جماعة المسلمين أصل لجماعات العنف؛ الاتباع والتشدد


فئة :  مقالات

جماعة المسلمين أصل لجماعات العنف؛  الاتباع والتشدد

جماعة المسلمين أصل لجماعات العنف؛

الاتباع والتشدد[1]

استهلال

تأتي استخدامات الدين وتأويلات نصوصه، وفقًا لمقاصد وأغراض متباينة سواء من الدولة والطبقات الحاكمة أو الحركات السياسية أو الجماعات أو الأفراد، ذلك ما يجعله يأتي كأيديولوجية لتغليب المصالح الخاصة فى إطار فضاء الصراعات الاجتماعية والتحزبات المذهبية، ويعمل على مزج المقدس مع المدنس، والاجتماعي بالفردي، عبر التوكؤ على التجارب الماضوية.

وحيث يحضر الدين بقوة في تحريك الأحداث، فإنه يحتل موقعًا متميزًا على صعيدي الفكر والممارسة، ويشكل مختلف أنواع الوعي والخطاب والممارسات الاجتماعية بشكل خاص، تلك التي تتبدى في اتخاذه سندا وجدانيا وأخلاقيا وحركيا، وموجها في تحركات جماعات العنف طريقا لنقد النظام القائم ومن ثم محاولة تغييره.

فوفق الاعتقاد الخاص للجماعات الدينية، فالعنف المدنس أو الدنيوي يأتي لإنهاء أنظمة كافرة حسب خيالاتهم، ويساهم في استحضار الماضي لكي يتحكم في الحاضر، ويستشرف المستقبل وفق أوهام وبطولات الزمن الفائت، والارتكان إلى الأفكار السلفية، التي باتت وسيلة واحدة ووحيدة لتغييب الواقع، وللخروج (الثورة) وتكفير الحاكم والمجتمع.

إذن نحن أمام مفاتيح رئيسة لفهم بنية الحركات الجهادية، تلك التي تتمثل في الثوابت المرجعية التي تكيف حركيتها وأيديولوجيتها، وترتكن إلى أسار الماضي. إن عدم الانعتاق من وطأة وشدة تأثير وسطوة السلف، يجعل أصحاب الجماعات الإسلامية أسرى المفاهيم المتشددة والتفسيرات والتأويلات وسير السلف، تلك التي اتخذوها أصولاً لتبرير حركيتهم وتوجهاتهم، وبحثهم عن المدينة الفاضلة المتمثلة في تأسيس الخلافة الإسلامية.

وحسب ذلك، فإننا يمكن الدفع بأن الجماعات الدينية التي عرفتها مصر منذ بداية تخلقها في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، ما هي إلا حركة نكوصية جهادية ذات طابع ديني تسعى إلى استحضار التاريخ ونبش الذاكرة، وتفعيل الشريعة والحاكمية وفق ما يسمى "بالنهج المطلق"، بهدف إعادة تنظيم المجتمع وتأسيس الخلافة الإسلامية، والاستحواذ على السلطة وولادة مجتمع جديد وإحداث خصومة بينهم وبين الحاكم والمجتمع ووضع ذواتهم فوق الجميع.

أولا: جماعة المسلمين أصل وصورة

بداية يمكن القول إن جماعة المسلمين (التكفير والهجرة) تعد واحدة من جماعات التشدد التي ترى في ذاتها أنها جماعة الحق، وغيرها يدخل في أضمومة المرتدين والمشركين والكفار، وهو ما يجعلنا نجتر تاريخ الخوارج.

ففي عام 1976، ضغط رجال الأمن على المعتقلين الإسلاميين فى سجن طرة، بضرورة مبايعة وتأييد رئيس الدولة، ذلك ما لاقى استجابة ومسايرة من قبل البعض، والبعض الآخر رفض بحجة أن عبد الناصر ونظامه والمجتمع كفار ومرتدون عن الإسلام.

