حوار مع الكاتب السوري ياسين الحاج صالح


فئة :  حوارات

حوار مع الكاتب السوري ياسين الحاج صالح

حوار مع الكاتب السوري ياسين الحاج صالح([1])

"الاستثناء من الديمقراطية هو ما جعل من الإسلام أيديولوجيا سياسية"

حاورته: ميسون شقير[2]

في المسافة الوعرة والموجعة ما بين الثورة السورية وملاحمها الأسطورية، وبين الوصول بها إلى مرحلة الحرب الأهلية الممنهجة، وبعدها تحولها إلى الحرب العالمية في سورية، في هذه المسافة كتب ياسين الحاج صالح، المناضل اليساري العلماني السوري، المعتقل الفكري لسنوات عند سجون الأسدين، والناشط المدني السلمي منذ بداية الثورة الحلم، وزوج الناشطة في حقوق الإنسان سميرة خليل، التي اختطفتت منذ سنوات في الغوطة، كتابه المهم "الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية، والحرب العالمية في سورية"، الذي حاول فيه ياسين الحاج صالح توثيق الثورة السورية، وتقديم دراسة موضوعية تاريخية فلسفية واستنتاجية للتحولات التي عاشتها الثورة السورية طيلة أعوامها الثمانية.

بين زنزانة ومنفى، يعيش ياسين الحاج صالح، وبين ثورة طالعة من الحناجر، وعالم خذل صوتها، يصرخ ياسين الحاج صالح، وبين الصراخ المبحوح، والاختناق بالفقد يكتب ياسين الحاج صالح، بصوت سميرة خليل، زوجة الروح والعمر والأحلام الشقية، بصوت رزان زيتونة الذي حوصر ولوحق ثم اختتطف، بصوتنا ونحن نغرق هنا في ملح منفانا، ولا نعثر في هذا القاع إلا على الرمل. هنا في مدريد، وعلى هامش توقيع ترجمة كتابه "الثورة المستحيلة" إلى اللغة الإسبانية، الذي نقلته إلى اللغة الإسبانية المترجمة نعومي ريث دريث، أدخلنا ياسين الحاج صالح إلى أنفسنا مرة ثانية بهذا الحوار، الذي خص به مجلة "ذوات"، وإلى الأسئلة القلقة التي يثيرها الكتاب، وتشريحه المستفيض للأوضاع السورية وللتعتيم العالمي لحقيقة الأوضاع بسوريا. وياسين الحاج صالح، كاتب وناقد وباحث ومترجم سوري معارض، وسجين سياسي سابق، ولد في الرقة عام 1961، اعتقل سنة 1980 بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي ديمقراطي معارض، وقضى 16 سنة من عمره في سجون الأسد، بسبب نشاطه الجامعي الحزبي، ليعود إلى الكلية في عام 1997 ويواصل دراسته للطب، ويتخرج من الكلية عام 2000. لم يتخصص الحاج صالح في الطب، لأنه بعد اعتقاله حُرم من الحقوق المدنية، وبالتالي من راتب الدراسات العليا الذي توفره الجامعة لمتخصصي الطب، وهو لا يعمل بالطب، لأنه يفضّل العمل بالثقافة، إضافة إلى عدم قدرته على امتهان الطب لعدم تخصصه.

بدأ الكتابة عملياً عام 2000، وتفرّغ لها تماماً في نهاية ذلك العام، حيث عمل مراسلاً لمجلة "الآداب"، وكتب في عدة صحف عربية مهمة. منع من السفر منذ عام 2005

يعد ياسين الحاج صالح من أبرز نقّاد النظام السوري، والمشتغلين بالشؤون السورية، ومن أهم الكتاب والمنظرين السوريين في قضايا الثقافة والعلمانية والديمقراطية وقضايا الإسلام المعاصر، له تأثير واسع في الساحة الثقافية السورية والعربية، وهو من أكثر الكتاب تواصلاً مع الشباب عبر الفايسبوك والإنترنيت. ساهم في مارس (آذار) 2012 مع مجموعة من الكتاب والباحثين السوريين الشباب في تأسيس "مجموعة الجمهورية لدراسات الثورة السورية"، التي تحولت إلى منبر ثقافي وفكري لتغطية الشأن السوري خلال الثورة.

