تحولات "حي بن يقظان" لابن طفيل


فئة :  مقالات

تحولات "حي بن يقظان" لابن طفيل

لعبارة "تحولات حي" معانٍ كثيرة، فقد يكون المقصود تحولاته باعتباره قصة ما زالت تُكتب وتُعارض، كلّ كاتب يكتب حيَّه ويعارض به حيَّ غيره. وقد يكون المقصود تحولاته باعتباره كائناً يتنقل أطواراً، وهو كذلك في قصة حي بن يقظان لابن طفيل. وقد يكون المقصود تحولاته باعتباره تصوراً للإنسان الذي شهد تحولاً، حتى أمكن الحديث عن حي القديم وحي الحديث. نودّ من هذه المقالة أن نتكلم عن تحولات حي بهذه الدلالات المختلفة.

1- كتاب قصة حي بن يقظان

1-1- حي بن يقظان وقصص أخرى

لحي بن يقظان أنساب وتحولات، ولم يكن ابن طفيل الأندلسي (458-533هـ) (1110ـ1185م) أوّل من ألفه، فابن سينا له أيضاً حيُّه. ينتمي حي بن يقظان إلى تاريخ طويل لما يمكن تسميته بالقصص التمثيلية الفلسفية Allégorie philosophique. وقد ألف ابن سينا ثلاث قصص تمثيلية فلسفية: حي بن يقظان الذي ذكرناه سابقاً ورسالة الطير وسلامان وأبسال. وألف آخرون ما عارضوا به الشيخ الرئيس واضعين في صورة رمزية قصصية بدائلهم التصورية كقصة السهروردي المسمّاة: الغربة الغربية، وقصة ابن النفيس المسماة: فاضل بن ناطق[1]. قصة سلامان وأبسال لابن سينا وردت الإشارة إليها في نص الإشارات والتنبيهات[2] وهي من أغمض إشاراته، إذ لم يُعرف مراد ابن سينا منها. وقد كانت إحدى التأويلات المحتملة التي ذكرها نصير الدين الطوسي شارح الإشارات أن تكون القصة يونانية ترجمها حنين بن إسحاق. هذا للإشارة إلى أنّ لهذا النمط من الكتابة أنساباً قديمة، فلا ندري أين يبلغ بنا العود.

  تحوَّلَ حي بن يقظان السينوي بالترجمة فصار يهودياً مع إبراهيم بن عزرا (1089ـ1064) في القرن الحادي عشر الميلادي[3]. ونجد لحي بن يقظان مَن شرحه من الفلاسفة اليهود، وهو موسى الناربوني Moses of Narbonne في القرن الرابع عشر الميلادي (1300ـ1362م)، وتحوّل حي فصار نصرانياًّ فكان دون أنتونيو دي ترازانيو[4] Don Antonio de Trezzanio وهي إحدى القصص المجهول كاتبها في القرن الثامن عشر، ولكن يظهر بجلاء تأثرها بكل من قصة حي وقصة روبنسون كروصو Robinson Crusoe.

  ويعتبر روبنسبون كروصو لدانييل ديفو Daniel Defoe (1660ـ1731م) من تحولات حيٍّ وقبله إلكرتكون لبلثزار غراثيان Baltasar Gracián (1601ـ1658م). وروبنسون كروصو ذاته سيتحوّل إلى يهودي وستكتب قصة بالييديش كتبها يوسف فيتلن Yoysef Vitlin وسيسمي بطل قصته ألتر لب Alter Leb [5]. وقد وجد دانييل دوفو من عارضه وهو الكاتب من جنوب أفريقيا كوتزي Coetzee الحاصل على جائزة نوبل بقصة بعنوان فو Foe، وهي عن اختلاف وجهات النظر حول ما يستحق أن يُكتب وعن العجز عن الحكاية. تحولات كثيرة لحي ومعارضات، تحييه وتبعثه دائماً.

