حدود الأسطرَة في الخطاب الصّوفي


فئة :  مقالات

حدود الأسطرَة في الخطاب الصّوفي

مقدّمة:

إنّ ظاهرة التصوف الفلسفي، تمتد تاريخيًّا إلى مراحل متقدمة في تاريخ الفكر البشري، متماهية مع نشأة الأنساق الدينية المفتوحة تحت تأثير مزدوج للخطاب الديني الإبراهيمي والممارسات الشعائرية التقليدية، التي شهدت نماء وصيرورة بفعل التحوّلات السوسيولوجية للشعوب، وتقلّباتها العقائدية؛ فالأنماط الدينية، كما يسردها علم تقدّم الأديان ومقارناتها، تبيّن أنّ عقائد التوحيد، تداخلت مع التصوّرات الوثنية والتعددية، بفعل التراكمات الثقافية والتلاحق الحضاري، والذي مردّه إلى التوسّع، والتنوّع، والغزو أحيانًا، والغلبة والتنازع بتصوّر خلدوني، أو التفوّق ونزعات الانبهار والسطوة النزوعية للحضارات، ككيانات مستقلة ومختلفة إثنوغرافيًّا واجتماعيًّا. الدين كان، دائمًا، مكوّنًا غائيًّا وعميقًا في البناء الثقافي للمجتمعات؛ بل مسوّغًا مركزيًّا لكثير من التناقضات العملية والواقعية، التي تفصح عن رغبة واعية في التسامي الروحي، الذي يروم بلوغ لحظة الانكشاف الميتافيزيقي، والتنحّي عن عالم موغل في المادية، مسكون طواعية في بيداء ثباته وتناقضاته الداخلية.

إنّ الأسرار الغامضة في بحر التصوّف، والمكنونات العميقة، كانت دومًا، حقل جدل دائم ولا منتهٍ، لتجاذبات التأويل الضمني والحالم الغارق في نرجسية البحث الأكاديمي، وفضاءاته اللغوية المركّبة، هذا فضلًا عن حمولاته المعرفية المتشعّبة والمختلفة المشارب، والمؤدلجة أحيانًا، والمشروطة بأسسها وأنماطها الجاهزة.

إنّ الغموض النصّي؛ الذي تمتاز به النصوص الصوفيّة، فتح الباب أمام الشراهة والشهيّة الأكاديمية، للغوص في متون الكتابات الربانية اللاهوتية، والتي تتأرجح بين البعد الأرثوذكسي، والترحال الحلولي، أو التوجّهات العقدية التَقَوِية الثابتة، أو حتّى النص الصوفي التنزيهي، الذي يتخندق في فنّ المجاهدة ومغالبة النفس.

عمومًا؛ القراءات الاحتفالية البنيوية الحداثية، لا تدّخر جهدًا في تدشين ألعوبة المخاطرة التحليلية، والتي لا تعدو كونها تحليلًا من الطراز الاستكشافي ليس إلّا؛ لأنّ ما يعيبه أهل الاختصاص والمهتمّون بالشأن الصوفي، والصوفيّة العرفانيّون، أيضًا، هو: أنّ كثيرًا منها يفصح عن فقدان للمعايير والآليات، التي يتمّ بها تحليل الخطاب الصوفي، وهو تحت سلطان المقايسة والمقارنة بمواضعات فكرية أخرى، أو بغفلة منهجية ومنطقية، ينجلي منها النصّ الصوفي، ويبدو واضحًا كمقاربة واقعية ودينية، وليس كبنية تتلاطم مع غيرها في بحر من البنى اللامنتاهية، وهو المأزق المحرج الذي يعتور البنيوية والتفكيكية، وهي تقترب من الظاهرة الصوفية، وبالتالي؛ تعلن نتائجها العلمية الناقصة، والعاكسة للقصور المفهمي غير العميق، ويجدر بنا أن نتساءل، من باب الالتزام المنهجي والمعرفي، عن أشكلَة النص الصوفي، وعرضه للنقاش الأكاديمي التخصصي والمعياري: هل النصّ الصوفي يعلن تمرّده السرمدي عبر تملّصه من القراءات الفوقية ليعبّر عن فرادته وتماسكه الداخلي؟ هل المناهج المشكّكة في التجلّي الميتافيزيقي للإشراقية، بمقدورها أن تؤكد انسحاب التصوّف من المشهد العلمي الواقعي، ليغرق في أوحال الأسطورة والخرافة والمتاهات الميثيّة؟