ويعد "شكري مصطفى" من أبرز من شايع النوع الأخير، إذ نادى بتكفير مرتكب الكبيرة، مستندا في ذلك على المؤلفات القديمة المرتبطة بالخوارج، وهو ما جعل جمعا من الشباب يعجبون بأفكاره المرتبطة بالثبات على الحق والتمييز بينها وبين الباطل.

وفى بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي، شكل "شكري" جماعته الجديدة وفق مسمى "جماعة المسلمين". ومع نهاية السنة الأولى من العقد ذاته، سيتم الإفراج عنه ويتسع نشاطه، ويزداد حجم مشايعيه، وتبدأ خصوماته وصراعاته سواء مع الجماعات والهيئات الإسلامية، أو مع الدولة والمجتمع. وفي أواسط العقد نفسه، يصدر "مصطفى" أوامره القاضية بقتل المرتد عن جماعته، أو بمن له علاقة بالجماعات الأخرى، إذ أدخلهم جميعا في عداد الكفار والمرتدين.

وبعد صدور القرار الجمهوري بالعفو عن شكري مصطفى في أبريل (نيسان) عام 1974غداة حرب أكتوبر (تشرين الأول)، عاود ممارسة نشاطه مرة أخرى وعمل على توسيع نشاط وجود الجماعة وإعادة تنظيمها وتوسيع قاعدة أعضائها، إذ ضم أفرادا جددا، وقام بشراء الأراضي الزراعية لبناء مجتمع جديد في مديريه التحرير، وإيفاد الأعضاء من الجماعة إلى الخارج لنشر أفكار جماعته وجمع التبرعات. وبذلك، يكون شكري مصطفى قد عمل على تهيئة بنية متكاملة تضم نشاط الدعوة والعمل والدراسة والعبادة في آن.

وأحرى بنا أن نشير هاهنا إلى أنه إذا كان "شكري مصطفى" قد ظهر في داخل سجن طرة، كتلميذ مبرز من تلاميذ سيد قطب، الذي مد طريق التطرف إلى ما قبل نهايته، فإن شكري يكون سحبه إلى آخره باتجاه القاع، حيث قام بالإعلان عن خروجه على جموع المسلمين، فضلاً عن تنصيب نفسه أميرًا لجماعة المسلمين، أو على حسب قوله، أميرا للمؤمنين، أو أمير آخر الزمان ووارث الأرض وما عليها.[2]

وفي إطار ذلك، فإن جماعة المسلمين تكون قد تمايزت ليس فقط في الاسم، وإنما أيضًا في الفكر، ذلك الذي يتحدد في قناعاتها بأن المجتمعات القائمة ما هي إلا مجتمعات جاهلية وكافرة، ويتبعون الطاغوت الذي يحكم بما لم ينزله الله، ويخفون ما جاء به الرسول من أحكام ويشوهون النص.[3]

وبهذا يكون "شكري مصطفى" قد وقف موقفًا مناهضًا من مسايرة مجتمع الجاهلية والقائمين عليه، فإنه أيضا حاول أن يعيد ما بدأه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ جاهر بأهمية فكرة الانسحاب والهجرة لإعداد العدة لمرحلة المواجهة، وضرورة إقامة دولة ما بعد الهجرة لتدمير المجتمع الجاهلي القائم وتأسيس آخر لا يعتمد على عبادة الإنسان للإنسان.[4]

وإذا كان خطاب جماعة المسلمين يسلم بضرورة التخلص من المجتمع الجاهلي والهجرة وتعبيد الناس لربهم، فإنه يدفع أيضا بأن الأمة المسلمة هي شعب الله المختار، التي من الواجب عليها أن تنفصل نهائيًا عن غيرها من الأمم، أو تعمل على تحقيق ما يسميه بالاعتكاف الحضاري، الذي يتأتى من خلال اعتماد المؤمنين على التحقق والطاعة والامتثال.[5]

