تقسيم الشغل والتبادل


فئة :  مقالات

تقسيم الشغل والتبادل

يعتبر موضوع تقسيم الشغل من أكثر الموضوعات تعقيداً في علم الاقتصاد وعلم الاجتماع. وممّا زاده تعقيداً زاوية النظر التي عالجه من خلالها بعض الفلاسفة في غياب البعد الاقتصادي والسياسي لهذا التقسيم. وسيكون من الإنصاف الإقرار بأنّ كارل ماركس Marx هو الذي استحضر هذا البعد وحلله وفصّله.

أن يكون الشغل وتقسيمه وراء نشأة المجتمعات البشرية، تلك واقعة ما فتئت ترددها الأديـان والفلسفات منذ أقـدم العصور. فالتوراة روت أنّ الله لمّا طرد آدم من الجنة لخطيئة ارتكبها، صاح في وجهه: "بعرق جبينك تأكل خبزك"، ومن المعلوم كما أكد ذلك ابن خلدون أنّ "الفلاحة والصناعة والتجارة (فهي) وجوه طبيعية للمعاش. أمّا الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات إذ هي بسيطة وطبيعية فطرية لا تحتاج إلى نظر وعلم، ولهذا تنسب في الخلقة إلى آدم أبي البشر، وأنه معلمها والقائم عليها، إشارة إلى أنها أقدم وجوه المعايش وأنسبها إلى الطبيعة".[1]

وكما هو معلوم، فإنّ تحصيل صنف واحد من الخبز يحتاج إلى أيدٍ كثيرة وأشخاص عديدين، منهم من يقوم بالحراثة، ومنهم من يقوم بالحصاد، ومنهم من يقوم بفصل الحب عن سنبله، ومنهم من يقوم بطحنه، ومن يقوم بعجنه، ثم من يقوم بإنضاجه في فرن... وكل هذه الأعمال تحتاج إلى أدوات وإلى من يصنعها، مهما كانت بدائيتها.

وكلما سعى الإنسان في تحصيل أصناف أخرى من الطعام احتاج إلى غيره وإلى تعاونهم معه[2]، وهذا ما يسمح بتجمع الناس وتآزرهم، لأنّ الواحد لا يستطيع أن يقوم بأمر ذاته معاشاً، فكيف يفعل دفاعاً عنها، وقد عدم السلاح الذي وهب للحيوان طبيعياً؟

إنّ طلب العيش وحب البقاء هما اللذان كانا وراء نشأة المجتمع عند ابن خلدون الذي يوافق ما جاء في التصور الديني من كون الله فرّق بين الناس معيشتهم في الحياة الدنيا وجعل بعضهم لبعض سخرياً.

وهذا الرأي مشابه لما قاله أفلاطون في الجمهورية، فكل فرد عاجز عن أن يكفي نفسه بنفسه أمام كثرة حاجاته إلى العديد من الأشياء، فيضطر كل فرد أن يصحب معه فرداً آخر ليعينه على القيام بعمل معين. فينشأ من تعدد الحاجات تجمع لعديد من الناس المتعاونين، وهذا هو الأصل في ظهور المدينة (المجتمع). فكل فرد يعطي ويأخذ، ويسلك وفق فكرة كون التبادل يكون في مصلحته، ولذلك تكون الأسس التي تقوم عليها المدينة هي الحاجات، وأولها وأهمها هي الغذاء لحفظ الوجود والحياة، ثم السكن ثم الكساء، من هنا يكون الواحد فلاحاً والآخر بناء وغيره حواكاً (نساجاً)، وغيره صانع أحذية.[3]

لفريدريك إنجلس Engels تصور آخر مغاير لما جاءت به التصورات الدينية والفلسفية المثالية بخصوص الشغل وتقسيمه. فحسب إنجلس في مؤلفه "جدل الطبيعة" فإنّ الشغل هو الذي قام بدور تحويل القرد إلى إنسان. ذلك أنّ "الحيوان كان يكتفي فقط باستخدام الطبيعة الخارجية، وبإحداث تعديلات Modifications فيها من خلال حضوره داخلها، أمّا الإنسان فيقود الطبيعة بفعل التغييرات إلى أن تخدم غاياته، وإلى أن يسيطر عليها. وفي هذا يقوم آخر اختلاف أساسي بين الإنسان وبقية الحيوانات. ويعود الفضل في هذا الاختلاف مرة أخرى إلى الشغل".[4]