الفيض وانكشافات الرمز في التصوّف:

يقول بورخيس عن المتصوّفة: "كتبهم، أيضًا، تتضمّن اختلافًا؛ فجوهرها الفلسفي ينطوي دومًا على القضية ونقيضها، وعلى حجّة حاسمة، وحجَّة مضادة لها في الآن نفسه، والكتاب الذي لا ينطوي على نقيضه كتاب ناقص"[1].

أغلب الإحراجات المعرفية غير المعلنة أكاديميًّا؛ هو ما يتجاوزه القرّاء الحداثيون في قراءة التراث، ألا وهي؛ مسألة الفيوضات والإشراقات المحايثة لروح التصوّف ومكامن القوة التصورية، التي تفصح عن علاقة غير مفهومة بين اللاهوت والناسوت، وأغلب الظن؛ أنّ التحليل الفيلولوجي أو حتى الألسني، للغة الصوفيّة لا يمعن كثيرًا في الرمزية الدقيقة والمجازية، التي تتدثر بها الآراء الصوفية، وبالتالي؛ يحيلها إلى التفسير الموضوعي العام، بغية استنطاقها، بناء على إبستومولوجيا نصيّة، تهتم بالدلالة وحقولها النسقية، باعتبار النصوص كنوزًا، تحتوي مفاتيحها الخاصة على معانٍ ومغزى، تتعدّد بتعدّد القرّاء، وبنمط الهيرومينيطيقا، التي تنسج فهمًا، انطلاقًا من المنتوج النصّي الصوفي، وفي هذه الحالة؛ تغدو المقاربة الدريديّة التفكيكية في سبر أغوار النص الصوفي، ضربًا من التأجيل والقفز فوق حواجز الميتافيزيقا، التي طالما أزعجت المنهج التفكيكي؛ لأنّ دلالات النص المفارق والمقدّس، حمّالة أوجه ومعاني، تستدعي حضور وعي ديني وعرفاني، وتجربة لا يفقهها سوى أهل الباطن، المدرِكون لمقامات الخلاص الروحي، والمسكونون بالوَجْد والمحبّة الإلهية.

تطبيق المنهج الإبستمولوجي في تفتيق اللّامنطوق، الذي تزخر به الشعائر الدينية، لا يتّفق، أحيانًا، مع تطوّر البناء المنهجي والمفاهيمي للتصوّف، كظاهرة لها تكوينها ونسقها المعرفي؛ حيث الوسائل غير المنضبطة للفكر الإبستيمولوجي المقارن، لا تصلح لفهم الخطاب الصوفي؛ فَتَسِمُه باللاعقلانية والتعالي المفرط، وأحيانًا، بـ "تراستنداليّة روحانية"؛ هي ضدّ العقل وفوق الفهم العقلي، ممّا يستوجب أن يفهم الخطاب الصوفي من الداخل؛ فهو، كبناء ميتافيزيقي، يتداخل فيه الغيبيّ مع الرمزي يتجاوز معنى الأحجية، ونصوصه ليست ألغازاً، كما يقول (آيان إدموند Ian Almond) عن الشروح النصّية للبنيويين الأنثروبولوجيين، الذين يسمون كلّ التصوّرات الدينية الطقسية بالأسطّرة.

