جدلية الكائن والممكن في الآداب السلطانية صورة المُلك العضوض وظل الخلافة الراشدة


فئة :  مقالات

جدلية الكائن والممكن في الآداب السلطانية صورة المُلك العضوض وظل الخلافة الراشدة

مقدمة

لما ولّت الخلافة عن الواقع الإسلامي صارت الكتابات السياسية تتحوّل من المطالبة بتطبيق الممكن؛ أي مستلزمات الخلافة الشورية، إلى الدعوة للحفاظ على الكائن؛ أي المُلك العضوض العادل، وذلك في التفاتة إلى مستجدات الواقع السياسي المفارقة تمامًا لما كان عليه الوضع في عصر الصحابة، ولما هو مقرّر في نصوص الشريعة.

فظهرت مجموعة من الكتابات هي عبارة عن حكم ونصائح ووصايا مأخوذة من الفلسفات اليونانية والفارسية والبيزنطية، يتم إسقاط مفاهيمها ومقتضياتها على مجتمع غير الذي وضعت فيه وله، وهو المجتمع الإسلامي، في غياب تأصيل فقهي وقانوني يستوحى من تقاليده وقيمه. ولهذا انتقد ابنُ خلدون ابنَ المقفع في طريقة عرضه لمسائل السياسة في تآليفه التي يعوزها البرهان، مكتفيًا بتجليتها "في الذكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسل وبلاغة الكلام".(1)ثم عاب كذلك على أبي بكر الطرطوشي صاحب "سراج الملوك" طريقته التي حاول من خلالها عبثاً المزاوجة بين نصوص الوحي ومتطلبات السياسة، فلا هو "يصادف فيه الرمية ولا أصاب الشاكلة ولا استوفى المسائل ولا أوضح الأدلة، إنما يبوب الباب للمسألة ثم يستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس مثل بَرزَجَمهَر والمَوبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرْمِس وغيرهم من أكابر الخليقة، ولا يكشف عن التحقيق قناعًا ولا يرفع البراهين الطبيعية حجابًا، إنما هـو نقـل وتركيب شبيه بالمواعظ".(2)

ومنبع هذا النقد عند ابن خلدون، يكمن في موقفه العام من تدخل العلماء في شؤون السياسة، نظرًا لأفكارهم النظرية البعيدة عن تغيرات الحكم ومقتضيات السياسة التي تنبني على المتابعة اليومية لتقلبات الوسط الاجتماعي والسياسي، لأجل الإجابة عن الإشكالات والتطلعات التي يفرضها الواقع بالاجتهاد المتجدد في النوازل الطارئة، بدل الاكتفاء برد بعضها إلى بعض قصد البحث عن عناصر الالتقاء والتشابه فتقاس عليها، مع أنها في الحقيقة ليست كشأن الفروع الفقهية المعروفة لدى الفقهاء.

ومن هنا قرّر ابن خلدون استنتاجه الشهير كقاعدة في الاجتماع السياسي، بأنّ "العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها، والسبب في ذلك أنّهم (...) يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي، فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلّها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلاّ بعد الفراغ من البحث والنظر (...) فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية".(3)

وما دمنا بصدد الحديث عن مؤلفات العلماء في الفكر السياسي، نختار الوقوف على تجربتي علمين بارزين في الكتابة السياسية، وكلاهما كاتب وموظف في البلاط، هما: عبد الله ابن المقفع، وأبو الحسن علي بن حمد بن حبيب الماوردي.

وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي وجهه الجاحظ لوظيفة الكُتاب حين بين رداءة مذاهبهم وأفعالهم ولؤم طبائعهم وأخلاقهم، فإنّهم مع ذلك "في الذروة القصوى من الصَّلف، والسِّنام الأعلى من البذخ، وفي البحر الطَّامي من التيه والسَّرف، يتوهم الواحد منهم إذا عرض جبته وطول ذيله وعقص على خده صدغه وتحذف الشابورتين على وجهه أنه المتبوع ليس التابع والمليك فوق المالك..".(4) ثم وصفهم بالتُّبَّع الذين هم فيمعنى الخَدَم، إلى أن قال فيهم: "فكل كاتب فمحكوم عليه بالوفاء ومطلوب منه الصبر على الأُواء، وتلك شروط متنوعة عليه ومحنة مستكملة لديه، وليس للكاتب اشتراط شيء من ذلك بل يناله الاستبطاء عند أول الزلة وإن أكدى، ويدركه العذل بأول هفوة وإن لم يرض".(5)