فكيف حقق الشغل هذا التغيير؟

"بتطوير الدماغ والإحساسات التابعة له، عمل الوضوح المتناهي للوعي وتحسين القدرة على التجريد والاستدلال، على التأثير على الشغل واللغة، ولم يكفا عن دفعهما إلى مزيد من التحريض على الاستمرار في التحسن. ولم يتوقف عند انفصال الإنسان عن القرد، بل استمر عبر العصور ولدى مختلف الشعوب بدرجات مختلفة من التقدم وانتهى إلى ظهور المجتمع. والشغل هو الاختلاف المميز للمجتمع البشري عن قطعان القردة".[5]

لقد تمكن الإنسان من القيام بالعمليات المعقدة في الشغل بفضل الحركات المترافقة لكل من اليد وأعضاء الكلام والمخ، وعبر الأجيال أصبح الشغل أكثر كمالاً وتنوعاً. ظهر الصيد وتربية المواشي، وتبعها الغزل والنسج (الحياكة)، ثم صناعة المعادن ثم الخزف، ثم الملاحة ثم التجارة، ثم الصناعة فالفن والعلم. إذن تقسيم الشغل هو الذي كان وراء ظهور المجتمع والتبادل واللغة والوعي، كما كان وراء ظهور منافع أخرى، كان الفضل لأفلاطون في ذكرها، قبل ابن خلدون وقبل هيجل.

في إطار حديثه عن نشأة الدولة وعلاقتها بتقسيم الشغل، وحاجة الأفراد إلى بعضهم بعضاً، ينطلق أفلاطون من الخصائص الفردية للناس التي تجعلهم في الوقت ذاته متباينين ومتكاملين، ويرى أننا لسنا جميعا سواء، وإنما تتباين طبائعنا وتوجد بيننا فروق كامنة تجعل كلاً منا صالحاً لعمل معين، وأنّ المرء يؤدي عملاً أفضل إذا تفرغ لعمل واحد وأداه في الوقت المناسب، ومن ذلك يستدل "على أنّ إنتاج كل شيء أوفر وأسهل وأجود إذا أدى كل فرد شيئاً واحداً، هو الشيء الذي يصلح له بطبيعته في الوقت المناسب، وترك جانباً كل ما عداه من الأمور".[6]

في إطار تحليله لـ: "المجتمع المدني" يتناول هيجل Hegel "أنساق الحاجات" بالدراسة. وعلى غرار فلاسفة سابقين كابن خلدون، يميز بين الحيوان والإنسان؛ يرى هيجل أنّ الحيوان لا يتوفر إلا على نسق مغلق وحدود من الحاجات، ومن الوسائل التي يشبع بها هذه الحاجات، خلافاً للإنسان الذي يتميز عنه بكونه كائناً متعدد الحاجات ومتعدد القدرات على إشباعها، ومن بينها قدرة الشغل. والشغل لمّا ينقسم يصير أكثر بساطة، وتزداد كمية المنتوجات التي يوجدها المشتغلون، كما تزداد تبعية الناس بعضهم لبعض. ويمكن اعتبار هذه العناصر آثاراً إيجابية لتقسيم الشغل، غير أنّ لهذا التقسيم آثاراً سلبية إذا استمر تظهر في مكننة الشغل وتعويض الإنسان بالآلة في نهاية المطاف.[7]

يقول هيجل: "إنّ كل ما هو موضوعي في الشغل إنما يتوقف على التجريد الذي تنتجه خصوصية الوسائل والحاجات، مما ينتج خصوصية الإنتاج وتقسيم الأشغال. ويصير شغل الفرد أكثر بساطة بهذا التقسيم، وتصير قدرته في شغله أكثر تجريداً، كما تزداد كمية منتوجاته، وفي الوقت نفسه يعمل هذا التجريد للقدرات والوسائل على إكمال التبعية المتبادلة للناس، وذلك من أجل إشباع رغبات أخرى كما يجعل منها ضرورة كاملة، وأخيراً، فإنّ تجريد المنتوج يجعل من الشغل أكثر آلية، كما يمكن في النهاية أن يتم إقصاء الإنسان وتعويضه بالآلة".[8]

قبل أن نقف عند التصور التاريخي الاقتصادي لتقسيم الشغل لدى ماركس، ينبغي التنبيه إلى أنّ هيجل ألهم فلاسفة واقتصاديين بمنهجه الجدلي وبأفكاره عن العقل والتجريد والمطلق، ومن بين هؤلاء جوزف برودون (1805-1865) P. J. Proudhon الاشتراكي الفرنسي في كتابه: "فلسفة البؤس"، وهو ما أنكره عليه كارل ماركس في كتابه: "بؤس الفلسفة".