إنّ خلخلته تعتمد على تكوين أنموذج صوري، ينزع إلى بناء نمط منهجي خاص، يتفق مع خصوصية التصوّف، كظاهرة تراثية دينية تقليدية، خاصة إذا تناولنا مركزية الخطاب الصوفي وحدوده الكلامية مع النقاش السياسي والديني، الذي يؤرّخ لمرحلة صراع، غير بريء، بين الصوفية والفقهاء، انتهى بمحن باطنها فشل إيديولوجي تأويلي، وظاهرها موجة تكفير لمقولات صوفية، طالما وُصفت بالتطرف والمروق عن الدين والتوحيد.

يتعجّب ابن عربي من المفسرين "الذين لا يعتدّون بالعطاء الإلهي (الوهب)؛ فيعتدّون بملكاتهم العقلية (العقل)، للتحقق من ما هو صحيح وغير صحيح"[2]، وهو تلميح إلى كثرة الشرّاح التراثيّين، الذين يعتدّون بحرفيّة النصّ، ويجيدون الالتفاف حول الظاهر والهوامش، ولا يستنكف من وصف آرائهم بالفساد وعدم الروية.

التصوّف الكابالي وعقدة النصّ الميتافيزيقي الغامض:

الأصل في انطباعات الإبستمولوجيين: هو استباحة النص والتمرّد عليه، أو التمرّد على المتمرّد أصلًا، باستبطانه، وقراءته، ونقده من الداخل، انطلاقًا من تطويعه، وتقعيده وفق نماذج تفكيكية تعرّضه لمخاطرة التأويل الضمني الباطني، ولكن بإعادة إنتاج صور غير واضحة، تزيده غموضًا وتطرّفًا. ربما تحت أسر التصوّرات الأكاديمية النظرية، يتمّ الخلط بين الأسطورة، كمفهوم طقسي، حسب تعبير هابرماس، وبين الرؤى الفلسفية للتصوّف، رغم محاولات الفكر الفلسفي الانفلات من عقدة تأطيره روحيًّا، وميتافيزيقيًّا، والإجهاز على أيّة محاولة إبيستمولوجية نقدية، تتوق، أوّلًا، إلى فكّ الارتباط التقليدي بين الأسطورة والفلسفة، باعتبار الثانية اختبارًا تنميطيًّا تقويميًّا، لحاجة الفكر النقدي إلى عزل المقاربات العقدية والمطلقة، التي تقتضي التصديق الإرجائي المطلق، وتنحو منحى تقويًّا، وأحيانًا رعويًّا، كما هو الحال في الروحانيات الإبراهيمية، والكبالية La cabbale اليهودية، والتعاليم اليسوعية والمسيحية. ليس غريبًا أن تكون الثورة الروحية والصوفية، التي دشّنها (إرنست بلوخ Ernst Bloch)، و(لتر يوجين walter eugene)، في تناولهما الدراسات اللاهوتية، والميراث الديني المسيحي والتوراتي، كحالة انبجاس مطلق للحقّ الطبيعي، في فهم وجود الله، وتلمّس لأكثر الطرائق الفلسفية اعترافاً بفكرتيْ الخلاص والمحبّة، اللتان تتّفق حولهما الديانات السماوية.

التراث الصوفي التاريخي؛ فضاء رمزي لعلاقة خفيّة بين الإنسان بمختلف مراتبه الأنطولوجية، وبين الغيب، الإنسان الباحث عن جوهره في بيداء قلبه، ملهمًا بوجدانه، وهمّته، وذوبانه في غمرة الوجد وكثافة اللوعة، ورشاقة الوصل والوصال الكونيّ، الذي يجمع المستشرفين بنور قلوبهم في البحث عن كمالهم الإنساني، وماهيتهم الوجودية، وإن اختلفت مشاربهم، وآفاق تكوثرهم السرمدي.