فإنّه مع ذلك قد يكون لهم تأثير معين في توجيه مسار الملك، وفي مد قاموس السلطة بمفاهيم جديدة في حقل الثقافة والعلم؛ فالكاتب ليس فقط موظفًا تقنيًا أو "مجرد صائغ فني للمراسلات الرسمية، بل بحكم اتصاله بأعلى موقع لإصدار القرار هو كاتب سياسي قبل كل شيء"(6)، بل ليس كاتبًا سياسيًا فحسب، حيث مع الحاجة الملحة إليه بجانب الحاكم اقتبس من هذا الأخير وظيفة أخرى من صميم حراسة الدين وحفظ مصالح الرعية.

ولهذا لا نستغرب أن يقارن ابن عبد ربه بين الكتاب وبين القضاة، دون أن يفوته أن يرمي بإشارة سياسية لمكانة هؤلاء معًا في تدبير شؤون الدولة؛ فنص على أنه "للكتاب أحكام بينة كأحكام القضاة يعرفون بها وينسبون إليها ويتقلدون التدبير وسياسة الملك دون غيرهم، وبهم يقام أَوَدُ الدين وأمور العالمين"،(7) ولذلك تتنافس الأقلام السياسية في الوصول إلى مجلس الحاكم لنيل حظوته وللجلوس على ديوانه.

1-ابن المقفع وحسن السلوك في نصيحة الملوك

ولنبدأ أولا في النظر إلى تجربة ابن المقفع (ت 148هـ) الكاتب الكبير وأحد منظري الآداب السلطانية؛ فقد كان من الموالي غير العرب لأن أصله فارسي، وهذا ما أهّله للاطلاع على تراث الفرس في فلسفة الحكم وأخلاق الملوك. من هنا انتقص من شأن العرب في السياسة، فجاء كي يعلمهم نُظُمها وآدابها على الطريقة الساسانية، فبدأ بتأليف كتب تتوزع ما بين نصائح ووصايا موجهة إلى السلطان، وأوامر وتحذيرات موجهة إلى العوام.

ولعل "رسالة الصحابة" تشكل أهم ما كتبه ابن المقفع واسمها يحمل أكثر من إيحاء دلالي، فهي تفصح عن نواياها الخاصة في حصر من يعنيهم الخطاب ومن يهمهم الأمر، إذ هي أساسًا مكتوبة للصحابة الذين يقصد بهم خاصة الخاصة من الكتاب أمثاله، الذين يُكتب لهم الوقوف في حضرة السلطان، مع ما يستلزمه ذلك من استحضار لهيبة المقام وأدب المجلس، وذلك لأن"حفظ هذا الباب أوجب على الإنسان من حفظ عرضه، وألزم له من قوام بدنه"(8)، وهكذا بات من مهمة الكتاب الالتزام بأخلاقيات النصح للحكام عند مخاطبتهم "بالتزلف إليهم بسحر البيان الذي يمازج الروح لطافة ويجري مع النفس رقة".(9)

وهذه النظرة الطوباويّة والمثالية إلى السلطان من قبل الكتاب، جعلت الكثير منهم ممزقًا بين مبادئه وواقعه المعيش؛ فالمبادئ تحيل على جملة مفاهيم المساواة والحرية والكرامة، والواقع يتحرك بمنطق قوامه العيش والمال قبل الفكر والقيم.وهذا ما يجعل صاحبنا في مفترق الطرق. بَيْد أنه في آخر المطاف يَسْتسلِم لأمر الواقع، فيُهاجِر غَيَاهِب الزهد إلى عوالم المال والثروة، فالمال صار مفتاح كل شيء "فلا يظهر المروءة إلا المال، ولا الرأي والقوة إلا المال (...) ومن لا مال له فلا شيء له، والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس، وهو مَسْلبة للعقل والمروءة ومذهبة للعلم والأدب، ومعدن للتهمة ومَجْمعة للبلايا"(10).ولبلوغ هذا المال، لا بد أن يسخّر علمه في خدمة السلطان، ويقدّم من أجل ذلك مشروعه الفكري المبثوث في رسالة الصحابة الذي"ظاهره إداري وهدفه إيديولوجي سياسي"(11)، وقد تناول فيه مسائل الحكم والإدارة كما ينظر إليها.فحينما يتناول قضية فقهية وأصولية في غاية الأهمية تتعلق بالاجتهاد مثلاً، تنازعتها آراء المتخصصين، ولم تنتهِ فيها إلى قرار تام وحاسم، بل تركت مجال البحث فيها مفتوحًا، نجد صاحبنا ينفرد برأي خاص حينما يسحب المسألة من زاويتها العلمية المعروفة لدى الفقهاء والأصوليين، ليقاربها من منظور سياسي، إن لم نقل إيديولوجي صِرف.

