(جُرح/ جَرح) الكتابة أو في البحث عن اللايقين


فئة :  مقالات

(جُرح/ جَرح) الكتابة أو في البحث عن اللايقين

في مواضعات الفعل الكتابي، بصفته فعلاً هائلاً على مستوى الإنجاز الإنساني، واجتراحاً كبيراً في النسق الوجودي على إطلاقه، استطاع الإنسان بموجبه أن يموقع الخارجي في الداخل، ويحوّله إلى رموز مُتحرّكة، لغاية إجراء تعديلات جوهرية عليه، بما يخدم مشروعه الحضاري في هذا العالَم. فتذهين العالَم وتنصيصه في متون بعينها، مع ما يحتمله هذا التنصيص من (بناء/ هدم) متواصلين، حيث يستحيل الركون إلى نصّ غير قابل لأية زحزحة إبستمولوجية؛ هذا التذهين التنصيصي نقلَ الإنسانية من طور السَلْب إلى طور الإيجاب، بما برّز قيمة الوعي، وجعلها أحد أبرز نتاجات الحِراك الإنساني في هذا العالَم، وصدامه الناعم مع المادة الوجودية التي يخضع لشرطها، ويخضعها لشرطه هو الآخر.

لكن ثمة إشكالية قد تطال هذا المُنجز الإنساني العريق، وتحوّله إلى كتلة صمّاء، غير قابلة للأخذ والردّ،[1] بما يتناقض أساساً مع فكرة الصيرورة الإنسانية، التي ستتجلّى تجلّيها الأكبر - بشكل دائم - في الهدم والبناء معاً، وليس في أحدهما على حساب الآخر، لغاية خلق حالة جدلية بين النصّ والذات، بما يُولّد نصوصاً جديدة، أو يجعل النصّ في تنامٍ دائم، يمنع عنه التأكسد والتفسّخ والانحلال بالتالي.

وأمكن التحايل، على هذه الفكرة، أعني فكرة ثبات الفعل الكتابي، وركود متونه، من خلال تموضع هذا فعل الكتابة في جرحين[2]:

1- جُرح [بضم الجيم].

2- جَرح [بفتح الجيم]

وأنا إذ أطرح الجُرح [بضمّ الجيم] فللتدليل على الثغرة المبدئية في نصٍ بعينه، حيث تمنع عنه الكمال، بما يجعله خاضعاً لشرط المعرفة الإنسانية، أكثر من خضوعه لشرطِ الكمال الداخلي. فثمة خيط من الدماء يسيل ابتداءً في نصٍّ بعينه، على اعتبار لا كماليته، والنقص الحادث في بنيته التأسيسية. لكن لا يعني هذا النقص في بنية النصّ الأصلية، خدشاً له أو إنزالاً من قيمته العالية إن كان يحمل قيمة عليا أساساً، بقدر ما ينزع عنه كماله المُتعالي، فهو أصلاً غير نزّاع إلى الخروج على الشرط الإنساني والتعالي عليه، بل هو خاضع لنواميسه وقوانينه الناظمة، لناحية اعتماد صيغة الجدل الدائم مع النص، وعدم ثباته في متون جامدة، تتعالى من جهة على شرط الوجود الإنساني من جهة، وغير خادمة له من جهة ثانية. فالنص العبقري هو النصّ المُؤسِّس لحالة حِراك معرفي بين الذات والعالَم، وحلوله في منطقة وسطى، يعبر الإنسان بوعيه على قنطرتها، للانتقال من الوضع "أ" إلى الوضع "ب" حضارياً.

أما الجَرح [بفتح الجيم]، فهي انسجام النص مبدئياً مع حركة النقد القادمة؛ فالنص إذ يعتبر نفسه مُحصنّاً ضد النقد ابتداءً - لسببٍ أو آخر - فهو نصّ في طور الموت الوجودي، نظراً لعدم انسجامه مع ناموس الحياة المعرفية، وعمليات (الهدم/ البناء) التي يمكن أن تجري بموجب هذا الناموس.

إن النصّ سَلْبٌ، عَدَمٌ مُؤقّت، حتى يأتي (قارئ/ ناقد) ويحوّله إلى سياق إيجابي في الاجتماع الإنساني. لذا من عبقريات مواضعات النص ابتداءً، أن يترك كاتبه ثغرةً في متنه، تُمكّن القارئ - بما في ذلك الكاتب نفسه، بعد أن ينفصل عن نصّه، ويتصّل بسياقات القراءة أكثر من سياقات التأليف، كمرحلةٍ لاحقة - من نقده، والدخول معه في حركة جدل معرفي، لا في حركة تسليم إيماني.

