ماذا يستطيع الفنّ في زمن الإرهاب؟


فئة :  مقالات

ماذا يستطيع الفنّ في زمن الإرهاب؟

ماذا يستطيع الفنّ في زمن الإرهاب؟[1]

د. أمّ الزين بنشيخة المسكيني[2]

"إنّ الحياة بلا موسيقى خطأ فادح"

(نيتشه)

تقديم:

شبح هائل يخيّم على شعوبنا، فيغرقها في كوابيس الرّعب، يفتك بالجغرافيا ويفجّر أعمدة التاريخ فوق رؤوسنا. لكن هل تعمّر الأشباح طويلا؟ يبدو أنّ الإرهاب كأحد أنماط الإسلام السياسي الأكثر أصولية وتطرّفا، قد صار إلى أكثر الموضوعات إثارة للتفكير وللخطورة معا؛ بيد أنّنا لسنا إزاء مجرّد ورشة فكرية يمكن الاشتغال على صلبها وفق أساليب علمية ناعمة، إنّما نحن أمام ضرب من الواقعية التاريخانيّة التي ترهن عقولنا ووجودنا وشعوبنا وشكل العالم الذي يخصّنا. لكن هل إنّ الإرهاب كتوقيعة إسلاموية متطرّفة هو تهمة خاصّة بالعالم الإسلامي؟ لقد صار من نافلة القول أنّ ثمّة ضربا من توازن الرعب بين الإسلام الأصولي وإرهاب العولمة الإمبريالية المتوحّشة. فهل يتّسع العالم لإرهابين معا؟ أم إنّه وفق بيت رشيق من قصيد فلسفة الثعبان المقدّس، لشاعر تونس العظيم أبو القاسم الشابي:

"لا عدل إلاّ إن تعادلت القوى ....وتصادم الإرهاب بالإرهاب"؟

ليس الإسلام السياسي بكلّ أطيافه وبطيفه الأصولي الإرهابي تحديدا، بيئة هوويّة مغلقة على المسلمين في جغرافيّتهم الحزينة، إنّما هو جزء من نسق إمبريالي عالمي حوّل كلّ أنماط الحياة البشريّة المادية والرمزيّة إلى سوق مثيرة للدوار. لكن كيف يمكن مواجهة الإرهاب الإسلاموي كبضاعة ثقافية وكتكتيك حربي وكعقيدة دينية متطرّفة؟ ما هو دور الثقافة والفنّ تحديدا في اختراع تجارب معنى جديدة تجعل المستقبل ممكنا في ديارنا؟

ولنقل بادئ ذي بدء، إنّ زمان جلد أنفسنا قد مضى وولى، وأنّه لم يعد بوسعنا مواصلة التهريج تحت أيّة راية إيديولوجيه؛ والحال أنّ شعوبنا تتيه على حافة الدول بعد أن دُمّرت أوطانهم ومدائنهم. ينبغي علينا اختراع سلوك نظري جديد من أجل مصاحبة شعوبنا في قصّة أخرى، تليق بالإنسانية القادمة؛ فالعالم لم يعد أحجية لأحد وحوانيت الهويّة الجاهزة لم تعد تتسع لعدد أكبر من الجثامين.

ماذا يستطيع الفنّ في زمن الإرهاب؟ سؤال قد يبدو مستحيلا؛ لأنّ اللقاء بين الفنّ والإرهاب يبدو لقاء ممنوعا من جهة الجرائم التي ارتكبها الإرهابيون في حق الفن من تدمير للمتاحف وحرق للمكتبات وتحريم للموسيقى وتكفير للشعراء والمبدعين. لكنّ الأسئلة الحقيقية، إنّما هي تلك التي تولد في مدارات مستحيلة. وهل من سعادة أكبر غير طلب المستحيل، رغم عناء الإقامة فيه؟

الفنّ والإرهاب ثنائي إشكالي يدفعنا إلى بسط جملة من الأسئلة نصوغها على النحو التالي: لماذا يكره الإرهابيون الفنّ، فيكنّسون المدن منه كلّما استولوا على مدينة ما؟ من هم الإرهابيون وأيّ شكل من اللاوعي يحملون؟ هل هم أبناء أوديب قاتل أبيه أم هم أحفاد قابيل قاتل أخيه؟ هل ينتمون إلى تاريخ الكوجيطو الديكارتي؟ أم إلى تاريخ الجنون الفوكلدي؟ أم هم فقط كائنات تراثية مجروحة أخطأت الطريق إلى المستقبل؟ وماذا يستطيع الفنّ في زمن الإرهاب؟

