محدودية الفكر السلطاني من خلال كتاب "مطالع السعادة في فلك سياسة الرئاسة"


فئة :  قراءات في كتب

محدودية الفكر السلطاني من خلال كتاب "مطالع السعادة في فلك سياسة الرئاسة"

محدودية الفكر السلطاني*

من خلال كتاب "مطالع السعادة في فلك سياسة الرئاسة"


يتناول المؤلف علي السملالي في كتابه "مطالع السعادة في فلك سياسة الرئاسة" جوانب كثيرة من السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، وقد اعتمد فيه على مؤلفات يونانية وفارسية وإسلامية، وخصَّصه لمناقشة قضايا تتعلق بالخلافة والعدل السياسي، ومسألة الخروج على السلطان، ودور الوزراء، وتدبير الشؤون العامة وغيرها من المواضيع، كما تكلم فيه عن سياسة السلطان الحسن وسيرته، ونثر بين مجموعه موضوعات من قواعد السياسة السلطانية، ليخلل كلّ موضوع بما يوازيه من سياسة السلطان الحسن الأول.

يُعتبر هذا المخطوط المغمور والمجهول من أهمّ المساهمات المغربية في شقّ التراث السياسي، المتعلق بالأحكام والآداب السلطانية والسياسة الشرعية خلال القرن التاسع عشر، فهو يكشف الاطلاع الواسع لصاحبه على المؤلفات السابقة في بابه، بالإضافة إلى استفادته من تجربته السياسية التي راكمها باعتباره من أهمّ مستشاري السلطان الحسن وكتَّابه.

سأتوقف في قراءتي لهذا الكتاب على أسئلة مهمّة بالنظر إلى فترة التأليف التي تزامنت مع تزايد التغلغل الأوروبي في المغرب، فكيف كانت نظرة المؤلف إلى الحكم ونظام السلطة؟ وهل يتضمن كتابه "مطالع السعادة..." نظرية جديدة تختلف عمّا جاء به السابقون؟ وما هي المصادر التي اعتمدها؟ وهل استطاع فعلاً التحرر من سلطة الرؤية التقليدية التي لم تستطع استيعاب فكرة التحديث والإصلاح؟ وكيف كان موقفه من نظام الحكم الطبيعي أثناء مقارنته بالنظام الإسلامي؟ وهل استطاع استيعاب مفاهيم سياسية جديدة في إطار الاحتكاك بالأجانب؟

جمع علي السوسي السملالي في الفصل الأول من كتاب مطالع السعادة من أمور سياسة الملوك ما استطاع، وقدّم شرحاً مختصراً للقواعد الأخلاقية والنفعية التي اقتبسها من سياسة ملوك الفرس والهند واليونان والروم والعرب وغيرهم. وقد جعل من بعض ما وقع للسلطان الحسن مع القبائل، وبالضبط ما وقع له مع بني حسن وخصوصاً أولاد يحيى ما استدل بها على علو قدمه ورسوخه في مسائل السياسة.

ربط المؤلف السياسة بعلوم الفلاسفة، وقسّمها إلى خمسة أقسام: أولها السياسة النبوية، وثانيها السياسة الملوكية، وثالثها السياسة العامية، ورابعها السياسة الخاصية، وخامسها السياسة الذاتية. فأمّا السياسة النبوية: فالله تبارك وتعالى يخصّ بها من يشاء من عباده الذين اختارهم أنبياء ورسلاً، ويعتبر السلطان في نظر علي السملالي نائباً عن النبي في هذه السياسة. وأمّا السياسة الملوكية فهي: "حفظ الشريعة عن الأمّة، وإحياء السنّة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فمن وظيفة السلطان حماية الدين وتثبيت أركانه، وترسيخ قيمه وأخلاقه، وإلزام الرعية باحترام قواعده. وأمّا السياسة العامية: فهي الرياسة على الجماعة، كرياسة الأمراء على البلدان، وقادة الجيوش، وترتيب أحوالهم على ما يجب، وكيف ينبغي، من رَمِّ الأمور، وإتقان التدبير، ورعاية الوظائف.