وإذن:

1- الجُرح ثغرة داخلية في بنية النص، يعيها الكاتب لحظة الكتابة، إنصافاً لقانون الصيروة الإنساني الذي ينطبع به النص لحظة الكتابة. فهو بمثابة خيط الدم الدافق من جسد النص، بانتظار أن يُطبّب من قبل طرف آخر؛ طرف بنائي غير تدميري؛ تكميلي غير إنقاصي؛ تشاركي غير أحادي؛ جدلي باختصار، بما يؤكّد تشاركية الفعل المعرفي الإنساني وعدم احتكاريته من قبل أحدٍ، أياً كان هذا الأحد، والتأكّد من ثمَّ في ذاتٍ معرفية مُتعدّدة، متنوّعة وغير قارّة بالمرة، بما يجعلها قابلةً للنماء والتطوير المستمر. وإذا كان الجُرح بمثابة بنية داخلية، بما يجعل منه إمكاناً جوّانياً بالأساس، إلا أنّ تمظهراته ستتجلّى برَّانياً؛ فالوعي بقيمة إنتاج نص مجروح في الأساس، هو وعي برسم الذات الكاتبة أولاً، والإيمان الماثل بين جنبيها بضرورة الانفتاح على الآخر لحظة الكتابة، بما يملكه هذا الآخر من ميكانيزمات لتطبيب الجُرح الغائر في لحم النص الأساسي، وعدم الركون إلى الذات وما تحمله من قيم أنانية، لا ترى في نصّها الذي أنتجته إلا اكتمالاً غير قابل لأيّة طبابة، أياً كان مصدرها. وعليه، فالجُرح هو استنهاض للإمكان الأخلاقي لدى الذات الكاتبة، ودفع باتجاه إعادة إنتاج النص المرة تلو الأخرى - مع ما يحتمله هذا الإنتاج من عمليات هدم وبناء متواصلة - دونما توّترات وتشجّنات سيكولوجية، تعتبر النقد بمثأبة عمليات ثأر ليس إلا. فالمواضعة التي يفترضها النسق أعلاه، هي مواضعة أخلاقية بالدرجة الأولى، وترك ثغرة في بنية النصّ، تؤصّل أول ما تؤصّل لفكرة عدم الكمال الإنساني، حتى وإن تمظهر في نصٍّ ما، فوجود الذات الفردية هو وجود تكاملي أساساً، فما نقص لديها كُمِّلَ من قبل الذات الأخرى، إكمالاً استنهاضياً، غير تدميري. ففعل النقد إذ يطال النص، فإنه يطاله لكي يُتمّم النقص الحادث فيه، بعد أن يدخل في جدال فكري معه، ولا يُبقي على فكرة النص الخالص المتمفصل عن الذات الخالصة والمُخلّصة. فالذات إذ تتجلّى في نصٍّ تكتبه، تعبيراً عن هاجس وجودي ما، فإنها تعي أول ما تعي شرط الوجود الإنساني بصيغته الناقصة، وتفهّم هذا النقص كفضيلةٍ أمكنها تفجير الإمكان الأخلاقي عند الإنسان، والسعي الدؤوب إلى ضرورة النظر بعين الرضا إلى الآخر، بصفته جزءاً تأسيسياً في إكمال المعمار الذاتي، وتمظهراته في هذا العالم. وعليه، فترك ثغرة في بنية النص ووعي الذات الكاتبة، إلى أن ثمة استنهاض كمالي لنقص حادث في بنية هذا النص، هو أحد أبرز علامات الوجود المعرفي الإنساني، على المستوى الأخلاقي.

2- والجَرح ثغرة خارجية بالنسبة للنص، يعيها (القارئ/ الناقد) لحظة القراءة الناقدة؛ فالذات إذ تقرأ قراءة ناقدة، فإنها تعي ضرورة إعمال الشرط المعرفي في نصٍّ بعينه. لذا هي عملية عكسية للجُرح [بفتح الجيم]، فعملية الجُرح إذ تنطلق - لحظة الكتابة - من الداخل وتتجّه ناحية الخارج؛ من الجوّاني إلى البرّاني، فإنَّ الجَرح [بفتح الجيم]، عملية تنطلق - لحظة القراءة الناقدة - من الخارج وتتجّه ناحية الداخل؛ من البرَّاني إلى الجوّاني. فالقارئ إذ ينقد فإنه يُساهم في إكمال النقص الحادث في بنية النصّ الأصلي، شريطة ألاّ يكون هذا الإسهام إسهاماً سيكولوجياً، يعتمد على ردّات الفعل المؤذية وغير النافعة، بل أن يعتمد على ما هو إبيستمولوجي أساساً، على اعتبار دخول القارئ/ الناقد، في عمليات ثأر معرفية من شأنها الإضرار أكثر مما تنفع، في حال اعتمد على ما هو سيكولوجي، لا سيما ساعة يقرأ نصاً مُخالفاً له في المُعتقَد أو الأيديولوجيا أو يتعارض مع رؤاه القومية أو الوطنية أو الطائفية أو الحزبية...الخ، بما يدخله - بالتالي - في حالة من عدم السواء الأخلاقي. فمثلما أن الذات الكاتبة تتمثّل الآخر لحظة الكتابة، والدور المُناط بهذا الآخر لإكمال نقص مُفترض في بنية النص المكتوب، بما يفضي - كما أسلفت - إلى تعزيز قيمة الإنسان الأخلاقية؛ فإنّ الدور المطلوب من القارئ/ الناقد، هو تمثّل الآخر أخلاقياً لحظة القراءة الناقدة، والدور الذي ينطوي عليه نصّه في تفجير الإمكان المعرفي لدى القارئ/ الناقد، فهو شريك إبيستمولوجي حقيقي، وليس بخصيمٍ سيكولوجي، ينبغي الثأر منه. وعليه، فالجَرح يعي قيمة الآخر أخلاقياً، والدور الذي يلعبه هذا الآخر، في تفجير الإمكان الجدلي عند الإنسان على إطلاقه، والدور المحوري لهذا الجدل في عمارة هذا الكون، وإبداع أنساق حضارية جديدة ومفيدة. فتلك العلاقة بين (الذات الكاتبة) و(القارئ/ الناقد) يتم تبديل مواقعها، فالقارئ الناقد يصير هو الآخر لحظة الكتابة، والذات الكاتبة تصير هي الآخر لحظة القراءة الناقدة، بما يدمجهما في نسق واحد مشطور إلى شطرين، لا يفتأن يتوالدان، ويؤكّدان قيمة كبرى من قيم الوجود الإنساني في هذا العالَم؛ أعني قيمة تموضعه في نسق (الصيرورة)، والحيلولة دون بلوغه أيّ يقين نهائي، نظراً للخطر الأنطولوجي الذي يحتمله هكذا يقين، لا سيما ما تعلّق منه بتفسّخ الإمكان الإنساني، الذي يُبقيه في حالة جدل مُتنام مع شرطه الوجودي.