ولئن كان ما تقدم هو حال بنية الأفكار لجماعة المسلمين، فإن ثمة قواسم مشتركة بينها وبين الجماعات الإسلامية المتشددة الأخرى التي جاءت منتهجة لنفس الأفكار، خاصة فيما يرتبط بتكفير مرتكبي الكبائر، أو بعدم حجية أقوال الصحابة واجتهادات الأئمة والفقهاء، أو بالإيمان بالمهدي الخاص بالجماعة، الأمر الذي يجعلنا أمام خطاب أيديولوجي مكتمل الأركان، تحتل فيه فكرة الجاهلية مكانة محورية، تلك التي يحصرونها في الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وخاصة ما يرتبط بالحاكمية والتقليل من شأن البشر وتحقيق شرع الله.[6]

ثانيا: العمارة الفكرية والفقهية لجماعة المسلمين

إن المطلع على أفكار جماعة المسلمين يجدها تتحدد في ثلاثة خطابات رئيسة ـــ رسائل ـــ[7] جاءت تحت مسميات: الحجيات والتوسمات والخلافة، تلك التي ترمي إلى أن كل المجتمعات الموجودة جاهلية وكافرة وخارجة عن الخط الإسلامي الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والخلفاء الراشدون، وأنهم يقفون موقفا ضدا من أقوال الأئمة والإجماع، وكذا من جميع المفاهيم المرتبطة بذلك مثل القياس والاستخدام والمصالح المرسلة والمقاصد.

وإذا كان شكري وجماعته قد رفضوا المفاهيم السابقة، فإنهم كذلك أشاحوا وجوههم عن مفهوم تقليد فقهاء السلطة، الذين انقادوا واستتبعوا للطواغيت من الحكام، وخلصوا لهم للحكم بما لم ينزل بما لم ينزل به الله، وعملوا على تكريس مفهوم الحد الأدنى (أي النطق بالشهادتين وحسب) للإسلام.[8]

و لئن كان هؤلاء قد أخذوا ندّا موقفا من الحكام والفقهاء وحتى من المسلمين، إذ وصفوهم بالكفر؛ فإنهم يعتبرون ذواتهم وحسب، هم جماعة المسلمين، أو حسب تصوراتهم أنهم الفرقة الوحيدة الناجية من النار.

ووفق ما تقدم، فإذا ما حاولنا الوقوف على المضامين والدلالات التي يحملها خطاب جماعة المسلمين، فإننا يمكن السير على محورين؛ الأول رأسي ويرتبط بالمسائل والقضايا التي تلتزم بها الجماعة كأيديولوجيا خاصه لحركيتها وممارساتها على أرض الواقع، والآخر يرتبط بالمسائل الحركية ومنهج العمل في الواقع المعيش؛ إذ تعمل على تكفير الحكام والناس والمجتمع، وضرورة تفعيل التغيير لإقامة الأحكام الإسلامية وفق ما كان سائدا في صدر الإسلام.

وإليكم جماع ما طرحته الجماعة وفق المحورين السابقين.

1- المحور الرأسي: أيديولوجيا جماعة المسلمين

يحمل هذا المحور مجموعة من المفردات التي تشكل البناء الفكري للجماعة، ولعل أهمها:

أ- أن مرتكب الكبيرة كافر، ومن لم يتب عنها فهو مرتد عن الإسلام، وأن الإصرار على الإتيان بالمعصية يدخله في عداد الكفار.

ب- تعتقد جماعة المسلمين أن التقليد ليس حجة على التمايز، وأنه يوقع صاحبه في باب الشرك والكفر، إذ ينبغي على كل مسلم أن يكون مجتهدا.

ج- تؤمن الجماعة وفقا لخطاباتها (التوسمات والحجيات والخلافة) بأنه لا توجد فروقات بين الفقيه والعامي، فما يحمله الأول لا يتباين عما يحوزه الأخير من علم وتفقه، وهو ما ينتج عن التقليد وليس عن الإبداع.

د- تسلم جماعة المسلمين بأنها الجماعة المسلمة الوحيدة في العالم، إذ تكون هي جماعه آخر الزمان، وأن ما دونها فهي كاذبة.

ه- ضرورة تأدية كل الفرائض التي شرعها الله على المسلمين، وإن غابت إحداها تسقط كلها.

