الأخلاق الدينيّة وروح الليبرالية: تأمّلات في علاقة الدين بالدولة والمجتمع


فئة :  مقالات

الأخلاق الدينيّة وروح الليبرالية:  تأمّلات في علاقة الدين بالدولة والمجتمع

"المصالح ليس لها معبد، ولكنّها تُعبد" فولتير.

عاد الدين إلى مسرح الحياة، وعاد معه الحديث عن القيم والأخلاق بشكل جدلي وتلازمي، وأضحى الكلام عن أيّ موضوعة مجتمعية من زاوية الهوية والخصوصية يتفرّع عن شجرة من القيم والمبادئ التي تؤصّل عادة بمداخل دينية، إلا أنّ ظهور المكبوت الديني في مجالات السياسة اصطبغ بطابع الحدّة والمغالبة الشرسة، فانتقل من البرنامج السياسي إلى البيان الدعوي الذي يخاطب المكلّفين على حساب المواطنين، في غياب تساؤل عن إمكانيّة تعايش مشترك بأخلاقيات وطنية، تتبنّى حيادية الدولة والمؤسّسات تجاه الأفراد بعيدًا عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية، فكيف يتمّ التأسيس لمشروع أخلاقيات جديدة يعزّز قيمة الحقوق الخاصّة والعامّة، ويبني لعلاقة متينة بين الفرد والمجتمع والدولة؟

1- من فقه المصالح الشرعية إلى مبدأ الحقوق الشعبيّة:

في منطق المعاد يحاسَب الإنسان فردًا دون التفات إلى جماعته وقومه، وفي منطق المعاش يقع الحساب على الإنسان ضمن جماعته وأهله وقبيلته، فالنجاة أو الخسران على ضوء المعاد يأتي بما حصّله الفرد من أعمال هو وحده من يتحمّل مسؤوليّة نتائجها، يوم يكون الحساب وتتوقّف الأعمال فتكون ذمّته ممتلئة بحصاد الأقوال والأفعال والأحوال. أمّا في ظل المعاش فيظلّ الفرد ملتئمًا بجماعته فيما تفضي إليه اختيارات المجتمع والدولة، وحينها تكون الأعمال هي الحاكمة ولا وجود لمحاسبة فوقية إلا من محاسبة الشعب لنفسه بنفسه، بالتفويض لممثليه في أجهزة الدولة وعبر مؤسسات المجتمع المدني، وهو ما يجعل من هذه المحاسبة نوعًا آخر من الأعمال التي يناقش بعضها بعضًا، لاختبار الأفضل وتنقيح الأجود في تفاوض مع الواقع ونخل لتجاربه.

بهذا يتعزز الإحساس الفرديّ في الشأن العبادي المرتبط بأحوال المعاد، فيما يتقوّى الشعور العام في الأمور العادية المتصلة بأحوال المعاش، فيحضر الضمير بسلطته الخاصة في تصرّفات الفرد في علاقته مع خالقه وبقيّة مشاعره الدينية، مقابل الوجود الفعلي للقانون في تصرّفات الفرد داخل جماعته، في علاقاته الدنيوية التي تسعى إلى تحصيل المصلحة الآنية.

وغاية الدين والقانون محدّدة في واجب الخدمة التي يتكفّل كل منهما بأدائها تجاه الإنسان، بحيث يكون موفقًا في وجوه الحياة وموصولاً برغباته التي يتطلّع دومًا إلى تحقيقها، وقد سمّى أهل الدين المصلحة صِلَة وصل بين مقتضيات التنزيل ومتطلّبات التطبيق، فأيّ عمل يرمي إلى تحصيل هذه المصلحة فثمّة شرع الله كما يعبّر عن ذلك الأصوليّون. وأهل القانون يتّخذون مفهوم الحق رابطة قانونيةً واجتماعية تقع على المؤسّسات والدولة مسؤوليّة حمايتها وتنميتها، بوصفها محلّ تكريم المواطن وتمكينه من العيش المطلوب[1].

