أم الزين بنشيخة المسكيني: ما أكتب يدخل، دائمًا، تحت راية الفلسفة


فئة :  حوارات

أم الزين بنشيخة المسكيني: ما أكتب يدخل، دائمًا، تحت راية الفلسفة

"الفلسفة المرحة"

د. نادر الحمّامي: نجدد سلسلة حواراتنا مع أساتذة الجامعة التونسية، ونحن سعداء جدًّا في هذا الحوار المتجدّد، باستقبال أستاذة الفلسفة الحديثة والجماليات، الأستاذة: أم الزين بن شيخة المسكيني، ومن خلال تحضير ي لهذا الحوار، واطّلاعي على ما كتبت من بحوث أكاديميّة في الفلسفة، وفي الجماليّات، وفي الفن، وما كتبت روايةً، وشعرًا، ومقالات في اليومي، وفي الشأن السّياسي، وبحثها فيه ونظرها في تفاصيله، لا بالمعنى السياسوي الضيّق؛ بل بمعنى التّفكير العميق، يظهر أن أم الزين بنشيخة، تستعصي على التّصنيف، كأن نقول: إنها باحثة في الفلسفة، أو روائية، أو شاعرة، أو كاتبة، أو صاحبة مقالات، لذلك؛ فأنا أخيّر، للتعريف بها، أن أسألها بصورة مباشرة، وهي قد كتبت في الرّواية، والشّعر، والفلسفة؛ فهل أم الزين بنشيخة بصدد التّفكير، روائيًّا وشعريًّا في الفلسفة؟ أم إنّها بصدد الكتابة الإبداعيّة، استنادًا إلى زاد فلسفيّ عميق، يمكن أن نلمسه في ما كتبته وما اطّلعنا عليه؟

مرحبًا بك أم الزين بنشيخة المسكيني.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: شكرًا على الاستضافة أستاذ نادر، وشكرًا لمؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" على احتضان هذه اللّقاءات، للتّعريف بالأساتذة في الجامعات العربيّة، والتعريف بكتاباتهم، مساهمة منها في ثقافة عقلانيّة حرّة. إجابة على سؤالك؛ أقول: إنني بصدد تجريب جملة من الثّنايا التي لا تكتمل؛ فهي تجارب، فحسب، في إطار تحسّس الطّريق وتعميق التّفكير، في ما يحدث لنا، خاصّة منذ سنة 2011م إلى اليوم؛ أي منذ ما نسمّيه بالثّورات العربيّة، التي انطلقت من تونس تحديدًا، وربّما نتحدّث في ذلك بعد قليل. وأنا كاتبة، وباحثة أكاديميّة، أحاول أن أجرّب بعض الثّنايا معًا، وأحاول أن أفكّر شعرًا، وأن أكتب الرّواية فلسفةً، وكل ما كتبت، في الحقيقة، يدخل في خانة الفلسفيّ الكبير، ولا يدخل في خانة الجنس الأدبي بشكل دقيق؛ فحتى الرّوايات التي جرّبت فيها نوعًا معيّنًا من الكتابة؛ هي لا تُعتبر أدبًا، بالمعنى الدّقيق أو التّقني للكلمة، بما يتطلّب ذلك من حبكة سردية، وقصّة ذات بدايات ونهايات؛ وإنّما هي شكل من الرّواية الفلسفيّة، كالتي انخرط فيها الكثيرون، منذ كتاب نيتشه (Nietzsche): ''هكذا تحدّث زرادشت''، الذي يُعتبر رواية فلسفية كبيرة، ومن بعده: أمبرتو إيكو (Umberto Eco)، وكل المتفلسفين الذين انخرطوا في شكل من التّجريب الفلسفي في حقل الرّواية، فما أكتب يدخل، دائمًا، تحت راية الفلسفة، لا بمعناها التقليدي والكلاسيكي، فهي لم تعد ممكنة؛ بل الفلسفة، في معنى طرق للقاء بأحداث إبداعيّة مختلفة ومغايرة، بوسعها أن تجعل الكتابة والتّفكير ممكنين دومًا، في ما يحدث، وفي ما لا يحدث، وفي ما سوف يحدث ربّما.

د. نادر الحمّامي: هل يتقاطع هذا مع سياسة الأدب من زوايا أخرى؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: كلمة سياسة الأدب لـ (جاك رانسييرJacques Rancière)؛ الذي يقول: ''ثمة سياسات للأدب، كما ثمّة سياسات للسّياسيين''؛ فسياسات الفنّانين، وسياسات السّياسيين ليست واحدة؛ لأن الإبداع، يحاول دومًا، أن يلد العالم مرّة أخرى، كلما سقط السّياسيون في ضرب من انهيار العالم. ثمّة سياسات، هي الآن، بصدد المساهمة في إفشال كل إمكانيات تنصيب عالم؛ أي تنصيب معنى إيجابي في أفق الإنسانية الحالية، لكن الإبداع يولد من جهة مغايرة، ليعد الإنسانية لإمكانيّة أن يكون ثمّة عالم مغاير للذي يساهم السّياسيون في إفشاله أو بنائه بشكل قبيح.

د. نادر الحمّامي: أمام هذا الوضع، إذن، ألمس في ما تكتبين أو في ما تفكّرين، سواء في المقالات أو غيرها، أنك لا تتصوّرين فلسفة دون تخييل.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: ليس ثمة فلسفة دون تخييل، وهذا ينخرط ضمن منعرج فلسفي كبير، وقد كتبت في ذلك ضمن كتابي ''تحرير المحسوس''، وكتابي الثاني في الجماليات، وهذا المنعرج يعوّل كثيرًا على تجارب الفنّانين، في البحث عن إمكانية العثور على طرق جديدة للفلسفة؛ فالفلسفة لم تعد ممكنة من داخل الفلسفة؛ بل هي تولد، دائمًا، من حدث خارجها؛ فهي تذهب للقائه، وتجرّه إلى حقلها، وتفكر فيه بشكل أو بآخر، من ذلك؛ فكرة الحب، مثلًا، ما الحب؟ لقد أصبح الحب تجربة عامة، وموضوعًا فلسفيًّا، يَكتب عنه الفلاسفة المعاصرون، ويستعيدونه بشكل فلسفي عميق، من ذلك؛ كتاب (ألان باديو Alain Badiou) ''في مدح الحب''، أو كتاب (بول ريكور Paul Ricœur) ''في الحب والعدالة''، وهذه كتب حاولتُ أن أغريها باللّغة العربيّة، وأن أجعلها ممكنة في اللغة العربية، وكل الكتب التي قرأتها، ومررت بها، وعاشرتها في المكتبة؛ هي كتب حاولتُ، في كل مرة، أن أستدعيها إلى لغة الضاد، وأن أسألها، وأتوسّل منها بعض التّعميق لما يحدث لنا في الأفق العربي المعاصر، ثقافةً، وسياسةً، ومجتمعًا، وقيمًا بما نحن جزء من العالم.

