نظرية الحجاج لدى أرسطو طاليس


فئة :  مقالات

نظرية الحجاج لدى أرسطو طاليس

نظرية الحجاج لدى أرسطو طاليس

مهاد إشكالي

يعد أرسطو اللحظة التأسيسية الأولى لنظرية الحجاج؛ وذلك بعد قطعه مع نظرية أستاذه أفلاطون الذي ظل هدفه منذ البداية محصورا في «نقد الخطابة»، من خلال نقده اللاذع الموجه للخطابة لدى السوفسطائين جورجياس وبولوس وكاليكلس، التي تتميز حسبه بأنها خطابة قائمة على الظن؛ ذلك أن الفرض منها هو إقناع المتلقي، وليس قول الخير بذاته ولذاته، بل غايتها التأثير عبر دغدغة مشاعر وأهواء الجمهور وبالتالي الابتعاد عن الحقيقة، كما أن هذا النقد الأفلاطوني للخطابة يندرج ضمن مشروع نقدي ضخم آخر، وهو نقده للديمقراطية بشكل خاص التي كانت السبب في إعدام أستاذه سقراط؛ ذلك أن الخطابة تساهم في تبديد هذا النظام السياسي الذي يسمح لعوام الناس من المشاركة السياسية عبر مناقشة القضايا التي تخص الشأن العام في ساحة الأغورا (L'Agora) لذلك سيقدم أرسطو نظرية مخالفة تماماً لأستاذه أفلاطون مهدت للحظة التدشينية الأولى، وجعلت منه ذلك الأب الروحي المؤسس للخطابة؛ وذلك من خلال مؤلفه العمدة «الريطوريقا أو الخطابة». لذلك سنثير مجموعة من الأسئلة موجهة للتحليل والمناقشة بخصوص هذا الإشكال، وهي كالآتي:

كيف عمل أرسطوطاليس على نقد أستاذه أفلاطون حول الخطابة؟

ما هي أجناس الخطابة لدى أرسطوطاليس والغاية منها؟

أولاً- نقد أرسطوطاليس لأستاذه أفلاطون حول الخطابة:

كنا قد أشرنا في المقدمة أن موقف أفلاطون من الخطابة تجلى في النقد وفقط؛ أي نقده الشديد للخطابة الذي اندرج في إطار عام جداً من خلال نقده اللاذع الموجه للديمقراطية الذي نلحظه في مؤلفه العمدة الذي يشكل قمة فكره الفلسفي، أقصد هنا كتاب «الجمهورية»، لذلك سيتابع أرسطوطاليس ما أبداه معلمه من نقد للخطابة السوفسطائية التي كان غرضها دائماً -حسب أفلاطون- هو التأثير في المتلقي عبر اللجوء إلى فن التملق أو التحايل وخداع مشاعر وأهواء الجمهور بشكل عام، لذلك سيختلف أرسطو مع أستاذه في شأن الاستبعاد الكلي للخطابة، وتعويضها بالمنهج الأفلاطوني القائم على الجدل أو الديالكتيك (Dialecique).

لذلك سيحاول أرسطو أن يتعامل بشكل أكثر براغماتي/عملي مع الخطابة؛ وذلك من خلال توضيحه «أن الخطابة ولو لم تكن أداة حجاجية للكشف عن الحقيقة العلمية، فإنها مفيدة نافعة» [1]، وهو نفس الموقف تقريباً من الشعر، حيث عندما طرد أفلاطون من جمهوريته الشعراء؛ لأنهم كما قال في كتابه العاشر من الجمهورية «إذن أن شعراء التراجيديا (المأساة) وبقية الشعراء تقوم أعمالهم على المحاكاة، فيبدو لي أن هذا النوع من الشعر يؤذي الأذهان التي تسمعه دون أن يكون لديها ترياق ضده، أعني معرفة الطبيعة الحقيقية لما يتحدث عنه هذا الشعر» [2]، عمل أرسطو عكس ذلك عندما اعتبر الشعر خاصية إنسانية حميدة، هذا المنطق البراغماتي الغالب على أرسطو هو ما جعله يمدد من استعمال الخطابة في جميع المجالات أو توسيع استعمالها، وليس فقط اقتصارها على المحاكم والساحة العمومية (الأغورا)، التي اعتاد السوفسطائيون استخدامها هناك، إضافة إلى إقحام هذه الخطابة حتى داخل النقاشات الفلسفية وجعل هذه الأخيرة تغنى بالخطابة، وعدم الاكتفاء بالمناهج الجدلي الدياليكتيكي في فن المتآلفات والأضداد، هذا ما سيجعل من أرسطو أن يقدم في البداية تعريفا دقيقا وصارما جداً للخطابة بقوله: «هي قوة نكتشف نظريا المقنع في كل أمر معطى» [3]، من هنا يمكن أن نلحظ أن أرسطو كان يحاول تحديد أرضية خصبة للخطابة بجعلها موضوع للحجاج؛ وذلك من خلال التناول المنطقي لها، وانفتاحها على مجالات أخرى (اجتماعية، وسياسية، وفكرية، وأخلاقية، وقانونية، ونفسية كذلك، ...)، هذا الانفتاح هو الذي كان يعوز أفلاطون الذي حاول الانغلاق على ذاته، وتسييج نسقه الفلسفي، الذي تميز بالانغلاق؛ ذلك أن أرسطو اعتبر أن الغرض والمقصود الرئيس من الخطابة هو الاستدلال، هذا ما جعل منه المبدع الأول لنظرية المنطق وآليات الاستدلال، هذا الاستدلال هو الذي يساهم في «الإقناع العقلاني مع ضمان الحق للخطيب في استثمار الجانب النفسي والأخلاقي» [4].