وهذه التفرقة بين المفهومين المركزيين في الارتباط بالإنسان والواقع، تُفضي إلى نتيجة مفادها أنّ فقه المصالح مخصوص بفقه العبادات، وهو أقرب إلى فقه الأعيان، أما فقه الحقوق فهو ألصق بالجماعة لتعلقه بالعادات، فضلاً عن أنّ فقه المصالح له منزع ديني والآخر له توجّه مدني، فما يرجع إلى فقه المصالح نُحكم فيه التعبّد الخاص والخلاص الفردي، ولا تتدخّل في تسديده الجماعة والدولة والمجتمع، وما له علاقة بفقه الحقوق يقع تحت طائلة الدولة، ويتم التداول فيه علنًا في البرلمانات ومجالس الأمّة والوزارات وبقية مؤسّسات المجتمع المدني.

إنّ الدعوة إلى حماية مصالح الإنسان تظل مرتبطة بدلالاتها الدينية التي تحفظ له الضروريات الخمس المعروفة، فهي بذلك تنشأ عن حماية الدين والتكليف به بالضرورة، ولكن هل من الضروري أن يكون المرء متديّنًا حتى تكون له مصالح؟ ولذلك ننتقل إلى المناداة بحماية الحقوق كما يسطّرها القانون لكي يكون المتديّن وغيره داخلاً في مشمولاتها، وتكون مَرْعِيّة في العاجل أوّلاً ولا يترك أمرها إلى الآجل، لكون ذلك متروكًا إلى السياسة الدينية. أمّا السياسة المدنية فهي تنكبّ فقط على ما له علاقة بالدنيوي والمعيش اليومي، إضافة إلى المستقبل الذي تقع أحداثه في العالم المرئي دون الغيبي.

لقد صرّح الفقهاء بأنّ المصالحَ ما أقرّه الشرعُ، ومقصودُ الشرعِ قد يخالف مقاصدَ الخلْق، فميّزوا لذلك بين مقاصد الشرع وبين مقاصد المكلَّف[2].

بهذه النقلة نحدث حركية في المقاصد والغايات والقيم من طابعها السكوني في الفقه، إلى مجالها النشيط في السياسة والمجتمع والاقتصاد، فتنتقل المقاصد من المدارسة إلى الممارسة، وتنتقل من فقه العمل بمدلوله التربوي والصوفي، إلى نواحٍ أخرى في التدبير السياسي والنشاط العام في المجتمع.

وما يزال الإيمان في القرآن مقرونًا بالعمل الصالح[3]، ولكن باعتباره محفّزًا وضرورةً دينية للانخراط في أعمال الآخرة، لكنّ العمل من منظور دنيوي –لائكي- لا يشترط هذه المزاوجة، لأنّه ليس مهتمًّا بحوافز النيّات والمقاصد الغيبيّة، فهو متعجّل للمصلحة الدنيوية ويروم المحافظة عليها، دون إغفال المصلحة الأخرويّة لمن استبطنها وعوّل عليها، لكن الاشتغال في الميدان يجرّد العمل عن النوايا ويستبقي طابعه المحايد، اللهم إلاّ من إرادة الصالح العام والنفع العمومي.

فالمشاركة السياسيّة مثلاً في حكم علمانيّ، لا يفرض القصد إلى جرّ الناس إلى العقيدة، والبحث في سبل إصلاحيّة محدّدة وبأسماء دينيّة فقط لكي تبرّر بها المشاركة من عدمها، وإلاّ كانت هذه المشاركة عونًا للأنظمة الفاسدة والحُكّام الطغاة والحكومة التي لا تطبّق الشريعة.

وقس على هذا بقيّة الأعمال التي تندرج في الشأن العام، والتي تتعرض للتقلبات السياسية والمجتمعية، فهي مجال للمماحكة والمنافسة والصراع أحيانًا، وهي ميدان للتقريب والتغليب في وجوه المصالح أو الحقوق بتعبير أدقّ.

