حوار حمّادي المسعودي عوائق الإصلاح وإشكاليّة النّهضة الجزء الثّالث


فئة :  حوارات

حوار حمّادي المسعودي عوائق الإصلاح وإشكاليّة النّهضة الجزء الثّالث

د. نادر الحمّامي: نجدّد ترحيبنا بالأستاذ حمّادي المسعودي في هذا الجزء الثّالث من حوارنا معه، وقد كنّا طرحنا في الجزأين السّابقين الكثير من المسائل والقضايا التي قد تفتح باباً أمام الباحثين والمهتمّين حتى يواصلوا فيها الأسئلة، فمن المناهج وأهمّيتها في مجال العلوم الإنسانيّة إلى الوحي بين التنزيل والتّدوين، لنصل إلى ربط ذلك بمسائل الفكر العربي الحديث، وما يسمّى "فكر النّهضة"، الذي تذهب بعض الدّراسات إلى أنّه يمكن أن يكون منطلقاً لعمليّة الإصلاح، التي أصبحت حتميّة اليوم، بالنّظر إلى ما تشهده المجتمعات الأخرى من تقدّم. ولكنّ فكر النّهضة قد يكون هو بدوره إشكاليّاً ممّا يستوجب إعادة الطّرح، لأنّ ما قد يرى البعض أنّه مستند خلاص في هذا الفكر، قد يرى البعض الآخر أنّه بذرة فشل للمشروع الإصلاحي. وفي هذا التّساؤل العام يتنزّل كتابك "إشكاليّة النّهضة في الفكر العربي الحديث"؛ فكيف يكون فكر النّهضة، الذي انطلق بداية من القرن التّاسع عشر مع روّاد الإصلاح وتواصل مع من لحقهم، مسألة إشكالية؟

د. حمّادي المسعودي: إنّ النّهضة مسألة إشكاليّة، وهذا ما ضُمّن في عنوان الكتاب، وهي إشكاليّة لأنّ العرب استفاقوا مع نهاية القرن الثّامن عشر وبداية القرن التّاسع عشر على تجاوز الآخر لهم ولحضارتهم ولثقافتهم، وقد أشار ابن أبي الضّياف (1803-1874) في "إتحاف أهل الزّمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" إلى أنّ الأمم الأخرى قد فاتتنا في الحضارة بأشواط. هذا الوعي بتخلّف المجتمعات العربيّة والإسلاميّة وبالانحطاط الذي ساد فيها، دفع بعض المفكّرين من أقطار عربيّة عديدة إلى البحث عن سبل النّهضة والإصلاح، وقد كان لهم السّبق في الانتباه إلى ما كانت تعانيه مجتمعاتهم التي غدت أشبه بالرّجل المريض، فعملوا على إخراجها من تلك الحالة المتردّية، وألّفوا كتباً للحثّ على النّهوض في مستوى الحرّيات والتّعليم والمرأة وغير ذلك من القضايا التي مثّلت محاور اهتمام أساسيّة لديهم، ونرى الآن أنّهم لم يصلوا إلى ما كانوا يطمحون إليه، وذلك راجع إلى أسباب كثيرة.

د. نادر الحمّامي: كان هؤلاء المفكّرون على وعي بتلك القضايا، ولكن هل أنّ الحلول التي قدّموها كانت في مستوى ذلك الوعي؟ وما نلاحظه أنّهم لم يتجاوزوا بعض الخطوط في ما أشرت إليه من قضايا، فحينما نقارن مثلاً بين ما كتبه ابن أبي الضّياف في "رسالة في المرأة"، وبين ما كتبه حول الإصلاح السّياسي، نجد بوناً شاسعاً؛ فنظرته إلى المرأة كانت دونيّة بامتياز في حين كان وعيه بالتّخلف السّياسي وبضرورة الإصلاح مهمّاً، ولعلّ رواد الإصلاح لم يبلغوا من الجرأة ما يجعلهم قادرين على تجاوز الموروث الدّيني والاجتماعي.