انتقل أثناء الثورة إلى غوطة دمشق، وغطّى بعض جوانب الحياة هناك قبل أن يسافر إلى الرقة، ويغادر إلى إسطنبول في خريف عام 2013. هو عضو مؤسس لـ "البيت الثقافي السوري" في إسطنبول، وهو زوج الناشطة السورية سميرة الخليل، التي خطفها "جيش الإسلام" في غوطة دمشق، ولم يظهر لها أثر إلى الآن، هي ومجموعة من النشطاء الحقوقيين. صدرت له مجموعة من الدراسات والكتب، من بينها: "سوريا من الظل: نظرات داخل الصندوق الأسود" دار جدار للثقافة والنشر 2010، و"أساطير الآخرين: نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده" دار الساقي2011، و"بالخلاص يا شباب!" دار الساقي 2012، وفي السنة نفسها توج بـ "جائزة الأمير كلاوس"، وهي إحدى أهم الجوائز الأوروبية التي تكافئ المفكرين والكتاب في البلدان التي تعاني "نقصاً في فرص الحرية".

وأخيرا صدر له كتاب "الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية، والحرب العالمية في سورية" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت وعمّان 2017، وهو الكتاب الذي ترجم إلى أكثر من لغة أجنبية، ثم كتاب "الإمبرياليون المقهورون: المسألة الإسلامية وظهور طوائف المسلمين" عن دار رياض الريّس للكتب والنشر 2018.

ميسون شقير: في أية ظروف ألف الكاتب ياسين الحاج صالح كتاب "سوريا الثورة المستحيلة"؟ وكيف يكون هذا الكتاب شاهدا حقيقيا من لحم ودم كما قيل عنه؟

ياسين الحاج صالح: في البداية لم أكن أفكر في نشر الكتاب، لقد عشت في سوريا أول سنتين بعد الثورة متواريا عن الأنظار في مدينة دمشق؛ لأنه كان ملاحقا من قبل النظام بسبب نشاطه التنظيمي والمدني والإغاثي في بداية الثورة. وفي هذه الفترة، بدأ الجزء الأول من الكتاب، ليكون شاهدا حقيقيا لمنظمات حقوق الإنسان على حجم التعذيب الذي يتعرض له النشطاء السلمون في السجون السورية، وعلى طريقة بداية الثورة، وكيفية التظيم لخروج المظاهرات، وكيفية التضامن الاجتماعي الملحمي الذي ظهر في السنة الأولى، وكيف اجتمعت كل التيارات والطوائف والأديان في كل التفاصيل، مساعدة أهالي المعتقلين وإنشاء مشافي ميدانية لمعالجة جرحى الرصاص، الذي كان يطلق على المظاهرات الثورة السورية، فهذا الأمر حقيقة واقعية وليس أسطورة. وللأسف، فقد تم سحق تلك المظاهرات في نهاية المطاف بوحشية، بينما كان الرأي العام العالمي يغض الطرف عنها.

وأنا شخصيا عايشت كيفية تحول الثورة من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة، بعد كل العنف المفرط الذي استخدمه النظام ضد أشخاص سلميين عزل، وكيف بدأت مرحلة جديدة، هي مرحلة مداهمة قوات الجيش للمدن الثائرة ثم مرحلة قصف المدن بالطائرات وحصارها وتجويعها. وهنا بالذات بدأت مرحلة ثانية، وأهم ملامحها هي جماعة "القبعات البيض"، هؤلاء الناس الذين على الإنسانية جمعاء أن تتعلم درسا كبيرا منهم، فهم مدنيون محايدون، ومنهم عسكريون ولكن أطباء أو مسعفين. لقد حاولت أن أوثق كل شيء بمنتهى الحيادية، ومرحلة القصف هي المرحلة التي بدأ فيها التخريب الممنهج للثورة، والتي ذهبت فيها أنا وسميرة خليل إلى الغوطة، وبقينا فيها سنة كي نساهم في عمليات الإغاثة. وهناك شهدت بدايات ظهور التظيمات المتشددة المدعومة من دول تريد إجهاض الفكر المدني الديمقراطي للثورة. وهناك اختطفت سميرة خليل مع رزان زيتونة وناظم حمادي من قبل هذه المجموعات، وكان علي أن أخوض رحلة مرعبة إلى الرقة، وهي مدينتي الأم، وكانت في ذلك الوقت مؤهلة لعيش تجربة تحررية ولتجربة مرحلة، أن تدير نفسها وقد امتلأت المدينة بمظاهرات من الشباب والشابات العلمانيين، وبرغبة وهاجة للبداية قبل أن يتكشف ما فعله النظام، وكيف سلم المدينة المتحررة لداعش التي شهدت صعودها بنفسي ووثقته.