إنّ الممارسة الدينيّة في طابعها السياسي بهذا الشكل تنزع عنها لباسها الديني الضيّق، الذي يحتكم إلى الوسائل أكثر منه إلى المقاصد، وتغدو عقلانية في تلمّسها للحقوق في حدودها الدنيا، بعيدًا عن المثاليّة في التطبيق أو الوثوقيّة في التمثّل.

فالنسبيّة قاعدة فاعلة فيها، بل هي تساهم في وضع القيم للامتثال العام، قصدًا مدنيًّا قبل أن يكون دينيًّا من زاوية التسديد والمقاربة والرفق، دون الإيغال والتشدّد والتطرّف، فمن طبيعة الجماعة الاختلاف والتنوّع والتعارض أحيانًا في العوائد والنيّات والثقافات، فبذلك تتنوّع مصالحهم الفردية في إطار وحدة الحقوق العامّة.

وهذه النسبية تمثّل شرطًا ضروريًّا للديمقراطية في الحكم، باعتبارها حالة ملازمة للفعل الإنساني وقانونًا حاكمًا للفعل والحركة في الشأن العام، وهذه الحالة تنافي اليقين والقطع في الأفكار والمنطلقات والقدرات، وهو ما يرفع من منسوب الاعتدال المفضي إلى التساؤل دومًا عن الأجود والأصلح والأنفع في الحياة بشيء من القلق، الذي يدفع الخمول ويطرد الوثوقية في الذات ومعانقة الجديد والمتغيّرات، لأجل مراكمة التجارب وتقريب المحاولات وفتحها في العمل السياسي على كلّ الاحتمالات والترقّبات، دون الوقوف على أنموذج ما بوصفه صياغة نهائية لا تقبل الزيادة ولا النقصان، كأنّها وحي منزّل أو كتاب يُتلى لا معقّب على حُكْمه.

ولهذا، فالتجربة الديمقراطية تنتهي إلى حصيلة تراكمات بشريّة نسبيّة، مبنيّة على تقديرات يمتحنها العقل والعمل الميداني، فهي بذلك معرّضة للمراجعة والتمحيص، يلزم معه أن تكون كل التقديرات والآراء في ميزان النقد، إذ هي قابلة لأن تكون صوابًا أو خطأً[4]، ويتمّ الركون إليها اعتمادًا على موقف الأكثرية التي تحصّلت على أغلبية الأصوات، من زاوية تلمّس الصواب النسبيّ والحقّ التقريبي من الفعل السياسي، دون ادعاء حيازة الحقيقة المطلقة ولا اليقين الكلّي الذي يمتلك حصرية الصواب دون بقية الفاعلين، الذين ينقدحون في الذهن الوثوقي في صورة الخطيئة، مقابل تزكية نمطية الفرقة الناجية في مجمل الممارسات التي تنسب إلى الذات، كأنّها تتلقى التعاليم من الغيب، وهو ما يفرض تصديق نياتها قبل سلوكاتها.

فالديمقراطية إذن أن تقبل حتى بالخطأ لأجل صقل الفعل الصواب ودفع التجارب إلى البحث المضني عن البدائل بالاجتهاد والمنافسة وسياسة القرب، دون إلغاء حق أحد في التعبير عن رأيه ولو كان يبدو على خطأ، فكل الاتجاهات يجب أن تحظى بفرصة الإدلاء برأيها واختبار مواقفها والإعلان عن مشاريعها ولو كانت أقلية في الدين أو اللغة أو العِرْق، فالصواب ليس بالضرورة مقرونًا بإحدى هذه الأوصاف بل بمدى مطابقة القول للفعل وتقريب الصلة بين المقتضيات والتحدّيات.