و- أن من لم ينضم إلى جماعة المسلمين، فهو كافر ويستحق القتل مثله مثل من ينطلي عليه هذا الوصف.

ز- إسقاط فريضة صلاة الجمعة، حتى تتمكن الجماعة من إقامه حكمهما الإسلامي والاستحواذ على الحكم.

2- المحور الثاني: المسائل الحركية ومنهج العمل

هناك مجموعه من الاستنادات التي تشكل طبيعة التوجهات الحركية والدينامية في منهج عمل جماعة المسلمين، وهي:

أ- تؤمن جماعة المسلمين بضرورة الخروج على المجتمع واعتزاله بحسبانه دارا للكفر ويقف ضدا لتطبيق الشريعة الإسلامية.

ب- باعتبار أن المؤسسة التعليمية تابعة للطاغوت، فمن الضروري مخاصمتها، خاصه وأن الصحابة لم يتعلموا العلوم الدنيوية.

د- تنادي جماعة المسلمين بضرورة جعل الجهاد على الجاهلية شريعة رئيسة ومحورا للعمل، بهدف إقامة دولة الإسلام على أنقاض دولة الشرك والكفر.

و- ينبغي هجرة ما نهى الله عنه، وهجرة معابد (مساجد) غير المسلمين.

ز- إن جماعة المسلمين مكلفة بتحقيق منع إظهار الشرك، وإعلاء كلمة الله، وإقامة الحدود ورد الحقوق، ومنع الإصرار على طول الخط.[9]

ثالثا: دلالات خطاب جماعة المسلمين: الشبه والشبيه

على الرغم من أن مفهوم الخطاب يشير إلى كونه مصطلحًا شاملاً، حيث يحتوي على مجموعة من العناصر التي تعين على فهم الأشكال والتصورات والإدراكات النظرية، فإن تحليل الخطاب الإسلامي يفيد في الوقوف على مراميه ودلالاته، فضلاً عن الوقوف طرائق وآليات الممارسة في الواقع المعيش.

وباعتبار أن خطاب الجماعة ما هو إلا حقل معرفي خاص يعبر عن نص ثابت يتسم بالصرامة الفقهية، ويعكس مصلحة، فإن مجموع الرسائل التي صدرتها جماعة المسلمين وفق استناداتها النظرية والمنهجية تكشف عن حركيتها ودينامياتها. ولئن كان فهم الخطاب الحركي للجماعة يرتبط بمجموعة الأقوال الصادرة عنها، فإنه يساهم في إدراك بنيتها ومقاصدها، ويظهر من هويتها المتمثلة في سعيها إلى تأسيس الخلافة الإسلامية، فإنه من ناحية أخرى يفكك من شفرتها، ذلك ما دعانا إلى استدعاء منهج تحليل الخطاب للوقوف على ما طرحته الجماعة من مقولات ومعان ودلالات، ناهيك عن تبيان حركيتها ومقاصدها وفضائها ورؤيتها للعالم الخارجي، واستحضارها للتاريخ الفعال والتبعيد الهادف، ناهيك عن تصنيع العنف وتعليبه لاستبدال الحاكم وتغيير.[10]

إن المتابع فيما تقدم لحمولة الخطاب ومفرداته ودلالتها، يكتشف من وجهة نظر واضعه أن الإسلام منهجًا للحياة، وأيديولوجيا خاصة ترتكز على العنف لعزل الفرد عن المحيط الجاهلي، وأن التكفير وانتقائية النص والحاكمية وتطبيق الشريعة تمثل عناصر أساسية في بنية الخطاب الديني، فضلا عن تغييب العقل لتكريس الرأي الواحد والوحيد، ومن ثم إقصاء الآخر. إن اختزال الإسلام عند التفاخر بالماضي وعدم السير على أفكار السلف واتباع الأئمة والفقهاء، والصراع مع الحاضر، والبعد عن التجديد والإبداع، بل والوقوف بقوة مع الاختلاف، وعدم الانفتاح على الآخر وتجاهله، والانطواء على النفس، وإعداد العدة والهجرة من المجتمع الجاهلي، وغلبة الطاعة للقيادة وعدم هجران الجماعة، هو ما جعلها تنشد العنف ضد السلطة والمجتمع، ذلك الذي كان بمثابة تحدٍّ لحرية الفكر والاعتقاد والحرية والإبداع.[11]