ثانياً- أجناس الخطابة لدى أرسطوطاليس والغاية منها:

ميز أرسطو في كتاب الخطابة أو الريطوريقا، هناك من يترجم (La Réthorique) بالبلاغة، أو حاول بيان أجناس الخطابة في ثلاثة أنواع من الخطابة، «أولها الخطاب القضائي، ثم الخطاب الاستشاري وأخيراً الخطاب الجمالي أو الإثباتية الحكمية» [5].

الخطاب القضائي: يهدف القضاة من ورائه إلى معرفة الحقيقة بغية تحقيق العدالة والحق. إنهم يستعملون زمن الماضي والقياس المنطقي الصارم.

الخطاب الاستشاري: الذي يتخذ طابعا سياسيا واقعيا في الغالب، وهدفه تحقيق الخير للصالح العام، ويستخدم الزمن الحاضر، ويستعين بالحجة، خاصة حجة المثال.

الخطاب الجمالي أو الإثباتية الحكمية: وهو ذلك النوع من الخطاب القائم على المدح أو الذم، الهدف منه تثبيت القيم الجمالية أو الدفاع عن الفضائل أو يبحث عن القيم الأخلاقية المثالية العليا، يتميز هذا الخطاب باستعمال جميع الأزمنة (الماضي والحاضر والمستقبل) ويركز كثيراً على أسلوب التضخيم والمبالغة الزائدة.

هذا ما سيجعل من أرسطو يرى أن نظرية الحجاج تتحقق من عن طريق الخطابات البلاغية الثلاثة المشهورة المكونة من اللوغوس (Logos) بمعنى ذلك الخطاب واللغة، والإيثوس (Éthos) من خلال الأخلاق والقيم العليا والفضائل، ثم أخيراً الباثوس (Pàthos).

اللوغوس (Logos): هو ذلك الخطاب والعقل الذي من خلاله يتم تجسيد الخطاب، سواء العقلي المنطقي أو اللغوي والذي يلعب دوراً حاسما في شكليات الخطاب وجماليته أو من خلال الصرامة العقلية المنطقية للخطاب.

الإيثوس (Éthos): وهو الذي يشكل أخلاقيات الخطيب، أو مجموع القيم والقواعد والمعايير الأخلاقية المثالية العليا التي يتميز بها الخطيب، والتي تؤدي إلى جعل الجمهور يثق في هذا الأخير، ودائما ما تضفي طابعا أخلاقيا قيميا.

الباثوس (Pathos): يتم التركيز فيه على الجانب الانفعالي من أحاسيس ومشاعر وانفعالات ووجدان وعاطفة الجمهور، التي يجب إثارتها وتهييجها دائماً، بغرض تحقيق الإقناع والتسليم في محتوى ومضمون الخطاب.

إضافة إلى أنه يجب التركيز على أن نظرية الحجاج لدى أرسطو تتميز بخصيصة ممتازة جداً تتجلى في ترتيب وتصنيف أجزاء القول «إما على شكل قياس أو على شكل استقراء بجميع الأنواع المختلفة لهذين الشكلين» [6]، لذلك عمد المعلم الأولى تصنيف جميع أنواع الحجاج من خلال صنفين وفقط، الأول حجاج عبارة عن قياس، المتمثل في القياس العقلي المنطقي الآرسطي، ثم الثاني المتمثل في شكل استقراء.