لقد استغرقت رحلتي من الغوطة إلى الرقة تسعة عشر يوما، كنت معرضا فيها للموت مئات المرات على كل أنواع الحواجز، وكل طرق التخفي للوصول.

ميسون شقير: لماذا أصريت على كتابة كتاب "سورية الثورة المسحيلة"، بالرغم من كل صعوبات الكتابة والظروف القاهرة التي كتبته خلالها؟

ياسين الحاج صالح: لم يكن الأمر سهلا أبدا، هذا الوجع كله قد عشناه بكل ما فينا، وهو يخصنا ونحن الأقدر والأولى بتقديمه وتحليله ونقده، والتكلم عنه بقلوبنا وحناجرنا المقطعة، وأظافرنا المقتلعة، وأحلامنا التي اغتالتها المجموعات المتشددة وداعش، وحكمت علينا بالسواد. من حقنا رواية روايتنا، ولن ينافسنا عليها أحد، لا الغول الأسدي، ولا الغول العدمي المنجز فكريا بمنجزات مسبقة الصنع المتشدد، ولا الغول الطائفي، ولا غول سيطرة القوى الدولية، وخاصة القوى الإيرانية الروسية والأمريكية، التي كانت تعيش أزمة الديمقراطية، وهو ما أسميته بـ "الغيلان الثلاثة" غير الإنسانية والمنافية لكل مواصفاتها، والتي جعلت منطقة الشرق الأوسط أرضا لليأس والكراهية، ومستنقعا للجهل والموت.

هذه الأرض هي أرضنا، أرض أقدم الحضارات، وأرض أفضل التجارب النهضوية والفكرية، وأفضل مثال للتعايش الحقيقي غير المشوه أو المستنسخ، وهذه القصة كلها هي قصتنا نحن، ولن يستطيع أحد أن يقدمها فكريا، أو إبداعيا، أو ثقافيا، أو سياسيا، كما نحن قادرون على ذلك. وعلى الرغم من قلة تجربتنا السياسية، وخوفنا الموروث، لكننا نحن الذين نعرف الحقيقة وتفاصيلها، ونحن الذين علينا تقديمها بكل حيادية ووضوح وجرأة، هذه حياتنا نحن التي فككت وتحولت إلى أشلاء تتناقلها وسائل الإعلام، وتغير فيها وتشوهها، وتساهم في محوها.

لقد حاولت اتباع منهج التحليل المنطقي السياسي الفكري في كتابي، وأجبرت نفسي على الحيادية الوقحة أحيانا، وقد أخطأ مثقفو العالم حين تكلموا عن صراع الهويات في سوريا بعدما قال أوباما إنه "مجرد صراع سني شيعي". وهذا من أغبى التحاليل وأكثرها سطحية وبعدا عن العمق، كما أنه من أكثر التفسيرات الرخيصة لما حصل ويحصل في سوريا، وهو ليس صحيحا أبدا، وقد انتقدت كثيرا هذا المنهج من التفكير الثقافوي، وحاولت تقديم حقيقة المجتمع وحقيقة التحول خلال سبع سنوات، فهناك مرحلة الثورة السلمية التي انتهت تماما في منتصف عام 2012، والتي كان الصراع فيها صراعا سوريا/ سوريا سلميا، لكنه بعد ذلك تحول إلى صراع سلمي مسلح سوري، ثم إلى صراع مسلح مسلح سوري، وبعدها بدأت العملية الأخطر، وهي عملية دخول جهاديين سنة عبر الحدود العراقية، طبعا بسماح ومباركة أوباما ومن الحدود اللبنانية والتركية، وفي الوقت نفسه دخلت القوات الإيرانية بشكل رسمي في عام 2012، وذلك بعد مقتل خلية الأزمة، حيث بدأت تظهر على السطح صراعات سنية شيعية، لكنها في العمق لها مداخلات كثيرة مختلفة، منها تدخلات قطر والسعودية لإجهاض الثورة وتحويلها لصراع سني، وذلك خوفا من امتداداها إذا ما نجحت، وبعدها جاءت مرحلة القصف بالكيماوي بالاتفاق مع أمريكا والنظام السوري، وكان دخول حزب الله الذي بدأ يكبر ويتجذر أكثر، ثم بدأت روسيا بالظهور العلني معلنة دورها الريادي بكل وقاحة ودون أي رادع من العالم ومن كل قواه، وبعدها بدأت مرحلة التدخل العالمي، ثم مرحلة انتصار بشار الأسد.