فقد طالب بتوحيد الشريعة وتقنين الفقه والقضاء لمنع تعدد الفتاوى والأقوال في المسألة الواحدة، فلا يعمل إلا برأي مؤسسة السلطة بدل الاختيار بين آراء المجتهدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وفي هذا السياق تمنى ابن المقفع "لو رأى أمر أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فتُرفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعظم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه وكتب بذلك كتابًا جامعًا".(12)

ومن المعروف أن عهد ابن المقفع لم يعرف ظهور المذاهب الفقهية المتعددة، ومع ذلك استبق زمانه، ودعا إلى وضع مذهب فقهي موحد يجمع شتات الفقه والقضاء. وقد شكّلت دعوته هاته طموحًا سياسيًا سبق للسلطة السياسية أن أفصحت عنه صراحة وأوعزت إلى العلماء بتبنيه.

فقد أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الإمام مالك بأن يأذن له باتخاذ كتابه "الموطأ" مرجعًا فقهيًا رسميًا للدولة ويلزم الناس بالاحتكام إليه، إلاّ أن مالكاً رفض طلبه بحجة أن الخلاف ثابت عن الصحابة والتابعين؛ فلا معنى لإجبار الناس على رأي واحد بعدهم، وفيه من التعسير عليهم وتضييق ما وسعه الله عليهم.

وأخذًا بهذا الاعتبار، فدعوة ابن المقفع إلى توحيد الفقه والقضاء موقف سياسي يرمي إلى إضعاف المعارضة التي تنتقد السلطة، فضلاً عن كونها مرفوضة عقلاً وشرعًا، وتعتبر انتكاسة فكرية تنطوي على مخاطر في الاجتماع السياسي، وما يزيدها غموضًا وغرابة ويفقدها مصداقيتها العلمية أن يجعل الكاتب مهمة الاجتهاد في أياد تعوزها الأمانة في العلم والرسوخ فيه، فيجب برأيه أن يعهد إلى السلطان التحكيم في المسائل الخلافية وفك النزاع فيها باجتهاده الذي يلهمه الله.

ويؤكد ابن المقفع في موضع آخر من كتابه "رسالة الصحابة" أن الله بعد أن منّ على الناس "بدينهم الذي لم يكن يسعه رأيهم (...) جعل ما سوى ذلك من الأمر والتدبير إلى الرأي".(13) والرأي هو الاجتهاد وبذل الوسع في استنباط الأحكام فيما لا نص فيه أو فيما يحتاج إلى تأويل ونظر، ثم هو تنزيل للنص الديني في الواقع وتدبير لمشاكل الحياة، ولكن من يملك حق التدخل في إبداء هذا الرأي حسب ابن المقفع، هل هم العلماء المتخصصون في إصدار الفتاوى، أم هم السلاطين الذين يُعهد إليهم تسيير الشأن العام؟