د. حمّادي المسعودي: الأمر يرجع إلى أسباب متعدّدة، ولعلّك ذكرت المثال السيّء الذي يمثله ابن أبي الضّياف في موقفه من المرأة، ويمكن أن نذكر المثال الجيّد الذي يمثّله قاسم أمين (1863-1908) في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، وقد ألّفهما في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية العشرين، وتضمّنا الكثير من الإيجابيّات التي لو طبّقت في ذلك العصر لكان وضع المرأة شبيهاً بما عليه نظيراتها في الغرب في مجالات التّعليم والتّحرّر والموسيقى والرّياضة والعمل، وكلّها مسائل مطروحة في الكتابين. ونذكر مثال الطّاهر الحدّاد (1899-1935) أيضاً، وقد كانت رؤيته للمرأة جريئة جدّاً، ولعل مجلّة الأحوال الشّخصيّة في تونس (1956) قد استمدّت معظم ما جاء فيها من أفكاره، كما نذكر أبا القاسم الشّابي (1909-1934) الذي له رؤية تكاد تكون تقديسيّة للمرأة عبّر عنها في شعره، حتى أنّه ألّهها في قصيدته "صلوات في هيكل الحب". ونذكر خير الدّين التّونسي (1820-1890) في "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، وقد دعا إلى الإصلاح الذي يقوم على أساس تحقيق العدل والمساواة في حكم الرّعيّة، ورفع مظاهر الظّلم والتّعسّف، واحترام الحقوق، وقد بلغ الكواكبي (1855-1902) في المشرق أشواطاً أبعد من ذلك، فدعا إلى الاهتمام بالمولود منذ أن يكون جنيناً في بطن أمّه، ورفض الاستبداد، ودعا إلى السّياسة العادلة والتّعليم... لقد كانت هذه الأفكار تشمل المرأة كما الرّجل، ولا يمكن بناء نهضة على أحدهما دون الآخر، كما أنّ المجتمعات لا يمكنها أن "تطير" بجناح واحد وإنّما بجناحين. ولكن هذه الأصوات المستنيرة التي أرادت أن ترقى بالمجتمع ذكراً وأنثى، لم تكن، مع الأسف، مسموعة في مجتمعاتها، وقد ظهرت أصوات أخرى معرقلة لها، نذكر من ذلك ردّ الشّيخ محمّد صالح بن مراد على الطّاهر الحدّاد في كتابه "الحِداد على امرأة الحدّاد"، وعادة ما تكون الأصوات المناوئة لها تأثير غالب كما تكون مدعومة من المؤسستين الدّينية والسياسيّة.

د. نادر الحمّامي: ألا ترى معي أنّ تلك الأسئلة الكبرى التي طُرحت مع رواد الإصلاح بداية من الطّهطاوي (1801-1873)، قد توقّفت مع بداية الثلاثينيات؟

د. حمّادي المسعودي: ما أشبه اليوم بالأمس، خذ على سبيل المثال "تقرير لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة" (8 جوان 2018)، أليست المؤسّسة الدّينيّة التي ترفض هذا التّقرير اليوم هي نفسها التي كفّرت الطّاهر الحدّاد، ووقفت ضدّ التّيّارات الإصلاحيّة في مصر وغيرها؟ المجتمعات العربيّة والاسلاميّة تواجه دوماً الكثير من العراقيل التي تعوقها عن النّهضة، وغالباً ما يقف رجال الدّين ضدّ كلّ إصلاح.

د. نادر الحمّامي: المؤسّسة الدّينيّة بطبيعتها المحافظة هي رافضة دائماً لكلّ جديد ولكل نفس تحرّري، سواءً كان ذلك في مرحلة الثّلاثينيات كما ذكرت، أو اليوم مع هذه البيانات الصّادرة عن المؤسّسة الزّيتونيّة ضدّ تقرير "لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة"، وقد ذكرتُ متعمّداً توقّف أسئلة الإصلاح الكبرى حول الاستبداد السّياسي والتّعليم والمرأة وكلّ ذلك النّفس التّحرّري، لتتحوّل انطلاقاً من الثّلاثينيات إلى أسئلة أخرى سطحيّة وشكليّة تتعلّق بالخلافة الإسلاميّة وشكل لباس المرأة، وهذا التّغيير بدأ مع ظهور ما يسمّى اليوم الإسلام السّياسي منذ 1929، مع حسن البنّا (1906-1949) وجماعة الإخوان المسلمين، ورغم أنّ هذا لا يعني وجود تشابك بين الإسلام السّياسي والمؤسّسات الدّينيّة، إلاّ أنّه في النّهاية تقاطع في الرّؤية نفسها، ممّا عرقل ما بُني مع حركة الإصلاح.