لقد كتبت الجزء الأكبر من الكتاب في الرقة، والجزء الآخر في تركيا، بعد رحلة عذاب أخرى كان علي أن أسلكها مثلي مثل الآلاف من السوريين والمئات الذين قتلوا قبل أن يصلوا.

ميسون شقير: ما رأيك في أهمية دور المثقف السوري؟ وهل كان من الممكن أن يغير في مسار الثورة فعلا لو انخرط كل المثقفين السوريين فيها بجدية وإعلان وجرأة؟

ياسين الحاج صالح: الموضوع في رأيي أكبر من ذلك، لقد جرى تفخيخ المجتمع بالمخابرات والمخاوف الطائفية، حيث يمكن تحويل تمرد السكان على "الدولة" إلى تفجر المجتمع على نفسه. وعملت الدولة الأسدية طوال عقود على أن تكون ركيزة للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، إذ تتوسع دائرة المتضررين من أي تغير سوري محتمل، ويكثر الحريصون على بقاء الحال. وجرى احتلال الدولة العامة من قبل السلالة الخاصة ومحظييها على نحو يؤول بالدولة السورية إلى الدمار إن أطيح بـ "دولة" الأسديين؛ بيد أن الثورة المستحيلة وقعت فعلاً، وخاض السوريون كفاحاً استثنائياً في شجاعته وإبداعيته وتنوع وسائله، وقدرته على التجدد والاستمرار، وشهدت سوريا صنوفاً من المعاناة البشرية تقارن بكبريات المآسي في التاريخ الإنساني، في تفجرها الملحمي، كما في تحطمها التراجيدي.

نعم، إن من واجب المثقفين أن يتدخلوا في السياسة في كل وقت، وفي أوقاتنا الدموية اليوم بشكل خاص، على اعتبار أنّ الثقافة قوّة سياسية بما هي ثقافة، وبما هي شكل من أشكال العمل العامّ، له شخصيته الخاصة وكرامته الذاتية. لقد تفاجأت فعلا بمواقف الكثير من المثقفين السوريين، الذين بحجة الخوف من المد الإسلامي، غطوا خوفهم وتخاذلهم وتراجعوا عن دورهم، لم أتفاجأ بالقسم اليساري الذي كان ينطوي تحت مسمى "الجبهة الوطنية" الكاذب، لأن النظام عمل فعلا على طمس دور المثقف الحقيقي، واعتقل أو نفى كل من يمتلك جرأة ترعبه، لكن الحقيقية هي أن خذلان العالم لنا هو الذي جعل ما وصلت إليه الثورة أمرا محتوما.

في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كنت عضواً في واحد من بين اثنين من منظمات الحزب الشيوعي المعارض للنظام بصورة نشيطة، وفي ذلك الوقت، كانت هنالك انتفاضة في سوريا ضمت طلاباً ونقابيين ومحامين وأعضاء في مهن أخرى، وكل أولئك كانوا يناضلون ضد حكومة الأسد، فضلاً عن صراع منفصل بين النظام والإخوان المسلمين.

بالإضافة إلى ذلك، نشطت الإضرابات العمالية المنتظمة في مدينة حلب، حيث كنت أعيش، ورأيت بأم عيني قوات النظام تحطم أبواب المنازل والمحلات التجارية.

ولكي تكون معتقلاً في سجون الأسد، لا تحتاج أسباباً لذلك، لكن في عام 1980 اعتُقِلت أنا ومئات من زملائي كجزء من حملة شنتها الحكومة لاختراق المجتمع السوري وتحطيمه.