خصّص الكاتب السلطاني علي السملالي الفصل الثاني من كتابه مطالع السعادة لسياسة الملوك لمصالح الدنيا بالعقول والنقول، واعتبر أنّ واجب الملك أن يسعى في صلاح الدنيا، لأنّ بصلاحها يصلح أهلها وبفسادها يفسد أهلها، وما يصلح الدنيا عنده قسمان: ما ينتظم به جملتها، وما ينتظم به حال كلّ واحد من أهلها، وقد جعل السياسة في القسم الأول من هذا الفصل في ستة أسباب: الدين، والسلطان، والعدل، والأمن، والخصب، والأمل، وميز في البداية بين نهجين: أدب سياسة به تعمر الأرض، وأدب شريعة به تؤدى الفرائض، وإذا كانت سياسة الدين موكولة في الأصل إلى الأنبياء والرسل، فإنّ السياسة بالسلطان أبلغ من الدين والعقل في منع الظلم، فالله يرفع بالسلطان ما لا يرفع بالقرآن، إذ بالسلطان تجتمع القلوب المتفرقة، وبسطوته تنكف الأيدي الظالمة، وتقمع النفوس المعاندة، فهو ظلّ الله في الأرض، وحارس للدين، وزاجر لمن شذّ عنه من ذوي الأهواء والآراء، وربط علي السملالي بين استمرارية الدين ووجود السلطان بقوله: "فالدين إذا عدم سلطانه بدلت أحكامه، إذ واجب السلطان في سياسة الخلق حفظ الدين عن التحريف والتبديل والتغيير، وحراسة الأمّة بسد الثغور، وحماية بيضة الإسلام، وحفظ طرق البلدان من اللصوص والسراق، ورعي الشرع فيما يتولاه من الأموال أخذاً وعطاء، والعدل بإزالة الظلم والمظالم، وإقامة الحدود، واختيار العمال"[1]، فسياسة الملك ووظيفة السلطان، في تصوره، هي سياسة الدين، وسياسة الدين هي سياسة الملك، فما يصلح أحدهما يصلح الآخر، وما يفسد أحدهما يفسد الآخر[2]. لقد طوّع علي السملالي النصوص الدينية للتدليل على الفكرة التي ترفع من مكانة الملك، وتعلي من شأن حكمه، فالسلطان مفوض من قبل الله لحراسة الدين والدولة وحفظ المراتب والخطط الإسلامية، فمن خلال الربط بين الدين والسياسة، يتجلى غرض السملالي الهادف إلى التأسيس للشرعية الملوكية القائمة على الدين، وتبرير السلطة المطلقة التي يتمتع بها شخص الحاكم، وما يستتبع ذلك من وجوب طاعة الرعية للسلطان، وتحريم الخروج عنه، لأنّ طاعته من طاعة الله.

