الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، كلاهما عدو

فئة :  مقالات

الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، كلاهما عدو

الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، كلاهما عدو

تقديم:

يخطئ كل نقاش يحاول المفاضلة بين أشكال الاستبداد المختلفة، كما لو قال قائل إن هذا استبداد نير، والآخر متجبر، أو هذا عادل والثاني جائر؛ فالاستبداد يبقى استبدادًا مهما تحققت بعض منافعه الصورية، فإن أضراره أكثر وأعسر، ومخلفاته أخطر وأكبر، سواء على كيان الدولة الذي يلتهمه الاستبداد التهامًا، أو بالنسبة إلى المجتمعات التي يبتلعها أيضا ابتلاعًا.

وعلى هذا الخط ينطبق القول على من يفاضلون بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، أو من يشنعون قولهم على الثاني ويداهنون الأول، أو العكس، والحال أنهم لو وسعوا نظرهم وأبعدوا تحيزهم، لبان لهم أن كلا الاستبدادين يقومان على أصل واحد ومنبع مشترك يرويان منه عطشهما أو تعطشهما إلى التسلط والانفراد بأمر الناس بلا رحمة.. !

تطالعنا ذكريات التاريخين القديم والحديث بالعديد من مظاهر الاستبدادين السياسي والديني التي يندى لها الجبين وتقشعر لها الأبدان؛ فمن الاستبداد الإسلامي مرورًا بالاستبداد الكنسي، ثم وصولا إلى استبداد الأنظمة العسكرية في العصر الحديث، اجتاز البشر لحظات عسيرة وحروبًا قاتلة من أجل تخليص رقاب الإنسان من الاستعباد والرق، تارة باسم الدين والولاء لله، وتارة باسم السياسة والولاء للسلطة.

سنعرض في هاته المساهمة للعديد من الأوجه المشتركة للعلاقة بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، بالشكل الذي يؤكد أن كليهما "عدو" تجب مقاومته وإبطال مزاعمه؛ وذلك من خلال ما يلي:

- القمع المؤدي إلى الإقصاء

يبرع أصحاب الاستبدادين السياسي والديني في قمع من ينتقدهما، ويكشف تناقضاتهما وزيفهما وتسلطهما؛ فالاستبداد والحالة هاته يسعى إلى إبقاء الأمور على ما هي عليه واستدامة أمده واستطالة أجله. إن أسلوب زرع الخوف والرهبة يعتقد فيه الاستبداد أنه فعال لتحقيق أهدافه.

وقد نجح فعلا "موقتا" و"نسبيًّا" في ثني المجتمعات عن مقاومته ماضيا وحاضرًا، فتحت سلطة الخوف، استكانت المجتمعات مدة من الدهر تداهن المستبدين وتتظاهر بالخضوع لأمرهم، وأحيانا، كان الهدف تحقيق بعض المكاسب المادية كما يرى الكواكبي(1)، ولكن هذا الخوف سرعان ما يتهدم ويضمحل، فتبدأ مقاومة المستبدين وتحدي وسائل قهرهم.

- العنف المؤدي إلى القهر

يوظف المستبدون باسم الدين أو السياسة أو هما مجتمعين، أدوات القهر والعنف ضد خصومهم من أجل الحيلولة بينهم، وبين كشف عوارهم أمام الناس، ولتحقيق ذلك يسخّر المستبدون كل الإمكانات المتاحة: مالية، عسكرية، إعلامية ... ولو سخروها فيما ينفع الناس لكان ذلك خيرا لهم، وللبشرية.

يعج الاستبداد الإسلامي القديم بحوادث القتل تجاه المعارضين السياسيين والدينيين مثل الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير، واتخذت مثل هاته الجرائم تحت ستار الدين، وبتأييد من "شيوخ السلاطين" الذين أبدعوا في تبييض وجه الاستبداد وإيجاد العشرات من المؤيدات له من النصوص الدينية، نفس الأمر، عرفته أوروبا في العهد الكنسي، حيث شهدت سلسلة من القمع الديني للمفكرين والمجددين، توجت بسنوات من الحروب الدموية، انتهت أخيرًا بإسدال الستار عن الحكم الكنسي.

وعرف العصر الحديث مجموعة من مظاهر العنف الاستبدادي السياسي، بدءًا من الأنظمة القهرية التي سادت أوربا الشرقية وبعض دول أوروبا الغربية مثل إيطاليا وألمانيا وإسبانيا، ثم كذلك أغلب الأنظمة الشرق أوسطية، وتلك المتواجدة في شمال إفريقيا، ففي كل هاته النماذج عانى الناس من ويلات التسلط والعنف القاهر والجائر، وجرى تحويل الإنسان إلى ما يشبه "الروبوت" الذي يتحكم فيه المستبدون ويبرمجونه وفق أهوائهم الاستبدادية.