د. نادر الحمّامي: إذن، هذه هي المهمّة التي تحاولين التّفكير فيها عميقًا، من خلال الفلسفة، والجماليّات، والبحث في الفن، فلسفيًّا وإبداعيًّا، لذلك؛ فالمطّلع على كتاباتك في المسائل الفنية والجماليات، يلاحظ أنّها تركّز على النّظريات الغربيّة في الفن، إلّا أنّ هاجسها الدّائم: هو هذا الواقع العربي؛ إذ إنها تستدعي النّظريات الغربية، من أجل قراءة الواقع العربي، لا من أجل استعراضها؛ فهي لا تمثّل هدفًا في ذاتها بالنسبة إليك.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: هنا، أقول لك أمرًا أساسيًّا: أنا ككلّ الذين يكتبون في باحة لغة الضاد الفسيحة، وكلنا ننتمي إلى هذه اللغة، كتابةً، وفكرًا، وشعرًا، وثقافةً، فرغم أنّنا درسنا بلغات أجنبية، ورغم أن بحثي، الأول والثاني، (الدكتوراه) في الجامعة، كانا باللغة الفرنسية، لكن بعد قرار تعريب تدريس الفلسفة، الذي اتخذته الجامعة التونسية، ومضى فيه رواد من أساتذتنا، وزملائنا، وكتّاب كبار، أخذوا على عاتقهم أن يجعلوا لغة الضاد قادرة على أن تتكلّم الفلسفة عربيًّا، وأن تؤسس الفعل الفلسفي عربيًّا، وبما أنني جزء من هذا المشهد؛ فقد حاولت الانخراط في ذلك بما أستطيع؛ فالنّظريات والكتب الغربيّة التي نمرّ بها، تدريسًا وكتابةً، هي مجرد وسائل تفكير، تمامًا كأن تقود سيارة من صنع غربي، وأنت عربي، وتتكلم العربية، وتفكر عربيًّا، وتسكن في بلاد عربية، وهنا نجد العلاقة نفسها بالتقنية بالمعنى المادي؛ فأنا باعتباري جزءًا من وضعية بحث عامة، سبقنا إليها أساتذة كبار في الجامعة التونسية وأسّسوها، أحاول أن أنهض بهذا المشهد، وأن أقدّم للوطن العربي، بشكل عام، مشهدًا إيجابيًّا حول ما يحدث في ورشات بحثنا، فكل منا له ورشة بحث يأتي منها، ونحن نعرض هذا الجهد النّظري، الذي نسعى من خلاله إلى تأسيس تقاليد بحث عربية، وأن نسكن لغتنا؛ لأنّنا يمكن أن نتكلم الكثير من اللّغات، كما تقول (حنا أرندت Hannah Arendt)، ولكنّنا، في النّهاية، نسكن في لغة واحدة.

د. نادر الحمّامي: نلاحظ في ما قلت الآن؛ نوعًا من التّوصيف، الذي نجده متكرّرًا في ما تكتبين، توصيفًا لهذه الوضعية المشارفة على الانهيار، ولكن في كل مرة أنت لا تسدّين باب أمل أو باب انفراج، وأنت تبحثين، كما ذكرت في حواراتك وفي مداخلاتك، عن السّبل الكفيلة لتجاوز هذه الوضعيّة، من ذلك؛ استعارتك لأسطورة باندورا اليونانية، التي أغلقت الصّندوق على قيمة واحدة، وهي قيمة الأمل، رغم الواقع الكارثي أو المشرف على الانهيار؛ فنجد، مثلًا، في ''جرحى السّماء''، وهو عنوان رواية لك، أن الجرحى بقوا معلّقين بين الموت والحياة؛ فهل لهؤلاء المعلّقين وضعية انفراج أو عودة لفتح ذلك الصندوق؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: أنت تسأل سؤالًا مضاعفًا، ولكنّه يتقاطع في عقدة إشكاليّة واحدة؛ فنحن ندرّس ولنا رسالة تربويّة، ونريد أن نقول لجيل كامل، من خلال الدّروس التي نقدّمها لطلبتنا، ومداخلاتنا، والأحداث الثّقافية التي نشارك فيها، نريد أن نقول لهم: ثمة بصيص أمل في مكان ما، ونحن في الحقيقة محكومون بالأمل، وليس لنا الخيار في ذلك، وهو ضرب من القدر، بلغة دينية إن شئت، أو ضرب من الضرورة العبثية، كصخرة سيزيف التي ترتدّ بشكل متواصل؛ فالصورة عبثية قليلًا، ولكن حتى العبث يجعل لدينا أملًا، كما يقول (ألبير كامو Albert Camus)، ويجعلنا قادرين على أن نرى الضوء بأية طريقة، ومن أجل أن نرى هذا الضوء، ينبغي أن تكون لدينا العيون الكفيلة بالإبصار، دائمًا، ثمة مكان ننظر إليه بطريقة مغايرة، والقادرون على التّحديق في الضّوء، أولئك هم الذين يستطيعون توجيهنا للخروج من الأزمة.

دائمًا في التّاريخ البشري، ثمة أزمات، وكوارث، وفظاعات؛ فهو تاريخ حروب، وهو ذاكرة طويلة من الدّماء، وحتى تاريخ الحداثة؛ هو تاريخ فظاعات، وقد بني على ذاكرة دموع الكهّان، والقساوسة، والصّراع البروتستانتي الكاثوليكي، ممّا جعل، فولتير ولوك، يكتبان رسالة في التّسامح؛ لأنهما وجدا أن التّسامح وحده، كفيل بتحرير البشرية من عدد الضّحايا المريع؛ فالأمل: هو هذه الفكرة القوية، التي نتشبّع بها، وليس ذلك بدافع اليوتوبيات الحمقاء.

