في هذه المساحة، فإننا نحتاج إلى التمييز بين ثلاث منظومات لا يصح أن نتعامل معها باعتبارها في مستوى ديني واحد: أولاها الإيمان بالله، والكتب المنزلة، وسائر أركان الإيمان وعبادة الله على النحو الذي أنزله في كتابه، وهي معتقدات وأعمال فردية بين الله والإنسان يتبعها الإنسان بقلبه مصدقًا بها كما بلغته عن الرسول، ولا يملك أحد سلطانًا عليها، ويتحمل المؤمن مسؤوليتها وحده فردًا، وليس للدولة والسلطات علاقة بها ولا شأن لها بتطبيقها، أو منع الناس من شيء متعلق بها اعتقادًا أو عبادة أو سلوكًا وممارسة أو فكرًا، ولم يخاطب النص في شأنها السلطة، ولم يفوض السلطة بمحاسبة الناس على تطبيقها أو تركها.

أما المنظومة الثانية، فهي "الخطاب" بمعنى تنزيل الدين وتطبيقه في الحياة، وهنا يحدث الخطأ والصواب وتعدد الفهم والتأويل، ويتعدد الخطاب وفق اختلاف المجتمعات والأزمنة والأمكنة والمستويات العملية والثقافية والحضارية والاجتماعية، وأصعب ما في ذلك وأشقه القدرة على التمييز بين الديني والإنساني، وما هو من عند الله، وما هو ليس من عند الله، ولكنه يبقى خطابًا للمؤمنين ينشئونه وفق ما يتمثلون من الحكمة والمصالح، وما يقدرون على إنشائه وإبداعه، متبعين ما يعتقدون أنه الحق والخير والجمال، الحق بمعنى الخطأ والصواب أو العدل والظلم، والخير بمعنى المفيد والضار، والتمييز بين النفع والضرر، والنفع الأكبر والنفع الأصغر، والضرر الأكبر والضرر الأصغر، والجمال بمعنى التمييز بين القبيح والحسن.

والمنظومة الثالثة هي العلوم الدينية من الفقه والتفسير والفلسفة واللاهوت وأصول الدين وسائر فروع العلم، وهي علوم إنسانية بحتة يشارك في تعلمها وتعليمها جميع الناس من المؤمنين وغيرهم، مثلها مثل علوم الاجتماع واللغة والفلسفة والتاريخ، وتخضع لمناهج البحث، وهي قابلة شرطًا حتميًا لإثبات خطئها وصوابها، فليس ثمة علم إلا أمكن إثبات زيفه.

إن هذا التمييز ضروري ونحتاجه لتقويم الأفكار والمواقف ووزنها، وقبولها ورفضها، فليس كل جانب من جوانب الدين بمستوى غيره، وليس كل خطأ في الدين يستوجب الخصام والعداء، وليس كل فهم قضية تحتاج إلى دعوة وتصحيح؛ ففي الخطاب تتعدد الاجتهادات ويتعدد الصواب أيضًا، وذلك متروك لقبول الناس واطمئنانهم. وأما العلوم الدينية، فهي شأن علمي إنساني خالص، يجري بحثها وإثباتها ودحضها، كما هو الأمر في تقاليد ومؤسسات العلم والبحث العلمي، وليست شأنًا دينيًا أو جماهيريًا أو سياسيًا، وعليه فإنها لا تستوجب التحزب والعداوة والتأييد إلا بمقدار ما نحشد التظاهرات والجماهير تأييدًا أو رفضًا لنظرية النسبية أو التفاعلية الرمزية، أو الشبكية على سبيل المثال.

هل مطلوب من الدولة أن تلزم الناس بأداء الصلاة والصيام وغطاء الشعر، وأن تمنعهم من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير؟ وهل مطوب منها أن تعاقب من لا يصلي أو من يشرب الخمر؟ الواقع، أن فئات واسعة من الناس تثير تخوفات واسعة من أن تسعى حكومة يقودها الإسلاميون إلى فرض أحكام وسلطات واسعة تحد من حرياتهم الشخصية والفردية في السلوك واللباس والطعام، وبالطبع هناك نماذج قائمة بالفعل تشجع على الخوف والقلق.