دافع علي السملالي عن ضرورة إقامة حكم الإمام، فهي عنده مسألة متفق عليها بين العلماء، بالعقل وهو قول المعتزلة، وبالشرع وهو قول أئمة السنّة. وقد تطرّق في كتابه مطالع الحسن بتفصيل إلى موضوع الإمامة، فتحدث عن ضرورة الخلافة، وعن أهميتها وشروطها، معتبراً الإمامة ركناً من أركان الدين، لا يستقيم الحق في الدنيا إلا بإقامتها، وذكر أنّها واجبة بإجماع الصحابة، كما ذكر أنّها ثابتة بالنص أو بالاختيار، وقد عدّد شروط الإمام، ومنها أن يكون واحداً في الأرض، شجاعاً، مجاهداً، قوي النفس، وأن يكون قرشياً، وركز على الشرط الأخير أكثر من غيره لإضفاء الشرعية على حكم الملوك العلويين، وهذه الصفات جميعاً جعلها متوفرة في المولى الحسن. كما أكد أنّ إقامة إمامين في بلد واحد ممنوع بالإجماع، وكذلك إقامة إمامين في وقت واحد في أمصار متباعدة. وقد توقف عند هذه النقطة دون أن يلامس الواقع الذي تميز بتعدد السلاطين في زمانه[3]، بل إنّه سرعان ما خلط بين مفاهيم الخلافة والملك، جاعلاً من مهام الملك مهام الإمام والخليفة نفسها دون اعتبار للتغيرات التاريخية، فهو لم يهتم بضبط مفاهيمه في هذه القضية، إذ يبدأ كلامه بالإمام أو الخليفة وينهيه بالسلطان أو الملك، فالسلطان المغربي وإن لم يكن خليفة فهو يقوم مقامه، وهو بهذا المنطق من الفهم ينتمي إلى فئة كتّاب السلاطين التي روجت لمنطق الدولة السلطانية الإلهية، فالمحور الذي يدور حوله الكتاب إنّما يتركز على شخص السلطان، أمّا العامة فقد ظلت على الهامش، ومردّ ذلك استئثار الأمير بالسلطة والجاه[4]. وأمّا السياسة بالعدل، فمعلوم أنّ العدل هو الباعث على طاعة الله، وبه عمارة الأرض، مستدلاً بقول النصراني الذي أسلم لعمر بن الخطاب عدلت فأمنت، والعدل على أقسام: أن يعدل الرجل في نفسه، وأن يعدل في غيره، أمّا الأول فحمل النفس على المصالح وكفّها عن المظالم والقبائح، وحبسها في مقام بين التجاوز والتقصير، "فإن تجاوزت حدّها فقد جارت، وإن قصرتها عن حقها فقد ظلمت، والتجاوز جور والتقصير ظلم، ومن جار على نفسه فهو على غيره أحرى، ومن ظلم نفسه ظلم غيره...، وأمّا عدل الإنسان في غيره فعلى ثلاثة أقسام: عدله مع أقرانه، وعدله مع من فوقه، وعدله مع من دونه. فأمّا عدله مع من فوقه كالرعية مع المالك، فيحصل بثلاثة أشياء: إخلاص الطاعة له، وبذل النصرة، وصدق المحبة. وأمّا عدل الإنسان مع أقرانه فلا يتمّ إلا بثلاثة أمور: أن يترك الاستطالة عليهم، ويتجنب إذلالهم، وأن يكفّ الأذى عنهم. وأمّا عدل الإنسان فيمن دونه كعدل السلطان في رعيته، فإنّه يحصل بأربعة أمور: باتباع الميسور، وترك المعسور، وكفّ التسلط، واتّباع الحق. ولا يُفَوِّتُ علي السملالي الفرصة تمرّ دون أن ينبّه القارئ إلى أنّ "مرتبة السلطان عند الله عالية إذا أحبّ رعيته، وأحبته رعيته"[5].

أمّا السياسة بالأمن والأمان: فإنّ الأمان تطمئن به النفوس، وتسكن به القلوب، فالأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش. وأمّا السياسة بالأمل والرجاء: فشرط لحمل الناس على عمارة الأرض، والأثاث، والأقوات، فيما لا يدركه عمره ولا يستوعبه أجله، فلولا الأمل الحامل لبناء القصور والمدن لاحتاج كلّ عصر إلى بناء الأمصار وغرس الأشجار وغير ذلك، ولولا الأمل لما تجاوز أحد حاجة يومه، ولا تعدى ضرورة وقته.

وكلّ هذه السياسات التي ذكر إنّما هي مرتبطة في الأخير بسياسة السلطان الذي من مهمته السهر على عمارة الأرض بالغرس والزرع والبناء، ومن سعى في فساد ذلك له حق زجره وتأديبه. وأمّا السياسة بالخصب: فيكون نتيجة الأمن والعدل، ولهذه السياسة إذا قلّ الخصب في إقليم، أن يشرف الإمام على نقله، ويجتهد في ذلك. والملاحظ ممّا تقدم أنّ السملالي جعل السياسات الست لا تستقيم إلا بوجود السلطان، فعليه يدور تحقيق المصالح الدنيوية والدينية.

أمّا القسم الثاني من هذا الفصل فقد خصّصه لما يسوس به كلّ رجل نفسه حتى يصلح حالها، وذكره علي السملالي لدخول السلطان فيه، بل هو أشدّ الناس احتياجاً إليه، لأنّ من لم يعرف ما يسوس به نفسه، فأحرى ألا يعرف ما يسوس به غيره، وإنّما دخل السلطان في عموم ما يصلح به كلّ واحد نفسه ضرورة، إذ الأخصّ يستلزم الأعمّ لا العكس. فجعل صلاح كلّ رجل بأشياء منها، الألفة الجامعة، أو السياسة بالألفة، جاعلاً أسباب الألفة خمسة، وهي: اجتماع في الدين، واجتماع في النسب، واجتماع في المصاهرة، واجتماع في المؤاخاة، واجتماع في البر. وخصّص لكلّ سبب ما يعضده من سيرة النبوّة وسيرة الخلفاء الراشدين، وتأسفّ علي السملالي كثيراً لإهمال السلطان المغربي السياسة بالألفة بين قبائل المغرب، فهي في نظره سبب ما يقع من كثرة سفك الدماء وشدة التنافر وكثرة المواجهات، وهي في الوقت نفسه السبب الرئيس لضعف المغرب أمام العدو الأجنبي، بل إنّ عدم قيام الإمام بهذه الوظيفة سبب للاختلاف الساري بين الناس، حتى أنّ الانسان لا يجد اثنين متفقين حتى في المسائل العلمية، فما بالك بالأمور الدنيوية الأخرى؟ وقد نبّه السملالي إلى أنّ فوائد السياسة بالمؤاخاة هي ممّا تفعله القبائل مع الملوك العلويين، من كونهم يعقدون الأخوة ليضربوا بقوس واحدة على وتيرة واحدة، وقدّم مثالاً على ذلك بما "فعلت البرابر مع السلطان الحسن بن مولانا محمد في أوّل نصره في دخوله لمكناسة الزيتون عام واحد وتسعين ومائتين وألف"[6]. وعلى ذلك فإنّ مطلب التآخي والتأليف بين القبائل، في نظره، هو أحرى وأولى أن يعمل به السلطان، لأنّه يعزّز قوة الدولة وشوكتها.