1-2- مصادر قصة حي بن يقظان لابن طفيل

أراد ابن طفيل الأندلسي أن يكون كتابه مهيمناً على مذاهب الفلاسفة قبله، وذلك بأن طلب كمالها، جامعاً متفرق اتجاهين ميزهما لدى سابقيه. ويتعلق الأمر بالاتجاه النظري طريقة أهل النظر، وبالاتجاه الذوقي، طريقة أهل الذوق. ويمكن أن نعد كتاب حي بن يقظان وثيقة نتعرف بفضلها ما بلغ الأندلس في ذلك الزمان من الكتب الفلسفية، وهي التي يخبرنا ابن طفيل أنه اطلع عليها. إنّ ما بلغ ابن طفيل من الكتابات ممّا اشتكى من عدم إيفائه بالغرض. ولقد شرع في كتاب حي بن يقظان في الاستدراك على سابقيه وشمل هذا الاستدراك:

1ـ ابن باجة الذي نبذ طريقة أهل الذوق واكتفى بالنظر. "وذكر أنّه (أي الالتذاذ) للقوة الخيالية"،[6] والذي عُرف عنه أنّه لم يكمل كتبه ككتابه في النفس وكتاب تدبير المتوحد ورسالة الاتصال.

2ـ الفارابي في تصوراته للنبوّة وللسعادة ولمصير الأرواح المخالفة للملة.

3ـ الغزالي لغموضه ووقوعه في تناقضات.

4- ابن سينا الذي لا يفي ظاهر كتابه الذي هو الشفاء بالغرض في التعريف بالحكمة المشرقية لتطابقه وكتب أرسطو، ممّا يجعل الحاجة إلى البحث عن باطن له وسر. ممّا دفع ابن طفيل إلى تأويل الإشارات الكامنة فيه. فما الحل إذن، وابن طفيل في الأندلس كحي بن يقظان معزولاً في تلك الجزيرة؟ إنّ الحل هو أن يعتمد قدراته الذاتية، يقول: "ولا شكّ عندنا في أنّ الشيخ أبا حامد، ممّن سعد السعادة القصوى، ووصل تلك المواصل الشريفة المقدّسة، لكن كتبه المضنون بها المشتملة على علم المكاشفة لم تصل إلينا، ولم يتخلص لنا نحن، الحق الذي انتهينا إليه، وكان مبلغنا من العلم تتبع كلامه، وكلام الشيخ أبي علي، وصرف بعضهما إلى بعض، وإضافة ذلك إلى الآراء التي نبعت في زماننا هذا، ولهج بها قوم من منتحلي الفلسفة، حتى استقام لنا الحق أولاً بطريق البحث والنظر، ثم وجدنا منه الآن هذا الذوق اليسير بالمشاهدة"[7].

غاية ابن طفيل

غاية ابن طفيل إذن أن يتكلم عن تجربة الذوق والمشاهدة (وقد مثل لحال المتذوق بالأعمى الذي يرى بعد طول عمىً مشاهدةً ما كان يفهمه ويدركه إدراكاً نظريّاً) عن إدراك الحقيقة إدراكاً يصير بها المدرِك مخالطاً للمدَرك. ولكن المفارقة هي أنه سيعود للاستعانة بالكلمات والحروف والأصوات، العودة إلى التعريف بتلك التجربة "على طريقة أهل النظر". ولكنه اختار الرمز والقصة، لحاجات سيقضيها ما كان ليقضيها لولا أن تخيل أنّ صاحب التجربة هو حي بن يقظان في جزيرة من الجزر البعيدة، متولداً تولداً ذاتيّاً فيها، متوحداً يجد من ذاته الإرادة والقدرة على إدراك الحقائق.