د. نادر الحمّامي: هذا ما كنت سأسألك عنه؛ لأنّك تكتبين أن زمن السّرديات الكبرى واليوتوبيات قد انتهى، ولكن ألا تسقطك هذه الفكرة في اليوتوبيا من جديد؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: ليس ثمة تناقض في ما أقول، وأنا أحرص على ألّا يكون، ولكن حبذا لو كان ثمة هذا التّناقض؛ لأن التناقض هو الذي يحرّك الأفكار، لكن أحبّذ أن أجد دومًا طريق الانسجام، رغم أن كل ما يكتب في الفكر المعاصر؛ هو على إيقاع الشّظايا، كما يقول الشاعر، وعلى إيقاع الضّحايا والدّماء، وكل مشهد نراه يوميًّا في نشرة الأخبار، ولكن لا ينبغي أن نعدّل عقارب ساعاتنا على ما يحدث؛ لأن ما يمكن أن يحدث، ربما يكون أجمل، وهذه الفكرة في الحقيقة توجد في كل الفلسفة المعاصرة المناضلة، طبعا ثمّة فلسفة متشائمة، وهناك متشائمون ويائسون دائمًا؛ فــ (شوبنهاورArthur Schopenhauer) مثلًا، كان يقول دائمًا: (ليس ثمة في العالم غير الألم والملل، وليس ثمة ضوء آخر)، وتمرد عليه نيتشه؛ الذي أسّس ما يسمى بالمعرفة المرحة، و(العلم الجذل Le gai savoir)، وأنا أنتمي إلى تلك الفلسفة المرحة، وأرى أن ما لم يحدث بعد، قد يبشّر بإمكانيات لا متوقّعة، وعميقة جدًّا؛ لذلك ينبغي أن نتشبث باللّامتوقع، أو بالمستحيل، وينبغي أن ننجز هذا المستحيل؛ لأننا تعلمنا أن الفلسفة، ليست ما يوجد أو ما هو كائن فحسب؛ بل هي ما ينبغي أن يكون، وهذا تمييز كانطي، وقد اشتغلت كثيرًا على (كانط Emmanuel Kant)، وهو موضوع اختصاصي الأول. وثمة أيضًا؛ المستحيل، ونذكر ما قاله (تشي غيفارا Che Guevara): ''ينبغي أن نتشبث بهذا المستحيل ونطلبه''، وقد استعاد ألان باديو هذه الفكرة لتشي غيفارا، يقول: ''السعادة: هي أن تطلب المستحيل، وأن تتمتع بأنك تطلبه''، وهذا ميتافيزيقا بالمعنى الجديد، وليس بالمعنى القديم؛ لأن كل ما نقوله ميتافيزيقا، ، ونحن نعلم أن مفهوم الميتافيزيقا؛ هو ما بعد فيزيائي محسوس (métaphysique)، وكل الكلام هو، بشكل ما، وبفهم عام جدًّا ميتافيزيقي؛ فعبارة الميتافيزيقا: هي عبارة عائمة، ولا ينبغي أن نلقي عليها الغموض. و''جرحى السماء''، تلك الرواية التي أحبّها كثيرًا، وأعترف بهذا الأمر، ذلك أن ما أجرّبه إبداعيًّا على مستوى الرّوايات، وهو أحبّ النصوص إلى قلبي، صحيح أنني أشتغل كثيرًا على المستوى الأكاديمي، وفي إطار الاختصاص، ولكنني لا أريد أن أحصر نفسي في جدران الجامعة، وأنا أحلم، دائمًا، أن تلتقي تجاربي وأفكاري وآرائي بالفضاء العمومي، وهذا ما أطمع فيه وأسعى إليه كثيرًا، لذلك؛ جاءت المواصلة في ''لن تُجنّ وحيدًا هذا اليوم'' التي هي نوع من الجنون العمومي، فـ ''جرحى السماء'': هي التجريب الروائي الأول لي، وقد رأيت أن كل من دخلوا فتحة الزمن الكبيرة، التي فتحت أمام البلاد العربية، في ما يسمى بالربيع العربي، وجدوا أنفسهم، في لحظة ما، جرحى للسماء، إشارة إلى الردّة اللاهوتية التي حدثت، وإلى عودة الديني من جديد، ومحاولته السطو على السّياسي.

د. نادر الحمّامي: سنعود إلى المسألة الدينية في قسم لاحق من حوارنا، فما أود أن أسألك حوله هنا؛ هو ما نلاحظه من أنك لا تحبذين التّصنيفات الأجناسية، وتفضّلين، في المقابل، الانتماء إلى إطار عام، أسميته، أنت نفسك: ''الفلسفة المرحة''، ولعل ذلك جعلك كثيرًا ما تتحدثين عن الضّحك وتصنفينه، وهذا الأمر مهمّ جدًّا، في تقديري، وعلينا، في إطار هذه التّجارب الكبرى، البحث في تاريخ الضّحك نفسه، وفي أصنافه.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: هذا ما قمت به في الحقيقة، وهو الدرس الذي خصّصته لطلبة السّنوات الثانية في سنوات سابقة؛ فقد درّستهم الضّحك، وأنا الآن بصدد تدريس مفهوم الأمل؛ فالطلبة يدخلون إلى الجامعة، وهم يحملون تصوّرات مختلفة عن الفلسفة؛ فبعضهم يأتيها شغفًا بها، وبعضهم الآخر يأتيها مرغمًا عليها، بحكم نظام التوجيه الجامعي؛ لأنه لا يملك العدد الذي يؤهله للقبول في شعب أخرى من التعليم العالي، ولكن أنا أريد أن أجعلهم، جميعًا، أصدقاء للفلسفة؛ فأغريهم بدرس الضّحك، الذي يدوم سداسي، والسداسي الأول لطلبة السنوات الأولى، فيه دائمًا درس في الفلسفة العامة، حول مفهوم بهيج من جنس الضحك والأمل، وقد كانت تجربة جميلة في الحقيقة، وكنت أقول لهم: إنني، هنا، ليس من أجل استعراض المفاهيم الفلسفية الغربية للضحك، فحسب، من قبيل ما قال (برجسون Henri Bergson)، وهو أول من اشتغل على المفهوم صناعيًّا، وكان قد سبقه إلى ذلك (بودلير Charles Baudelaire)؛ الذي يعتبر أول من كتب في الفلسفة الحديثة في الضحك، ولكن من أجل أن نشير، أيضًا، إلى تراثنا نحن؛ المليء بأدب الاستظراف، ومجالس الإمتاع والمؤانسة، وكل العقل البهيج الذي يوجد في ذاكرتنا، وأنا أحاول، دائمًا، أن أوفّق بين المسائل، وأن أبني عالمًا فيه من كل شيء جميل، وأحاول أن أنتقي من التجارب، الغربية والعربية، ما يجعل العالم ممكنًا مرة أخرى، وما يجعل اللّقاء بين الحضارات ليس صداميًّا.

د. نادر الحمّامي: على الرغم من ذلك؛ فإن هذا الضّحك، الذي وضعته في إطار البهجة والمرح، قد يوحي إليك بالاستغراب أحيانًا؛ فتكتبين أشياء من قبيل ''وتضحكين...''