وأتبع هذه السياسات بالأخلاق الواجب على الفرد الاتصاف بها، وبالأخص السلطان، وخصّص لها أكثر من نصف الكتاب، إذ تناول موضوع أخلاقيات السلطان في ثلاثة فصول[7]، وشملت مواضيع متعددة منها طلب الكفاية، والصبر، والكرم، والزهد، وغيرها من الصفات المحمودة، التي تناولها في الفصل الثاني، قبل أن يعود في الفصل الخامس إلى الحديث مجدداً عمّا تبقى منها، والتفصيل فيها، وإنّما ذكر ذلك لأنّ بهذه الأشياء يسوس المالك نفسه ورعيته؛ فيكون المحور الذي تدور عليه هذه الأخلاق والنصائح هو مصلحة السلطان أولاً وأخيراً. فالهدف من إيرادها إنّما هو المنفعة السياسية التي تتحقق له من خلال الربط بينها وبين آثارها الإيجابية على الممارسة السياسية ودوام السلطة، وذكر من هذه النصائح والقواعد السلوكية، السياسة بالصبر، والمشورة، والمروءة، باعتبارها روح الملك. وقد فصّل في كلّ ما يتعلق بهذه المبادئ، ذاكراً كلّ ما يرتبط بها من فضائل وأخلاق حميدة. وفي الفصل السابع يستمرّ في استكمال الحديث عن باقي الصفات التي وجب على السلطان التحلي بها في سياسة نفسه حتى يصلح لسياسة غيره، وحصرها في ستة أمور، وهي: التواضع، وحسْن الخلق، والحياء، والحلم، والعدل، والصدق، وترك الحسد. وهذه الأخلاق وجب أن يتصف بها المرء مع نفسه أولاً، ومن الواجب والأولى توفرها في حاشية الملك، ولمّا كانت سياسة الملك بيد الوزراء والكتّاب، احتاجوا هم أيضاً إلى الاتصاف بهذه الأشياء، لأنّهم لا يسُوسُون أمْر الملك حتى يسوسوا أنفسَهُم.

لقد اعتمد في عملية التأصيل على عدد كبير من الاستطرادات ساقها على شكل أقوال وأشعار وحكم من التاريخ الإسلامي، ومن تاريخ الفرس واليونان، وإن كان قد ركز بصورة أكبر لدعم آرائه على أقوال أرسطو وأشعار المتنبي، بالإضافة إلى النصوص الشرعية، مقدّماً نموذجاً للحكم المثالي الذي اعتقد أدباء السلاطين بإمكانية تحققه على أيدي حكامهم، غير أنّ واقع الممارسة الفعلية للحكم كان بعيداً تماماً عن جوهر هذه الأخلاق تاريخياً، فمنطق تدبير شؤون الحكم يخضع للمصالح والمنافع أكثر ممّا يخضع للأخلاق. فهل كان الفقيه السملالي واعياً بمحاولته إخضاع السياسة للأخلاق؟

في الفصل الثالث، يقدّم السملالي الأدلة على رسوخ حكم المولى الحسن، وقد تقدّم تفصيل ذلك في الفصل السابق المتعلق بكتابة أول سيرة للسلطان الحسن. وينتقل في الفصل الرابع للتذكير بعلوم الفلاسفة التي لا تقع السياسة عند الفرس واليونان إلا بها، "فملوك الفرس والروم واليونان من الحكماء لم يدبّروا شأناً من شؤون الدولة إلا بعد معرفة رأي علماء الفلسفة، وقد فصّل في أصول وفروع هذه العلوم، التي قسمها إلى أربعة أقسام: الأولى الرياضيات، والثانية المنطقيات، والثالثة الطبيعيات، والرابعة الإلهيات"[8].