وإذا كان المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن العشرين قد عرف تعددا في نوعية وطبيعة الجماعات الإسلامية، فإن تلك الجماعات قد تنوعت أيضا في درجة تفعيلها للعنف كآلية للعمل في تنفيذ مراميها وأهدافها وأيديولوجيتها، بدءا من الإخوان المسلمين، وجماعة شباب محمد التي حاولت السيطرة على الكلية الفنية العسكرية، وجماعة التكفير والهجرة أو جماعة المسلمين والجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد.

إنه وفق ممارسات الجماعات التي أشرنا إليها قبل قليل، فقد عرفت مصر مجموعة من الأحداث الدينية العنيفة، تلك التي شهدتها فضاءات الجامعة المصرية، وتصاعد التوترات بين المسلمين والأقباط خاصة في محافظتي أسيوط والمنيا بصعيد مصر، ثم قيام جماعة المسلمين بقتل الشيخ الذهبي، وقتل السادات وفودة، ومحاولة قتل محفوظ ومبارك، وأخيرا ما قام به الإخوان، يعكس مدى تواتر الأحداث وفى تزايد العنف من قبل الجماعات الإسلامية المتعددة التي حاولت أن تتغلغل في صفوف بعض فئات المجتمع، توطئة لمحاولة فرض إرادتها وخطابها على كل الأصعدة.

وعلى الرغم من وجود أوجه الشبه بن تفرعات الجماعات الإسلامية في الممارسات العنيفة تجاه المجتمع والدولة في مصر، إلا أن ثمة امتدادا وتشابها (عبر الخطابات) بين جماعة المسلمين أو التكفير والهجرة، وغيرها من الجماعات الأخرى، ذلك الذي يتبدى منذ البداية في التشابه في التسميات التي تعكس نوعا من الاستعلاء على الآخرين، إذ يعتبرون ذواتهم وحسب من يدخلون في دار الإسلام وغيرهم يعدون من الكفار الذين وجب قتالهم وهدر دمائهم، ناهيك عن إقرارهم بضرورة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح والالتزام بما شرع الله والإخلاص فيه والبعد عن أديان الجاهلية، وتنفيض الاتباع للحكام فى الشرق والغرب وتبديلهم، وعدم التحاكم بغير شرع الله، وعدم الولاء وحب النصارى واليهود، وتعبيد الناس لربهم، وتأسيس الخلافة الإسلامية وتخليص البشرية من صور الظلم والفقر عبر آليات الدعوة والحسبة والجهاد.

إن المتأمل فيما تقدم، سيجد أن ثمة اتفاقا بين جماعات العنف الديني في الاستنادات الفكرية، وكذا في الممارسات العملية، تلك التي يمكن إجمالها فيما يلى:

1- تتفق جماعات العنف على أن النص هو المستند والموجه الفكري لتبديل الأوضاع القائمة، وهو ما يجعلنا أمام عقلية انتقائية ودوغماطيقية (متشددة) تحاول تشكيل العقل الجمعي وفقًا لقناعاتهم ووعيهم المغلق.

2- إن أعضاء الجماعات الإسلامية مشحونون بحالة تعبئة متطرفة، تضع أصحابها في سجن النصوص لكي تفرض ارتهان الإرادة الخاصة والعقل لحساب النص، وهو ما يتجسد في الإيمان بتفعيل العنف للعودة إلى الأصول وإقامة الدول الإسلامية وإزاحة النظام الحاكم، وإحياء ما يسمى بالخلافة الإسلامية وتعبيد الناس.