1) لماذا يكره الإرهابيون الفنّ؟

تذكّرنا "الحرب الثقافية" التي شنّها داعش على متحف الموصل ومكتبته ومعابده وأسواره بواقعتين تاريخيتين؛ هما حرق النازيين (1937) للوحات كاندنسكي وفان غوغ وبول كلي.. وغيرهم، حيث تمّ إتلاف أكثر من 4000 لوحة فنّية؛ لأنّها لا تتماشى مع عقيدتهم العرقية الدموية. وواقعة تحريم الموسيقى من طرف تنظيم القاعدة الإرهابي في أفغانستان. والقاسم المشترك بين واقعة تحريم الموسيقى وتدمير داعش لمتحف الموصل ومكتبته، وحرق النازيين للوحات الفنّ الطلائعي هو إذن العقيدة الإرهابية التي تقوم على العنف، وإقصاء كل من يختلف عن عقيدتهم ويخرج عن جماعتهم. فللإرهابيين وجه واحد: هو وجه القتلة الذين يبذّرون الخراب في كلّ مكان، يمنعون الموسيقى ويشرّعون قطع الرؤوس وسفك الدماء. هل يعيدون أسطورة "القتل التأسيسي" والطقس الذبائحي الذي انبثقت عنه كل العقائد الدينية[3] أم لا يفعلون غير تشغيل شبكة العنكبوت الإمبريالية بمكنتها المعولمة الاستخباراتية الأمريكية والصهيونيّة؟

ما يهمّنا في سياق بحثنا هو قراءة الجرائم التي قام بها التنظيم الإسلاموي الأصولي داعش ضدّ الفنّ والآثار التي تحفظ ذاكرة الحضارات الرمزيّة الأكثر عمقا من البحث عمّ يستطيعه الفنّ في زمن الإرهاب. ولنقل بدءا، إنّ التاريخ سيظلّ يدوّن بحروف الحزن النازف ما حدث منذ عامين فقط (فبراير 2015) في مدينة الموصل العراقية إبّان سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي عليها. لا يتعلّق الأمر فقط بالشهادة بالكتابة على الرؤوس المقطوعة والنساء المغتصبات والدماء المسفوكة هدرا، بل وأيضا على ما حصل من تدمير للآثار الفنّية التاريخية الشاهدة على ذاكرة الحضارات الغابرة. ما حدث أفظع ممّ يوصف في لغة نظيفة. إنّها حرب وحشية على المتاحف والمعابد والتماثيل، حرب ضدّ الرخام القديم وغبار الذاكرة. وأيّ حرب هي تلك التي تُشنّ على صمت الآلهة التي انسحبت من العالم ولم تترك غير حجر أبكم؟. لا شيء بقي آمنا إذن تحت سمائهم الكئيبة، من آلهة الإخشيد ومسجد النبي يونس إلى مكتبة العرب ومخطوطاتهم إلى سور المدينة نينوى..كلّها صارت تنزف غبارا هو غبار الذاكرة، حينما تسطو عليها أيادي المغول. وذاك الإله الإخشيدي الصامت منذ ستّ آلاف سنة، واسمه أسد اللات، ذاك الإله الذي يمقت العنف وينبذه، لم يسلم من هراوات داعش ومن وحشيّة إرهابها.

والسؤال هو حينئذ: لماذا يكره الإرهابيون الفنّ؟ بل لماذا يدمّرون ذاكرة الحضارات التي لا تشبه ذاكرتهم؟ أليس يولد الإرهاب من عقيدة ماضوية تقوم على استعادة هووية لمنظومة عيش دينية؟ أليس الإرهاب سياسة من سياسات الذاكرة؟ يبدو أنّ الكراهيّة هي أهمّ دافع نفسي وراء التنظيمات الإرهابية، سواء تعلّق الأمر بالتنظيمات القومية أو العرقية أو الدينية. غير أنّ الكراهية لا تنبع الاّ من علاقة متوتّرة بالآخر المختلف عن منظومة عقائدنا. إنّها تولد من تنظيم حياة جماعوية مغلقة تنبذ الاختلاف، وترى في الآخر عدوّا لها. ما فعله إرهابيّو داعش حينما دمّروا متحف الموصل ومعبد الإخشيد وآلهتهم، وحرقوا المكتبة المركزية بكتبها وفنونها وعلومها ومخطوطاتها، هو تدميرهم لذاكرة مختلفة عن ذاكرتهم وعقائدهم. لقد عادوا إلى الماضي، ليقتصّوا منه بتدمير ماضيا لا يتماشى مع ما يعتقدون في أنّه ماضيهم. إنّهم يثأرون من الماضي نفسه، ويمارسون كراهيّتهم التي تمتدّ فظاعتها إلى مستوى أكثر من ستّ آلاف سنة ممّ يعدّون. فهل ثمّة وحشيّة أكثر من الانتقام من أصنام لم تعد أصناما لأحد ومن آلهة لم يعد يؤمن بِها أحد؟