أمّا الفصل السادس، فهو تتمة للفصل الرابع، تناول فيه تفسير العقل والهوى والشهوة والعلم والمتعلم والعالم، جاعلاً سياسة الملك متوقفة على وجود العقل التام، والعلم التام، وهو المعبّر عنه بالحكمة، ومتوقفة أيضاً على وجود المتعلم والعالم، فاحتيج إلى معرفة حقائق هذه الأشياء[9].

ويختم السملالي كتابه المطالع بمسائل مختلفة، تتعلق بمعلومات طبية وغذائية ومناخية استقاها من كتب التاريخ والجغرافيا وعلم الحيوان والنبات، غير أنّ أهمّ مسألة فصّل فيها الحديث تتعلق بواقع الجيش المغربي خلال القرن التاسع عشر، فمن قواعد السياسة عنده ضرورة السعي للاستفادة من مستجدات نظام العسكر الجديد، الذي أفرز غلبة جيوش الأجناس الأوروبية في الحروب، فهذا الواقع الجديد "يوجب على الأمير أن يحدث العسكر على سنته وعلى نصه ووصفه وكيفه وكمّه، ليدفع به العدو الكافر، ويخرج المسلمون بذلك من ورطة غضب الله في الفرار من الزّحف". وفي هذا تلميح إلى ما وقع في معركة إيسلي من تفرّق الجند وتشتتهم وهروبهم، إذ الجهاد في نظره واجب، وما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب[10]. وعليه، فالسلطان المغربي مطالب بإصلاح الجيش، وملزم بإزالة ما به من نقص وعيب.

إنّ السملاليَّ لا يُحمِّل مسؤولية الأوضاع السيئة للقبائل فقط، وإنّما أيضاً للطريقة التي يتعامل بها العساكر مع الرعية. وقد شدّد في نصائحه على ضرورة تحمّل السلطان مسؤولية إصلاح أوضاع الجيش، من خلال الإشراف بنفسه على هذا الإصلاح، وتتبّع مراحله بجد وعزم.

ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى الحديث عن الطرق التي يسوس بها الإمام عسكره، مميزاً بين سياستين: سياسة دينية، باعتبار الإمام نائباً للرسول فيها، وسياسة مالكية تعتمد السيف، وحينئذ يكون الإمام هو ميزان العدل الذي أقامه الله بين العباد، والإمام الأفضل، في نظره، هو الذي يجمع بين السياستين ليسوس بهما القبائل والأعداء، وأمّا ترك العساكر مهملة دون مراقبة فلا يأتي من ذلك شيء. ولذا شدّد على مسألة من يسوس أمر العسكر على ما ينبغي وكيف ينبغي، محبّذاً تحمّل الإمام بنفسه هذه المسؤولية بدل الاتكال على غيره.

لقد جعل علي السملالي التدبير المالي والعسكري من أهمّ أركان الدولة، ولهذا خصّص لهما، ولكلّ ما يتعلق بهما، أبواباً وفصولاً في كتاباته الأخرى، فتناول قضايا التوظيف والمكوس، والجند والحرب وقضايا السلم، معتمداً الشواهد التاريخية والواقع السائد في المجتمع، إذ لا يمكن فصل كتاب المطالع عن سياقه التاريخي، حيث ضمَّنه رؤيته بخصوص إصلاح الجيش، فالغاية المتوخاة أن يكون للمولى الحسن جيش نظامي قار، يتيح له إمكانية التصدي للقبائل الثائرة ولهجومات الأوروبيين، وعليه، فهِمَّة السلطان وشهوة إمام المسلمين يجب أن تكون في الجهاد ضدّ العدو، وفي سبيل ربّ العالمين.