انطلاقا مما سبق يمكن القول، إن هذه هي على الأقل تلك العناوين كبرى لنظرية الحجاج الأرسطية، والتي عبرها تمت تلك النقلة النوعية أو لنقل ثم نقل الحجاج من المجال المتداول العامي أو لنقل العشوائي، الذي يغلب عليه طابع الرغبة في الإقناع والتأثير في المتلقي فقط، واستغلال مشاعره وأحاسيسه ودواخله ووجدانه، إلى مجال التحكيم العقلي المنطقي الذي تحضر فيه مجموعة من القواعد العقلية والمبادئ المنطقية وآليات محكمة للاستدلال، حيث إنه لا يمكن فصل نظرية المحاجة الأرسطية عن نظريته في المنطق وآليات الاستدلال، بل بمعزل عن نظريته في الخطابة والبلاغة بشكل عام، ودون العودة إلى كتاب «التبكيتات السفسطائية» الذي أحصى فيه مواضع السفسطائيين أو ما سماه بالمغالطات السفسطائية، أو بشكل عام أيضاً نظريته في السفسطة. إن ذلك هو ما يؤدي إلى الوعي التبصري بتلك التقنيات والآليات التي تحد الصناعة الحجاجية التي تؤدي حسبه إلى الإقناع.

على سبيل الختم، يمكن القول إن أرسطو صاغ نظريته في الحجاج من منطلق رؤيته النقدية والمعقلنة وليس بغرض وضع قواعد أو تعاليم جامدة جاهزة من أجل الاستخدام والاستعمال في أي وقت، كما فعل السفسطائيون الذين كانوا يدعون أنهم يلقنون الخطابة أو طريقة معقلنة للكلام أمام المحاكم، بل بالعكس، حاول صياغة مجموعة من المبادئ والأسس التي هي عبارة عن قواعد وتوجيها تلجم الذهن من الوقوع في الخطأ والزلل، وذلك إبان طرح الصياغة الحجاجية، كما أنه من الضروري على الخطيب «معرفة كل المعلومات التي ترتبط بالمجال الذي سيلقي فيه خطبته» [7]، كما أن الحجاج لدى أرسطو ليس ميدانا للأهواء والمشاعر والأحاسيس والوجدان والدواخل والانفعالات، بل العكس من ذلك تماماً، إن الحجاج ميدان تحكيم العقل والمنطق وآليات الاستدلال؛ وذلك من خلال أن الحجاج آلية من آليات الإقناع وليس الاقتناع، لذلك يمكن اعتبار أن نظريته هذه عامة وشمولية وبانورامية جداً، انقسمت عنده إلى قياس واستقراء، هذا ما جعلها تقوض نفسها بنفسها، كان هدفنا من البداية عرض توضيح نقاط قوة هذه النظرية، وفقط، مما جعل من نظريته هذه تشكل ذلك التراث والموروث الأصيل الضخم جداً والممتد في تاريخ الحجاج، سيتم تجاوزها في الخمسينيات من القرن العشرين، عندما سيتم عزل المنطق وآليات الاستدلال عن نظرية الحجاج بل ومع ظهور منطق القضايا الذي عرف بالمنطق الرمزي الرياضي المعاصر، خاصة مع دعاة البلاغة الجديدة، أقصد هنا كتابات ستيفان تولمان وشايم بيرلمان ولوسي وأولبريخت -تيتيكا وغيرهم.

مسرد المراجع والمصادر:

[1] – أرسطوطاليس: الخطابة، ترجمة عبد القادر قنيني، إفريقيا الشرق – المغرب، 2008، ص 12

[2] – أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، راجعها على الأصل اليوناني الدكتور محمد سليم سالم، فضاء الفن والثقافة، دون تاريخ، ص 360

[3] – أرسطوطاليس، المصدر نفسه، ص 15

[4] – حمادي صمود وآخرون، أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، تونس كلية الآداب منونة، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، بدون تاريخ، ص 105

[5] – أرسطوطاليس، المصدر نفسه، ص-ص 22-23-23-25

[6] – أرسطوطاليس، المصدر نفسه، ص 17

[7] – أرسطوطاليس، المصدر نفسه، ص 27