كنت صغيراً حينها، كما كانت الأعوام الأولى في السجن صعبةً للغاية. عوملنا معاملة قاسية. أما في السنين الأخيرة، فلم تكن ظروفنا بتلك السوء، كما سُمح لنا بإدخال الكتب والقواميس إلى المعتقل. تعلمت الإنجليزية داخل السجن، ولمدة 13 عاماً، كنت أقرأ ربما مئة كتاب أو أكثر سنوياً. وفي آخر سنة من اعتقالي نُقِلت إلى سجن تدمر، الذي يعد أحد أكثر الأماكن وحشية على كوكب الأرض؛ فهو معسكر اعتقال للتعذيب والإذلال والتجويع والخوف، ثم أطلق سراحي عام 1996.

لقد كان عدد المثقفين السوريين الذين تعرفت عليهم في السجن هو أهم مخزونات حياتي، وقد ظهر عدد كبير من كوادر الحزب، التي شاركت بقوة في الحراك، وحاولت تعديل بوصلته، لكن هذه الكوادر تحديدا كانت هدف النظام الأول، وليس الإنسان السلفي أو الإنسان العسكري.

ميسون شقير: وماذا عن صدمتك الكبيرة التي تحدث عنها في كتابك وفي وسائل الإعلام الإسبانية حول موقف اليسار العالمي، وخاصة الإسباني، من الثورة؟

ياسين الحاج صالح: نعم، لقد كانت الصدمة الأعمق، هي موقف اليسار العربي أولا من ثورتنا، خاصة الموقف اللبناني والعراقي، وعدم معرفته بالمجتمع السوري. وكانت الصدمة الثانية هي انهيار جدار اليسار العالمي، الذي كنا نبني كل أفكارنا عليه، والذي كان يشكل بالنسبة إلينا النموذج، ولقد قلت في لقاء صحفي معي بإسبانيا. إنني أتمنى لليسار الإسباني، الذي يقف مع بشار الأسد، ويعتبره بطلا، أن يعيش تحت حكمه إلى الأبد.

في أمريكا، تجد اليساريين يقفون ضد المؤسسة في بلادهم، فهم يعتقدون، بطريقة ما، أن مؤسسة الولايات المتحدة تقف إلى جانب الثورة السورية، وهو أمر زائف تماماً، ولا يتعدى مجرد الكذب. ولهذا السبب، تجدهم يتخذون موقفاً مضاداً لنا، وينطبق هذا على جميع اليساريين في أيّ مكان في العالم، فهم مهووسون بقوة البيت الأبيض والمؤسسة في بلادهم، كما أن غالبيتهم لديهم هاجس يتعلق بنضالات حقبة الحرب الباردة القديمة ضد الإمبريالية والرأسمالية.

أعتقد أن هناك شيئا من الإسلاموفوبيا في هذا الموقف، فنظام الأسد ليس علمانياً، وأنت لا تحتاج إلى شيء يتعلق بالتقدم والتنوير، لكي تكون مخلصاً لطائفة ما وتحارب الطوائف الأخرى. إنهم يوظفون الطائفية كاستراتيجية للسيطرة ووسيلة للاستيلاء على السلطة إلى الأبد. فضلاً عن أنهم يرددون في العلن في شعاراتهم الخاصة "الأسد أو نحرق البلد"، و"إلى الأبد إلى الأبد" في إشارة إلى إحكامهم السيطرة على البلاد.

بعد أن انطلقت الثورة، كنت في الغوطة الشرقية (قرب دمشق)، وقد قادتني رحلاتي إلى الأجزاء الغربية من حمص والرقة. وعند قدوم السلفيين، لم أرَ قط أن الناس يحتفلون بهم. لا أقول إن الناس كانوا غاضبين، لكن لم تكن تلك الجماعات تحظى بشعبية لدى الناس، فهم ضد النظام وتلك الجماعات ضد النظام، لذلك كان وجودهم يملأ تلك الفجوة.

على كل مثقفي ويساريي العالم أن يعرفوا أن نظام الأسد هو نظام إبادة حقيقي، وأنه وجه آخر للنازية في العالم، وأن ما يحصل في سوريا لم يحصل في التاريخ البشري، وهو أكبر من قدرتنا نحن السوريين على تحمله.