كتاب قصة حي بن يقظان كتاب ألفه فيلسوف أندلسي في بلاد الأندلس في الغرب الإسلامي، إلا أنّه كان محافظاً على وحدة الفكر الفلسفي الذي لم يكن غربيّاً ولا شرقيّاً، فالفكر الفلسفي مصيره أن ينقل. نُقل من اليونان شرق أوروبا وارتحل إلى الأندلس غربها. لم يكن ممثلاً للفكر الإسلامي فقط بل للفكر الديني، ففي القصة وصلٌ بين ما يتوصل إليه الإنسان من الحق من تلقاء عقله، وبين ما تتناقله الشرائع والديانات، أو لنقل وصل بين النقل الفلسفي والنقل الديني. وابن طفيل هو أكثر من هذا يختصر تصورات هي تصورات القرون الوسطى للإنسان في علاقته بالعالم. فقد تكاملت لبناء تصور الإنسان في علاقته بالعالم في قصة حي بن يقظان معارف كثيرة: طبيعية وطبية وجغرافية وفلكية. وليست القصة ممثلة لنمط ثقافي يودّ البعض مقابلته بنمط ثقافي آخر كما فعل مالك بن نبي في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي[8]، بل هي ممثلة لطور من أطوار زمن لم يعد قائماً. فهل في الحنين إلى الأندلس حنين إلى ذاك الزمان؟ لا يكون الحنين حنيناً حتى يكون لما لن يعود أبداً، هو الألم الناتج عن الإدراك باستحالة عودة الماضي كما يدل اشتقاق الكلمة الأجنبية Nostalgie. فهل مات حيٌّ؟ هل ما زال حيٌّ حياًّ بيننا؟ مات ليبعث من جديد، فليس حيٌّ واحداً بل أحياء وهي تحولاته.

مختصر القصة

تحكي القصة عن طفل هو حي بن يقظان تولد تولداً ذاتيّاً في جزيرة من جزائر الهند تحت خط الاستواء، توفر فيها من اعتدال المناخ ما لم يتوفر في غيرها، في أحد السيناريوهات التي تصورها ابن طفيل. وسيجد في هذه الجزيرة من سيعتني به من غير الإنسان وهي ظبية سترضعه متوهمة أنه ابنها. وسيتنقل حي بن يقظان في أطوار المعرفة: طور إعمال القوة المتخيلة، وطور إعمال العقل الصناعي، وطور إعمال العقل النظري الذي سيحصل به مختلف العلوم كالطب والطبيعيات والفلك والإلهيات، وطور إعمال العقل الأخلاقي وطور المشاهدة والذوق. واتفق لحي بن يقظان الالتقاء بأبسال وهو أحد من طلب التوحد في جزيرته بعيداً عن جزيرة أخرى كانت عامرة بالناس، وهي جزيرة قريبة من جزيرة حي بن يقظان انتشرت فيها ملة فاضلة "محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالأمثال المضروبة"[9] وسينتهي حي إلى أنّ ما توصل إليه من الحق هو ذاته ما مثلته الشريعة، "وتطابق عنده المعقول والمنقول"[10].

وسيرافق حيُّ بن يقظان أبسالَ إلى جزيرته حيث سيبلغ أتباع أبسال بما توصل إليه، إلا أنهم سيُعرضون عنه، وسييأس منهم، مما سيجعلهما يغادران الجزيرة إلى جزيرة حي، "وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم، بالنحو الذي طلبه أولاً، حتى عاد إليه. واقتدى به أبسال حتى قرب منه أو كاد..وعبدا الله بتلك الجزيرة، حتى أتاهما اليقين."[11]

2- حي القديم وحي الحديث، مقارنة لتصورين عن الإنسان

تصور البسائط الحية قديماً وحديثاً

في أحد السيناريوهات التي تخيل عبرها ابن طفيل كيفية تولد حي بن يقظان، وهو السيناريو الذي تخيل عبره أنه تولد تولداً ذاتيّاً، إشارة إلى أقصى ما بلغه تصور القرون الوسطى للبسائط التي انبثقت من مادة أولى هي الهيولى، وهي بسائط أربعة: الماء والهواء والتراب والنار. تصوير كيفية التولد استُند فيه إلى نظرية الأمزجة. والأمزجة تقوم مقام العناصر الأربعة بالنسبة للكائنات الحية. ولسنا نجد ابن طفيل الوحيد الذي تخيل هذا السيناريو فبعده ابن النفيس (607ـ687هـ) سيتخيل أنّ فاضل بن ناطق مما سيتكون تكوناً ذاتيّاً في مغارة تقوم له مقام البطن. نظرية الأمزجة ترى أنّ الأجسام نتاج تمازج هذه العناصر بنسب تتفاوت، وفي الأحياء عناصر تقوم مقام العناصر الأربعة، وهي الدم والبلغم والصفراء والسوداء. والصحة ناتجة عن اعتدال هذه الأخلاط والمرض بسبب اختلالها.