د. حمّادي المسعودي: من بين إشكاليات النّهضة أنّنا لم ننهض، وعدنا في بداية الألفيّة الثّالثة إلى أسئلة كنّا نخال أنفسنا تجاوزناها منذ القرن التّاسع عشر؛ من ذلك أنّ قضيّة حرّية المرأة في تونس قُضي فيها الأمر، وأصبح المجتمع يطالب بالمزيد في ذلك الاتّجاه التّحرّري. وبخصوص فشل الفكر النّهضوي ينبغي أوّلاً أن نعترف أن المثقّف الذي دعا إلى تحرّر المرأة والتّقدّم بالمجتمع وإلى الحرّية الفرديّة وحرّية التّعبير والعمل، لم تكن بيده آليّات تنفيذ هذه المشاريع الإصلاحيّة؛ فهو يفكّر بجدّية وبعقلانيّة، ولكن ليس هو الذي ينفّذ، وإنّما من بيده السّلطة، وقد يكون هذا الأخير إنساناً جاهلاً ويريد الإبقاء على الحال كما هو ليبقى في الحكم. ولعلّ هذه الظّاهرة لا تقتصر على فكر النّهضة ولا على ذلك العصر، بل هي مستمرّة تاريخيّاً، وما دام الفكر التّنويري الإصلاحي يواجه هذا المأزق، فلن تحصل النّهضة ولا التقدّم. ثمّ إنّ الفئات الاجتماعيّة التي من المفترض أن تُسهم في التّقدّم بالمجتمع كانت تعاني من التّخلّف، وعندما يكون الجهل مسيطراً، فإنّ الغذاء الرّوحي لتلك الفئات يقتصر على التّفكير الغيبي، ما من شأنه أن يعرقل عمليّة الإصلاح، وهذا ما يفسّر وقوف رجال الدّين دائماً ضد الإصلاح. ومع الأسف، فإنّ هذه حال رجال الدّين بالأمس واليوم، فهم ما زالوا يشحنون أفكار النّاس بالخرافات، ويُرجعون سبب التّخلّف إلى الحياد عن سيرة السّلف، ويعتبرون أن حلول مشاكل الحاضر تكمن في العودة إلى الماضي والاعتقاد في أمجاد واهمة، وهذا كلام باطل وغير معقول. ونجد أنّ محمود المسعدي (1911-2004) قد وصف هؤلاء في كتابه "حدّث أبو هريرة قال" بأنّهم "خياليّون"، إذ يواصلون القول بأنّ على الإنسان أن يؤمن بحدود ما جاء به السّلف، وأن يحذو حذوهم في نمط عيشه وفي تعليمه، ليغنم جنّة عرضها عرض السّماوات والأرض، وحوراً عين وأودية من لبن وعسل... ونحن نشهد اليوم نتائج هذا التّفكير الماضوي، فقد تمّ إحياء الحروب المقدّسة، وأشكال التّطاحن الدّيني، وزُجّ بالمرأة في قلب الصّراع، وامتهنت إنسانيّتها في ما يعرف بـ "جهاد النّكاح"، وانتهينا مع بداية الألفيّة الثّالثة إلى ما قبل أسئلة النّهضة في القرن التّاسع عشر.

د. نادر الحمّامي: هل عدنا حقّاً، أم إنّنا لم نبارح تلك المرحلة من التّفكير منذ القديم؟

د. حمّادي المسعودي: ينبغي الاعتراف بأنّا حقّقنا شوطاً مهمّاً في طريق النّهضة، ولنأخذ مثالاً ما تحقّق للمرأة التّونسيّة من مكاسب، إلى حدود ما قبل ثورة (2011)؛ وقد كانت تعدّ نموذجاً في العالم العربي والإسلامي من حيث التّحرّر والتّعليم والعمل... ومن حسن حظ المجتمع التّونسي أنّ دولة الاستقلال عوّلت على التّعليم، وأولته مكانة مهمّة ضمن اختياراتها الكبرى، وقد كان حينئذ أكثر من ثلث ميزانيّة الدّولة الوطنيّة يخصّص لفائدة التّعليم، ولا ننسى أنّنا لا نزال نعيش على ثمار تلك المرحلة التّأسيسيّة المتميّزة، في ظلّ الانحدار المتواصل لمستوى التّعليم اليوم، وهو ما نتج عنه إقصاء المثقّف عن دواليب الحكم والتّسيير؛ وهذا سبب آخر من أسباب فشل الإصلاح. كما أنّ لمخلّفات فترة الاستعمار التي عرفتها البلاد شأناً في تعطيل عمليّة الإصلاح، لأنّ بلاداً لا سيادة لها لا يمكن أن تتقدّم، فكما أثّر الاستعمار إيجابيّا في الكثير من الأفكار السّائرة في اتّجاه التّحرر من خلال ما نقله إلينا من أفكار تنويريّة تأسّست عليها الثّقافة الغربيّة الحديثة، فإنّ طبيعة الاستعمار القائمة على نهب الثّروات والمساس بسيادة البلاد، أدّت في النّهاية إلى عرقلة الفكر النّهضوي، ولعلّ معظم البلدان العربيّة والإسلاميّة قد شهدت ظروفاً مشابهة. فالفترة التي أعقبت تحقيق أغلب البلدان العربيّة لاستقلالها فتحت المجال للتيّارات الظّلاميّة، حتى تسيطر إيديولوجيّا وعمليّاً، وقد قادها الحنين إلى العيش في أحضان الماضي تسكيناً لآلام الحاضر، أمام فشل الكثير من التّجارب السّياسية والاقتصاديّة التي خاضتها تلك الدّول، والتي تأرجحت بين القوميّة والاشتراكيّة واللّيبراليّة...