إنه نظام إبادة يسمح له بتدمير شعبه لثمان سنوات متتالية، ثم يعاد إنتاجه من جديد. إنها كارثة إنسانية حقيقية، لا يشكل فيها اللاجئون إلا جزءا من الأزمة، لأنها عملية تدمير بلد تحت أنظار العالم؛ فهذا العالم شاهد هولوكوست حقيقي وصمت، ولم يخف أبدا إلا على مسيحيته من دمى مصنعة. إنه عالم يوجد في أزمة فكرية وأخلاقية، وصمته هذا سيقود إلى كارثة عالمية. إن إنهاء هذا النظام هو مسؤولية عالمية لا يمكن التهرب منها إذا أراد العالم النجاة من مستنقع الكراهية، الذي بدأ يملأ كافة الأرض السورية والعالم.

ميسون شقير: وما رأيكم في المسألة الكردية؟

ياسين الحاج صالح: قامت التنظيمات المدنية واليسارية الكردية في السنة الأولى بالمشاركة الرائدة في المظاهرات السلمية، التي كانت تخرج في القامشلي. والأكراد شعب عانى كثيرا من النظام الأسدي، ولكن مع ذلك فإن التنظيمات المسلحة منه لم تقاتل يوما ضد الأسد، بل على العكس، وقفت معه، وساهمت في قتل الجيش الحر. لقد دافعت ببسالة ضد داعش، لكنها نسيت أن النظام السوري هو من خلق داعش، ومن سلمهم مدنهم وقراهم، لقد بقيت التنظيمات العسكرية حبيسة فكر انفصالي، وأحد أدوات بطش النظام بعكس الجهة اليسارية العملمانية منهم، وما يؤلم هو سوء الفهم الأوروبي للدور الذي لعبته كل التنظيمات الكردية المسلحة في المساهمة في قتل الثورة.

ميسون شقير: وماذا عن دور إسرائيل في تطورات الصراع؟

ياسين الحاج صالح: لإسرائيل كل الدور الأساسي؛ فمنذ حرب تشرين التحريرية (حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973)، لم تطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل.

إسرائيل تريد بقاء الأسد، وتريد تفتيت الوحدة السورية الوطنية، وإنهاك القوى السورية كلها، وتفريغ البلد من عقوله والإجهاض على بنائه الفكري والأخلاقي والنهضوي والعسكري، وقد حصلت على كل هذا، خاصة بعد أن كانت، كما صرحت صحافتها، عراب الصفقة الروسية الأمريكية عقب الهجوم بالكيماوي، والتي سميت بصفقة الكيماوي، والتي غيرت بالمطلق مسار الأحداث. فلو تدخلت أمريكا كما كان القرار العالمي البريطاني والأمريكي والفرنسي بوقتها، لانهار النظام السوري بأسرع مما يتخيل أحد، لكن إسرائيل هي من أنقذته، وهي المسؤولة الأولى عن كل موت عشناه ونعيشه وسنعيشه.

ميسون شقير: ما الذي يمكن أن يوقف يوما هذا التحطم في المجتمع السوري؟

ياسين الحاج صالح: ما يمكن أن يوقفه هو رحيل نظام الأسد مع كل أجهزته الأمنية. إنه مضخ الكراهية والحقد والتجهيل والطائفية؛ لأنه مضخ إبادة. عند رحيله يمكن البناء على ثقافة المسامحة التي بنت عليها إسبانيا نفسها بعد الحرب الأهلية، وعندها يمكن استنهاض القوى الفكرية العميقة في المجتمع السوري، وعودة الكوادر التي تؤمن بمفهوم المواطنة، والتي شردت كلها أو رحلت، خوفا من الاعتقال، أو بعد إحساس بأنه لم يبق هناك شيء من أحلامها، وبعد يأس من أيّ دور قد تقوم به، أو أنها قتلت أو أنها لم تزل هناك في المعتقلات.

يجب إنهاء هذا النظام الإبادي، وإخراج المعتقلين، والسماح للقوى الوطنية والمدنية بالعودة، ولسنا وحدنا في تاريخ العالم من عانى من كل هذا، ثم استطاع بناء نفسه، الشعب الإسباني ووصوله للديمقراطية ولبناء دولته هذه، والشعب الألماني بعد الحربين، هما أكبر وأهم الأمثلة السياسية في العالم.