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: نعم أكتب فيه شعرًا، كما تريد أن تقول، ولي تجارب في هذا، وهنا، أسوق ملاحظة صغيرة؛ فما أكتبه ليس من قبيل الشعر، بالتّحديد الأجناسي. نحن نعرف أن القصيدة تطوّرت وشهدت أشكالًا مختلفة؛ من قصيدة النثر، وغيرها، ولكن أنا أكتب في جنس القصيد الحر الفلسفي، الذي لا يتبع أية قاعدة، ولكنه يتبع حدس الفكرة، وبهجتها، وشهوتها؛ فأينما تذهب الفكرة، يذهب ما أكتبه وراءها؛ لأنه يحب أن يجد الفكرة، لذلك؛ القصيدة التي أكتبها، ليست قصيدة بالمعنى الدّقيق؛ فالمختصون في الأدب، لم يستقبلوا بعد هذا المعنى في الشعر، وربّما يظهر بالنسبة إليهم مجرد خواطر، ولكني أسميه؛ شكلًا جديدًا، أجرّبه، وأتدرّب عليه، وأستقي، في الآن ذاته، من تجارب عالمية، غربية وعربية، وأقرأ من هنا وهناك فيما أستطيع أن أطّلع عليه، وأكتب هكذا من فيض الخاطر فحسب، سأقرأ بعضًا من ذلك، وأتحمل مسؤولية ما كتبت.

قصيدة بعنوان: ''و ... تضحكين''.

و... تضحكين...

ها أنت... تضحكين

والخراب يزدهر من فرط الحنين...

على جمر يتلظّى بلا نار...

والمدينة تسافر بعد حين...

أيّتها الملتحفة بالحرف الهزيل...

لمن تضحكين...؟

وأفواه الوديان فاغرة...

تبحث عن زمان لمدينة من طين...

لمن تضحكين...؟

والنسور أقسمت على سرقة

كل غيمات هذا المساء...

كي يجوع الهوى إلى الهواء...

وتنتحر ذرّات الياسمين...

وها أنت تضحكين...

ولكنّ ابتسامة عابرة

تكفي لرسم لوحة أخرى

لذاك الجبل القادم من الشرق القديم...

تضحكين هدرًا...

وتضحكين سهوًا...

وتضحكين عمدًا...

ويكفيك بكاء قليلًا

كي تبعثري أعماق الجحيم...

أيّتها المكفّنة بالزعفران...

حذار من التستّر على قصّة بلا أبطال...

حذار من رجم الشياطين خطأ

قبل مجيء نهار...

لا يصلح فيه السفر ولا الانتظار...

وتجيبهم... روح حملت أوجاعها خلسة

وسرقت كل النجوم التائهة

ورحلت بعيدًا عن المشعوذين وعن التجّار...

"عمدا أزرع الألغام في هذي الربوع

علّ الرموش النائمة تستيقظ

من أفيون بعيد المدى

ضارب في عمق الثرى...

عمدًا أنثر الضحك المقوّى بالصدى

علّ جدران القلوب المغلّقة على السفرجل الكئيب

تنفجر قهقهة... وتستبدل هذي الدّمى...

ويجيء المدى يجرّ في تيّاره كل المدى...

سيسقط هذا البناء عمدًا بين أيادي دعاة الهوى...

وستطير الفراشات حذو زهرة

جرحوها يومها

وصادروا أوجاعها...

سيأتي المساء...

ويطول في عينيها قليل من دواء...

لن تنام المدينة ليلتها...

فأعراسها تنتظر عرسانا...

وأزهارا في لون السماء...

د. نادر الحمّامي: شكرا أستاذة أم الزين على هذه القراءة، وهي تشي بتعدّد في مستوى الدّلالات حول المفهوم نفس. إذا بدأت القصيدة بالغرابة؛ فإنّها لم تقطع باب الأمل، الذي تشبثت به في نهاية المطاف، مما يحيل على تصوّر ثابت وراسخ لديك، وهو: أن الفن فن مقاوم، لما تسمينه زمن الكارثة وأزمان الانحدار، التي يجب أن نتجاوزها، لذلك؛ فإن الفن لديك: هو فن الرّائع، لا فن الجميل، وهذا ما يمكن أن نواصل فيه الحوار في الجزء الثاني منه.

"الفن والمقاومة"

د. نادر الحمّامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذة أم الزين بنشيخة المسكيني، مجددين شكرنا لها على قبولها إجراء هذا الحوار الممتع، وكنّا قد وصلنا إلى نقطة مهمة، في تقديري، وهي: اعتبار الفن نوعًا من المقاومة؛ أي الفن المقاوم، المعتني بالرائع، أكثر من اعتنائه بالجميل في الرواية والأدب، ويبدو ذلك جليًّا في عناوين رواياتها، القائمة على بعد فني، ووضع هذه العناوين؛ هو نوع من الفن المقاوم، أيضًا، حين نقرأ عناوين من قبيل: ''جرحى السماء''، أو ''هنا تباع الشعوب خلسة''، أو ''لن تجن وحيدا هذا اليوم''، نجد؛ أنها دالة من جهة الفن التخييلي، الذي يقاوم الواقع، وذلك يتجاوز ''مستوى العناوين السطحية الكسولة''، وتلك عبارة تستعملها أم الزين بنشيخة فيما تكتب.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: شكرًا مرة أخرى على الاستضافة في هذه الباحة الجميلة، باحة الفكر والأدب والمقاومة أيضًا؛ لأنّنا لا نكتب في شكل من الرّفاهة أو من التّخمة؛ بل نكتب، الآن وهنا، من أجل أن نقاوم بالكتابة، ما يحدث من فظاعات، ومن أشكال اللاعدالة والاضطهاد، وحارس الحقيقة؛ الذي هو الفيلسوف، دائمًا يبحث عن إمكانية إنصاف الحقيقة، وإعادة الحق إلى أصحابه، على نحو رمزي كتابةً، أو فلسفةً، أو شعرًا؛ فكلّها تتقاطع من أجل هدف واحد، وهو: أن تكون الحقيقة، دائمًا، ممكنة بيننا، ضد كل سياسات المخاتلة، والمخادعة، والخطابات التي تسطو على عقول النّاس، دون أن تنيرها، ودون أن تجعلها قادرة على أن ترى الحقيقة بوضوح. هذه العناوين، أضعها بنوع من التخييل، وأضخ فيها شكلًا من المعاني الغريبة والاستفزازية أحيانًا؛ لأن الاستفزاز ضرب من إيقاظ العقول النّائمة، وحينما أقول: هنا تباع الشعوب خلسة؛ فهي عبارة موجودة في كل مكان، ولكنها موجودة بمعان أخرى، ونحن نعرف قصة هذه العبارة في تونس، وسوف لن أقصها في هذا المقام، ولكن "هنا تباع الشعوب خلسة" من أجل الإشارة إلى جنس أدبي، كنت قد قمت بتجريبه في الصّحافة؛ لأنني كتبتها في الصحف اليومية، وهي عبارة عن مقالات رأي، ولكنّها من نوع خاص جدًّا، وقد أردت أن أجرّب إمكانية أن تنزل الفلسفة إلى الشّارع، وأن تكون على صفحة الجريدة، وألّا تبقى الهوّة فسيحة بين الفلسفة والإنسان العادي.