وهنا علينا التنبيه إلى أنّ الأمر لا يتعلّق بتدمير الذاكرة فحسب، بل تزامن هذا التدمير مع حادثة أخرى هي نهب وسرق المتاحف من أجل بيعها، وهو ما يمثّل مصدرا من مصادر تمويل هذا التنظيم الإرهابي على حدّ المحلّلين المختصّين في هذه المسألة. وهنا علينا التشديد على أنّ ظاهرة الحرب الثقافية التي شنّها داعش ضدّ الفنّ في الموصل هي ظاهرة مزدوجة الدلالة: فهي من جهة، تنمّ عن عقيدة إرهابية مغلقة على تصوّر ديني متشدّد يرى في كل من يخرج عن ملّته كفرا يستحق الدمار والقتل، ومن جهة أخرى ينخرط هذا الإرهاب الثقافي ضدّ الفنّ ضمن لوبيات معولمة تابعة لمنظومة إمبريالية السوق المتوحّشة. فسرقة الآثار وبيعها وتدمير الذاكرة المختلفة وجهان لعملة واحدة: هي راية الله المعولم، شبكة لاهوتية معولمة تستعمل كلّ الوسائل الرقمية والتكنولوجية الحديثة من أجل نشر الدمار، حتى الله في تنظيم إسلامي لم يسلم من لاهوت العولمة، كيف سيسلم البشر؟

2) من هو الإرهابي؟

في دراسة تعتبر من أهمّ وآخر الدراسات حول تنظيم داعش، نشرها مركز "باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجيّة"[4] نعثر في آخر الكتاب على دراسة تحليلية تشتغل على "علم النفس الاجتماعي للإرهاب الانتحاري" وفيها أهمّ ما قيل عالميّا عن مقوّمات الهوية النفسية للإرهابيين، من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي. ما يهمّنا هو رسم هوية الإرهابي والإجابة عن السؤال "هل يحمل الإرهابي ذاتية استثنائية"، ولماذا يقدم أشخاص مثلنا على القتل والموت الانتحاري؟

تنطلق الدراسة المذكورة من أطروحة تتمثّل في أنّ الإرهاب الانتحاري، إنّما هو "أداة ووسيلة لتحقيق غاية ما وتكتيك حربي يمكن لأيّ كان أن يستخدمه".[5] وتبعا لذلك، تعتبر هذه الدراسة أنّ السبب وراء تحوّل أشخاص عاديين إلى مفجّرين انتحاريين، إنّما يعود إلى تراكم عمليات التواصل الاجتماعي التي تُعزى إلى آليات العمل النفسية الاجتماعية الكلاسيكية"[6]. وبالتالي، إنّ التفاعل الاجتماعي هو الإطار الذي يدفع بأشخاص عاديين إلى التخلّي عن حياتهم والالتحاق بهوية جديدة. فالإرهاب يصنع هوية المنتمين إليه عبر عمليات غسل الأدمغة والتعبئة الإيديولوجية والتجنيد والتدريب.