يقول ماركس: "إنّ ما فعله هيجل للدين والقانون،... إلخ، يحاول برودون أن يفعله فيما يتعلق بالاقتصاد السياسي".[9]

ما الذي فعله هيجل؟

اعتبر هيجل أنّ الميتافيزياء يمكن إجمالها في طريقة ما ـ يعني في منهج ما- أي الطريقة المطلقة، هذه الطريقة التي يحددها في كتابه "المنطق" بكونها: "القوة المطلقة، الفريدة، العليا، غير المحدودة التي لا يقاومها شيء، إنها ميل العقل لأن يجد نفسه مرة ثانية، أن يميز نفسه في كل شيء".

كما أنها: "تجريد الحركة، وتجريد الحركة يعني الحركة في حالة التجريد، والحركة في حالة التجريد هي الصيغة المحضة المنطقية أو حركة العقل الخالص. وتتألف حركة العقل الخالص من طرحها لنفسها، من معارضتها لنفسها، من تركيبها لنفسها، من صوغها لنفسها أطروحة وطباقاً (نقيضاً) وتركيباً؛ أو إذا كررنا مرة أخرى من إثباتها لنفسها ونفيها لنفسها ونفيها لنفيها".[10]

والآن حينما ننتقل إلى تقسيم الشغل، نجد أنّ برودون طبق المنهج الهيجلي، الطريقة الهيجلية بكيفية ميتافزيقية يعرضها كارل ماركس كالتالي:

"ينتج تقسيم العمل بالنسبة لبرودون سلاسل من التطورات الاقتصادية:

ويعلق ماركس على مفهوم تقسيم العمل* بالنسبة لبرودون بالقول إنّه قانون أبدي ومقولة مجرد بسيطة. وإنّ الطبقات والاتحادات والمشغل والصناعة الضخمة يجب أن تشرح بكلمة واحدة هي التقسيم، دون حاجة إلى دراسة التأثيرات المختلفة التي تمنح تقسيم العمل سمة محددة في كل مرحلة. والحال أنّ من العسير استنتاج كل هذا من كلمة تقسيم، من الفكرة، من المقولة.

يستند برودون إلى آدم سميث Smith الاقتصادي والفيلسوف السكوتلاندي (1723-1790) في نقد تصور ساد عن تقسيم الشغل في زمان سميث وما بعده. فيقول: "كل الاقتصاديين منذ آدم سميث أشاروا إلى ميزات قانون التقسيم ونقائصه، ولكنهم ألحوا على الميزات أكثر من النقائص، لأنّ ذلك كان أكثر خدمة لتفاؤلهم، ولا أحد منهم تساءل عما يمكن أن تكون النقائص بالنسبة للقانون، كيف يقود المبدأ نفسه إلى نتائج متعارضة تعارضاً قاطعاً...".[12]

معلوم أنّ آدم سميث اعتبر الشغل هو منبع الثروة، وهو المقياس الفعلي للقيمة التبادلية لكل الخيرات، وأنّ هذه القيمة يمكن أن تتضاعف بتقسيم الشغل ومراكمة رأس المال الذي يتيح الرفع من إنتاجية العمل. كما اعتبر الاقتصاد قادراً على الانتظام بكيفية عفوية ـ وسعيدة ـ داخل كل مجتمع يكون الإنسان فيه منقاداً بدافع مصلحته الشخصية، وهذا هو القانون الطبيعي المحكوم بـ "اليد الخفية"**. يقول آدم سميث: "...أمّا الإنسان فهو تقريباً دائماً في حاجة إلى نجدة أشباهه، ومن غير المجدي أن ينتظر عطف هؤلاء، وسيكون أكثر يقيناً من نجاحه إذا توجه إلى مصالحهم الشخصية وأقنعهم بالمنافع الشخصية التي توجب عليهم أن يفعلوا ما يأمله منهم، وهذا ما يجعل من الذي يقدم صفقة يعطيها المعنى التالي: "أعطني ما أنا في حاجة إليه وستنال مني ما أنت في حاجة إليه كذلك".[13]

إنّ تقسيم الشغل يؤدي إلى الزيادة في كمية المنتوج الذي يمكن لعدد معين من العمال أن يوفره، وذلك نتيجة لعوامل ثلاثة هي:

ـ أنّ تقسيم الشغل يتيح زيادة المهارات الفردية لكل عامل،

ـ أنّه يتيح ربح الوقت الذي يضيع عادة في التحول من نوع من الأعمال إلى نوع آخر،

ـ أنّه يمكّن من اختراع عدد كبير من الآلات التي تسهل العمل وتنقص من المدة الزمنية التي يستلزمها.