ماذا عن تصور البسائط الحية حديثاً؟ لا يعني علم الحياة الحديث في تخيله لحساء الحياة البدائي La soupe prébiotique تخيلُ كيفية انبثاق إنسان بدائي، بل كيفية انبثاق كائن وحيد الخلية، أو كيفية انبثاق ما يسبق ذلك من مكونات الخلية الحية كالنكليوتيدات (جزيآت عضوية) والأحماض الأمينية[12]. البسائط لم تعد تلك البسائط، اللغة المستعملة الآن هي لغة النظرية الخلوية ولغة البيولوجيا الجزيئية. الإشكال الآن هو: كيف انبثق كائن حي وحيد الخلية يتضمن داخله لغة لبناء ذاته والحفاظ عليها، ولغة لإنتاج مثيله؟ قبل أن يكون للإنسان شأن على الأرض كانت الحياة، ولا ينفصل الإنسان عن تاريخ طويل لا يتعلق إلا بجانبه الحيوي. إنه ينتسب إلى تاريخ طويل هو تاريخ الحياة في أبسط أشكالها، ثم إنّ ظهور الإنسان لم يكن ظهوراً فورياً، إذ ينتسب الإنسان أيضاً إلى تاريخ قبله هو تاريخ انبثاق الإنساني. لا ينفصل الإنسان، إذن، عن تكوّن إنسانيته وتحولها.

الجغرافيا قديماً وحديثاً

غريبة هي أرض القرون الوسطى التي تصورها ابن طفيل وقد تمّ تقسيمها غالباً إلى سبعة أقاليم (نظرية بطلميوس)، منها المعتدل ومنها غير ذلك، وجزيرة حي بن يقظان ممّا يقع على خط الاستواء، وقد عدّها ابن طفيل أكثر الأماكن اعتدالاً. تحوّلُ حي إلى روبنسون كروصو هو بسبب ما طرأ من تحولات كان من أسبابها بدايات اكتشاف يابسات جديدة في عنصر الماء المهيمن الذي تمّت الفطنة إلى أعظامه الفائقة، كما بيّن ذلك بيتر سلوتردك Peter Sloterdijk[13]. بعد أن هيمنت الأسفار البحرية على الأسفار البرية، ولم تكن جزيرة روبنسون إلا ما قُذِف فيها بعد عبور البحر وغرق السفينة.

أرض ابن طفيل محاطة بالماء، ويُحدق بها من جميع الجهات هذا الذي ما زلنا نسميه البحر المحيط، كما أحدق البحر بجزيرة حي، حتى اعتقد "أنه ليس في الوجود سوى جزيرته تلك"[14]، وقد فطن البحارة مستكشفو الأرض حديثاً إلى أنّه ليس بالمحيط إلا مجازاً، وأنه ليس هناك محيط واحد بل محيطات، إذ تتراوح في الأرض اليابسة والماء، والماء أغلب.

مكانة الأرض في العالم

أرض حي غريبة عن أرضنا حيث توالت الضربات التي تلقتها مركزيتها مع تصوّري كل من كوبرنيك وغاليلي. أرض القرون التي تصوّرها ابن طفيل ممّا يقع في مركز العالم، وهي ذات شكل كروي، وساكنة لا تتحرك: "وقد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين القطعية أنّ الشمس كروية الشكل، وأنّ الأرض كذلك"[15].

أمّا الأرض في تصورها الحديث فمتحركة جوالة، وتشترك وأجراماً أخرى في الجولان والحوم حول ما كان يعتقد لزمن قريب أنه هو الذي يستحق المركزية: (الشمس)، حتى فطن الإنسان إلى أعظام الكون الفائقة. فطن الإنسان حديثاً إلى أنّ الأرض التابعة الجوالة تحوم حول نجم هو أيضاً تابع وجوال. ماذا لو أتت حيّاً هذه الأخبار؟ لو أتته لأحسّ أنه ضال، ولاحتاج إلى أن يرسم معالم جديدة ليهتدي في عالم يكاد يكون بلا نهاية.