يحسم ابن المقفع بشكل قاطع الرأي لصالح رجل السلطة الذي يطاع أمره ولا يعصى ويستأثر به دون بقية الناس؛ فالرأي إذن "إلى ولاة الأمر ليس للناس في ذلك الأمر شيء إلا الإشارة عند المشورة والإجابة عند الدعوة والنصيحة بظهر الغيب"(14). هكذا إذن يعلن ابن المقفع عن نيته محاصرة المجتهدين والباحثين باختزال الرأي في رأي السلطان، وإذا كان للناس شيء في ذلك الرأي، فلا يكون إلاّ من باب "الشورى المعلمة"؛ أي إسداء النصح واقتراح أفكار تطرب آذان السلطان يأخذ بها أو لا يفعل، لكونها غير ملزمة في حقه سيرًا على رأي بعض الاتجاهات الفقهية. وعليه، فالسلطان لا معقّب لحكمه، له الرأي من قبل ومن بعد، ولذلك لم تكن المشورة إلا نوعًا من النصيحة، ومن هنا ينوب الطرطوشي عن صاحبنا دون أن يجد حرجًا في أن يهمس بكل تواضع في أذن السلطان برأي ونصح أخوي، ويعرض عليه في أسلوب لطيف يجمع بين الدعوة إلى الشورى دون إغفال التأكيد على سمو مكانته، في إشارة خفيفة إلى أهمية الاقتراح على السلطان وانفتاحه على غيره من أهل المشورة مخاطبًا إياه: "لا تقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر منك الحاجة إلى رأي غيرك"(15).

فمفهوم الرجال عام وواسع يحتاج إلى تدقيق وضبط، ولمّا جاء في سياق من يشاورهم الحاكم، فإنّه ينصرف حتمًا إلى من حاز القرابة من البلاط، ونال بسببها علو الشأن ورفعة المكانة، وهؤلاء ليسوا سوى حاشية الملك من وزراء أو وعاظ أو كتاب، إذ "لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء إلا بالمودة، ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف"(16)، إلاّ أنّه مع ذلك يعترف بأنّه: "قد يسعى إلى أبواب السلطان أجناس من الناس كثيرًا (...) فهو مجمع البر والفاجر والعالم والجاهل والشريف والوضيع"(17).

وهؤلاء لهم "مزية وفضل، وهي مكرمة سنية حرية أن تكون شرفًا لأهلها وحسبًا لأعقابهم وحقيقة أن تصان وتحظر، ولا يكون فيها إلاّ رجل بدر بخصلة من الخصال، أو رجل له عند أمير المؤمنين خاصة بقرابة أو بلاء، أو رجل يكون شرفه ورأيه وعمله أهلاً لمجلس أمير المؤمنين وحديثه ومشورته..."(18).

ومن هنا نفهم كم كان الكاتب متطلّعًا لنيل الحظوة وفرصة العمر التي لا تفوت للتقرب من الحاكم، حتى تتسنى له مشاركته في آماله وآلامه، ثم يجعل من نفسه موضع الثقة والإخلاص للأمير، يشير عليه عند الاستشارة ويجيب عند الدعوة وفي ذلك غاية المنى.

نلحظ مما سبق، أن ابن المقفع بعد أن حجر على الناس في الاجتهاد، لما خصه بالسلطان وحده، ثم أسقط الشورى على الأمير، فإنّه لم يُبقِ للناس إلاّ الطاعة والتزام الأوامر والكفّ عن المساءلة والاعتراض، لصدّ الفتنة والهرج ولدعم الاستقرار والأمن في كيان المجتمع؛ فالرعية "إن أخذت بالشدة حميت، وإن أخذت باللّين طغت"(19).

وعلى هذا الأساس، تصير العلاقة بين الراعي والرعية علاقة تبادل للخدمات في إطار واجب ما يقع على عاتق كل منهما على حدة؛ فالإمام واجبه الاجتهاد والنظر، والأمة واجبها السمع والطاعة في المنشط والمكره، حتى ولو كان الإمام على باطل، فإن ذلك لا يسوغ للناس الخروج عليه والوقوف مع غيره ولو ظهر منه الصواب، لأن المصلحة تقتضي الحفاظ على النظام العام الذي على رأسه الحاكم المخول رعاية رسومه والذود عن حماه.

وهذا الافتراض المزعوم، خطأ السلطة وصوابية المعارضة، قد تنبه إليه ابن المقفع وأظهر فيه رأيه الذي لا يخرج عن المواقف السابقة، وإن أبان فيه عن مكر سياسي ودهاء مفرط لا يخفى على ذي نظر، متوسّلاً المقارنة بين الراعي والرعية، ومآل ذلك على مستقبل المجتمع: "فإذا كان الإمام يُعصى في المعصية، وكان غير الإمام يطاع في الطاعة، فالإمام ومن سواه على حق الطاعة سواء، وهذا قول معلوم يجده الشيطان ذريعة إلى خلع الطاعة، والذي فيه أمنيته لئلا يكون الناس نظائر، ولا يقوم بأمرهم إمام ولا يكون على عدوهم منهم ثقل"(20).