ميسون شقير: ما هو المنهج الذي يمكن للشعب السوري أن يسلكه، حتى يستطيع الحفاظ على ما تبقى منه ومن ثورته المستحيلة هذه؟

ياسين الحاج صالح: هناك منهج واحد فقط لاستعادة عقلنا وترميم إطارنا الوطني والاجتماعي والسياسي والجغرافي والزمني؛ وهو المنهج الذي ما يزال النظام الأسدي يستعمله، وهو الذي يعني الاستمرار في ضرب الجسم الاجتماعي السوري لطرد الشياطين الساكنة فيه. فهذا هو المنهج الذي يستعمله طبيب العيون للعلاج الوطني. لكنه منهج مدمر مثله مثل البراميل والصواريخ، لكن لكي نبني وطنا معافى، علينا اتباع منهج التحرر من شرط المجتمع المعنّف، وتخليص المعنَّفين من قبضة العنيف العام. إن هذا المنهج وحده هو ما يمكن أن يضع السوريين في وضع أفضل لمواجهة أي معنِّف جديد، أو أي شيطان انبعث من جسده أو من لا شعوره المكشوف. أما بقاء العنف العام لمواجهة العنفين الجديدين، فلا يمسّ في شيء وضع المجتمع المعنّف، وليس من المؤكد حتى أنه يعالج أعراض المرض، مثل داعش. لطالما لاعب الأسد شياطين، وهو يعرض اليوم نفسه كمحارب لهم، بغرض أن يستمر في السيطرة على الجسم السوري المجهد. يقول النظام إننا مجتمع مجنون، وأنه وحده من يقدر على شفائنا من الجنون، ويطالب بتجديد انتدابه الدولي على البلد استناداً إلى هذه الرسالة الطبية، لكن هذا الطبيب محتاج إلى مرض سورية أكثر، حتى من حاجة المريض السوري إلى الشفاء. أول شفاء لسورية هو خلاصها من هذا الطبيب القاتل.

ميسون شقير: ما الذي تعتقد أنه بقي من الثورة السورية؟

ياسين الحاج صالح: لقد بقينا نحن، لقد بقيت فكرتها، لقد بقيت الملاحم الأولى/ لدينا ذاكرتنا نحن الجيل الذي عاشها وساهم فيها. أحمل شهادة في الطب، إلا أنني تخرجت من السجن، وأنا مدين لهذه التجربة، ولقد أكملت الثورة دراساتي العليا، هي أكثر ما نفخر به، بالرغم من كل هذه النتيجة المرعبة.

نحن لم نخطئ، لا نحمل إثما في حقنا وحلمنا بوطن تسوده التعددية الثقافية والسياسية، وتحكمه قوانين العدالة والمواطنة، لا دولة أمنية فاسدة لا يحكمها إلا الرعب والفساد.

ما بقي من الثورة هو كره الإنسان السوري لكل التنظيمات القادمة من فكر سلفي، مثل كرهه لنظام الإبادة. ما بقي من الثورة هو فشل الديكتاتورية، وفشل المشروع العالمي لشيطنة الإنسان السوري، فشله في البقاء في وجدان الإنسان السوري، وبالتالي في المستقبل حتى لو كان المستقبل البعيد.

إن الثورة هي مثل ما يبقى الآن تحت ركام البيوت، هي الأرض التي يبنى عليها بعد أن يرحل الخراب عنها.