غير أنّ برودون سرعان ما يسقط في مثالية رومانسية ودينية عن تقسيم الشغل، منها فوائد وسقطات (نقائض) هذا التقسيم، وكذلك ظهور المجتمعات والطوائف. يقول: "في هذه الساعة المهيبة لتقسيم العمل، طفقت الرياح العاصفة تهب على البشرية. إنّ التقدم لا يحتل دائماً مكانة بطريقة متساوية وموحدة...إنه يبدأ باكتساب بعض الفوائد قليلة العدد... إنه اختيار الناس لجانب التقدم الذي احتفظ بالاعتقاد بتفاوت الطبيعة والعناية الإلهية للظروف، إنّ الاختيار هو الذي أوجد الطوائف وأسّس كل المجتمعات تأسيساً دينياً". (برودون، المجلد الأول، ص 94)[14]

والحال أنّ سميث أكثر تقدماً من برودون على الرغم من تأخره عنه في الزمان، فالأول يتمتع برؤية اقتصادية سببية واجتماعية، بينما الثاني يظل سجين رؤية عقلية مثالية ودينية يستمدها من هيجل فيلسوف الفكرة المطلقة، والطريقة المطلقة. يستشهد كارل ماركس بأندري أور A. Ure لإبراز تصور سميث لتقسيم العمل فيقول: "عندما كتب آدم سميث مبادئه الخالدة عن الاقتصاد، عن الآلة الأوتوماتيكية التي كانت بالكاد معروفة، كان مقاداً إلى اعتبار تقسيم العمل مبدأ جليلاً للتحسين الصناعي، وأظهر في مثاله عن صناعة الدبابيس، كيف أنّ كل صانع يدوي ـ وهو قادر على تحقيق مهارته في نقطة واحدة عن طريق الممارسة العملية ـ أصبح أرخص عامل وأسرعه. ورأى في كل فرع من فروع المانيفكتورة (المصنع) أنّ بعض الأجزاء تبعاً لذلك المبدأ تنفذ تنفيذاً سهلاً، مثل قطع أسلاك الدبابيس إلى أطوال محددة، وبعض الأجزاء كانت صعبة نسبياً مثل تكوين رؤوس الدبابيس وتثبيتها، ولذلك استنتج أنّ لكل فرع عاملاً ذا قيمة مناسبة وكلفة تتحدد بشكل طبيعي، وأنّ هذه الملاءمة تشكل الجوهر الأساسي لتقسيم العمل".

يضيف أندري أور معلقاً: إنّ ما كان في زمن الدكتور آدم سميث أمراً واضحاً مفيداً لا يمكن أن يستخدم الآن دون مخاطرة في تضليل الفكر العام فيما يتعلق بالمبدأ القويم للصناعة المانيفاكتورية (داخل المعامل). ذلك أنّ تقسيم الشغل وملاءمة العمل للعمال النابغين لا يؤبه به إلا قليلاً في الاستثمار المصنعي. أمّا حين تتطلب العملية مهارة خاصة وثباتاً في اليد، فإنها سرعان ما تؤخذ من العامل الماهر المنكب على شواذات من شتى الأنواع، وتعطى بدلاً منه لآلة خاصة تدار ذاتياً (بصفة آلية). تجعل من أي طفل قادر على إدارتها، وهكذا يعوض الطفل المستجد العامل الماهر.[15]

أمّا التعقيب الذي يقدمه ماركس فهو: "إنّ ما يميز تقسيم العمل داخل الصناعة الحديثة هو أنه يخلق وظائف اختصاصية واختصاصيين كما يخلق معهم البلاهة الصناعية".[16]