2- المجال السياسي تقاطعًا للأهواء ومدخل الأخلاق في تدبير الاختلاف والصراع:

تاريخيًّا يشكّل انتقال الفقهاء من المطالبة بتطبيق الممكن إلى المطالبة بالحفاظ على الكائن، تحوّلاً من الحلم بإقامة الحكم على منهاج النبوّة وعلى ما جرت به العادة في الخلافة الراشدة، إلى ضرورة تسديد الملك العضوض على عِلاّته ما أبقى على رسوم الشريعة.

فتنازُلُ الفقهاء -مكرهين طبعًا- على شروط الإمام المعروفة هو تنازل تراجيدي، وهو معبّر عن الإقرار بنوع من العلمانيّة الجزئيّة –( طبعًا لا نقصد العلمانية بحمولتها الفلسفية والسياسية المعاصرة) في تفرقة بين اختيارات الدين واختيارات الدولة، إذ أبقى الفقهاء على تسيير أمور الدين وتدبير فقه الأفراد، فيما خُصّ السلطان بفقه الجماعة وأمور الدنيا، وهو تدبير زماني وقع تحت وطأة الضرورة التي ألجأت إلى هذا التوازن الجديد بين الفاعلين في المجتمع، لاقتسام السلطة وتحديد الأدوار التي يضطلع بها كلّ طرف في المجتمع.

لقد كان امتزاج الديني بالسياسي سابقًا علامةً على سلامة كيان الدولة الإسلامية التي تحتكم إلى أمر الله، لكن حصل أن حدث بعض الشقاق بين الأمرين وغلب السياسيُّ الدينيَّ، خصوصًا فيما يتعلق بالشأن العام، وقد كان الفقهاء دائمًا يحلمون بالحاكم العالم فضلاً عن العادل، لأنّه يحفظ لهم حقوقهم باعتباره سلطةً مرجعيةً في المجتمع، ثم يراعي حقوق الرعية وينشر العدل بينهم.

لكن تطوّر الأحداث وتغيّر أنماط الحكم في المجتمع الإسلامي، أفضى إلى انفصال بين الدين والسياسة في شخصية الحاكم، فلم يعد حاكمًا عالمًا بالأولى ولا حاكمًا عادلاً بالتبع، إذ انقلب الحاكم إلى سلطان غشوم يفتك بالثروات والمُهج، وأرغم الفقيه على الجلوس في حضرة الإمام مُشيرًا غير مُلزم[5]، أو يلزم الصمت في برجه العاجي، أو تتلقفه أيادي البطش التي ترسلها أعين السلطان في الحواضر والبوادي.

وعلى غرار علمانية السلف، يدور النقاش بين الدين والعلمانية في العالم العربي في سياق مشكلات الأخلاق المدنية أو أخلاقيات الحكم والسياسة. فثمّة من يرى حصول التباعد والشقاق بين المكوّنيْن بصدد الأحقية في مراقبة الشأن العام، إذ تذهب فرضيّة إلى حصر الدين في الشأن الخاص أو ما يسمّى بالخلاص الفردي، فيما تتولّى العلمانية أمور النظام العام وتُعنى بحقوق الجماعة بالقانون.

وفي هذه الصيغة تبقى للدين رمزية الضمير الفردي والممارسة الخاصة، التي تنحصر في دُور العبادة وأثناء بعض المناسبات والمواسم الدينية، لكي تكون الدولة بسلطتها الدستورية والقانونية مكلّفة بتسيير الحياة العامّة، وأيضًا الخاصّة فيما يتعلّق بالمصالح الدنيوية.

وهذا التقسيم يهدف كذلك إلى تحصين حقوق الأقليات الدينية التي لا توافق معتقدات الأغلبية، فضلاً عن حماية "العلمانيين" و"الملاحدة" بوصفهم أفرادًا وجماعات لهم حرية المعتقد أو اللامعتقد.

ويفيد هذا التقسيم أيضًا في صون الدين من الممارسة الانتهازية، أو من الاستقواء بالعقيدة في مخاصمة المعارضين، أو في دحر قواهم السياسية، فقد يحصل أن يتحوّل الدين إلى رصيد انتخابي هام في كسب الأنصار وحشد الأصوات، في غياب برامج سياسية تفصل في القضايا العويصة للمجتمع.

