جيل فيراغو: الإرهاب، قرنان من العنف الأقصي


فئة :  حوارات

جيل فيراغو: الإرهاب، قرنان من العنف الأقصي

حاوره: توماس رابنو

ترجمة: محمَّد الحاج سالم


غالباً ما تتوالى التعليقات على الإرهاب حال حدوثه. لكنَّه قلّما تمَّ تحليله في منظور سياقاته التاريخيَّة. المؤرّخ الفرنسي "جيل فيراغو" المختصّ في تاريخ العلاقات الدوليَّة وصاحب كتاب "تاريخ الإرهاب" الصادر مؤخَّراً في باريس، يرسم في هذا الحوار بكلّ هدوء ورصانة علميَّة أبرز سمات الإرهاب المجنون الذي بات يفرض حضوره بكيفيَّة غير مسبوقة في صميم الأحداث الجارية في العالم. ويبيّن أنَّ الإرهاب يتغذَّى من سياقاته بقدر ما يتغذَّى من تاريخه: من ولادته من رحم الثورة الفرنسيَّة، مروراً بالتنظيمات الفوضويَّة، ووصولاً إلى تعولمه انطلاقاً من السبعينات، ليغدو أحد أهمّ العوامل المؤثّرة في صنع السياسات في العالم وتبرير التدخُّل في شؤون الدول والأوطان والتقليص من هامش الحريَّات بذريعة "الحرب على الإرهاب".

توماس رابنو: إلى أيَّة فترة تعيد ظهور الإرهاب؟

جيل فيراغو: علينا أن نعيد تركيب "المسار التاريخي" للإرهاب لفهمه وبلوغ جذوره، والربط بين مظاهره اليمينيَّة المتطرّفة، واليساريَّة المتطرّفة، القوميَّة أو الدينيَّة. وعلى المستوى الدولي، تلاقي الهيئات ذات الصلة مثل الأمم المتحدة عنتاً من أجل الاتفاق على تعريف، لأنَّ صفة "إرهابي" هي أيضاً سلاح خطابي يصم الخصم من خلال نزع كلّ شرعيَّة عنه. يعرَّف الإرهاب أوَّلاً باعتباره علاقة متناسبة عكسيَّاً بين الاعتداء وضحاياه وتأثيره، أي ردّة فعل الجمهور المستهدف. وحاليَّاً، فإنَّ هذا العنف يستهدف الأفراد من أجل الضغط على مجتمعنا لأغراض سياسيَّة. لكن في أماكن أخرى يعتبر الإرهابيُّون أنفسهم مقاومين، وأنا أكثر ميلاً لاستخدام عبارة "العنف السياسي" في هذا الخصوص.

توماس رابنو: أنت تحدّد بدايات الإرهاب في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر. هل كانت الثورة الفرنسيَّة محفّزه؟

جيل فيراغو: يجدر بنا أوَّلاً التمييز بين قتل المستبد، الذي يهدف إلى التخلّص من حاكم سيّئ، وبين الإرهاب الذي يريد إسقاط النظام بالتخلّص ممَّن وُضع على رأسه. وإذا ما تمَّ بالتأكيد استخدام الترويع منذ ولادة الإنسانيَّة للتخلّص من الخصوم، فإنَّه علينا أن نلاحظ أنَّ الإرهاب، أي الاستخدام المنهجي للعنف السياسي والتنظير له، يظهر في النصوص خلال الثورة الفرنسيَّة. هذا هو نظام الإرهاب الذي تمَّ التفكير فيه إثر اغتيال السياسي جون بول مارات (Jean Paul Marat) في عام 1793، وهو ما لاحظه الفيلسوف إدموند بيرك (Edmund Burke) الذي استحضر "الإرهاب" وسيلة لـ"الحكم بالترويع".