يمكن أن يجد أي كان الفلسفة في هذه المقالات، مبثوثة هنا وهناك، لا الفلسفة تحت راية أسماء كبرى، مثل؛ أفلاطون، وهيغل، وابن رشد، والفارابي، وهي أسماء كبيرة، وتستعصي، أحيانًا، على أن نفهمها هكذا على صفحات جريدة، ولكن الفلسفة، بما هي: نص فلسفي قادر على تعميق الواقع، وعلى مقاومة ما يحدث في الثّقافة؛ من أشكال تسطيح، وابتذال، وتصحير، وتجهيل. ثمة من يكتب، أحيانًا؛ فلا يساهم إلا في التّجهيل، ولكن ثمّة من يحاول أن يكتب، من أجل أن يساهم في تعميق فهم ما لما يحدث، وهذا ما حاولت أن أقوم به، من خلال جملة الكتابات التي كتبتها، وأردت أن تكون عناوين كتاباتي؛ هي نفسها توقيعًا إبداعيًّا، حمّلته الكثير من الإشارات، التي أتمنّى أن تكون وصلت بشكل ما.

د. نادر الحمّامي: في هذا الإطار التخييلي الإبداعي المقاوم، لكأنك لا تبحثين في الفن؛ وإنّما تسعين جاهدة، في ما اطلعت عليه، إلى ما تسمّينه اختراع الفن، لا مجرّد الحديث عنه.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: شكرًا على هذا السؤال، لا يمكن أن نبقى هكذا، نتحدث عن الفن من خارج الفن، والحديث عن الفن، دون أن تكون لدينا إمكانيّة تجريب فنّي، لا يكون إلا حديثًا "متغطرسًا"، وهذا، في الحقيقة، يهم كل من يريد أن يختصّ في الجماليات؛ أي أن يقرأ الواحد منا ما كتبه الفلاسفة حول الفنون، من قبيل؛ كانط، أو هيجل، أو هايدغير، أو غادامير، وكل الفلاسفة الغربيين الذين كتبوا في الفن، دون أن يلقي بنفسه في غمار المعركة، لا يدري إن كان سينجح أو لا، ولكن الفائدة لا تكمن في أن ننجح؛ وإنمّا تكمن في أن نمشي في الطّريق.

المسألة لا تتعلّق، بالضّرورة، بهدف ما، بقدر ما، تتعلّق بتجريب طريق معيّن، وأن نرشد إلى هذا الطريق، رمزيًّا، جملة الشّباب الذين ندرّسهم، أو الطّلبة، أو جيلًا كاملًا، نقول له: يمكن أن تكون مبدعًا؛ فحينما تكتب روايةً، أنت تقول لجيل كامل من المتفلسفة، أو من الطلبة، أو من الذين تلتقيهم في فضاءات ثقافية: إن الإبداع ممكن بأي شكل، حتى وأنت تجلس في باحة غريبة عن الرّواية، يمكن أن تجرّب هذا، وأن تشير إلى الشّباب بضرورة أن يغامروا.

ثمّة ضرب من المخاطرة غير مضمونة النتائج، في أن تخرج من الفلسفة إلى الأدب، ولكن الفائدة: هي أن تجرّب هكذا مخاطرة؛ فأنا لا أكتب عن الفن، وإنّما أجرّب العملية الفنية، وأحاول أن أدخل في صلبها من الدّاخل، وأن ألتقي أبطالًا تخيليين، وأن أصنع هؤلاء الأبطال، وأحمّلهم مجموعة من الرّسائل كي يُوصلوها إلى الناس، وأن أتفرج على المشهد؛ فثمة مشهد، أنت (الكاتب) تخترعه، وأنت، في الوقت نفسه، تتفرج عليه، وتملك كل الترسانة الفلسفية الكبيرة للجماليات، المعاصرة والحديثة، من كانط إلى جاك رانسيير، ورغم ذلك، تدخل في الرواية وتصنع الأبطال الصغيرة، وتقول: نعم، سنحلم معًا، وسنصنع واقعًا آخر؛ فكل رواية تخترع ضربًا من الواقع الجديد.

د. نادر الحمّامي: هذا الاختراع للفن: هو اختراع لواقع جديد أو حتى تخييله؛ فكأنك تقومين بتخييل هذا الواقع الموجود، انطلاقًا من الوعي بضرورة مقاومته، ومن هنا، يكتسب الفن بعده المقاوم على جبهات عديدة؛ فهناك فن يقاوم السّياسة السّائدة، وفن يقاوم اقتصاديات السّوق السّائدة، وفن يقاوم الاعتقادات السّائدة؛ فهل يمكن للفن، فعلًا، أن يقاوم هذه الجبهات المفتوحة أمامه، مجتمعة ومتحالفة؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: نعم، يمكن ذلك من اللحظة التي نعتقد فيها؛ أنّ باب الإمكان مفتوحًا على مصراعيه، دومًا، أمام كل تجربة بشريّة؛ فلا ينبغي أن نختزل الأفق البشري في أية تجربة، وكلّ سياسي يتوقع أن بإمكانه احتساب انفعالات البشر، والسّيطرة عليها، وتوقّع ما سيحدث، وإنجاز جملة من المفاعيل؛ التي يمكن أن تجعل الشعوب مدجّنة، وتحت سيطرة الأجندات والخرائط، وهذا حمق وفشل كبير؛ فالمخزون الرّمزي، التخييلي والإبداعي، الذي بحوزة شعب ما، لا يمكن لأية أجندة سياسية، أن تدجّنه، أو أن تخضعه لأي منطق، وهذا المخزون يتأسس على أفكار، وعلاقتنا بالأفكار ليست ذاتية؛ فالفكرة الكبيرة: هي الحدث الكبير، وحينما تصبح إمكانية حدث كبير تُزرع في شعب ما؛ فإنّها تتحول إلى واقع أجمل، إذن، علينا ألّا ننفك عن التعويل على قيمة الأفكار، فدائمًا ما يقع ابتذال الفكرة من طرف السّاسة، ويقال عنها: ''تلك فكرة''، وهم يحرصون، دائمًا، على رسم الهوّة/ الهاوية، بين المثقف والمجتمع، في إطار نخبويّ، لذلك؛ فمصطلح ''النّخبة'': هو مصطلح ظالم جدًّا، وفظيع، وخطير سياسيًّا، ولا يمكن، بالتّالي، أن نواصل الزرع في هذه الهوّة/ الهاوية، بين المثقف المبدع، وأبناء شعبه؛ فالمبدع ليس سوى جزءًا من مشهد، وشعب، وتاريخ، وذاكرة، ولا يمكن أن نعزله؛ لأن عمليّتا؛ العزل، وابتذال الشأن الثقافي، يقعان بهذه الطّريقة، ولا يمكن أن يخدما إلّا الأجندات الخبيثة، أما من يعتقد، دائمًا، أن بإمكان شعب ما أن يغيّر ما به، وأن يخترع إمكانيات أجمل للوجود؛ فيتمّ تغييبه بشكل متعمّد. لذلك؛ فالتّعويل على الإبداع أساسي وعميق جدّا، والدّول لا تفعل إلا ابتذال هذا الأمر، وينبغي أن نقاوم هذه الطّريقة في ابتذال المثقفين والمبدعين.