لقد ترسخت قيم الحريات الفردية في العالم المتقدم، وأصبحت معيارًا أساسيًا في الحقوق والحريات، ويجب أن نلاحظ أن ضعف وهشاشة الحريات الفردية في دولنا العربية ليس مردها إلى الجماعات الدينية فقط، ولكن السلطات السياسية والمجتمعات لم تكن مختلفة عن المؤسسات والجماعات الدينية، فما زلنا نخضع جميعًا لسلطة مجتمعية وسياسات اجتماعية تحدّ من الحريات الفردية والاجتماعية. وربما تزيد الجماعات الإسلامية المشكلة وتفاقمها، ولكنها تملك، إن أرادت، فرصة لمبادرة مهمة ورائدة في تأكيد الحريات الفردية جميعها، سواء أكانت حرامًا أو حلالاً، ولا تقيدها إلا بحدود السلامة والمصالح العامة، كما تفعل جميع الدول غير الإسلامية، وأن تترك الالتزام بها أو التخلي عنها للأفراد، فليس مطلوبًا من الدولة في الإسلام أن تجبر الناس على الإيمان والدين "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، و"لا إكراه في الدين"، ولكنها تتخذ من التدابير ما يحمي الحقوق والمصالح العامة والقيم الرئيسة العليا، فليس مطلوبًا منها أن تمنع شرب الخمر، لكنها تمنع الاعتداء على الحريات والحقوق، أو ما يسيء إلى حياة الناس ومصالحهم وذوقهم، مثل السواقة تحت تأثير الكحول أو الضجيج والإساءة إلى راحة الناس وخصوصيتهم، ولا تبحث ولا تتدخل في علاقة الرجال بالنساء، لكنها تمنع الرذيلة المؤسسية والمنظمة، والاتجار بالبشر، وتتابع الشكاوى المتعلقة بهذا الخصوص، ويمكن للدولة أن تتدخل في ما تقدره السلطات التشريعية إساءة، كما تفعل جميع الدول مثل منع القمار، أو في مسائل تبدو مباحة أو مسكوتًا عنها، مثل ضرب الزوجات والأولاد، ...إلخ. المسألة تحددها اتجاهات وتوقعات الناس والطبقات الفاعلة في المجتمع والدولة، ويحددها اتجاه العالم والرقي والتقدم الإنساني.

حدد القرآن جريمتين يعاقب عليهما، وهما الزنا والسرقة، ومبدأ عامًا في العقوبة هو "القصاص"، وتخصيص الزنا والسرقة من دون المحرمات بالعقوبة، يؤكد على أن السلطة تتدخل في القضايا الحقوقية والجنائية، وبالطبع هناك قضايا أخرى في المعاملات تبدو توجيهًا للسلطة، مثل الربا، والرشوة، والميسر، وأظن أنها مسائل لا تثير قلقًا أو خوفًا لدى الناس بعامة، وهناك اعتراضات على حدود وطبيعة العقوبة، مثل الجلد والإعدام وقطع اليد، ويمكن المجادلة حول الرجم، وهي أحكام يمكن مع الإقرار بها أن تكون رمزية مقترنة بالأدلة القطعية التي لا يمكن التشكيك بها، وبسبب استحالة ذلك، يمكن للقضاة والمشرعين أن يتخذوا سلمًا متدرجًا في العقوبات دون الحد الأقصى حسب الأدلة والحيثيات المتوافرة، وعلى أية حال فالناس قلقون على الحريات الفردية والاجتماعية أكثر من العقوبات، وإن كانت تحتاج إلى توضيح بأن تطبيق الشريعة ليست عمليات رجم وقطع رؤوس وأيدي وجلد.

أما المسألة الأساسية المطلوبة، فهي الالتزام المقدس والمعلن بالحريات الفردية والاجتماعية واستيعاب التقدم الإنساني والاتجاه العام للعالم اليوم.