وبهذا الإلجام عن توظيفه السياسي، يقتصر دور الدين في السلوك الأخلاقي للأفراد، ويتمثل في صورة العقل العملي فحسب، يؤثّر في الأفكار وفي السلوك، لكنه لا يقرّر فيها بوصفه حَكمًا عند الاختلاف، فهو موجود فلسفيًّا بالقوة وليس بالفعل.

والعلمانية بهذا المعنى تستبعد الدين في إضفاء المعنى على الحياة، بدعوى أنّها تحمل بنفسها هذا المعنى، والعقل هو الذي يهتدي إلى رسم المصير بالقانون والتجربة، ولا يلغي معتقدات الأفراد الدينية بل يحميها عن طريق السلطة العادلة وفرض التعددية الفكرية.

وبهذا التحديد لا تشكّل العلمانية نقيضًا للدين والإيمان، فهي تسمح للمتديّن أن يكون علمانيًّا بمعنى معيّن، دون أن يخرم قاعدته الدينية إذا استطاع أن يوفّق بين إيمانه وما يمليه عليه من مقتضيات من جهة، وبين شرطه الإنساني المحدود في الزمان والمكان والطبيعة التكوينيّة من جهة أخرى، وهو شرط يتجلّى بمثابة جدل اجتماعي يراعي تعقّد المحيط الذي ينشأ ويتحرك فيه، في أفق فهم العالم واستيعابه بقدرات بشرية يسمح لكل العقول بتلمس حقيقته والظفر بمتعة التفكر فيه، وهذا الإسناد ليس هبة يمنحها أحد لآخر بل هي حق طبيعي.

وفهم حدود العلمانية بهذا التكييف كفيل برفع اللبس الذي رافق نشوءها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث انتهى بها المطاف إلى نفي وانحصار في زوايا ضيقة، وأحيانًا زُجَّ بها في معارك خاسرة بين النخب والجماعات، فما ذكرت إلا وحضرت معها أحكام قيميّة تصبّ في أوصاف الضَلال والمروق والتغريب، مع أنّها في سيرتها الأولى ممحّضة للنضال من أجل انتزاع الحقوق الفردية، في تكريس المساواة والعدالة والحرية، وتضييق تصرّفات الدولة وبعض مؤسّساتها التي تستولي على مكاسب الأفراد[6]، وجعلهم محلّ الرقابة والحيازة والتملّك، في حين أنّهم أحرار في سلوكهم، بل وأقفال على تصرّفات السلطة.

فالعلمانية تمجّد العقل وتجعله محلّ اختيار واختبار معًا، فهو مهيّأ للنقد المزدوج بتعبير الخطيبي، نقد الذات ونقد الآخر. والعقل بصيغتيْه الفرديّة والجماعيّة يمارس وظيفته في وضع أسس العيش المشترك، ويصون التعدّدية ويراقب الديمقراطية، بواسطة القوانين ومراقبة المؤسّسات الرسمية للدولة، وكذا الحال مع المؤسسات الأهلية التي تراقب حتّى المؤسّسات الرسمية.

وهذا النقاش يفضي إلى السؤال عن القيم الحاكمة، هل هي القيم الدينية أم القيم المدنيّة؟ وبتعبير آخر: كيف نضع القيم التي تؤسّس للعيش المشترك، هل نحكّم الدين في بؤرة سياسة فاضلة؟ أم لابدّ من النظر العقلي في إيجاد صيغ لحياة آمنة، يتساوى تحتها كلّ المواطنين على اختلاف مشاربهم الدينية واللغوية والإثنية.

هذا الأمر له خلفيات حتّى في التفكير الديني الإسلامي، وهي تعود إلى مسألة التقبيح والتحسين في علم الكلام القديم. فقد حصل نقاش في الأدبيّات الكلاميّة بين مَن يؤيّد لتحسين العقل وتقبيحه، وبين من يحصره في الشرع، بدعوى قصور العقل عن إدراك الحقائق أو لكونه غير ثابت على موقف في تعيين وجوه المصالح والمفاسد، بما يُعَرِّضه للنقصان والتناقض.