وكما يعتقد هابرماس في دراسته الظاهرة الدينية والوجودية اليهودية؛ فإنّ معظم الشباب الفلاسفة، آنذاك، على غرار (ماركس K. Marx )، و(هيغلF. Hegel ) من قبله، و(إيمانويل كانط E. Kant)، دشّنوا ثورة فلسفية في صياغة أكثر الأسئلة الإنسانية إحراجًا للفكر البشري، بنقله من حالة التديّن الكابالي واليسوعي الإبراهيمي، إلى علمانية واشتراكية، لا تنكر ارتوائها من المحدّدات الروحانية الغربية؛ لأنّ العقل المجرّد الصرف والعقل الاجتماعي المالي؛ هو انسحاب من الرؤية العتيقة لعالم الأشياء والأفكار، كما تنضح بها اليهودية والبروتستانية، إلى عالم عقلي مشروط بقوانين وأنظمة، أكثر صرامة من ذي قبل، بمعنى؛ أنّ التصوّف الغربي تأثّر، بما لا يترك مجالًا للشّك، بأكثر الأفكار العالمية انعتاقًا وتحرّرًا في الدين أصلاً.

ظهرت الكابالية في القرن الثالث عشر، كحركة روحانية يهودية عميقة، وصوفية متمرّدة على الفكر التلمودي والتوراتي، الذي أصيب بالوهن التاريخي، نتيجة انحساره في أمّة واحدة وشعب معيّن ينشد التعالي باسم الخصوصية الروحية، والانتقائية الميتافيزيقية، التي تكرّس أكثر المفاهيم راديكالية في أسس الاعتقاد، حين يختزل مبدأ الخلاص، والتفرّد، والخيرية، في عدد قليل من البشر، أطاعوا الله أو "يهوه" بما يشبه التعاقد الأّبديّ الكونيّ الخالد، مقابل تميّزهم الفوق طبقي على حساب الأمم الأخرى.

إنّ الركود الديني، والتكرارية، وإعادة إنتاج نفس الطقوس الرعوية، والشعائر الخالصة؛ هو ما يميّز الغموض الصوفي اليهودي، والتصوّف الممزوج بالملاذات الأخروية؛ هو انعطاف ذاتيّ، مسكون بهاجس العودة إلى أعماق الإنسان، إلى باطن الأشياء ودواخلها التي استعصى على عالم المادة فتحها، أو سبر أغوارها، والتي لم تقدر عليها، أيضًا، العلوم الطبيعية، بفكّ شفرتها، وهي تحت طائلة الثبات الطبيعي والقوانين المتكلسة والشروط الأمبريقية، ولا يخفي هابرماس، وهو يحلل الظاهرة الدينية، مكانة الروحانية المتشبعة بالصوفية، كحالة نزوع إنساني إلى مراجعة الذات، وإعادة فهم النصوص الدينية، التي ترفض أن تبتلع ذاتها، وهي تفسّر سيرورة الإنسان في طبيعة الله الخالدة.

إنّ الانسان؛ هو الطبيعة المطبوعة، بتفسير سبينوزا للطبيعة الطابعة لله؛ فالبشر يتوسّمون الخلود العقلي، بادّعائية قهرية نحو السياحة في العرفان، وفي أمجاد الله وبديع خلقه، إنّه باطن يسبح في الباطن، وعرفان مسكون بعرفان، وإنسان يتأبّد في وجوده السرّي، ليعود به الحنين الميتافيزيقي إلى قصة البدء.

التصّوف المسيحي الفنوي أو الانغلاقي الاستغراقي في الأقانيم الثلاثة، والذي يشبه، إلى حدّ ما، نظريات الفناء في الذات الإلهية، والحلول فيها، كضرب من التسامي، كما تذهب الأدبيات التي شرحت التصوف، التي لا تخرج عن الدائرة الإبراهيمية، في منظومة القيم الدينية السماوية، أو ما يسمّيها (إبراهيم إبراهيم محمد ياسين) في دراسته السيكوميتافيزيقة للتصوف بالعلاقات الحميمية، بين الإنسان الكامل اللاشخصي المتسامي، الذي ينشد الانتقال إلى الله، أو انتقال النّفس الى الله، وهو ما طبع الفكر الصوفي المعتّق برياح التفلسف الأفلوطيني، والمتأثر بنزعات غنوصية وفارسية وهندية، كما يروي المستشرقون المؤرّخون للظاهرة الحلولية، خاصة مع شطحات أبي يزيد البسطامي، واعترافات الحلاج، بُعَيْد القرنيْن الثالث والرابع هجري، وحتى في أسرار النصوص الاختلاجية والغامضة لمحيي الدين بن عربي في (فصوص الحكم) و(الفتوحات المكّيّة).