إنّ الهويّة الإرهابية هي إذن هويّة جماعية قائمة على مبدإ معروف في علم النفس يركّز على الجوانب الاجتماعية للهويّة. وتنبع الهويّة الإرهابية بحسب هذه الدراسة من "حاجة الفرد إلى إيجاد هويّة ذات معنى أو إلى إعادة صياغتها"[7]. كما يمثّل ميل المنظّمات الإرهابية إلى تسمية الإرهابيين الانتحاريين بالأبطال والشهداء دافعا قويّا صلب هويّة الإرهابي نفسه. إضافة إلى الدوافع الدينية والقومية أو العرقية العميقة التي تعوّل عليها التنظيمات الإرهابية في استقطاب الشباب. وأخيرا، فإنّ الهويات الإرهابية تشتغل وفق هدف الدفاع عن قيم ومصالح الجماعة المهدّدة، حيث يعرّف الإرهابيون أنفسهم بوصفهم "أعضاء في مجتمع واسع يعتبرونه مقموعا أو مهانا، ويعتبرون فيه المصالح والقيم الجماعية معرّضة للتهديد"[8]. وتشدّد هذه الدراسة الخاصّة بعلم النفس الاجتماعي للإرهاب الانتحاري على العناصر التالية في تحليل نفسية الإرهابي: أوّلا إلغاء صفة الإنسانية؛ أي أنّ الإرهابين لا يقدّمون أنفسهم كأفراد، بل "كأعضاء متماثلين"[9] في جماعتهم؛ فالهدف هو دوما الجماعة وليس الفرد، ثانيا الانصهار الاجتماعي، حيث تقوم الهوية المشتركة على التعاون ضمن الجماعة ضدّ كل ما هو خارج عنها، باعتباره كافرا ومهدورا دمه، ثالثا الهويّة الجماعية بوصفها حافزا لتطوير الأهواء السلبية حول الأفراد، حيث ينقسم العالم عندهم إلى "نحن وهٌم"، ممّ يعزّر مشاعر الحقد والثأر والغضب والكراهية. رابعا قيمة فكرة الموت الذي يعود إلى حدّة الشعور بالتهديد والخوف الدائم من الآخر على أنّه عدو يهدّد هويتهم الجماعية، وهو معنى انبناء الهوية الإرهابية على ثقافة الاستشهاد، وهو الإطار الأكثر خطورة الذي يدفع إلى القيام بعمليات إرهابية بإغراء الانتحاري بفكرة الشهادة. وأخيرا ما يمارسه قادة التنظيمات الإرهابية من إغراء على الشباب الذي صار في حاجة إلى أبطال ورموز كاريزماتية في عصر نهاية فكرة البطل والزعيم والرمز القومي أو الديني أو السياسي[10].

إذا كان الإرهاب يصنع هوية المنتمين إليه من غسل الأدمغة، فهذا يعني أنّه لا يعشش إلاّ في العقول الهشّة والنفوس الواهنة، غير أنّ وهن النفوس وكسل العقول لا يولد إلاّ في بيئة التصحّر الثقافي والقحط الروحي والأنطولوجي. إنّ فقر الكينونة وحده هو ما يجعل الأفراد يسلّمون عقولهم لمن سيكونون عليهم أوصياء، كيف ننشّط أشكالا مغايرة من الذاتيّة الجماعية تحفظ للأفراد استقلاليّتهم وكرامتهم وشخصهم الأخلاقي، وتدفعهم إلى محبّة الحياة واختراع علاقة رمزيّة بهيجة بالذاكرة وبالمقدّس وبالمستقبل؟

ماذا يستطيع الفنّ في زمن الإرهاب؟ نحو أشكال مغايرة من الذاتيّة

يعلّمنا التاريخ دوما، أنّ الإنسانية كلّما انحدرت نحو الهاوية كلّما تمكنّت من التحديق جيّدا بالظلام، وأنّ الشعوب تتقن دوما اختراع أشكال جديدة من الكينونة كلّما استولى على وجودها الخراب.

هذا ما فهمه غير بعيد عنّا آخر جيل عاش سقوط العالم في ثقافة البربرية وهو جيل الحربين العالميّتين، حيث مثّل الفنّ بالنسبة إلى مفكّري مدرسة فرنكفورت بشكل خاصّ دور الخلاص في عالم قد انحدر إلى البربرية وفي تاريخ قد سقط في كابوس طويل الأمد. ورغم ذلك، علينا ألاّ نكفّ عن كتابة القصائد؛ لأنّنا "لا تزال لدينا أغنيات سنغنّيها فيما أبعد من البشر". (العبارة للشاعر بول سيلان) وبالرغم من أنّه "لم يعد ثمّة جمال" (العبارة لأدرنو)، وأنّ القبح هو سمة حضارة ابتذلت الإنسان وحوّلت الأفراد إلى كائنات استهلاكيّة، ونصّبت أجهزة لمراقبة الأجساد والتحكّم بالرغبات وقمع كل إبداع لشكل حياة مغايرة، فإنّ الفنّ الطلائعي في موسيقى شونبارغ ولوحات بيكاسو وأدب كافكا وبروست ومسرح برشت، قد مثّل واجهة رمزيّة عميقة وقويّة مضادّة لثقافة الكارثة. ولقد أفلح الفلاسفة من قبل بنيامين وأدرنو ولوكاتش وماركوز، وسارتر وألتوسير في إنجاز صروح فكريّة عالية الاقتدار من أجل تحرير الأفراد من كلّ أشكال الفاشية والنازية التي أصابت الإنسانية طيلة النصف الأوّل من القرن الماضي. عقول حرّة راهنت على الإبداع سبيلا لتحرير البشر من كوارث الحروب الفظيعة والمحارق المرعبة، وهو ما استأنفه جيل كامل من المفكّرين راهنوا على "الفنّ من أجل تحرير الحياة، حيثما يقع اعتقالها". (العبارة لجيل دولوز).[11]