فانظر كيف تحايل الكاتب ودفع رأي الغير ولو أصاب الحق لينتصر لرأي الحاكم ولو جانب الصواب، مخافة أن تستوي القمة مع القاعدة، ويحدث الخلل في النظام وتسقط الدولة وتنكسر شوكتها بدحر علو مكانة الإمام، فتحلّ الثورة والفتنة وتقود المعارضة وينقاد لها الرعاع أو هكذا تصوّر الكاتب. بهذا الموقف الأخير يكون ابن المقفع قد ختم حلقة نظريته الاستبدادية ذات المنبع الفارسي المبنية على محورية الإمام وهامشية الأمة، مما يؤكد مدى وفاء الكاتب لتراثه الذي أراد أن يقتحم به العقل السياسي العربي آنذاك، ويحدث نقلة نوعية في نظام الحكم في المجال العربي الإسلامي الذي انفتحت شهيته لتقبل أفكار تحررية مستوحاة من الإمبراطوريات.

2-وظيفة الوعظ السياسي في بنية المشروع النهضوي للماوردي

بعد أن كشفنا عن جزء مهم من أدبيات ابن المقفع في الفكر السياسي، حتى مكّننا ذلك من تسجيل ملاحظات على مشروعه الفكري السياسي، نشرع الآن في طرق أبواب كاتب آخر لا يقل أهمية عن الأول، ألا وهو الفقيه أبو الحسن الماوردي صاحب "الأحكام السلطانية" أحد أعمدة الفقه السياسي الإسلامي؛ فالماوردي فقيه شافعي على دراية كبيرة بالفقه والأصول، وهو كذلك على إطلاع بالتراث السياسي الفارسي، وهذا ما أكسب فكره تنوعًا وثراءً لم يجد من خلاله غضاضة في إخضاعه وتطويعه لأجل المزاوجة بين العقيدة والسياسة.

وهذه المزاوجة والانفتاح على ثقافة الآخر بلورت بشكل عام لدى الماوردي قدرة على تطوير الآداب السلطانية من الاستلهام من ثقافة أحادية المصدر، التي هي الفقه، إلى الاستمداد من حضارة العجم مضافة إلى تراث العرب، إلا أن هذه الآداب لم يحصل فيها الانسجام المطلوب، بقدر ما تحكم فيها التلفيق، حتى "طغى فيها مأثور الآداب الدنيوي وظل فيها المأثور الديني نصًا تبريريًا لا أقل ولا أكثر"(21).

وهذه الإشكالية؛ أي تبعية الدين للفكر الفارسي في الآداب السلطانية موجودة في أغلب الكتابات السياسية المشهورة، والسبب في ذلك راجع إلى التحول الجذري في الساحة السياسية خلال العهدين الأموي والعباسي. فحينما اندثرت أخلاقيات الحكم الإسلامي من شورى وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وسياسة شرعية قائمة على مقاصد مقطوع بحجتها، صارت الأحكام الفقهية المرتبطة بها غريبة عن التداول السياسي والممارسة السياسية، وبالتالي احتاج الوضع الجديد إلى قاموس سياسي جديد يلائمه ويستجيب لتطلعاته.

ومن هنا ليس صحيحًا القول إن "سبب شيوع أدبيات نصائح الملوك في الثقافة السياسية لدولة الخلافة، راجع بالأساس إلى موقف المسلمين من العلم ومن الحكمة التي هي ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها"(22)، بل إن ظهور تجليات الترف والبذخ وانتقال الدولة من سنن الخلافة إلى حلل الإمبراطورية، هي التي حتمت على المسلمين استيراد حلول أجنبية من الفكر السياسي تحاكي التطور الحداثي الحاصل على المستويين الدستوري والإداري في المجال المحلي.