وهنا؛ قد يكمن انعطاف تأريخي للفلسفة الصوفية المسيحيّة، التي تشابكت مع الحلول والفناء الصوفي لمتصوّفة الإسلام، فكثير من المقاربات الاستشراقية للتراث، ترجع جذور الصوفية إلى المسيحية واليهودية، وقد وصف الحلاج بمسيحيّ يلبس جبّة الإسلام، وهي اتهامات لا يخفيها المستشرقان (مولرMuler)، و(هربلوت Hilbrot)، كما يسوقها إبراهيم إبراهيم في مؤلفه "التصوّف الفلسفي": "ربما اتهام (ريسك) للحلاج، بأنه مسيحيّ، راجع إلى قولته المشهورة، التي يقول فيها بحلول اللاهوت في الناسوت أو حلول الألوهية في البشرية، أو اللقاء بين النظامين الإلهي والطبيعي"[3].

يقول الحلاج:

سبحان من أظهر ناسوته ........ سرّ سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلق ظاهرًا ........ في صورة الآكل الشارب

حتى لقد عاينه خلقه ........... يلحظه الحاجب بالحاجب

رغم أنّ هذه الرؤى والشطحات والأقوال مردود عليها، وتختلف مناسباتها؛ فإنّ المؤرّخين عَزَوْا بعضها للتراث الصوفي المرتبك؛ أيّ كونها نصوصًا مضطربة، تكتنفها بلبلة وغرائبية، كما يرى (آيان إدموند Ian Edmond)، إنها لحظات نزع وتجاذب روحاني، تغمر أهل الكشف في قمة ترنّحهم، ووجدهم العفوي، وانكشافهم الإشراقي، فتتفوّه ألسنتهم بعبارات، لا يفهم باطنها إلّا باستجلاء تكتّمها السرّي، المتخفّي في حواشيها وأعماقها؛ فهي ألفاظ متمرّدة، تفضح الحرية الثورية، التي تكتنزها روح الصوفي الفاني في محبة الله، بالمقابل؛ لا يخفي دعاة المقارنة، أنّ التصوف ذو معين واحد، وطقوسه تتشابه، وإن اختلفت أسراره؛ فهو يمزج أبنية فلسفية، ويوحّدها نحو خطاب التجلّي والتقرّب إلى الذات الإلهيّة، وإن تمفصلت مشاربه العقدية وأصوله الدينية؛ فالوجدان واحد، والإشراق، والشاعرية الصوفيّة؛ هي عند الكابالي اليهودي، واليسوعي المسيحي، والإشراقي المسلم واحدة، وهي شفرة روحية، تغيب عن هيرومنيطيقا الروح.

عرفانيّة الخيال الخالق في التصوّف:

الخطاب الصوفي يحمل حقلًا دلاليًّا ثريًّا، تزدان مفرداته بصيغ، ومفردات، وإشارات قوية وجليلة، تصدح بها كتابات وأشعار الصوفيّة خاصة، وتتعلق ببديع اللفظ في العربية، وهي؛ لغة الاشتقاقات والتنوّع المجازي، الذي يغري العاشق الإلهي، الذي يتبنّى الوصل الوجودي، والمحبّة بين الأرض والسماء، ولا يتأتّى ذلك إلّا بالقدرة على إمكانية اعتماد الخيال، والفكر، وتوظيف المخيّلة، بما يتفق مع مدركات الواقع أو تجاوزها، بما يختمر في القوة المصوّرة، وهو ما تفصح به لغة العارفين الذين تشرّبوا من فيحاء العرفان النوراني، والفناء في ذات الله.