د. نادر الحمّامي: ربّما إيمانك بإمكانية الاختراع، والتخييل، والتّعبير، والإبداع، وقدرة الفن على تغيير واقع بواقع آخر جديد، جعلك تتحدّثين عن حمق السّاسة؛ فهل هذا ذاته، ما جعلك تعتقدين، أيضًا، أن من الحمق اليوم التنبّؤ بالمستقبل؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: طبعًا، من الحمق اليوم أن نتنبأ بالمستقبل؛ لأن باحة المستقبل، وباحة اللّامتوقع، أمران مختلفان عندي؛ فاللّامتوقع: هو كل الإمكانيات المخزونة بحوزة شعب ما أو عصر ما، وهذه الإمكانيات يقع إيقاظها بطريقة أو بأخرى؛ فالمبدع يأتي من أجل إيقاظ كمّية اللّامتوقع التي بحوزة شعب ما؛ فهو، هنا، من أجل إيقاظ هذه الكمّية النّائمة، ومثلما نتحدّث عن خلايا نائمة إرهابيّة، يمكن أن نتحدّث عن خلايا نائمة إبداعية؛ فالإرهابي يوقظ خلايا نائمة، لكن المبدع، الذي يقاوم هذا النّوع من الإرهاب الثقافي والسّياسي: هو الذي يجعل شعبًا ما، قادرًا على لا متوقّع، لا يستطيع دعاة احتساب المستقبل أن يحسبوه أبدًا؛ لأنّه يأتي، دائمًا، من منطقة مغايرة، ولا يمكن للسّياسي أن يتنبّأ به، وعلى هذه الشّاكلة تقع كل الثّورات، وكل الأحداث الكبرى، تأتي من جهة لا متوقّع يفشل السّياسي في التحديق به، الثورة التونسية حدثت بهذه الطريقة، وقد ولدت من لا متوقع؛ فعلينا أن نحرس كمّية اللّامتوقع هذه، وأن نحصّنها من كل سياسات الابتذال، والتّعويم الثقافي.

د. نادر الحمّامي: لذلك؛ أنت تقرئين الثورة التّونسية روائيًّا وفنّيًّا، وتجعلين لها سرديتها الخاصّة، وقد كتبتِ عنها روايتين؛ الأولى: ''جرحى السّماء''، والثانية ''لن تُجنّ وحيدًا هذا اليوم''، وما بين اّلأولى والثانية؛ نرى أن إمكانيات اللّامتوقع، قد اختلفت بصورة ملموسة.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: ذلك لأنّ كلّ راوية منهما؛ هي لحظة روحيّة عميقة، ليس بالنّسبة إلى الشخص الذي يكتب فحسب؛ بل بالنسبة إلى ما يُسردُ؛ أي الأحداث أو السردية التي يريد الكاتب أن يضعها على واجهة ما، ويحيكها بطريقته؛ فهي سرديات صغرى، بعد أن انهزمت السّرديات الكبرى، وهي؛ طوباويّات صغيرة، يمكن أن نصاحب بها شعوبنا في آلامها اليومية؛ فالفرق بين ''جرحى السّماء'': التي هي رواية مستبشرة، والتي اكتشفت مدينة جديدة، وبين ''لن تُجنّ وحيدا هذا اليوم'': هو الفرق في كمية التفاؤل والتشاؤم؛ فالثانية كانت متشائمة جدًّا؛ لأن تونس دخلت، في ذلك الوقت، في نوع من ''الثقب الأسود''، كما يقول فتحي المسكيني، والعبارة له، بمعنى؛ الغموض، والفوضى، وعدم وضوح الرؤية السّياسية؛ فقد وقعت سرقة الثورة، وتشويه مسارها، وتمّ وأد الحلم في منتصف الطّريق، وكل هذا عشناه معًا، والرّواية لا تفعل إلا التقاط الأصوات التي تتصادى داخلها، أصوات لكل ما قيل، وكل ما لم يُتقن السّاسة الاستماع إليه، لذلك؛ فهي تكتب أصوات الصّامتين، وهي صوت الصمت؛ فهي تنقل أصوات من لم يسعفهم الحظ أن يرتقوا إلى مستوى الجملة المسموعة؛ فتجعل ارتقائهم إلى مستوى المسموع ممكنًا.

د. نادر الحمّامي: ولكن هل هذا التّأرجح؛ من تفاؤل إلى تفاؤل أقلّ منه، هو الذي يدعوك، أحيانًا، إلى التهكّم الأسود، وأقول هذا، انطلاقًا من عنوان رواية أخرى لك: ''هنا تباع الشعوب خلسة''؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: كتاب ''هنا تباع الشعوب خلسة'': هو في الحقيقة ليس رواية، وإنّما؛ هو مقطوعات نُشرت في الصّحافة التّونسية، وهو شظايا هكذا، صاحبتُ فيها الأحداث كما وقعت، وكتبتُها بجروح الفلسفة؛ لأن الفلسفة تتألّم لجروح شعب ما، ولا يمكن لها أن تواصل صناعة المفاهيم، بعيدًا عن جملة الضّحايا؛ فنحن دخلنا في زمن الضّحايا، ولا يمكن، الآن، إلّا أن نكتب تاريخهم بشكل ما، وأن نرسم لون الدّماء بطريقة مغايرة. هذا الوضع غير مريح، أبدًا، بالنسبة إلى من يكتب ومن يتفلسف، ولكن الفلسفة لم تكن في أية مرحلة من مراحلها، سعيدةً بأي شكل من الأشكال، والسّعادة: هي في أن نستطيع فهم ما يحدث، ولو قليلًا.

د. نادر الحمّامي: إذن، بالإمكان أن يكون التّهكّم الأسود فلسفيًّا في نهاية الأمر؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: التهكم الأسود: هو موقف فلسفي، وهو ضحك من أنفسنا، وعلى أنفسنا، وهو ضحك يُبكي، في الوقت نفسه، على ما حدث، وهو ضحك وبكاء، من أجل إنصاف الضّحايا الذين سقطوا في شوارع البلاد العربيّة، من أجل حلمهم الذي وقعت خيانته بأشكال مختلفة، انطلاقًا ممّا يحدث في طريقة تدبير هذه الثّورات، وأنا مصرّة على تسميتها، كذلك، رغم كل نظريّات المؤامرة.