إنّ البلاهة الصناعية الناجمة عن الإفراط في التدقيق في الاختصاص الذي يرجع بدوره إلى الإفراط في تقسيم الأشغال وتعيين الأعمال هي ما يعبّر عنه البؤس الصناعي والاغتراب النفسي. وسواء تعلق الأمر بعامل يعاني من إرهاق نتيجة أعمال مجزأة ومتعبة أو بعامل يعاني من تعطيل لعمل الفكر وشل لقدرات الجسد بتحويل لخدماته من آلة إلى أخرى دون أدنى تمثل لمهامه في الآلة الثانية لأنها لا تتطلب خبرة كبيرة أو مهارة مهنية عالية، إذ يمكن للأطفال والنساء من غير المدربين أن يقوموا بالخدمة نفسها؛ فإنّ تقسيم الشغل داخل المصانع حاد عن بعض أهم الغايات التي وضعها له سميث، وسقط في نقائص أدت بالعامل إلى متاهات نفسية وصعوبات على مستوى التوافق المهني.

كل ما ذكرناه يجوز أن يدخل في إطار ما يمكن أن يصطلح عليه بتقسيم الشغل في مستواه الميكروسوسيولوجي. أمّا تقسيم الشغل فيما يمكن أن يصطلح عليه بالمستوى الماكروسوسيولوجي، أي تقسيم الشغل في علاقته بتاريخ المجتمعات وتطورها الاقتصادي وتحولاتها السياسية، فعلياً كما حصلت، فهو ما اضطلع كارل ماركس بتبيانه في مجموعة من مؤلفاته الفردية أو المشتركة مع أنجلس مثل: "بيان الحزب الشيوعي" و"بؤس الفلسفة". وهو موضوع عريض لأنه يحلل التاريخ والفاعليات والأنظمة. ويمكن أن نضرب مثلاً عما كتبه ماركس في هذا الصدد: "استغرق التاريخ ثلاثة قرون بكاملها لتوطيد الانقسام الأول الكبير للعمل، وهو التمييز بين المدينة والريف... وإذا أخذت هذا المظهر لتقسيم العمل فقط، فلديك الجمهوريون القدامى، والإقطاعية المسيحية، وإنجلترا القديمة بباروناتها، وإنجلترا الحديثة بلوردات قطنها.

"في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، عند ما لم تكن آسيا موجودة إلا عن طريق القسطنطينية، عندما كان البحر الأبيض مركز النشاط التجاري، كان لتقسيم العمل شكل مختلف جداً، مظهر مختلف جداً عن مظهره في القرن السابع عشر عندما امتلك الإسبان والبرتغاليون والهولنديون والإنجليز والفرنسيون المستعمرات الموطدة في كل أجزاء العالم".[17]

لاشك أنّ تفصيل الحديث عن كل مرحلة سيؤدي إلى نتائج من شأنها أن تظهر أن تقسيم الشغل لا علاقة له بالأفكار المثالية والدينية ومقولات المنطق، كما حاول أن يقرأ بها هيجل الطبيعة والتاريخ والعلم، وأن يقترضها برودون ليقرأ بها الاقتصاد وتقسيم الشغل.

لا يمكن أيضاً أن نفصل تاريخ تطور الآلة عن تاريخ تقسيم الشغل. بدأ تاريخ الآلة من نهاية القرن الثامن عشر... والآلة هي توحيد أدوات العمل... إنّ الأدوات البسيطة، المتراكمة، الأدوات المركبة، تحركها أداة مركّبة بواسطة آلة يدوية واحدة تدار بواسطة الإنسان، فتحرك هذه الأدوات بواسطة القوى الطبيعية أو بواسطة الآلات، بواسطة نظام من الآلات ليس له محرك، ونظام من الآلات ليس له محرك أوتوماتيكي، هذا هو تقدّم الآلة.[18]

سجّل ماركس أنّ النجاح الكبير لتقسيم العمل ابتدأ في إنجلترا بعد اختراع الآلة ـ فهي مهد الثورة الصناعيةـ قبل اختراع الآلة كان النساجون والغزالون يعملون إلى جانب الفلاحين، وكانوا لا يختلفون عن نظرائهم في البلدان المتخلفة. وعمل اختراع الآلة على فصل الصناعة (المانيفاكتورية) عن الصناعة الزراعية، وفصل الغزّال عن النسّاج موطنياً، فأصبح الأول يسكن إنجلترا أما الثاني فيستوطن جزر الهند الشرقية. قبل اختراع الآلة كانت صناعة بلد من البلدان تعتمد بشكل رئيس على المواد الخام المحلية (في إنجلترا الصوف، وفي ألمانيا الكتان، وفي فرنسا الحرير، وفي جزر الهند الشرقية وبلاد المشرق القطن...) وبعد اختراع الآلة والبخار استطاع تقسيم العمل أن يجمع أبعاد تلك الصناعة الضخمة المنفصلة عن التراب الوطني والقائمة في مجملها على السوق العالمية، والتبادل العالمي والتقسيم العالمي للعمل.[19]