قدّم السملالي في كتاباته ذات المنحى السياسي رؤية منسجمة للمواضيع التي لها علاقة مباشرة بمجال السلطة؛ فقد تميز مشروعه، بالنظر إلى مرحلة القرن 19م، بنوع من الانسجام أكثر من معاصريه، إذ استحضر في كتاباته بعض المجالات المرتبطة بإصلاح الجيش، غير أنّه لم يخرج عن سياق المنظومة التقليدية في طريقة التناول، ومع ذلك فمن حقنا أن نتساءل عن منطلقاته النظرية لمعالجة إشكاليات الفترة، هل كانت منبثقة من رغبة شخصية في الإصلاح أم أنّه مثل رؤية السلطة؟ هل طرح ضرورة التغيير من موقع صاحب فكر مستقل، أم أنّه عبّر عن وجهة نظر السلطان؟ وما الدوافع الحقيقية التي تقف وراء مقولاته؟ وما العوامل التي ساعدته على بلورة أفكاره بشكل مختلف عن علماء عصره؟ وهل شكلت اجتهاداته تجاوزاً حقيقياً لمواقف تقليدية سائدة؟ وكيف يمكن الحديث عن إصلاح الجيش في ظلّ انتفاء شروط الإصلاح السياسي والاقتصادي؟

فصّل علي السملالي في نوعية العلاقة بين الحاكم والرعية، وتطرّق إلى إصلاح الجند، وتنظيم الجباية، وتناول هذه المواضيع من زاوية تختلف بشكل كبير عن باقي الفقهاء والعلماء في زمنه، فتنوع شخصية الرجل الفكرية وغنى تجربته في المجال السياسي، سمحت له باستيعاب نظام الاجتهاد الفقهي القائم على مبدأ المصالح المرسلة، فكفاءة الفقيه النوازلي حاضرة لدى رجل الدولة، فالكاتب السلطاني استوعب بشكل جيد تقاليد وأخلاق السياسة الملوكية كما صاغتها كتابات مرايا الأمراء، ونلمس في مؤلفاته التي خلفها في ميدان السياسة تقاطعات متعددة، بل نجد تكاملاً بين المواضيع التي يتناولها، ممّا يوضح أهمية ما طرح من أفكار وقضايا تتعلق بمشاكل عصره، إذ حاول الاستفادة ممّا قدمته الكتابات السلطانية للإجابة عن إشكاليات الواقع السياسي للمغرب، ومزج بينها وبين التفكير المقاصدي القائم على فهم جديد للعلاقة بين ما هو سياسي وما هو ديني؛ فالمنزع العقلي والاتجاه المقاصدي يمكن اعتباره أحد أهمّ الملامح البارزة عند السملالي، إذ لم ينظر إلى التشريع على أنّه جملة من النصوص الجامدة فقط، وإنّما ابتغى النظر إلى الغاية والمقصد والمآل، غير أنّ خطابه السياسي لم يتمكن مع ذلك من صياغة أجوبة عن مستجدات العصر في مجالات أخرى، بالرغم من هوسه بحلم نجاح تجربة الإصلاح في العهد الحسني، إذ لم تكن له جرأة نقد السياسة المخزنية ومؤسساتها العتيقة، ولم يستطع أن يقطع مع خطابات شرعنة الاستبداد السائدة في نصوص التراث السياسي الإسلامي، حيث أعاد تركيب النصوص وترتيبها في متن جديد، وخرج بمنظومة سياسية متكاملة، غير أنّها ظلت بعيدة في مضمونها كلّ البعد عن الواقع؛ فلم يخرج كتابه عن سياق نظام نمط معين من الكتابة، يقوم على تجميع معطيات وأحداث وتواريخ وحكم من التراث بهدف ترسيخ تصور معيّن للسلطة، ورسم صورة عن الملك المطلق، يكون فيه الحاكم أداة للمحافظة على السلطة، وتكون الرعية في خدمة الدولة السلطانية. وبهذا الفهم التقليدي تعامل علي السملالي مع الواقع؛ فيبدو زمن الكتابة وكأنّه منفصل عن الزمن الذي تبلور فيه كتابه مطالع السعادة. كما لو أنّ التاريخ توقف منذ أمد بعيد، فليس هناك ما يعبّر عن تميز أو إضافة تخترق الحالة التي يوجد عليها الحاضر الفعلي، إذ الطابع التكراري الذي تميزت به هذه النصوص، جعلت أغلب الباحثين ممّن تناولوا التراث السياسي الإسلامي بالدراسة يجمعون على التشابه الكبير بين النصوص السلطانية؛ فهي نصوص لا تنمو ولا تغتني ولا تتطور. صحيح أنّها كتبت في أزمنة متباعدة، ووجهت إلى ملوك وأمراء من عصبيات ودول مختلفة، ومع ذلك ظلت هذه النصوص تتناسل مستعيدة مضموناً معيّناً، ووجهة محددة من دون توليد أي أفق في الإبداع قادر على تطوير الرؤية وتنويع الخطاب، رغم التجارب السياسية المتعددة التي عرفها العالم الإسلامي خلال حقب تطوره المتلاحقة والممتدة داخل زمن التاريخ الإسلامي في مجراه العام؛ فكُتَّاب السلاطين الذين خدموا في سلك المخزن العلوي لم يقدّموا إجابات مستفيضة للمشاكل الكبرى التي وجد المخزن نفسه في مواجهتها، مثل الأزمة المالية، ومشكلة الجيش، والبيروقراطية، والرشوة، وغيرها، ففي الوقت الذي كان فيه المخزن ملزماً بإدخال إصلاحات في هذه المجالات، لم يقدّم هؤلاء مشاريع نظرية متكاملة تعالج الواقع المعيش، وإنّما لجأت الغالبية منهم إلى الإحالة على الحكايات المدوّنة في كتب الآداب السلطانية.