3- تجلّيات الأخلاق في المجال الخاصّ والمجال العامّ:

لقد انشغل عموم المسلمين بقضايا الدولة وأسلمتها وأجهزتها، وإجرائها على مقتضى الشريعة، وقد فَنِيَتْ من أجل ذلك أرواحٌ وأُنفِقتْ أوقاتٌ، وبقيت القضيّة في مربّعها الأوّل لا تجاوزه، وقد كان وراء هذه الدعوات الاعتقاد في صلاحيّة الشريعة لكلّ زمان ومكان، وشيء من الحنين إلى الماضي، فضلاً عن تأخّر مشاريع الإصلاح في الدولة الوطنية والقوميّة، أمام إلحاح الحاجة اليوميّة التي لا تبسط يدها للانتظار.

لكن بجانب هذا الإلحاح الجماعي لقيم الشريعة، تباطأت قيم الفرد في الإيفاء بمستلزمات الشريعة نفسها، وجُرّدت القيم النظرية عن القيم العملية، واستحوذ الانفصال والانفصام على الشخصية المسلمة، وبقيت القيم المثلى رهينة الشعارات تلوكها الألسن كالأوراد الصباحيّة والمسائيّة، لكن قيم العمل من نزاهة وإخلاص وجودة في الأداء واحترام الوقت ورعاية المرفق العمومي وقدسيّة الصوت الانتخابي، ظلت قيدَ عبثيةٍ اجتماعيّة واستخفافٍ شعوريّ، كخلفيّة مضمرة للمفاصلة بين الأخلاقية الدينية المباشرة والأخلاقية المدنية المتعدّدة.

لقد تمّ رفض العلمانية في المجال السياسي باعتبارها ترتيبًا جديدًا للمفاعيل في المجتمع حيث تسبق الدولة الدين، وبوصفها فصلاً بينهما في المجال العام، لكن تمّ تطبيق العلمانية الشمولية نسبيًّا فصلاً بين العمل والقيمة، والأولى جاءت لحلّ الصراع بين الدين والسياسة. أمّا الثانية فهي موضوعة لحثّ الصراع بين القيمة والعمل، فكيف ترفض الأولى ويقع توافق الأمزجة على الثانية؟

إنّ تواطؤ الدولة على خلع قيم الدين، أشدُّ هوْلاً من توافق الأهواء الفردية في طرح قيم العمل المدنية، وقِسْ على ذلك تضخّم القيم التقليدية في سلّم اهتمامات الفاعل الديني على حساب القيم الجديدة التي جاءت مع الدولة الحديثة، فيتم إسقاط القديمة دومًا في سياق التشابك مع القوى العلمانية والحداثية، دون مراعاة لأهمية القيم الجديدة التي التفّت بأنماط الحياة المعاصرة[7].

لقد انشغل الإسلاميّون بقضايا فرعيّة تهمّ بعض المرافعات السياسية والأخلاقية، بشأن إقامة المهرجانات الفنية التي تحضرها وجوه معروفة داخليًّا وخارجيًّا، وبعضها يُعارض حضوره إمّا لغلاء أجره أو لجرأته في ارتباطه ببعض المواقف الأخلاقية، وهكذا...