د. نادر الحمّامي: أليس ذلك يعود إلى أنّ هذه الدّول لم تخترع حلولاً خاصّة بمجتمعاتها، وبقيت في إطار التّرميق بين اختيارات كبرى مستوردة وغير مطابقة بالضّرورة لحاجاتها ولا ملائمة لمشاكلها؟

د. حمّادي المسعودي: أعتقد أنّ معظم السّاسة لم تكن لديهم الجدّيّة الكافية لإيجاد الحلول لتلك المشاكل التي واجهتها الدّول العربيّة حديثة العهد بالاستقلال، فحتّى حينما كان يُقدم مشروع يحمل رؤية سياسيّة واقتصاديّة خاصّة، سرعان ما يقع التّراجع عنه في منتصف الطّريق، بداعي أنّه يمكن أن يهدّد السّلطة القائمة سياسيّا واجتماعيّا، ولنا الدّليل في "تجربة التّعاضد" (التّجربة الاشتراكيّة) في تونس في الستّينيات (1962-1969)، ففي المضمون هي تجربة جيّدة، لكنّ بعض الأغنياء ورجال السّياسة رأوا أنّها لا تخدم مصالحهم، فوقع التخلّي عنها قبل أن تنضج، ويتمّ اختبار نتائجها.

د. نادر الحمّامي: لعلّ هذا التقييم السّلبي لبعض تجارب الإصلاح هو الخطوة الأولى نحو إصلاح فعليّ، فلا يمكن الإصلاح دون الوقوف على الإشكاليّات الحقيقيّة، وقد اهتمّ هذا الحوار بمسائل قد لا تبدو للمتابع مترابطة، ولكنّها بخلاف ذلك مترابطة، ويفضي بعضها إلى بعض منهجاً ومحتوى.

د. حمّادي المسعودي: نعم، فهي مسائل متّصلة ببعضها، وهي جميعاً تنتهي بنا إلى ما نعيشه من إشكاليّات كبرى، ولعلّ ما تعاني منه المجتمعات العربيّة اليوم من مشاكل الإرهاب والتّطرّف على سبيل المثال، عميق الصّلة بالمسألة الدّينية وبالمنهج في قراءة التّراث وبفشل تجارب الإصلاح. ولن تتحرّر هذه المجتمعات ما لم تقرأ نصوصها المقدّسة قراءة جديدة تحرّريّة علمانيّة عقلانيّة، مبنيّة على منهج سليم، وأن تقف أمام أخطائها وتحاول إصلاحها بكلّ شجاعة. عندئذ لن يكون متاحاً لأيّ مخالف في الملّة أن يقتل أخاه في الإنسانيّة، وسنحترم هذه الأخوّة.

د. نادر الحمّامي:على هذه الدّعوة إلى احترام الأخوّة في الإنسانيّة، أجدّد لك شكري أستاذ حمّادي المسعودي على هذا الحوار الذي استوعب مسائل كثيرة، أفدنا من أفكارك فيها، ولعلّ هذا الحوار يفتح أبوابا أخرى للتّفكير والتّأمّل، ويوسّع المجال أمام الباحثين لرؤية الأمور بنظرة محايدة علميّا. شكراً جزيلا لك.

 

البحث في الوسم
نادر الحمّامي