إنّنا نجد أنفسنا أمام النص الواحد-المتعدد بفضل آلية التناص، فالمحاور تتكرر وتُعاد بطرق جديدة، فهل نستطيع القول إنّنا أمام نصٍّ واحد؟ أي أنّ التعدد الظاهري للنصوص يخفي وحدة الرسالة الجامعة لكلّ هذه المصنفات، ويرتب قواعد كتابتها ضمن نمط واحد لا يتغير[11]. وفي نظر عز الدين العلام لا يمكن اعتبار كُتَّاب الآداب السلطانية أصحاب نظرية سياسية جديدة - باستثناء ابن خلدون-، وإنّما هم مجرّد لواحق لمن سبقهم، أي حلقة في سلسلة طويلة، تبدأ من المرادي الذي نقل ما قاله المشرق حول السياسة السلطانية، ويلخص ابن رضوان ما قاله المرادي والطرطوشي، ثم يكرّر ابن الأزرق ما قاله كلُّ هؤلاء على المنوال ذاته، ويرى أنّ هذه السلسلة سرعان ما تَكَسَّرَتْ وكَسَّرَت معها المجتمع السلطاني بمؤسساته التقليدية أمام ضربات أوروبا الحداثة؛ فالعقل السياسي السلطاني الذي كرَّس نفسه طيلة مئات السنين لم يستطع تحقيق الصمود في أوّل مواجهة بين الشرق والغرب خلال القرن 19م[12]، لأنّه خطاب لم يتطور بالشكل الذي يمكنه من الصمود في وجه المتغيرات الجديدة التي بدأ يعرفها التفكير السياسي الأوروبي منذ القرن 16م، حيث تحرّرت السياسة منذئذ وبالتدريج من تأثيرات رجال الدين، وسادت قيم المؤسسات المدنية القائمة على مبادئ القانون والمواطنة. وإنّنا لا نجد في كتاب السملالي أيّ صدى لهذه الأفكار، بل يغيب الحديث بشكل مطلق عن المواطنة، أو الحقوق أو المؤسسات الأوروبية كالبرلمان، وفصل السلط وغيرها، كما لم تبرز في كتاباته أيّة إشارة إلى أهمية المجتمع في الحياة السياسية ودوره من خلال فكرة المشاركة، ممّا يعني أنّه بقي حبيس التفكير السياسي الموروث.