أي يحتاج الأمر على المستوى الماكروسوسيولوجي لتقسيم العمل إلى تحليل هذا التقسيم بين العمل الزراعي والعمل الصناعي داخل البوادي، ثم إلى التقسيم بين الأعمال التي تتم في البوادي وتلك التي تتم في المدن والحواضر خاصة الصناعية منها، ثم إلى التقسيم بين الأعمال التي تتم بين البلدان المصدرة للمواد الخام وتلك المستوردة لها داخل السوق العالمية للتبادل التجاري، وما يحكم هذه السوق من معاملات واحتكارات ومضاربات تتجاوز المواد ذاتها إلى النقد.

وهنا يبرز دور التاريخ الاقتصادي للدول عبر أهم الفترات التاريخية التي شهدت تقسيماً للأشغال وتبادلاً للخدمات والمواد والمصالح، ودور الآلات في ذلك التقسيم وذلك التبادل. وهو أمر يلتمس في غير هذا الموضع.

والخلاصة ـ كما يلاحظ ويجمل ذلك فرانسيس بود F. Baud ـ لو أنّ كل إنسان التزم دائماً بإنتاج ما هو محتاج إليه بنفسه، لكنّا لازلنا نعيش في المرحلة المتوحشة، في ظل ظروف عابرة، مذعنين لكثرة من الأشغال التي تستغرق كل وقتنا ولا تترك لنا إمكانية تحسين وسائل إنتاجنا، بحيث لن نعرف إلا منتوجات منطقتنا. ويرجع الفضل إلى تقسيم الشغل داخل الجماعة الاجتماعية، فهو الذي أتاح لكل واحد تحسين تخصصه ما دام أصبح بإمكانه أن يتفرغ له كلياً، مثلما أتاح تجميع الجهود من أجل الرفع من قوة الإنتاج.[20]


[1] عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار القلم، 1986 (ط 6)، ص 383

[2] إلى مثل هذه الأفكار أشار ابن خلدون أيضاً في المرجع السابق، ص 42

[3] Platon, La République, Traduction: Baccou, Paris, Garnier – Flammarion, 1966, pp: 117-118

[4] Frederic Engels, Dialectique de la nature, Traduction: Bottigelli, Paris, Editions sociales, 1952, p: 180

[5] Ibid, p: 176

[6] أفلاطون، الجمهورية، ترجمة د. فؤاد زكريا، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليـف والنشر، 1968، ص 56

[7] Christian de Rabaudy et Béatrice Rolland, Sophia, Paris, Hatier, 1974, p: 338

[8] G. W.F. Hegel, Principes de la philosophie du droit, Traduction de Kaan, Paris, Gallimard, (Coll. Idées), 1996, pp: 227-229

[9] كارل ماركس، بؤس الفلسفة ـ رد على فلسفة البؤس لبرودون، ترجمة: حنا عبود، دمشق، دار دمشق للطباعة والنشر، ص 101

[10] كارل ماركس، المرجع السابق، ص 101

[11] نفسه، ص 120

[12] كارل ماركس، المرجع السابق، ص 121

[13] Adam Smith, Recherches sur la nature et les causes de la richesse des nations, Traduction française, Paris, Garnier, Flammarion, p: 84

[14] كارل ماركس، مرجع مذكور، ص 123

[15] الدكتور أندري أور: فلسفة المانيفاكتورات أو الصناعة التقليدية، مجلد1، فصل1، ص ص 133-135

[16] ذكره ماركس في كتابه السابق: "بؤس الفلسفة"، ص ص 133–135

[17] الدكتور أندري أور، المصدر السابق والمرجع السابق

[18] كارل ماركس، مرجع مذكور ص ص 135-136

[19] كارل ماركس، مرجع مذكور، ص 121

[20] كارل ماركس، المرجع السابق، ص ص 131–131