د. نادر الحمّامي: صحيح أن هناك نظريّات مؤامرة، وهناك تهكّم أسود؛ فهل نفهم، في هذا الإطار، أن حرصك على تسمية ما حدث بالبلدان العربية: (ثوراتٍ)، هو ما دعاك إلى إهداء كتابك الأخير ''الفن في زمن الإرهاب''، إلى أطفال سوريا، في نوع آخر من المقاومة؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: أهديت كتابي ''الفن في زمن الإرهاب'' إلى أطفال سوريا؛ الذين سيستمرّون هناك من أجل الحياة، وهذا الإهداء مهم جدًّا بالنسبة إليّ، وهذا الكتاب: هو شكل من الاعتذار الفلسفي العميق لسوريا، وقد قرّرتُ بشكل رمزيّ، أن أجعله على صدر الكتاب، وهذا ضد كل ما يقال: من أن تونس لم تصدّر إلى سوريا غير الإرهابيين، وضد تلك الفكرة الفظيعة عن تونس، وقد أردت أن أتصالح، ولو قليلًا، مع الشّعب السّوري، في شكل من الاعتذار العميق عن كل ما حدث لهم، تحت راية الإرهابيين التّونسيّين، ربّما، وينبغي، دائمًا، أن نعتذر بأشكال مختلفة.

د. نادر الحمّامي: هذا اعتذار عميق، وهو بشكل مختلف، وهو، أيضًا، نوع من التّعبير الآخر عن الواقع، قياسًا بـ ''الحب في زمن الكوليرا''، كما قدّمتِ في أوّل الكتاب؛ فقلت: ''الحب في زمن الإرهاب، كالحب في زمن الكوليرا''، ولكن نجدك كتبت، في أشكال أخرى من الكتابة الأكثر مباشرة، وأقصد المقالات السّياسية، وهنا، أذكر مقالاتك الصادرة في كتاب بالاشتراك مع فتحي المسكيني، ولعلّ هذا مرتبط أكثر بظرف معيّن.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: نعم، هو في ارتباط بما وقع سياسيًّا، وفي كتابين؛ الأول عنوانه ''الثّورة البيضاء''؛ وهو كتاب صغير صدر في تونس، وقد جمعنا فيه كل المقالات السّياسية، التي صدرت في لحظة معيّنة، وأنا كتبت معه كتابًا آخر، بعنوان: ''الثورات العربية سيرة غير ذاتية''، وهو منشور بدار جداول في بيروت، وقد كتبت مع الأستاذ والكاتب والمفكر: فتحي المسكيني، في السّياسة فقط، ولم أكتب معه في الفلسفة.

د. نادر الحمّامي: ولماذا لم تكتبي معه في الفلسفة، أهو أمر ذاتي؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: نعم هو ذاتي، ولكن الذاتي يمكن أن يكون اختيارًا فلسفيًّا أيضًا، والالتزام بالشأن العمومي، خاصة، في إطار ما يحدث في العالم العربي الآن، أصبح ضروريًّا؛ بل نوعًا من الواجب، بالمعنى الأخلاقي للكلمة؛ فلا أحد منا يكتب ويدّعي أنه مثقف، ويبقى هكذا، محايدًا في ورشته، يكتب في إطار اختصاصه المحدّد في تاريخ الأديان، وفي الجماليات فقط، وأنا أعتبر أن كل من له في قلبه، معزة خاصة للشعب الذي ينتمي إليه، يجب أن يكتب عمّا يحدث، أو يجب أن ''يصاحب الشعوب العربية في آلامها الآن''، كما يقول فتحي المسكيني. وقد كتبت معه الكتابين في هذا الغرض، في إطار محاولة التعمّق في فهم الزلازل السّياسية، التي حلّت بالشعوب العربية، منذ 2011م، ولا تزال متواصلة إلى اليوم. ماذا يمكن أن نرى فيها؟ وكيف يمكن أن نقرأ أطوارها وأن نفهمها؟ وفهم ما حدث؛ هو، في الحقيقة، شرط يمهّد لما يمكن أن يحدث في المستقبل، ويساعد اللّامتوقع الجميل أن يحدث، ولذلك؛ كتبنا بتلك الطّريقة.

د. نادر الحمّامي: هذا الواجب الأخلاقي، ومشاركة الشعوب آلامها، والإحساس بتلك الآلام، يجعل في ما كتبتِ حضورًا كثيفًا لمعجم الألم والوجع؛ فهذا الإحساس مضنٍ، وفيه تعب كبير، ولكن، في النّهاية، لا يسد الباب أمام اللّامتوقع، ورغم أن المعجم يدل على مستوى عاطفي، إلّا أنّك، في الحقيقة، تبحثين من خلاله عن الأفكار.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: نعم، ثمة أمل دائمًا؛ ثمة الأغاني التي سنغنيها فيما أبعد من البشر، ولا ينبغي أن نبحث عن أحاسيس مريحة، والذي يكتب الأحاسيس، يكتبها، دائمًا، بالطريقة التي يرى فيها شرط إمكان انبثاق فكرة؛ فلا يبقى في مستوى الأحاسيس؛ وإنما ينتقل إلى البحث عن الأفكار، لذلك؛ فحتى القصيدة التي أكتبها فيها بحث عن فكرة ما.

د. نادر الحمّامي: في هذا السياق؛ نجد تعبيرًا عن آلام الشعوب وواقعها في الكثير من قصائدك؛ فتتواتر الضمائر التي قد يجد الكل فيها نفسه، من ذلك؛ قصيدتك ''أضناها القرنفل ذات مساء'': التي استعرت فيها صورة القرنفل، للتعبير عن ذلك الإحساس. ولكي ننحت استعاراتنا بأنفسنا، عوض أن ينحتها لنا الآخرون.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: نعم، ولذلك؛ أقول، دائمًا: إن الشعراء هم وحدهم الكفيلون بحراسة باحة الفكر في ديارنا الآن، وسأقرأ في ما يلي القصيدة التي أشرتَ إليها:

''أضناها القرنفل ذات مساء...''

أفق يتموّج بين رموشها...

والمدى يرتعش همسًا

ويطلب من القلوب التي أتعبها الهوى

بقيّة ما سرقوه من الصدى...

وحين يلحّون في النوم بين أجفانها حبًّا

تعدّ السحاب إلى غيوم هازئة بكل سماء

وترتاح قليلًا

أضناها القرنفل ذات مساء...

وحين تكتظّ الصحاري بالياسمين المؤجّل

يرحل الرمل بعيدًا

وترقص في ذرّاتها تفاصيل القادمين من أحلامهم

إلى أوهام الله المثقل بعطر الثرى...

كيف تمرّ من هنا شعوب ولا تدري متى تحلّ الأعراس وتستريح هذه الدماء؟

كيف تمضي أرواحهم سهوا

إلى مكان هيّأوه خصّيصًا لرقص الدمى...؟

قالت صحراؤها الهائجة: "سيختنق الأقحوان

ليلًا في عروق صمتت عن مدن تبيع الهوى

وتضاجع أصنامًا من السّفرجل الممنوع من لمس نهود الندى..."

قال الثرى: "اختنقوا جيّدًا... أو فلتسقطوا جيّدًا في المياه السوداء...

