عبء التاريخ: الخلاف بين علي ومعاوية (ج.2)

فئة :  مقالات

عبء التاريخ: الخلاف بين علي ومعاوية (ج.2)

عبء التاريخ: الخلاف بين علي ومعاوية (ج.2)

من أبرز التهم التي وُجِّهت إلى معاوية أنه استغل ظروف الفتنة والارتباك داخل الجماعة الإسلامية لصالحه، لينفرد بالسلطة دون غيره. فهل يمكن الجزم اليوم بهذه التهمة؟

في الحقيقة، لا يمكن الجزم بذلك. إذا نظرنا إلى الخلفاء الذين سبقوا معاوية، من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فإنهم بشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وقد نجحوا في العديد من قراراتهم السياسية، لكنهم ليسوا معصومين. على سبيل المثال، حينما خرج أبو بكر لقتال من امتنعوا عن دفع الزكاة فيما عُرف بحروب الردّة، فإننا اليوم نفهم أن الأمر كان سياسيًّا بالأساس. لقد رأى أبو بكر أن تلك القبائل تحاول الخروج عن سلطة الدولة، ونجح حينها في تثبيت قانونها. كانت تلك الحروب لحماية وحدة الدولة واستمرار مواردها، وليس من الدقة توصيفها دينيًّا صرفًا.

المشكلة في استرجاع أحداث التاريخ الإسلامي تكمن في طريقة هذا الاسترجاع؛ إذ غالبًا ما يكون محكومًا بخلفيات ثقافية ومخيال جماعي يضفي على الأحداث أبعادًا لا تنتمي لسياقها. وهنا مكمن الخطر: عندما يتحول تاريخ الخلافة الراشدة إلى معيار يُقاس عليه الحاضر، ويُستعمل كمرجعية للصراع المعاصر.

من الخطأ الجسيم أن ننحاز إلى طرف دون آخر؛ إلى علي أو معاوية. لقد ولّى زمانهم، ولن يُسأل أحد في الآخرة عن موقفه من علي أو معاوية، ولن يغنيه ذلك شيئًا في ميزان عمله الصالح. إن الإسلام أوسع من هذا السجال التاريخي، وأكبر من الأشخاص الذين ارتبط بهم. هو دعوة إلى العقل والوعي والعمل الصالح، كما في قوله تعالى:

﴿وَالْعَصْرِ ﴾... إلى قوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.

ومن الحمق أن يُربط العمل الصالح اليوم بسؤال: "ما قولك في علي ومعاوية؟"، وكأن الجنة أو النار تمر عبر هذا الموقف. مع العلم أن كِلا الرجلين حسابه عند ربه. وقد قال تعالى على لسان نبيه:

﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ (الأحقاف: 9)

﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾ (الأعراف: 188)

ينظر كثير من الناس إلى الصحابة نظرةً مثالية تنفي عنهم بشريتهم؛ من الغضب، والاختلاف، والرأي السياسي. ولكن من كانوا حول الرسول ﷺ بشر كسائر البشر، اختلفوا واتفقوا، وخاضوا صراعات سياسية واجتماعية. عائشة، مثلًا، خرجت ضد علي في معركة الجمل، وصحابة كثر اختلفوا بعد وفاة النبي ﷺ حول من يخلفه. وقد تحدث القرآن عن مثل هذه الحالات، كما في قوله تعالى:

﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا...﴾ (الحجرات: 9)

أما عن كون معاوية من كتبة الوحي، فقد كان عمره وقت فتح مكة نحو 28 سنة، وهو سن كافٍ لمثل هذا الدور، ولا فائدة تُرجى اليوم من إثبات ذلك أو نفيه. الأهم أن نعي أن الرأي السياسي، في زمنه، كان يُبنى على معطيات واقعية تتعلق بإدارة الدولة.

ولو افترضنا أن عليًّا استمر في الحكم دون معاوية، هل كنا سنشهد تاريخًا طوباويًا خاليًا من الصراعات؟ التاريخ لا يُدار بالفرضيات الملائكية، ولا يمكن أن يبقى الحكم ينتقل من إمام إلى إمام على مدى 1400 سنة، فهذا من العبث. من الغريب أيضًا وصف أناس بالمعصومين لأنهم أئمة، وفي المقابل إدانة من خالفهم بأنه ملك متغلب.

معاوية لم يأت من فراغ، بل كان ابن بيئة سياسية وقبلية ترى في الحكم إرثًا طبيعيًّا. أبوه، أبو سفيان، قال يوم فتح مكة للعباس بن عبد المطلب: "لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيمًا"، فرد عليه العباس: "يا أبا سفيان، إنها النبوة". وهذا الحوار يكشف عن الفارق في النظر: النبوة عند العباس، والملك عند أبي سفيان.

الواقع أن بني أمية، بعصبيتهم القبلية، نجحوا في السيطرة على الحكم وتحويله إلى ملك، كما كان يتخيله أبو سفيان. ومن المؤسف أن كثيرًا من الناس لا يزالون حبيسي هذا الماضي، فيفكرون بعقلية الثأر لعلي، أو ينتصرون لمعوية دون نقد أو تفكير.

لقد تحول التاريخ إلى أداة للاستقطاب الطائفي والسياسي، وأصبح الحديث عن "الملك العضوض" من أحاديث الإسلام السياسي المفضلة، بهدف الحنين إلى ما قبل معاوية واستعادة "الخلافة على منهاج النبوة". لكن هذا وهم سياسي أفسد الواقع، لأن السياسة لا تنجح إلا إذا كانت عقلانية وواقعية. ومعاوية كان أكثر واقعية من الإسلاميين، وعلي كان أعمق وعيًا من مشاريعهم.

في النهاية، نحن بحاجة إلى وعي نقدي جديد، يُحرر الحاضر من سطوة الماضي، ويضع الإسلام في سياقه الحضاري كرسالة علم وفكر وعدل، لا كحلبة صراع بين "علي" و"معاوية".