غير أنّ أكبر محكّ للتجربة السياسية وللفاعل الديني الحركي، ينبغي أن يكون هو منطق الخدمات الاجتماعية التي يُعنى بها المرفق العمومي، كيف يكون هذا الجهاز قريبًا من المواطنين ومحقّقًا لمصالحهم وحقوقهم بالسرعة والجودة والسهولة المطلوبة؟

وهل يمكن الإقلاع بالشأن التعليمي والتربوي ليكون أدعى إلى تحقيق العقول المبدعة والتنمية الفكرية الخلاقة، فمنازعات السياسيين في مسألة وقف الملاهي والإشهارات التي تروّج للخمور، بدعوى تعطيلها للعقل ونسفها للأخلاق العامة والأسرية، ليست بأكثر أهمية من تحقيق قفزة تعليمية تنشد الحرية والتعددية والعقلانية، إذ التعليم أقرب إلى حفظ العقل منه إلى محاربة الخمر، كما تمثل لذلك المنهجية المقصدية الكلاسيكية[8].

وهل بالمستطاع أن يكون الشغل ميسّرًا لينزع فتيل الأزمة الشبابية ويرمّم الكرامة التي تقصد إليها الشريعة؟ فالشغل صار رديفًا للفقر والتهميش، فحيثما وقع هذا الورم إلاّ واستنبت معه كلّ أشكال التطرّف والجحود والسرقة والإدمان.

أمّا قطاع الصحّة فهو الجرح الغائر في جسد المجتمع، فإذا كانت الحياة –أو النفس- مقصدًا يقع ضمن ثاني أولويّات الشريعة كما سطّرها الأصوليّون، فإنّ هذا القطاع اندحر في سلّم اهتمامات الدول النامية والإسلامية بالأولى، ليكون محلاًّ للنهب والإهانة والإهمال، فهل أوروبّا أو أمريكا غير المسلمة أولت للصحة العناية اللائقة بمنطق مقاصد الدين أم بمنطق مقاصد الحياة؟

إنّنا نفهم العرض ونربطه أساسًا بالنسل والولد والزواج، لكن العرض يرتقي إلى مفهوم الكرامة التي تترصّدها الأنانية والانتهازية والزبونية والاستبدادية في كل الأماكن والمواقع، من الأسرة ثمّ المدرسة وصولاً إلى العمل وانتهاءً بالمؤسسة الرسميّة الحاكمة، فهل نظلّ نحجب الكرامة عن حالات تبدو لبعضهم غير مُجْدِية في سلّم الشريعة؟

ألم يكن الخروج إلى الشارع وسيلة للبوح بالظلم والقهر والملل والألم؟ لماذا صار هذا الخروج نظيرًا للخروج عن الإمام ونزع ربقة الطاعة والانضباط؟

لماذا تكون الديمقراطية سندًا ومجيرًا للدين إذا ما وافقت منطق الأخلاقية الدينية، وتتحوّل إلى ضيف لئيم إذا خالفت فروع الشريعة؟ فإذا كانت المشاركة السياسية دخولاً في حلبة التعددية والمغالبة والتداول، فمعناها القبول بالنتائج والكفّ عن العصيان المجتمعي كلّما غلب رأي لا يوافق الرأي الشخصي، حتى ولو تلبّس بلبوس الدفاع عن الملّة.

ختامًا، إنّ الأخلاق المدنيّة ليست اعتداءً على القيم الدينيّة، بل هي على العكس من ذلك تحمي الدين من جهتيْن: جهة تنزيه الدين عن المعارك السياسية والركوب على المقدّسات للوصول إلى أهداف فئوية معينة، ومن جهة تحصين التعدّدية وحماية حرية المعتقد التي يدافع عنها القرآن، فهي بذلك تجمع بين الحُسْنَيَيْن: توقير الدين لئلاّ يكون سببًا في الاحتراب، وتوطين الدين ليكون عنوانًا للاحترام.

وهذا المسعى يحتاج إلى تواطؤ إرادات مجتمعية على إنجاح عمليّتيْ الفصل عن الدين في جانب والوصْل معه في جانب آخر، لفسح المجال للتفكير المشترك وتنمية التعاون المثمر، وتفعيل آليات الاجتهاد والمراقبة والتنافس، عبر وسائل مدنيّة أبرزها الاحتكام لمبادئ الديمقراطية، وتكريس دولة القانون، وتنمية العقل الفردي والجماعي، بغية تشكيل حقل تشابك أهواء ومصالح في حدود مّا، تحت قاعدة المسؤوليّة والمحاسبة الشعبيّة والرسميّة.