ميسون شقير: ما قولكم في من يرى أن سورية بلاد مستعصية على الديمقراطية؟

ياسين الحاج صالح: إن هويتنا الثقافية المفترضة ليست هي ما يحدد واقعنا التاريخي، إن هذا الواقع هو ما يحدد الهوية الثقافية، هذا كي نتكلم بلغة ماركسية مشدودة النظر إلى التحت الاجتماعي والاقتصادي للسكان، وليس إلى فوق أثيري كأننا بالونات منفوخة بالهواء. وليس لأننا مسلمون، فبلداننا استثناء من الديمقراطية، بل لأن الشرط الاستعماري، المضاد جوهرياً للديمقراطية بطبيعة الحال، مستمر هنا بفضل الدعم الغربي الأعمى لدولة استعمارية عنصرية مثل إسرائيل، تعامل المنطقة حولها كحقل صيد مباح، ولا تكف عن إبادة الفلسطينيين سياسياً، ثم بفضل وقوع حوض النفط العالمي في دول عائلية قليلة السكان، أدرجت في نظام الأمن القومي الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وقت قريب. الاستثناء من الديمقراطية هو ما جعل بلداننا إسلامية، وليس العكس، أعني هو ما جعل من الإسلام أيديولوجيا سياسية وحداً للفقر السياسي. دولة الأسديين التي تقوم جوهرياً على "فلسطنة" السوريين، هي استمرار بنيوي لإسرائيل في الشرق الأوسط، وليس عدواً لها إلا من باب بلاغة أيديولوجية بلا رصيد واقعي.

ميسون شقير: وما تفسيركم لوضع الإسلاميين الآن، في العالم العربي عامة، وسوريا خاصة؟

ياسين الحاج صالح: لقد انهار منذ زمن عالم الإسلام التقليدي، ولم تبن الإسلامية الجديدة نفسها على المبادرة الفكرية والأخلاقية في عالم جديد مغاير ومتغيّر. كل ما فعلته هو إنكار الحداثة فكريا وأيديولوجياً، والتشكّل بها ووفقاً لها واقعياً.

وأسوأ مظاهر هذا، كان تقرير أن القرآن هو الدستور (وليس أي دساتير تضعها جمعيات تأسيسية أو أطقم انقلابية، أو سلاطين محدثون)، وتقرير أن الشريعة هي القانون («شرع رب العلمين» وليس «القانون الوضعي»)، والحاكمية الإلهية هي السيادة (وليس حاكمية البشر)، والقرآن معجز علمياً (وفيه كشوف العلم الحديث قبل العلم الحديث)، والإسلام هو الحلّ (وليس «الحلّ الاشتراكي» أو «الحلّ الثوري»، وهي تعابير كانت شائعة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، وعلى وزنها أيضاً كان رائجاً «الحلّ السلمي» المرفوض)، وقائدنا إلى الأبد هو سيدنا محمد (وليس «الأمين حافظ الأسد»)… وكلها قادمة من تنظيمات العالم الحديث أو من ثنايا الدولة السلطانية المحدثة.

إن الإسلاميين حين تحرجهم أسئلة الفكر الحديث، غالبا ما يردون بمنطق مغلق: أولاً، لا يلزمنا حكم دستوري وقوانين…؛ ثانياً لدينا كل ذلك سلفاً! ثالثاً، أصول الحكم الدستوري والقانون والعلم… كلها من عندنا! على هذا النحو التلفيقي، فَقَدَ التفكير الإسلامي كل أصالته.

تشكِّلُ الإسلامية الآن، ما كان سماه أوزفالد شبنغلر "التشكُّلَ الكاذب"؛ أي أنها تشكلٌ في قوالب خارجية ووفق منطق خارجي، يُفرِغُ الميراث الإسلامي من محتواه الرمزي والأخلاقي والروحي المتشكل عبر القرون.

وبحكم "التشكّل الكاذب"، فإن الإسلاميين المعاصرين إلهيون وليسوا إنسانيين، يفكرون بأنفسهم كمنفذين لتكليف ربانيّ عالٍ على البشر، يسوِّغُ لهم إكراه الناس عليه إن لم يستجيبوا طواعية، وقد كان هذا هو سلوك إسلاميين متنوعين في سورية بين 2013 و2018

إن نموذج الإسلاميين الذين رأيناهم في سورية (داعش، وجيش الإسلام، وجبهة النصر وغيرهم)، يبدون متحررين كلياً من مُساءلة الذات، وهذا الشكل يمكن تسميته بـ "هوموإسلاميكس"، ومن هذا الكائن المرعب تتشكل طوائف الإسلاميين العابدة للسلطة، وهي الطوائف التي تستمر في التقاتل فيما بينها، وتطهير مراتبها الداخلية إلى أن تقضي على نفسها أو تقضي على البيئات الاجتماعية التي وجدت فيها.

[1]- نشر الحوار بمجلة ذوات العدد53

[2]- كاتبة وصحافيّة سوريّة تعيش في إسبانيا

البحث في الوسم
سوريا الثورة المثقف داعش