توماس رابنو: في 24 ديسمبر 1800، استهدفت أوَّل سيَّارة مفخَّخة في التاريخ شخص نابليون، وقتلت أبرياء. ماذا كان ردّ فعل القنصل الأوَّل؟

جيل فيراغو: انطلاقاً من عام 1799، انتقل الترويع من كونه سياسة دولة ليغدو فعل أقليَّة. لقد استغلَّ نابليون على الفور قضيَّة اغتياله لتوظيفها والتخلص من المعارضة الجمهوريَّة برمَّتها. وقد نسج عدد من الأنظمة على المنوال نفسه، ولم يتوجَّه ذلك ضدَّ المعارضين العنيفين فحسب: فالاغتيال يخلق أيضاً فترة انفعال جماعي يمكن خلالها للحكومة أن توظّف العمل الإرهابي لفرض تشريعات، بما يشبه "حالة العفو" التي تعقب وصول أحدهم إلى السلطة.

توماس رابنو: في أيّ ظروف يمكن للإرهاب أن يكون فعَّالاً؟

جيل فيراغو: يحصل الإرهاب على نتائج حين تكون الأقليَّة التي تدخل طور الفعل مدعومة بأغلبيَّة من المنتظرين. ولكن إلى جانب هجمات الأرغون والهاجاناه التي لعبت دوراً في ولادة دولة إسرائيل أو تلك التي قام بها المطالبون باستقلال الجزائر، لا بُدَّ أن نذكّر باغتيال دوق بيري (Duc de Berry) في عام 1820 من قبل لوفيل (Louvel)، وهو "ذئب منفرد"، وهو ما ساهم في القضاء على سلالة البوربون.

توماس رابنو: يستشهد عدد من المنظمَّات الإرهابيَّة بنموذج المقاومة الفرنسيَّة في الأربعينات والخمسينات.

جيل فيراغو: بالنسبة إلى النازيّين، والجنرال فيشي، والمتعاونين مع الألمان، كان الرافضون للهدنة والمقاومون المقاتلون "ارهابيّين"، بينما كانت المقاومة تعتبر المعتدين هم الإرهابيُّون. وبتنظيم "العمل الفوري" انطلاقاً من 21 أوت 1941 من قبل المقاومة الشيوعيَّة، قاربت استراتيجيَّة زرع الخوف في صفوف المحتلّ والمتعاونين أن تكون إرهاباً. وحين علم الجنرال ديغول باغتيال الملازم موسر (Moser) في المترو حين كان في طريقه إلى مكتبه، ظهرت عليه علامات الحرج. لم يوافق ديغول على هذا الأسلوب، أوَّلاً "لتجنُّب الثأر"، ثمَّ لأنَّه كان يعتزم قيادة المقاومة، ولكن ديغول كان يرى أيضاً هذا العنف له ما يبرّره، أي الاحتلال الألماني.

توماس رابنو: ما هي الآليَّة التي تطوَّر عبرها الإرهاب نحو استهداف المدنيّين؟

جيل فيراغو: علينا أن نميّز بين ضحايا الإرهاب وبين المستهدفين به. الضحايا هم من يسقط نتيجة الهجمات، في حين أنَّ المستهدفين هم من يُراد الضغط عليهم. لذا، فإنَّ الضغط على شعب في مجموعه بدل التركيز على مجموعة من القادة يبدو أكثر فعاليَّة، خصوصاً في ظلّ نظام ديمقراطي. فحيثما وُجد رأي عامّ، تكون التربة مواتية، إذ يكون مطلب السكَّان المرعوبين هو حصول استجابة فوريَّة. لقد تبنَّت الألوية الحمراء صيغة "استهداف شخص، من أجل ردع مائة"، وهو ما يلخّص منطق الإرهاب الحالي.

توماس رابنو: لماذا تعاود عبارة "لا شيء سيعود كما كان سابقاً" الظهور بشكل منتظم تقريباً بعد كلّ هجوم؟

جيل فيراغو: في اللاتينيَّة، يعني الفعل terrere (أرهب) "التجميد"، وبالتالي فنحن نتحدَّث عن ترويع يجمّد الدم في العروق ويثير العاطفة. بيد أنَّ للمجتمعات قدرة عجيبة على امتصاص الصدمات، فما أن تتجاوز فورتها العاطفيَّة وردود الفعل السياسيَّة حتَّى تعود إلى نسق حياتها المعتاد، وتنظر إلى الإرهاب باعتباره عنفاً بعيداً، إلى حين وقوع حادث إرهابي جديد.