3- إن المدقق في مضمون خطاب جماعة المسلمين وكذا الجماعات الأخرى يجدها جاءت كبديل للأيديولوجيات الأرضية الكافرة - من وجهة نظرهم- ولفرض شرع الله، والعودة للأصول الفكرية والنصوص والاحتكام.

4- في إطار الفهم الخاص لخطاب الجماعة الإسلامية، فإن الجهاد يعد فريضة رئيسة (فرض عين)، إذ من خلالها يتم إعادة المجتمع والناس لدينهم، فضلاً عن دفع الأفراد للإيثار والتضحية بذواتهم من أجل سيادة الجماعة وتأسيس الدولة الإسلامية.

5- تتفق معظم الجماعات الجهادية على أهمية دور الهجرة من بلدان الجاهلية حتى يتمكنوا من الاستعداد لإقامة الدولة الإسلامية، ثم العودة مرة أخرى إليها فاتحين إياها، مثلما حدث في فتح مكة في صدر الإسلام.[12]

خاتمة

بات الدين نوعًا من الرأسمال الثقافي الذي يقدم أرومة من المفاهيم الخاصة للذات المتأسلمة، فضلاً عن صياغته لرؤية خاصة للعالم؛ فبدلاً من تأكيده على التكامل والانصياع للشعور الجمعي، فإن الدين أضحى مصدرًا للصراع والفرقة وتقديم المفسدة على المنفعة، ذلك الذي جعله يلعب دورًا واضحًا في إجبار الناس على المعاناة.

ولما كان العنف وفق مشاهدة التاريخية وتنوع أشكاله (الفردية أو الجمعية) يحضر بقوة كانعكاس لقراءات خاصة للدين، فإنه يأتي - في نفس الوقت - محملاً بكثير من التوجهات والخلافات الفكرية والأيديولوجية، ومن ثم يفرض ذاته نتيجة لسياسات التهميش والقمع والإقصاء والاستبعاد وفقدان الهوية والانبطاح أمام القوى الخارجية وسوء العدالة الاجتماعية، تلك التي تساهم بقوة في تعالي أنات الجماهير التي طالما تصدر عنفها ضد ظالميها وجلاديها.

وبيد أن شيوع أنماط العنف يكشف عن طبيعة القوالب الثقافية والسلوكيات السائدة، فإنه من جهة أخرى، يعبر بقوة عن العلاقة بين الإنسان والجماعات الأخرى، وعن طبيعة الثقافة والوعي الذي يشرعن العنف ويمنحه قوة وجودية في إطار ما هو معاش. وحيث إن العنف وفق طبيعة الواقع المعاش يعكس بوضوح عن وجود نمط ثقافي في خطاب يؤثر في صياغته، فإنه يترافق أيضًا مع المعتقدات والقيم والممارسات الاجتماعية والبطولات التاريخية التي تمنحه القداسة والشرعية.

وخليق بنا أن نكشف هنا أن تصدير الجماعات الدينية لعنفها، يوضح بجلاء إلى أي حد تم تسييس الدين، وهو ما يجعلنا نضعه في إطار إعادة إنتاج الصراع الاجتماعي وفق أيديولوجيا سلفية لرفض وتغيير النظام القائم. إن إعادة إنتاج الصراع الديني والمواجهة بينها وبين الدولة، جعل الجماعة الدينية تنوب عن الجميع في تصدير عنفها بطريقة "قطاعية" كنوع من القصاص ضد الدولة.

ولما كان استحضار مفاهيم السلف والثقة فيها، يجعل الموروث الموجه الرئيس والقاعدة الرئيسة في تفعيل العنف والتفاعل ضد الأفراد والمجتمع، فإننا نكون هاهنا بصدد ما يسمى باستحضار لمفهوم "التاريخ الفعال" الذي يقولب التجارب الآنية، ويستبدل مفهوم الوطن بالخلافة الإسلامية، والإذعان للعنف في استبدال المجتمع والأفراد.

إن الحنين إلى الماضي واستدعاء تجارب السلف، يجعل هذه الجماعات تتكئ على غيرها في صراعها مع الحاضر، وهو ما يقف بقوة ضد الاختلاف والتنوع والتعددية وعدم الانفتاح على الآخر، حيث ينادون بالاستتباع والطاعة والانكفاء على الذات.