إنّ الخيال الذي يتجاوز الواقع، هو ما يتعدّى سقف الوهم؛ لأنّ هذا الأخير بتصوّر (باشلار G. Bachlard)، انفجار للقوّة الوهمية، وحركة عفوية لفيض من الصور الفوق إدراكية، عندما يتّحد الماضي مع المستقبل، في اللحظة والحاضر، وفي الزمن الآني، ولكن بالمفهوم النوراني؛ الخيال يتجاوز المحسوس إلى انبجاس حاسّة جديدة هي (الحاسّة الكونيّة)، أو (البصيرة)، أو (القلب الربّاني النابض بالحياة)، وهي: حاسّة، يدعوها إبراهيم ياسين، القوّة المفكّرة استنادًا إلى التحليل السِنَوي (نسبة الى ابن سينا)، أو الحاسة الباطنة؛ والتي تتسامى وتبلغ ذروتها الروحانية بانفصال العقل عن الواقع، انطلاقًا من مجاهدة النفس، وتطويعها، وقهر الغرائز والجسد، بالنزوع نحو الارتواء من الفيض الإلهي، الذي يفنى فيه الجسد، ويتحوّل إلى وسيلة للاستمرار في ملكوت الأرض، والذي يتوق إلى الاتحاد بملكوت السماء، هذه الحاسة: هي قلب الصالحين والأنبياء، بَلَغَتْها مداركهم بعد انتقالهم من مراتب إلى أخرى، وهي عصيّة على الإنسان العادي، المسّيج بعالم الظاهر وشروط الإكراه الماديّ.

تعدّ ومضات الروح الخالدة لجلال الدين الرومي، فضاءً لانعتاق النفس المتعالية، وتجلّيًا لتطلّعات الحاسّة الكونيّة أو البصيرة؛ فالحضرة الإلهية، وحالات الوجد العاصف، التي يتعرّض لها الصوفي وهو يتسامى بقهر الجسد، وتسخيره لعوالم الباطن بغية اللقاء بروح الشيخ، أو استحضار وجوده العينيّ، والتلذّذ بصحبته، وفق إيقاع تراستندالي، يمتزج بحركات منظمة، كما هو الحال في الرقص المُولَوِي (نسبة الى الطريقة المولويّة)[4].

يغدو التصوّف مسلكًا ونزعة غير منضبطة بشروط موضوعية أو قواعد إبستمولوجية، باعتباره حقلًا للميتافيزيقا وللخطاب الغيبي، ونقيضًا موجّهًا لكلّ ما هو واقعي، أو للتمثّل العلمي لعالم النصوص، الذي يمتد تاريخيًّا بواسطة النقل، والمشافهة، والرواية، مع معيارية معرفية، ترتّب فنّ التواصل الفقهي، المبنيّ على أسس ومقاييس تحدّدها علوم القرآن، وقواعد الرواية والحديث في التصنيف، والتثبت، والتمحيص، والترجيح، كما يدرجها الخطاب الديني التقليدي ذاته.

يرى نصر حامد أبو زيد: أنّ علم الدلالة النصيّة، يصطدم كثيرًا بتغييب البعد الاجتهادي عن النصوص التنزيليّة، ممّا يعطّل قدرات العقل في استنطاق متونها وفهمها في بعدها الإنسانوي؛ أي إنّ استبعاد الأنسنة في التعامل مع النص الغيبي، يفتح المجال أمام التصوّرات الأسطورية كي تسود.

أخيـــــــــــرًا:

نتيجة لفرض نمط ثابت من التفاسير يخلّ بقواعد التأويل؛ فإنّ انغلاق النصوص، وثباتها بالمفهوم الحرفي السلفي التقليدي، رفض التأويل، كما تقدّمه وتنفرد به الإسلاميات التطبيقية، وهذا المفهوم؛ الذي اجترحه الراحل محمد أركون، من خلال الاستعاضة بالمنهج الألسني الدلالي والمقاربات الإبستيمولوجية، وهي مقاربات تعتبر النص منتوجًا تاريخيًّا، يتداخل مع بنى ثقافية وسوسيولوجية؛ أي إنّ فهم الظاهرة النصيّة التنزيلية، يجب أن يخضع لشروط خاصّة، تفرضها سيرورة الأحداث (المعرفيّة، والسياسية، والاجتماعية) لكلّ حقبة، ولهذا؛ تختلف التفاسير والأفكار، نظرًا لتجليات النصّ المقدّس، واستئناسه بتجارب البشر، وخلفياتهم العقدية والإيديولوجية، وعليه؛ فالاستثمار في النصّ الديني، بتجييره لفكر أو تلوينه بمقاصد، وتوجّهات معيّنة، كما يرى نصر حامد أبو زيد، ليس إلّا محاولة لتعبئة الفكر الديني بترسانة من التبريرات الساكنة المنغلقة، والتي ما فتئت توصد باب التجديد الديني، بابتلاعها كلّ إمكانيات الفهم العصري لعمق النصوص وامتداداتها التاريخية، وإعلانها لا تاريخية النصّ المبجّل والمقدّس المتعالي عن العقل الإنساني، بناء على قصور ومحدودية هذا الأخير، وهي نفس الإشكاليات القديمة، التي أجّجت تاريخيًّا الصراع التيولوجي، بين فرق، واتجاهات، ونِحَل تراثية، كان أهمّها؛ القول بخلق القرآن وحدوثه ضدّ قِدَمه، واستقراره في اللوح المحفوظ، وفي القدر الإلهي المحجوب عن الفهم البشري، وإذا كانت هذه الجلبة الفكرية التاريخية، أنجبت أكثر الفرق الإسلامية والكلامية، المتمثلة في المعتزلة والأشاعرة؛ فإنّ التوتّر الفكري مازال على أشده بين دعاة إعادة صياغة المفاهيم التأويلية، وبين رافضي فكرة الأنسنة والاجتهاد البشري في المعلوم من الدين، بالضرورة الجبرية.

الصوفية كاتّجاه توفيقيّ، وأحيانًا، مفارق يتوسّط بين رؤية عقلية انبثاقية واستطلاعية، وأخرى ثابتة ترى أنّ الفكر ليس إلّا حالة وجدانية، وأنّ ما لا يمكن فهمه من المتشابه، بردّه الى المحكم، يستوجب تفكيك رمزيّته؛ فالدلالة الميتافيزيقية في النص القرآني، لا تكتفي بالتفسير فقط، ولا تتلاشى في التأويل فحسب؛ بل لها معان ومغزًى عميقًا ودفينًا في العمق، وهو مسكوت عنه، وغير بائن وواضح بذاته، يحتاج إلى شرح لاهوتيّ أو هداية أو رسالة، كما يرى نصر حامد أبو زيد، بمعنى؛ إنّ تسلّط ثقافة دينية، معيّنة ومفهمة، وحيدة في الاستفراد بالنصوص، يجعلها أكثر عرضة للتصنيف اللّاعلمي واللّاموضوعية؛ حيث يتداخل الأسطوري مع المقدّس، واللاعلمي بالمعرفة العلمية.

"إنّ القول بإلهية النصوص، والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك، يستلزم أنّ البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها، ما لم تتدخل العناية الإلهية بوهب بعض البشر طاقات خاصّة، تمكّنهم من الفهم، وهذا بالضبط ما يقوله المتصوّفة، وهكذا؛ تتحول النصوص الدينية إلى نصوص مستغلقة على الفهم العادي، مقصد فهم الإنسان العادي، وتصبح شفرة إلهية لا تحلّها إلّا قوّة إلهية خاصّة"[5].


[1] ألان إدموند، التصوّف والتفكيك، درس مقارن بين ابن عربي ودريدا، ترجمة: حسام نايل، المركز القومي للترجمة، طبعة أولى 2011، ص151

[2] نفس المرجع، صفحة 154

[3] إبراهيم إبراهيم محمد ياسين، التصوّف الفلسفي: دراسة سيكوميتافيزيقية، منتدى صور الأزبكية، 2002م، ص 49

[4] نفس المرجع، ص 89

[5] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، دار سينا للنشر مصر، طبعة ثانية، ص 206