توماس رابنو: هل يعود شكل الإجماع الذي يأتي في أعقاب هجوم إلى وجود ثابت آخر؟

جيل فيراغو: كلُّ شيء يعتمد على معنى هذا الإجماع. فقد وُظّف اغتيال جون جوريس على سبيل المثال من أجل شدّ عرى الوحدة المقدَّسة في فرنسا، في حين كان هو نفسه من معارضيها. ولكن بروز هذه الظاهرة بعد 11 سبتمبر 2001 و7 جانفي 2014، كان يعود بالخصوص إلى عفويَّتها.

توماس رابنو: ألم يؤدِّ ظهور مجتمع المعلومات إلى أن يضمن الإرهابيُّون إسماع صوتهم بشكل أفضل؟

جيل فيراغو: كانت مارغريت تاتشر تتحدَّث عن "الأوكسجين الإعلامي" بخصوص الجيش الجمهوري الأيرلندي. فدون وسائل إعلام يغدو الإرهاب مجرَّد إجرام بسيط. أمَّا مع وسائل الإعلام، فإنَّ الإرهاب يتردَّد صداه بطريقة هائلة، خاصَّة في وجود إرهابيّين يحسنون استخدام كلّ موارد التكنولوجيا، وكلّما كان الهجوم مذهلاً، كان أكثر إثارة للرأي العامّ. هذا في حين تمرُّ مآسي يسقط فيها ضحايا أكثر، مثل المجزرة التي قُتل فيها المئات في مالي في جانفي الفارط، دون ذكر تقريباً. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ الإرهاب يبدو الإطار المثالي لتوحيد مجتمع ما حول مشروع أو سياسة. ففي الولايات المتّحدة أضحى المواطنون المنقسمون تقليديَّاً بشأن مدى تدخُّل الدولة في شؤونهم، عن طيب خاطر وبين عشيَّة وضحاها، موافقين على إقرار قانون الوطنيَّة (Patriot Act) باسم التوقّي من الإرهاب، وقبلوا تبعاً لذلك بانتهاك خطير لحقوقهم.

توماس رابنو: هل من نقاط تشابه بين الولايات المتّحدة بعد 11 سبتمبر وفرنسا بعد 7 جانفي، على سبيل المثال بخصوص الوحدة المقدَّسة، أو اكتساب السلطة التنفيذيَّة مزيداً من الشعبيَّة، أو بخصوص الخطاب السياسي؟

جيل فيراغو: المقارنة ممكنة بخصوص ردَّة فعل الناس. ولكن على عكس النموذج الأمريكي الذي أنتج دون تأخير قوانين خانقة للحريَّات، فإنَّ بلادنا لم تشعر سوى بقشعريرة في هذا الاتجاه، وهو ما كان محلَّ انتقاد شديد. يبدو أنَّنا فهمنا أنَّ الحلَّ يقع على مستوى أوسع يتعلّق بمسألة الإدماج، والعلاقات بين الطوائف. فحين ذهب فرنسوا هولاند على متن حاملة الطائرات شارل ديغول باتّجاه العراق، فإنَّ ذلك كان من باب إيصال رسالة يُفترض أن تعطي صورة رئيس محارب. ولكنَّ فرنسا ليس لديها، على عكس الولايات المتَّحدة بعد 11 سبتمبر 2001، لا الطموح ولا الوسائل كي تتورَّط أكثر في العراق. وبالمقابل، فإنَّ العمليَّات التي بدأت بالفعل ضدَّ داعش، أي الدولة الإسلاميَّة في العراق والشام، على سبيل المثال، قد تجد شرعيَّة أكبر. ولكنَّ داعش هي أيضاً، منذ عام 2003 وحرب العراق، ثمرة عمل السحرة الذين انقلب عليهم ما مارسوه من سحر في أفغانستان خلال الثمانينات، حين دعَّموا الحركة الإسلامويَّة الأكثر تطرُّفاً في مواجهة السوفيات.