إن استدعاء التراث لتشكيل الوعي وصياغة التصرفات والممارسات على الأرض، يجعل من الماضي حاضرا وأصيلا، وهو ما يدفعهم بالتالي إلى أن تكون الذات الإنسانية فانية. إن الدفع بمقولات الاستشهاد وبخلود الروح، يجعل من الصراع وتكفير المجتمع والدولة، أهم علامات ما يسمى بالخطاب المشوه.

[1] - مجلة ذوات العدد48

[2] محمد سرور زين العابدين، جماعة المسلمين، دار الجابية، الطبعة الرابعة، لندن، 1431 ه، ص ص 8-10، وراجع أيضا: فهد بن محمد القرشي، جماعة التكفير والهجرة، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، مكة، 1428 هـ

[3] عبد الرحمن أبو الخير، ذكرياتي مع جماعة المسلمين (التكفير والهجرة)، دار البحوث العلمية، الطبعة الأولى، الكويت، 1980، ص 9

[4] عبد المنعم منيب، الحركات الإسلامية بعد الثورة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الأولى، القاهرة، 2013، ص ص 27-29

[5] رفعت السعيد، الإسلام السياسي من التطرف إلى مزيد من التطرف، في: الإسلام السياسي: الأسس الفكرية والأهداف العملية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1989

[6] جيل كيبل، النبي والفرعون، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1978، ص 23 ص 35، ص72

[7] تضم الرسائل التي صدرتها جماعة المسلمين أو التكفير والهجرة الدلالات الفكرية والحركية للجماعة، تلك التي تضم: رسالة الخلافة، وهي التي يشير خطابها إلى خطاب الجماعة ومراحل بنائها، ثم بلوغ مرحلة التبوء، وصولا إلى موقفهم من الجماعات الأخرى مثل الإخوان المسلمين وكذا اليهود - رسالة الحجيات وتكشف موقف الجماعة من الصحابة وافعالهم والنقل عنهم ومن قضايا الاجماع والكفر - رسالة التوسمات، والتي يدعي فيها شكري النبوة وعدم اعتبار الحج فريضة، وإباحة التعامل بالربا والسماح لأعضاء جماعته للهجرة إلى أوروبا (بلاد الكفر)، وتحريم دخول دورات المياه.

راجع في ذلك: محمد سرور زين العابدين، جماعة المسلمين المسلمين ........، مرجع سابق، ص ص 15-18، وعبد الرحمن أبو الخير، ذكرياتي مع جماعة المسلمين (التكفير والهجرة).....، مرجع سابق، ص ص 18-19، 32- 33

[8] لم يبح شكري مصطفى بمسألة الحد الأدنى في الإسلام، إذ أخذ موقفا متشددا من ترك التكاليف على اعتبار أن ذلك هو نوع من المسايرة لأفكار المرجئة والخوارج. راجع في ذلك رسالة التوسمات في: محمد سرور زين العابدين، جماعة المسلمين المسلمين........، مرجع سابق، ص 15

[9] جيل كيبل، النبي والفرعون، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1978، ص 23 ص 62. وأيضا: عبد الرحمن أبو الخير، ذكرياتي مع جماعة المسلمين (التكفير والهجرة)، ........، مرجع سابق، ص 9

[10] الزواوي بغورة، مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، المركز القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص108، وانظر أيضا: محمد حافظ دياب، سيد قطب: الخطاب والأيديولوجيا، دار الثقافة الجديدة، الطبعة الأولى، القاهرة، 1987، ص15

[11] رفعت السعيد، الإسلام السياسي من التطرف إلى مزيد من التطرف، قضايا فكرية: الكتاب الثامن، أكتوبر 1989، ص311

[12] شحاته صيام، العقل التكفيري: من التشدد إلى المراجعات، دار رؤية، الطبعة الأولى، القاهرة، 2015، ص 100-102