تصور الإلهي

قصة حي بن يقظان عن بلوغ الحقيقة المطلقة، وبيان لعدم كفاية النظر العقلي، إذ ينبغي تجاوزه إلى المشاهدة، مشاهدة ذات الموجود الواجب. وبلوغ الحقيقة في جوهره عودة إلى الأصل، فالروح التي فاضت من أعلى تحنّ إلى مصدرها وتحاول الرجوع. وهذا الأعلى حدد وراء العالم، العالم في صورته الضيقة التي وصفناها سابقاً. ماذا عن الزمن الحديث حيث ترتفع الحجب عن كبر العالم؟ على حي أن يبحث عن حضور للإلهي أكثر معنوية ورمزية، قد يجعله ذلك يلتفت في جزيرته التي هي الأرض في هامش كون تتصاغر أذهاننا لإدراك أبعاده، أن يلتفت إلى تحويل الطبيعة كما سيصنع روبنسون كروصو بعده، أن يحافظ على نفسه حيّاً صانعاً دون أن يتخطى ذلك إلى حيٍّ الناظر أو إلى حي الذي يعاين ما لا يتعين من الحضور الإلهي. وإذا كانت قصة حي بن يقظان تماثل قصة روبنسون كروصو في تجربة الاهتداء[16]، إذ هما قصتان عن التوبة والرجوع، الرجوع إلى الحق، إلا أنّ روبنسون سيتوب بعد تعرضه للألطاف الإلهية التي كانت علامات ورموزاً تلقاها في سفره بعد أن ذهب مغاضباً ضد إرادة والديه.

الإنسان الطبيعي والإنسان التاريخي

تكونت إنسانية حي داخل الجزيرة وبلغ كمال إنسانيته بالاعتماد على ذاته، عكس روبنسون كروصو الذي صار جاهز الإنسانية بالاجتماع السابق. وانحدر إلى حال التوحد حين قذفته أمواج البحر إلى الجزيرة؛ فسيجرب التوحد ثانية ليدرك ما يفقده بفقد الاجتماع الإنساني، وما يجب أن يحتفظ به مما هو جوهر إنسانيته. إنّ النظرة الحديثة للإنسان ما كانت إلا لتعتبر إنساناً ذاتي التكوين الإنساني خرافة من الخرافات. لقد تمّت الفطنة حديثاً إلى البعد التاريخي لكون الإنسان طبيعيّاً ولكن أيضاً لكونه ثقافيّاً. ليس لكون الإنسان فقط بل لكون الحياة والأرض والعالم. باختصار تمّت الفطنة حديثاً إلى أنّ للطبيعة أيضاً تاريخاً. للإنسان باعتباره كائناً حياً تاريخ، وقد تحدثنا عن السيناريوهات التي يتصورها علماء الأحياء لما تضمنه الحساء البدائي، وللإنسان باعتباره كائناً ثقافيّاً تاريخ. وحين نقول "تاريخ" فنحن نعني استحالة الرجوع إلى الخلف. إنّ رجوع ما نفترض كونه الإنسان الطبيعي مستحيل، ولكن يساعدنا افتراضه على تصور ماذا أضاف التاريخ وأضافت الثقافة للإنسان لكي يصير إنساناً غير طبيعي ولكن إنساناً. وتتبع مسار انتقال الإنسان مما نفترضه "طبيعة" إلى الثقافة، قد يجعلنا ننتبه إلى علل الحضارة التي أصابته خلال ذلك الانتقال، وقد تجعلنا ننتبه إلى كيفية معالجة تلك العلل، لا بالمصير ثانية إلى حالة الطبيعة، إذ يستحيل ذلك، بل بالاحتفاظ بالإنسان المصنوع تاريخيّاً وثقافيّاً، وعلاج أدواء تحوله العسير من الطبيعة إلى الثقافة.