توماس رابنو: ألم يكن من الممكن التنبُّؤ بما تمثّله داعش اليوم من تهديد؟

جيل فيراغو: كانت الحكومة الأمريكيَّة مقتنعة بأنَّها ستفوز عبر دعم الأصوليَّة الدينيَّة المعارضة للشيوعيَّة، وأنَّ ذلك أشدُّ فعاليَّة في هذه الحالة من الليبراليَّة. ولكن منذ عام 1991 وحرب الخليج، وفَّر الوجود العسكري الدائم للولايات المتَّحدة في شبه الجزيرة العربيَّة ذريعة للأصوليَّة كي تتطوَّر.

توماس رابنو: وهل كرَّرنا مؤخَّراً الخطأ نفسه في ليبيا وسورية؟

جيل فيراغو: هنا أيضاً تعلّمنا الدرس مرَّة أخرى، فقد تعرَّض فرانسوا هولاند لانتقادات بسبب ضعف دعمه للمعارضة الديمقراطيَّة في سوريا. وهنا يُطرَح سؤالان: هل عدوّ عدوّي هو صديقي؟ وهل الأصوليُّون قابلون للذوبان وسط الديمقراطيّين؟

توماس رابنو: هل يمكننا القيام بـ"حرب ضدَّ الإرهاب"؟

جيل فيراغو: هذه العبارة كرَّرها الوزير الأوَّل الفرنسي الحالي مانويل فالس (Manuel Valls)، وقد ظهر هذا المفهوم خلال السبعينات مع عمليَّة "كوندور" في أمريكا اللاتينيَّة وقتل 30 ألف شخص من قبل الدكتاتوريَّات الحليفة لأمريكا، قبل أن يستخدمه جورج بوش بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 ويعمّمه. ولكنَّ هذه العبارة لا تعني الكثير: فنحن لا يمكننا أن نشنَّ الحرب على مفهوم أو على ظاهرة. وعلينا ألَّا ننسى أنَّ الإرهاب هو في كثير من الأحيان جواب سيّئ عن سؤال جيّد: يجب أن يتمَّ التوقّي بصفة تصاعديَّة لتفادي أن يكون خيار العنف في المجتمع أو الطائفة هو الأكثر إمكاناً والحلّ الأسرع والأسهل. فتشريعات مكافحة الإرهاب ليست في نهاية المطاف سوى ضمادة مسكّنة. ومشكلة مجتمعاتنا التي تولّد التوتُّرات والصراعات تكمن في قدرتنا على التهدئة، وليس في القدرة على مطاردة هذا أو ذاك من الإرهابيّين. وظاهرة الذئاب المنفردة التي لا يمكن السيطرة عليها، تذكّرنا بأنَّ الإرهاب سيكون موجوداً دائماً.

العنوان الأصلي للحوار:

«Le terrorisme: deux siècles d'ultra violence», Propos recueillis par: Thomas Rabino, Marianne, 27 février 2015.

أهمّ كتب جيل فيراغو:

- Lyautey, la fabrique du héros colonial (Belin, Paris, septembre 2014)

- Histoire du terrorisme (Perrin, Paris, 2014)

- Dictionnaire du Vatican et du Saint-Siège (en collaboration, sous la direction de C. Dickès, Robert Laffont, Paris, 2013)

- Les écrivains diplomates, textes réunis par R. Meltz, S. Jeannesson, L. Badel et G. Ferragu, Armand Colin, Paris, 2012.

- Albert de Mun-Hubert Lyautey, correspondance publiée et annotée, (en collaboration avec P. Levillain), Droz, Genève, 2011.

- Le XXe siècle, Hachette université, Paris, 2009 (en collaboration avec F. Berger)