وهكذا، فإن تسرب مفاهيم "العهد الأرْدَشِيري" إلى الآداب السلطانية "يشكل لحظة انقطاع قوية في عملية إعادة تأسيس دولة المدينة في المشروع السلطوي الأموي والعباسي، ثم مشروع السلطنات والإمارات التي تعددت في محيط الجغرافية الإسلامية منذ القرن الثالث للهجرة"(23). فهذا الغزو الفكري أسهم إذن، في خلق مناخ سياسي جديد، خلخل موازين المرجعية السياسية، من مركزية الثقافة الإسلامية إلى تعدد ثقافي يمزج بين ما هو أصيل وما هو دخيل، وهذا الأخير عمل على بثه كُتاب الآداب السلطانية من ذوي الأصول الفارسية كابن المقفع أو حتى الكتاب العرب كالماوردي. إذ شارك من جانبه في دعم حضور النظم الأجنبية في هذه الآداب من خلال مؤلفاته المتعددة، التي مارس فيها نوعًا من التوفيق والوصل بين الشريعة والحكمة، وما بين المأصول في الفقه والمنقول من الفرس وخاصة في كتابه: قوانين الوزارة وسياسة الملك، الذي لم يسلم فيه من "طغيان النموذج الفارسي في التدابير السياسية والاجتماعية المقترحة من طرف الفقيه الشافعي، بل إنّنا نجد هذا الأخير يتبنى دون تحفظ يذكر نفس التقسيم الطبقي الفارسي موردًا إياه في معرض المدح والتنويه"(24).

ويبقى المعطى الديني في فكر الماوردي، يتوارى شيئًا فشيئًا أمام الحضور القوي للثقافة الفارسية، فلا يذكر الدين إلا حينما يأتي في سياق تعزيز دعائم الملك والدولة التي تقوم في نظره على أمرين: سياسة وتأسيس؛ أي سياسية الملك وتأسيس الملك، والتأسيس يكون بتأسيس الدين وتأسيس القوة وتأسيس المال والثروة. ويعتبر الماوردي تأسيس الدين "أثبتها قاعدة وأدومها مدة وأخلصها طاعة"(25)، وبه تصلح أحوال الناس ويحصنون ضد الفساد والفتنة ويتعزز نفوذ الدولة ويطاع الملك، وبهذا التوظيف للدين تتمكن السلطة السياسية من "تجديد شرعيتها وإعادة بناء أسسها، فقد اعتبرت الدين نوعًا من الحزبية المرتبطة بالدولة"(26).

وهذا ما قامت به الدولة العباسية على وجه الخصوص، إذ بنت شرعيتها على أساس ديني، سرعان ما دخل المذهب العقدي والفقهي ليصير ناطقًا رسميًا للأنظمة السياسية الحاكمة ويتحول إلى وسيلة قمع فكري للمخالفين وأداة قضائية لفض النزاعات والإصلاح بين المتخاصمين. وفكرة المصالحة بين الدين والسياسة وتعزيز علاقاتهما، تم استلهامها من التراث الأردشيري الذي لا يفرق بين الدين والدولة ويجعلهما كيانًا موحدًا، "فالملك والدين أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أساس الملك وعماده، ثم صار الملك بعد حارس الدين"(27).

ومع ذلك فلا يقبل الملك بالدين إلا إذا كان سندًا رسميًا له، يحمي مصالحه ويقوي شرعيته نظريًا وفعليًا عبر علاقة احتوائية لا تحالفية. وهذا الطرح هو ما يلمح إليه الماوردي في موقفه من تعزيز مكانة الدين في الدولة، فهو لا يقصد بالدين الدين الذي تكون مرجعيته أسمى وأعلى في الدولة، أو الذي يجعل الأمة هي الأصل في الهرم الاجتماعي ويكون الإمام نائبًا عنها في قضاء حوائجها، بقدر ما يقصد الدين الذي يجعل من الطاعة عقيدة، ومن الخروج بدعة، ومن ولاية العهد مصلحة وأصلاً من أصول الدين، لا فرعًا من فروعه التي فيها متسع للنظر.

وبذلك فإنّ "روح موقف الماوردي في مسألة علاقة الدين بالملك، لا تختلف عن مواقف السلاطين العباسيين، ومواقف السلطنات التي نظَّر الماوردي لوجودها في كتابته السياسية النصيحة وفي تناوله للأحكام السلطانية"(28).