واللقاء بين روبنسون كروصو وفوندرودي (جمعة) لم يكن لقاءً بين إنسان ثقافي وإنسان طبيعي، بل لقاء بين إنسان ثقافي وآخر ثقافي، إلا أنّ أحدهما وهو روبنسون يعتبر نفسه أهدى من الآخر ثقافيّاً، ولكن روبنسون هو فوندرودي لو قُدِّر له أن ينعزل في جزيرة هو وأمّته بعيداً عن التفاعل مع باقي الأمم. إلا أنّ قدر الإنسانية أن تجتمع ثانية، وهذا هو حقيقة ما نسميه عولمة، فحقيقتها الرجوع إلى حال المعيّة الإنسانية الأولى بعد طول افتراق. ولقاء روبنسون كروصو بفندرودي هو لقاء حائر حيث يشك أحدهما في دونية الآخر الإنسانية. إن كان الحال أنّ فوندرودي قد فرّ من روبنصون فإنّ الحال أن أبسال (وهو الكائن الاجتماعي) هو من فرّ من حي بن يقظان "وولّى أبسال هارباً منه، خيفة أن يشغله عن حاله، فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه من البحث عن حقائق الأشياء".[17] وهذا التخالف هو الذي ينبئنا عن اختلاف النظرة الحديثة عن القديمة. إنّ فصل النظرتين يكون بتحديد أيهما (الإنساني المفترض طبيعياً، أو الإنسان الثقافي) يفرّ من الآخر.

إنّ النظرة الحديثة ترى أنّ إنساناً بدون اجتماع أو بدون ثقافة أو بدون لغة يعني باختصار فقدان الإنسانية، لأنها تُكتسب داخل مجتمع وداخل ثقافة. أمّا نظرة ابن طفيل إلى الإنسان فهي تعتبر الذات في غنى عن الآخر، وبإمكان الإنسان أن يدرك ذاته دون واسطة الغير: "وفي خلال شدّة مجاهدته هذه، ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الذوات، إلا ذاته، فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود"[18].

لا تُجوِّز النظرة الحديثة هذا الأمر، ونجد في قصة روبنسون كروصو أنّ الجهد كان قائماً للحفاظ على سابق العهد بالاجتماع، حفظ للأنظمة الرمزية ورعاية لها كالنظام الاجتماعي للزمن، وكنظام اللغة أهم الأنظمة الرمزية. ويبين دولوز Deleuze من تأويل له لقصة مشيل تورنيي Michel Tournier وهي قصة جمعة أو حواشي المحيط الهادئ Vendredi ou les limbes du pacifique، وهو من تحولات حيّ أيضاً، كيف تغور الإنسانية بالتدريج حين يغيب الغير الذي يتوسط إدراك الوعي لموضوعاته، فالغياب النهائي للغير أو لآثاره يؤدي إلى عدم تمايز ذات الإنسان عن موضوعاته، إنه انحدار إلى حال اللاوعي[19].

أما حيُّ ابن طفيل فأدرك ما حوله دون الحاجة إلى أنظمة رمزية وأهمها اللغة، فهو في الجزيرة لم يكن يتكلم لغة ولم يجد قبله من يتكلم، ورغم ذلك استطاع أن يدرك المعاني المعقولة. المعنى ممّا لا يحتاج إلى أنظمة رمزية ليُدرك، ولن يعمل أبسال وهو رمز حامل الشريعة إلا على تعليمه اللغة والنطق ليتم إبلاغ تلك المعاني التي استطاع إدراكها مسبقاً.

الخاتمة

قصة حي بن يقظان قصة واصلة للنقل الفلسفي الشرقي بالغربي، واصلة للنقل الفلسفي بالنقل الديني، واصلة للنظر بالذوق، جامعة لأهمّ التصورات التي سادت القرون الوسطى عن الإنسان في علاقته بالعالم ومختصرة لها. ونتساءل: هل لهذا التصور من قيام الآن؟ لم يعد قائماً إلا في الذاكرة، ذاكرة العادات، ومنها عادات لغتنا. عادات ما زالت تحتفظ بآثار تلك الصورة التي بدأت تبهت الآن تحت تأثير عادات جديدة، تتشكل بفعل التأثر باللغات الجديدة، لغات ترسم للعالم وللإنسان صوراً أخرى، وتحوج إلى إعادة كتابة نص ابن طفيل من جديد.


البيبليوغرافيا:

-   ابن سينا، بدون تاريخ، الإشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة.

-   زيدان يوسف،(1998)، حي بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها، دار الأمين، الطبعة الثانية.

-   مالك بن نبي، (2002)، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة بسام بركة وأحمد شعبو، دار الفكر، دمشق، سورية.

-       Deleuze G, (1969), « Michel Tournier et le monde sans autrui », in Logique du sens, Les éditions de Minuit,.