- الكبث المنتج للضغط

تحدث علال الفاسي ضمن كتابه الشهير "النقد الذاتي" عن الآثار النفسية الوخيمة لظاهرة قمع حريات التعبير والتفكير في المجتمعات الاستبدادية، والتي منها الضغط النفسي الرهيب الناتج أساسًا عن كبث الأفكار والآراء (2) خوفا ورهبة. إنه ضغط نفسي قد يؤدي إلى نتائج اجتماعية مؤلمة مثل: النفاق، التفكك، الهجرة، الانتحار، الجنون، الإرهاب(3).

يشترك الاستبدادين الديني والسياسي في هاته الصفة؛ فهما معا يدعمان كبث الأفكار والعقائد وعدم إظهارهما في الفضاء العام، بالشكل الذي يؤدي إلى النتائج المذكورة أعلاه. إن هذا الكبث المنتج للضغط النفسي يؤدي من حيث لا يدري الاستبداد إلى ابتلاع الأخير وهدمه هدمًا، غير أن العواقب لا تكون مضمونة، فقد يؤدي الضغط النفسي - في أبشع صوره- إلى انفجار شظاياه إرهابًا هنا وهناك... !

- التشهير والتلفيق

يوظف المستبدون في سبيل دعم استبدادهم آليات التشهير وتلفيق التهم لخصومهم وكاشفي استبدادهم؛ ففي سياق الاستبداد السياسي يتم اصطناع التهم السياسية الجاهزة، مثل خيانة الوطن والتآمر على حياة الحاكم ...! والهدف هو التخلص من المعارضين والزج بهم في السجون، وهؤلاء هم الأكثر حظا. أما الأقل حظًّا فيكون مصيرهم هو القتل والاغتيال بعد التعذيب الشديد.

أما في سياق الاستبداد الديني، فقد يتخذ صورًا عديدة مثل التكفير والتحريض ضد المفكرين والباحثين المتنورين، وقد يصل إلى في النهاية إلى الاعتداء المباشر والاستهداف العائلي كما حدث كثيرًا مع مفكرين كثر مثل فرج فوده وطه حسين وناصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ، والقائمة تطول وتطول.

- الاضطهاد المانع من الحرية

يسهم الاستبداد أيًّا كان شكله في اضطهاد الملايين من البشر وتحويلهم إلى طوائف وفئات معزولة ومغتربة في أوطانها بفعل القمع والعنف الممارس عليها، والعنف هنا لا يعني فقط تمظهره المادي، بل كذلك تجسيداته الرمزية والمعنوية؛ فالإحساس بالتهميش والعزلة والغربة أشد وطأة من القهر المادي.

تعيش اليوم في أوطاننا العديد من الفئات الدينية والسياسية التي قررت اعتزال الفضاء العمومي بسبب عجزها عن مقاومة، إما استبداد السلطات السياسية أو استبداد الجماعات الدينية المهيمنة والمسيطرة على الأوساط العامة.

هذا الاضطهاد في السياق الديني قد تكون له مؤيدات قانونية تسهم فيها التشريعات التي تنحو أحيانًا إلى المهادنة، أو كسب ودّ الجماعات الدينية المهيمنة، وقد يكون الهدف من ذلك أيضا تلافي قيام تعددية مجتمعية تؤدي مستقبلا إلى تعددية سياسية تهدد أركان الاستبداد...!

خلاصة:

لا فرق إذن بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، فهما معا عدو للكرامة الإنسانية، وللطبيعة البشرية، يسعيان إلى خنق الحرية والقضاء على أي تعددية، ويؤديان في الغالب إلى الفوضى والفتن المدلهمة التي لا تبقي ولا تدر، حينها يستوي الجميع: المستبدون وضحاياه، المضطهِدون والمضطهَدون.

لم تقلع المجتمعات الحديثة في مسار تطورها إلا بفضل الانعتاق من ربقة الاستبداد، حينها اختارت لنفسها مسلكا يحقق تقدمها بحرية، ومن دون منغصات، فكان ما كان من بناء حضارة قامت على العلم والقيم الإنسانية المبنية على الديمقراطية. ولا تزال هاته المسيرة في تطور وإصلاح وتقويم مستمر حتى تدرك كل أهدافها النبيلة: الحرية، الكرامة والعدالة الشاملة.

 

المراجع المعتمدة:

(1). ينظر مقالنا: سفيان الكمري، مواطنون لا أسارى.. صيحة الكواكبي ضد الاستبداد، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، منشور بتاريخ 25 دجنبر 2024، الرابط الإلكتروني:

https://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B7

(2). علال الفاسي، النقد الذاتي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الثامنة: 2008، ص: 48

(3). ينظر مقالنا: سفيان الكمري، إنتاج اليقين وصناعة الإرهاب بالمجتمعات المحافظة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، منشور بتاريخ 30 مايو 2023، الرابط الإلكتروني:

https://www.mominoun.com/articles/%D8%A5%D9%86%D8%AA%D8%A7