[1]- وقد يسمّونها أيضًا مصلحة كما يشير إلى ذلك نصّ لبوفندورف مفاده: "إنّ خير الشعوب هو القانون الأسمى، وهو القاعدة العامة التي ينبغي أن يضعها الحكّام بالضرورة نصب أعينهم لأنّ السلطة العليا لم تخوّل إليهم إلا لكي يستخدموها كي يوفّروا المصلحة العامة ويحافظوا عليها، تلك المصلحة التي هي الهدف الطبيعي لإقامة المجتمعات المدنية". محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، حقوق الإنسان: دفاتر فلسفية عدد 7، دار توبقال للنشر بالدار البيضاء، ط2/2004، ص 12

[2]- إذ المصلحة في عرف اللغة لا تعدو أن تكون على حدّ تعبير الغزالي "عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرّة"، أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول: وبذيله فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه لابن عبد الشكور، المطبعة الأميرية ببولاق مصر، ط1/1322، 1/286. إنّما لا تتوقف دلالتها عند معناها اللغوي ما لم يراع في معناها انتظامها في سلك الشريعة، وهو ما عبّر عنه الغزالي بقوله: "ولسنا نعني به ذلك فإنّ جلب المنفعة ودفع المضرّة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنّا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة"، المستصفى: 1/286-287

[3]- ولهذا تتكرّر الآيات التي تجمع بين الإيمان والعمل على نحو: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) نيّفًا وأربعين مرّة، بمثابة ربط منهجيّ بين القيمة وثمارها في العمل والسلوك.

[4]- حتى القرآن لم يسفّه آراء المخالف وإن استبطن خطأها، فترك مساحة الخطأ والصواب للتجربة والمعاد، ذلك ما يمكن ملاحظته بالوقوف عند الآية: (وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)، من الآية 24 من سورة سبأ.

[5]- وجود الفقيه إلى جانب السلطان صوري وشكلي، أو كما يقول ابن خلدون "وإنّما هو لِما يَتَلَمَّح من التجمّل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية، ولم يكن لهم فيها من الحلّ والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحل والعقد إنّما هي لأهل القدرة عليه، فمن لا قدرة له عليه فلا حلّ له ولا عقد لديه، اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم وتلقي الفتاوى منهم فَنَعمَ". مقدمة ابن خلدون، وهي الجزء الأول من تاريخ ابن خلدون المسمّى "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس الأستاذ خليل شحادة، مراجعة الدكتور سهيل زكّار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، 1421/2001، 1/278-279

[6]- هناك من يذهب إلى أنّ الليبرالية، بسبب مناداتها بتحرير الإنسان من قبضة الاستبداد، تعني الإنسان المالك للقوّة الاقتصادية وليس مجرّد الإنسان. قارن بـ: الطيّب بوعزة، نقد الليبرالية: دار المعارف الحكمية بيروت، ط1/1428-2007، ص 35

[7]- هناك استماتة دعوية للفاعل الديني في مناهضة إقامة مهرجانات فنية، بدعوى تبديد الأموال العامّة أو تهديد القيم المجتمعية، لكن يخفت هذا الصوت الدعوي لما يتعلّق الأمر بأمور مستجدّة ذات صلة بالبيئة والتنمية مثلاً، فهل موازين الموسيقى أولى رعاية من موازين البيئة والإيكولوجيا؟

[8]- منذ الغزالي استبقى الأصوليّون على مثال الخمر للتمثيل على حفظ العقل، وكأنّه لا يوجد مُعطّل آخر للعقل سوى الخمر، مع أنّ ما يغطّي العقل حسب التعريف اللغوي للخمر موجود في أصناف وحالات أخرى لا يُعير لها الأصوليّون بالاً، وهو أمر لافت للانتباه لم يقع تجديد النظر فيه.