-       Leah Garrett, (Summer, 2002), “The Jewish Robinson Crusoe, Comparative Literature, Vol. 54, No. 3, pp. 215-228.

-       Martin J. Greif, (Summer, 1966), “The Conversion of Robinson Crusoe, Studies in English Literature, 1500-1900, Vol. 6, No. 3, Restoration and Eighteenth Century, pp. 551-574.

-       Maurice R. Hayoun, Moïse de Narbonne, (Oct., 1985), « Sur Les Sefirot, Les Sphères, et Les Intellects Séparés. Edition Critique D'un Passage de Son Commentaire Sur le Hayy Ibn Yaqzān D'ibn Tufayl, Avec Introduction,Traduction, et Notes », The Jewish Quarterly Review, New Series, Vol. 76, No. 2 pp. 97-147.

-       Monod Jacques, (1970) Le hasard et la nécessité, essai sur la philosophie naturelle de la biologie moderne, Editions du Seuil.

-       Remke Kruk, (Nov., 1987) “An 18th-Century Descendant of Hayy ibn yaqzān and Robinson Crusoe: Don Antonio de Trezzanio”, Arabica, T. 34, Fasc. 3, pp. 357-365.

-       Sloterdijk Peter, (2008), Palais de cristal, A l’intérieur du capitalisme planétaire, traduit de l’Allemand par Olivier Mannoni, éditions Hachette littératures, collection Pluriel.


مسرد المراجع والاحالات:

-  ابن سينا، بدون تاريخ، الإشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة.

-  زيدان يوسف، (1998)، حي بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها، دار الأمين، الطبعة الثانية.

مالك بن نبي، (2002)، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة بسام بركة وأحمد شعبو، دار الفكر، دمشق، سورية.

-        Deleuze G, (1969), « Michel Tournier et le monde sans autrui », in Logique du sens, Les éditions de Minuit,.

-       Leah Garrett, (Summer, 2002), “The Jewish Robinson Crusoe, Comparative Literature, Vol. 54, No. 3.

-       Martin J. Greif, (Summer, 1966), “The Conversion of Robinson Crusoe, Studies in English Literature, 1500-1900, Vol. 6, No. 3, Restoration and Eighteenth Century.

-       Maurice R. Hayoun, Moïse de Narbonne, (Oct., 1985), « Sur Les Sefirot, Les Sphères, et Les Intellects Séparés. Edition Critique D'un Passage de Son Commentaire Sur le Hayy Ibn Yaqzān D'ibn Tufayl, Avec Introduction,Traduction, et Notes », The Jewish Quarterly Review, New Series, Vol. 76, No. 2.

-       Monod Jacques, (1970) Le hasard et la nécessité, essai sur la philosophie naturelle de la biologie moderne, Editions du Seuil.

-       Remke Kruk, (Nov., 1987) “An 18th-Century Descendant of Hayy ibn yaqzān and Robinson Crusoe: Don Antonio de Trezzanio”, Arabica, T. 34, Fasc. 3.

-       Sloterdijk Peter, (2008), Palais de cristal, A l’intérieur du capitalisme planétaire, traduit de l’Allemand par Olivier Mannoni, éditions Hachette littératures, collection Pluriel.


[1] زيدان يوسف، (1998).

[2] ابن سينا، بدون تاريخ، 48/3

[3] Maurice R. Hayoun, (Oct., 1985), pp. 97-147

[4] Remke Kruk, (Nov., 1987), pp. 357-365

[5] Leah Garrett, (Summer, 2002), pp. 215-228

[6] زيدان يوسف، (1998)، ص 162

[7] م.س، ص 168

[8] مالك بن نبي، (2002)، ص 20

[9] زيدان يوسف، (1998)، ص 240

[10] م.س، ص 246

[11] م.س، ص 252

[12] Monod Jacques, (1970), p. 179

[13] Sloterdijk Peter, (2008), p. 62

[14] زيدان يوسف، (1998)، ص 186

[15] زيدان يوسف، (1998)، ص 171

[16] Martin J. Greif, (Summer, 1966), pp. 551-574

[17] زيدان يوسف، (1998)، ص 243

[18] م.س، ص ص 230ـ231

[19] Deleuze G, (1969), p. 350