وإذا كان لفعل الكتابة أن يتأكد في جرحين [مرةً بضمّ الجيم ومرةً بفتحها]، فلتعزيز فكرة القلق الإنساني، إذ يتجّلى في نصٍّ ما، وعدم ركونه إلى إلى ثبات من شأنه موضعته في نسق (كينوني) ليس من اختصاص الإنسان ضمن شرطيته الزمكانية، فكل ما هو (كينوني) بالنسبة إلى الإنسان يُفضي مباشرة إلى الموت والعَدَم. وتلك النصوص اليقينية، الثابتة، هي نصوص (ضد - إنسانية)، لأنها تفترض بالقارئ مجرد مُتلقٍّ سلبي لنصّ الذات الكاتبة، لا مُكمّل للنقص الحادث به، عبر عمليات نقدية مُتنامية ومستدامة، تُبرز قيمته كإنسانٍ فاعل في هذا العالَم، لا مجرد كتلة اسمنتية قارّة وثابتة في يقينيات مُميتة ومعطّلة لشرط الوجود الإنساني التأسيسي؛ الشرط الصيروري.

وعليه، ففعل الكتابة إذ يتموضع في نصّ ما، فهو فعل غير يقيني، على اعتبار أن اليقين هو ضدّ الشرط الإنساني، فهو ينحاز للموت والعَدَم، في حين أن اللايقين ينحاز للحياة، وأولى بفعل الكتابة أن يتمثّل الحياة الإنسانية وقدرته على الدفع بإمكانها ناحية الأمام، لا أن يتمثّل الإنسان ميتاً، وهو على قيد الحياة.

[1] يتفهّم البعض، الكتابة، كحالةٍ يقينية غير قابلة لزحزحات معرفية جديدة، بما يجعل منظوماتهم منظومات تسليمية أكثر منها منظومات نقدية. ولربما طالت هذه الحالة أكثر ما طالت الكتب المقدّسة والنصوص الحافّة بها، لذا كان ثمة اندفاعات غير عقلانية في الدفاع عن هكذا مظومات، على اعتبار أنها:

أ- محفوظة من قبل قوى غيبية عظيمة.

ب- حافظة للمعنى الأنطولوجي لأتباعها في هذا العالَم، غذ ليس ثمة معنى للمؤمن خارج الكتاب الذي يؤمن به إيماناً قطعياً.

[2] جاء في لسان العرب: "الجَرْح: الفعلُ: جَرَحه يَجْرَحُه جَرْحاً: أثَّرَ فيه بالسلاح؛ وجَرَّحَه: أكثر ذلك فيه؛ قال الحطيئة: مَلُّوا قِراه، وهَرَّته كلابُهُمُ، وجَرَّحُوه بأنيابٍ وأضراس والاسم الجُرح بالضم، والجمع أجراح وجُروح وجِراح... وجَرَحه بلسانه: شتمه؛ ومنه قوله: لا تَمْضَخَنْ عِرْضي، فإني ماضخُ عِرْضَك، إن شاتمتني، وقادحُ في ساق من شاتمني، وجارحُ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: العَجْماء جَرْحُها جُبار؛ فهو بفتح الجيم لا غير على المصدر؛ ويقال: جَرَح الحاكمُ الشاهدَ إذا عثر منه على ما تَسْقُطُ به عدالته من كذب وغيره.

www.baheth.info/all.jsp?term

مادة جرح