لقد نجح فلاسفة الاختلاف منذ فرانسوا ليوتار في إقناع الإنسانية "بنهاية عصر السرديّات الكبرى" [12]؛ لأنّ هذه السرديات قد انتهت إلى أشكال من الفاشية التي دفعت بنا إلى عصر "اللاإنساني"، حيث لم يبق لدينا غير الشهادة بالكتابة على ما يحدث، ومنح الكلمة للضحايا من أجل أن يكتبوا تاريخ الضحايا. لكن كيف سننصف ضحايانا؟ وهل نبقى نندب الضحايا على حائط المبكى، ونحن ليس لنا غير حجر مقدّس؟ أم نحن مطالبون بتحطيم كل جدار يصدّنا عن شكل أجمل من المستقبل؟ هل دخل العالم الإسلامي عصر "نهاية السرديات الكبرى" أم عاد إلى سرديّته القديمة كما لو كان قدره أن يظلّ "انسان السرداب" (بحسب عنوان لدوستويفسكي) لا يتقن العيش إلاّ في الكهوف؟ كيف العودة إلى ذاكرتنا ونصوصنا دون أن تسقط علينا فتسحقنا؟ ربّما علينا، من أجل ألاّ نخرج من ذاكرتنا بأيادي ملطّخة بالدماء، أن نتقن الانتماء إلى الإنسانية بأسئلة جديدة وبمشاعر إيجابية وباقتدار رفيع على محبّة الحياة.

ما يستطيعه الفنّ هو تحديدا إنتاج أشكال جديدة من الذاتية الفردية والجماعية مغايرة لذاتية الفرد الليبرالي الذي حوّلته وسائل الإعلام والإشهار والتواصل الرقمي إلى كائن سلبي في حالة اكتئاب دائمة. ضدّ هذا الكوجيطو الكسول الذي يكتفي بالاسترخاء في أحضان هويات جاهزة دينية أو عرقية أو قوميّة، بوسع الفنّ أن يخترع شكلا جديدا من الذاتية الحرّة التي تقبل الاختلاف والتعدّد، ذاتيّة بهيجة تثبت الحياة وتناضل ضدّ كلّ الهويات الفاشية الصمّاء التي لا تؤمن الاّ بلغة الدماء. بوسع الفنّ أيضا، أن يخلق رموزا جديدة مضادّة لزعماء الإرهاب وأبطاله القتلة. إنّ الأمر يقتضي إذن إنتاج أشكال مغايرة من الحياة الرمزية ضدّ كل أشكال التسطيح والتتفيه وتحويل البشر إلى قطعان ومواشي في مكنة الإمبريالية. وحتى لا يقع الاستيلاء على عقول أبناء المستقبل من طرف لاهوت الدماء، وحتى نصدّ أمواج اليائسين في أوطاننا، علينا الاشتغال على ثورة فكرية وروحية ميكروفيزيائية بعيدة المدى تعتني بلاوعي الأفراد الجماعي والفردي، وبرغباتهم وآلامهم، بأوهامهم وأحلامهم. إنّ الإنسان في أوطاننا لايزال يشكو من الإهمال الروحي والعاطفي والاجتماعي. فنحن لا نستثمر عاطفيّا في الإنسان إلاّ من أجل تدجينه واستعباده والاستيلاء على عقله والوصاية على ضميره وقمع رغباته، من خلال سياسات التخويف والترهيب والتركيع المرعبة. لذلك، إن أردنا مقاومة الإرهاب علينا بالعناية بالإنسان من خلال برامج ثقافية جديدة وتصوّرات عميقة للحياة الرمزية والروحية التي ظلّت فريسة اللاهوتيين والمشعوذين وسماسرة النفوس الضعيفة. ما نحتاجه هو العمل على تصميم مشروع تربية جمالية مضادّة لتربية الشعوذة والخرافة واللاهوت المهزوم. ما يستطيعه الفنّ هو اختراع أشكال جديدة من الحياة النفسية التي لا تقوم على قيم الرفاه والترف والسلبية الليبيرالية، بل على ذاتية خلاّقة قادرة على اختراع إتيقا جماعية تجعل العالم مكانا صالحا للسكن. ما ينقصنا "شعب سوف يأتي" ضدّ عقيدة الرعاع، وأشكال جديدة من الحياة المشتركة مضادّة للإيديولوجيات الجماعوية القائمة على تصوّرات أصولية هوويّة ماضوية، تلك الجماعات التي تؤسّس وجودها على خطوط الموت الفاشية والإرهابية. ذاك غيض من فيض تعلّمناه من فلاسفة هذا العصر منذ لوكاتش وأدرنو وصولا إلى دولوز ورنسيار وطوني نيغري وفيليكس غاتاري. وعلينا أن نعدّل عقارب عقولنا على الأحداث الفلسفية والإبداعية الراهنة بوصفها علامات رمزية على عصر جديد سوف يأتي[13].