إنّ الوظيفة الأساسية التي أنشئت من أجلها الكتابة السياسية السلطانية، حسب كمال عبد اللطيف، تتحدّد في الدور التبريري المتمثل في إعادة إنتاج أخلاق الطاعة المدعمة للاستبداد السلطاني السائد بالاستناد إلى قراءة معينة للنصوص الدينية، تضع الملوك في مرتبة المستأمنين على الدين ومصير العباد[13]، فالكاتب السلطاني يحاول التوفيق بين تجارب الأقدمين، وحِكَم الأوائل، وأقوال الملوك والحكماء، يضاف إليها حِكَمٌ من التاريخ المحلي، ونصوص من الشرع الإسلامي، وذلك في إطار سعيه لإنتاج سياسية ملوكية تبرر مشروعية استبدادية الدولة المخزنية، وتنتصر لتدابير واختيارات السلطة السائدة، وتحذر من مغبة الخروج عنها، كما تنشر أخلاق الطاعة والصبر بين العامة، وتحذر من مغبة الخروج والعصيان بحجة المحافظة على النظام ووحدة الجماعة، وتجنب الفتن التي تزهق فيها الأرواح، فظلت بذلك حبيسة الفهم التقليدي[14]، وحتى الإصلاحات العسكرية والمالية التي طرحها كُتَّاب السلاطين في المغرب خلال القرن التاسع عشر، لم تكن لتنجح إلا في سياق إصلاح سياسي وإداري شامل، فتجاوز التأخر والتخلف في المجال السياسي شرط لم يتنبه إليه علماء القرن التاسع عشر، ففي كتاباتهم نلمس بشكل لافت غياب الحديث عن الأنماط السياسية الجديدة كما تبلورت في الجانب الشمالي للضفة المتوسطية، فهل كانت وضعية مغرب ما قبل الاستعمار تسمح باستمرار الحديث عن الدولة السلطانية التقليدية، في الوقت الذي يفترض فيه تجاوز هذا النمط الذي لا يستجيب للتغيرات العديدة التي عرفها مجال السياسة في أوروبا الغربية؟


* نشرت هذه القراءة في: "الدولة والدين في الفكر العربي المعاصر"، إشراف وتنسيق الطيب بوعزة و يوسف بن عدي، سلسلة ملفات بحثية، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[1]ـ علي السوسي السملالي، مطالع السعادة في فلك سياسة الرئاسة، مخطوط بالخزانة الملكية رقم 11445، ص 59

[2]ـ المصدر نفسه ص 20

[3]ـ أسهب علي السملالي في كتابه الأول مطالع الحسن في الحديث عن الإمامة، فقد تحدث عن ضرورة الخلافة، وعن أهميتها، وشروطها، وكرّر الشروط السبعة التي جعلوها لمنصب الإمامة، وهي: العدالة، العلم، سلامة الحواس، سلامة الأعضاء، صحة الرأي، الشجاعة، النسب، وهو أن يكون الخليفة قرشياً، أمّا كتابه مطالع السعادة فقد خصّه للحديث عن السلطة الدينية والمدنية، وأوضح وظائف السلطان وصفاته الخلقية، وأبرز مدى انسجام سياسة المولى الحسن معها، وكانت أقواله ووصاياه ذات طابع أخلاقي سياسي نفعي.

[4]ـ بخصوص الكتابات السلطانية التي روجت لمنطق الدولة السلطانية الإلهية يراجع: محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، نقد العقل العربي، 3، ﻣﺮﻛﺰ ﺩﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ، بيروت، 1991.ص 356/ كمال عبد اللطيف، في الاستبداد، بحث في التراث الإسلامي، منتدى المعارف، الطبعة الأولى، بيروت، 2011، ص 44

[5]ـ علي بن محمد السملالي، مطالع السعادة في فلك سياسة الرئاسة، م، س، ص 62

[6]ـ المصدر نفسه، ص 78

[7]ـ يشكل موضوع أخلاقيات السلطان النقطة المركزية في كتابات أدباء السلاطين، إذ لا يخلو كتاب من ذكرها، وهي أخلاقيات تتكرر باستمرار باعتبارها ثوابت. راجع: عز الدين العلام، الآداب السلطانية، دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي، عالم المعرفة، عدد 324، 2006، ، ص ث 53، 54، 55

[8]ـ راجع الفصل الرابع: علي السوسي السملالي، مطالع السعادة في فلك سياسة الرئاسة، م، س، من ص 251 إلى ص 255

[9]ـ راجع الفصل السادس من مطالع السعادة، م، س، ابتداءً من ص 305

[10]ـ نفسه، ص 368

[11]ـ كمال عبد اللطيف، في الاستبداد، بحث في التراث الإسلامي، منتدى المعارف، الطبعة الأولى، بيروت، 2011، ص ص 48، 94، 95

[12]ـ عز الدين العلام "ملاحظات حول مخطوط "واسطة السلوك في سياسة الملوك" للسلطان أبي حمو موسى الزياني"، أبحاث، مجلة العلوم الإجتماعية، العدد19، 20، السنة الخامسة، 1989، الرباط، ص 12

[13]ـ كمال عبد اللطيف، في الاستبداد، بحث في التراث الإسلامي، م س، ص ص 292-293

[14]ـ نفسه، ص ص 12 /312