وبعد هذه الإطلالة السريعة على جوانب معينة من الآداب السلطانية من خلال الكتابات التنظيرية الأولى لكل من ابن المقفع والماوردي، يظهر جليًا مدى الخطورة التي آل إليها الفكر الإسلامي عبر سيرورته التاريخية. فمنذ سقوط الخلافة الراشدة بدأت عرى الدين تتهاوى تباعًا، وكان أولها الحكم الذي شهد تحولات جذرية مست جواهره التي امتاحها من معين الشريعة، بعد أن امتلأ جوفه بجملة من الحكم والتدابير السياسية التي وفدت عليه من بلاد فارس، وأحكمت مفاصله وصار مثقلاً بتناقضات عدة إزاء التركيبة غير المنسجمة التي حصلت جراء التلفيقات التي حاول من خلالها الكتاب السياسيون المواءمة بين المأصول والمنقول.

ونتيجة لذلك، عرف الفكر السياسي الإسلامي مخاضات وأوجاعًا اجتماعية، فقد ابتدأ مساره في شكل معارضة كلامية قوية على مستوى التنظير وعلى مستوى الفعل، أتاح من خلالها للمجتمع حق المساءلة والنقد والاحتجاج على الظلم والفساد على مدى قرن من الزمن، ليأتي مشروع الآداب السلطانية، فيعلن عن انطلاق عهد جديد يوظف فيه العلم لخدمة مواقف السلطة السياسية، ويغدو معه العالم ظلاً لا يفارق مجلس السلطان.

* العربي ادناصر باحث مغربي


الهوامش

1-مقدمة ابن خلدون، وهي الجزء الأول من تاريخ ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر: ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس الأستاذ خليل شحادة، مراجعة الدكتور سهيل زكار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، 1421/2001، ص 52.

2-المقدمة: المرجع والصفحة نفسهما.

3-المقدمة: الفصل الثاني والأربعون: في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها، ص 745-746.

4-رسالة ذم أخلاق الكتاب، ضمن رسائل الجاحظ: تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة مكتبة الخانجي، 1964ـ1965، 2/ ص191.

5-رسائل الجاحظ: المصدر السابق، ص191.

6-الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، عبد المجيد الصغير: دار المنتخب العربي بيروت، ط1/1994، ص 106.

7-العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي: بتحقيق عبد المجيد الرحيني، دار الكتب العلمية بيروت، ط1/1983، 4/243.

8-العقد الفريد: 2/3.

9-العقد الفريد: 2/3.

10- الأدب الصغير ضمن أعماله الكاملة آثار ابن المقفع: دار الكتب العلمية بيروت، ط1/1409-1989، ص 304.

11- عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي: ص 133.

12- آثار ابن المقفع، رسالة الصحابة: ص 317.

13- آثار ابن المقفع، رسالة الصحابة: ص 313.

14- آثار ابن المقفع، رسالة الصحابة: ص 313.

15- سراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي: بدون طبعة ولا تاريخ، الباب السابع والعشرون، في المشاورة والنصيحة ص78.

16- آثار ابن المقفع، الأدب الصغير: ص290.

17- آثار ابن المقفع، الأدب الصغير: ص291.

18- آثار ابن المقفع، رسالة الصحابة: ص320-321.

19- آثار ابن المقفع، رسالة الصحابة: ص 310.

20- آثار ابن المقفع، رسالة الصحابة: ص312.

21- كمال عبد اللطيف في مقال بعنوان علاقات السياسي بالديني في الآداب السلطانية التأسيس، التحالف، التوظيف: مجلة مدارات فلسفية، تصدرها الجمعية الفلسفية المغربية، ع 2 ماي 1999، ص121.

22- الفكر الأصولي: ص 88.

23- علاقات السياسي بالديني في الآداب السلطانية: ص 119.

24- الفكر الأصولي: ص 284.

25- الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق المَلك وسياسة المُلك، لأبي الحسن الماوردي: تحقيق محيي هلال السرحان وحسن الساعاتي، دار النهضة العربية بيروت، 1981، ص 153.

26- علاقات السياسي بالديني ص: 118.

27- عهد أردشير: حققه وقدم له إحسان عباس، دار صادر 1967، ص 54.

28- سعيد بنسعيد العلوي، دولة الخلافة دراسة في التفكير السياسي عند الماوردي: دار النشر المغربية بالدار البيضاء، ص 105.