إنّ الأمر يتعلّق بذاتيّة حيوية تنشر قيم محبّة الحياة والنضال من أجلها واختراعها حيثما يقع اغتيالها واعتقالها. بالفنّ، يمكننا أن نخترع عوالم أخرى حيثما يسقط العالم أو يفقد قدرته على أن يكون عالما. فالفنّ ينصّب عالما ويبسط أرضا، ويمنحنا فيضا من الكينونة حيثما تُصاب القلوب والعقول بقحط أنطولوجي وبفقر في القدرة على إعادة الفرح إلى وجه العالم، إنّ الفنّ ينقذ العالم من السقوط في الفراغ.

خاتمة:

لئن كان الإرهاب السياسي بصدد توقيع إحدى موتاته الأولى مثلما يقع الآن في تحرير الموصل من داعش، فإنّ الأخطر هو الإرهاب الثقافي الذي تغلغل بعدُ في الطبقات العميقة لأبناء أوطاننا. كيف سنعيش هذا الموت وذاك التغلغل العميق معا؟ ربّما سنظلّ طويلا في أرجوحة الإنعاش الجهنّمية بين الكارثة والأمل في النجاة. من أجل ذلك ينتظرنا الكثير من النضال الثقافي والرمزي والاشتغال على البنى العميقة للوعي الجماعي والفردي في أوطاننا.

في مدن البؤس اللاهوتي والفقر الروحي المدقع وجيوب الكوليرا، نحتاج إلى الفنّ أكثر من أيّ وقت مضى، كي نجدّد نشاط الروح في أعماقنا المجروحة وكي نعيد إلى الإنسانية في ديارنا قدرتها على الحياة على نحو مغاير. ههنا مسألة نضال ثقافي طويل النفس لا يتماشى وأهواء المتعبين وأصحاب العقول المرتعشة. ما نحتاجه هو العقول الحرّة التي تتقن صناعة الأمل، حتى ولو كان الأمل طلبا للمستحيل؛ فالنضال الثقافي هو طلب المستحيل في عالم فقدنا فيه الواقع ووقع فيه السطو على الممكن، ومع ذلك لا ينبغي أن نتخلى عن شعوبنا، بل ينبغي مصاحبتها من أجل سردية أجمل.

[1]- مجلة ذوات 40

[2]- دكتورة تونسية في الفلسفة الحديثة والجماليات.

[3]- رونيه جيرار، العنف والمقدّس، ترجمة سميرة ريشا، بيروت، 2009، ص ص. 26-27، 538.

[4]- داعش، صورة عن تنظيم إرهابي جهاديّ رؤية صهيونية، ترجمة إسلام الريحاني، بيروت، باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية، 2016

[5]- نفسه، ص.336

[6]- نفسه، ص339

[7]- نفسه، ص.341

[8]- نفسه، ص.343

[9]- نفسه، 344

[10]- نفسه، ص.353

[11]- انظر: كتابنا: تحرير المحسوس، لمسات في الجماليات المعاصرة، بيروت، منشورات ضفاف، 2014 ص. 221-240.

[12]- انظر: كتابنا: الفنّ يخرج عن طوره، جماليات الرائع من كانط إلى دريدا، بيروت، دار جداول، 2011، خاتمة الكتاب

[13]- انظر كتابنا: الفنّ في زمن الإرهاب، بيروت، منشورات ضفاف، 2016، وفيه تبيئة فلسفية واسعة النطاق لآخر الأحداث الجمالية المعاصرة، في لغة الضاد.

البحث في الوسم
الإرهاب داعش الفن الحياة