بيني وبينكم مستنقع ووردة

ناموا قليلًا قبل وصول حكّام البغاء"

... واصلت الدوران على أطراف روح أنهكتها الخطى

والطريق واقف بلا مارّين ينتظر قطارات لا تصل...

بين جحيمين تتأرجح هي والمربّع والدائرة

وبقايا هندسة حمقاء...

عبرت بحرفها دمعة عطر سالت من ورق مقلوب

قالت وحفيف الربيع يئنّ في رماد مسروق:

"إن طلبت الصحراء... هاجرتك الثنايا...

وتناثرت خطواتك بين السدود...

وإن طلبت الجبال... سقطت عليك أحذية الكادحين

وجحيم نبي يأتي من مستقبل غير موعود...

إن طلبت الكهوف... سيغلّق الفسفاط دونك معابر الوجود

أيا حلمًا شاهقًا... تماسك في الخلاء قليلًا...

ومزّق بعضًا من عرق مسدود...

لا تنسى السؤال: "أين تمضي والمدينة هاربة منذ عام

منذ عامين... منذ ألف قتيل... وزهرتين...

أين تمضي والسنابل مخصيّة ههنا...

والمكان تائه...

بين حبّ الندى وموت الشهود؟"...

وهي تمضي... لا تسمع غير هذيان الزبرجد

وعصف الرياح القادمة

من جنوب سرقوا نخيله والسهوب...

وهي تمضي...

هي والخلاء وبعض الغبار

ومنشّة لطرد الذباب...

وقنافد تراقص الخمر خلسة...

وهي تمضي...

تحدّثها أرواحهم السائلة بينها

وبين ورد وُلد ذات يوم من رصاص مفقود...

قال الرصاص للورد الهارب: "عفوًا، اعلم أنّ موتك

لم يعد مرخّصا فيه إلا على طريقة الشنق المعهود...

فاختر إذن بين تابوتك والتابوت..."

أجابت روح شُنقت قبل يوم

من زمان ضاع على الحدود: "من لا يحبّ الصعود في مسامّ جلده

عليه أن ينام قبل انتحار الغروب"...

وهي تمضي...

والصحراء شاردة عن وجه مفقود...

وألف غزال مرّ يوما من هنا وألف عاشق

وألف قتل مشهود...

بين حكومات البغاء وجوع جائع إلى أهله

ومارد أسود لتوزيع التّوابيت في غير مواعيدها...

وقف بعضها... ومضى بعض آخر

وبكى ما تبقى من بعضها على وطن شرّدته المنايا

وأتعبته الثنايا...

وهي تمضي...

والله يؤجّل موتها إلى يوم معهود...

"الفن والمقدّس والحداثة الدّينية"

د. نادر الحمّامي: نعود إلى حوارنا مع الأستاذة أم الزين بنشيخة المسكيني، وقد كان في جزأيه الأولين حوارا ممتعًا، وداعيًا إلى التفكير، لا عبر الفلسفة فحسب؛ وإنّما، أيضًا، عبر أشكال أخرى من الكتابة، اهتممت بها روايةً وشعرًا، وقد سمعنا من شعرها ما يدعو إلى إعمال النّظر والمقاومة، بالفن والفلسفة، حتى لا نترك للفراغ مكانًا لأشكال أخرى من الأفكار، التي تسدّ علينا باب اللامتوقّع، الذي تبحث عنه أم الزين بنشيخة. ربما هذا المجال الواسع للكتابة في الفلسفة، وفي الفن، والجماليات، له منطلقات علميّة وأكاديمية، كتبت فيها أم الزين، من ضمنها؛ بحثها في المسألة الدينية، انطلاقًا من كانط، والحداثة الدينية، وهذا عنوان كتابها الصادر في طبعته الثانية، باعتبار أنّها قد تحدث عن راهنية كانط في العنوان الأول، وقد خصصت لهذا الاهتمام بالمسألة الدينية والمقدس، بصفة عامة، مبحثًا في كتابها ''تحرير المحسوس''، حول ثنائية الفن والمقدّس، وقد دعت إلى تجنب البحث السطحي في هذه الثنائية، لذلك؛ بودّي أن أسأل بداية: حول هذه الثنائية أو العلاقة بين الفن والمقدس؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: الفن والمقدّس؛ المشكلة، دائمًا، في هذه الواو: التي لا نعرف إن كانت تربط، أو تفصل، أو هي متواطئة وتندسّ بشكل خبيث بين المفهومين؛ فالواو، هنا، لا تعني العطف بالمعنى الرّمزي، وليس ثمة بينهما شعور بالعطف؛ وإنّما ثمّة الكثير من المعاني المشتركة بينهما، ونحن في الفلسفة، نشتغل على هذه الواو كثيرًا، ونحاول أن نفكّك هذه الثّنائيات، وأن نتجاوزها أحيانًا، ونبيّن تهافتها، وخداعها، ومخاتلتها، والواو نستعملها دائمًا في خطابنا اليومي، بين كذا وكذا؛ فهي واو خطيرة، ولا تظهر بشكل اعتباطي، ولا تعطف شيئًا على شيء آخر؛ بل هي تدلّ على الكثير من المعاني معًا.

الفن والمقدس؛ هو مجال اشتغلت عليه في كثير من الأبحاث، وهو مسألة تهمّني كثيرًا؛ لأنني لا أشتغل عليه بمعزل عن كل التّعابير الأخرى، لذلك؛ فالمقدس أوسع نطاقًا من الدّين، ذلك أن الدّين مثل الفن، كلاهما يمثّل أحد تجلّيات المقدّس، ونعلم أن المقدّس كثيرًا ما يغيّر من عناوينه وتجليّاته؛ فشباب اليوم، عندما يغرم بنوع من الموسيقى؛ كموسيقى الميتال، أو الجاز، أو الرّاب، أو غيرها؛ فهو يحوّل ذلك النوع من التجربة الإبداعية، إلى شكل من التّقديس، وهكذا، لا يقتصر فعل التّقديس على أفعال التديّن فحسب؛ لذلك ثمّة كثير من التّقاطعات بين الدّين، والفن، والمقدّس، بوصف الفن ضربًا من استئناف المقدّس بطريقة أخرى، وقد كانت العلاقة بينهما قديمًا حميمة جدًّا؛ لأن هوميروس: هو أول من خلّد آلهة الإغريق، وهو الشاعر الفنان، الذي حدثنا عن مقدّس اليونان؛ فالعلاقة بين المقدس، والشّعر، والدّين عميقة جدًّا، والفصل بين الفن والدّين؛ هو فصل إشكالي أيضًا، وقد اشتغلَت عليه كل الفلسفات المعاصرة؛ فغادمير يقول: إن الخبرة الدّينية والخبرة الفنّية، يلتقيان بشكل عميق جدًّا، ولا يمكن أن نفصل بينهما، ولا يمكن أن نقول عن أغنية هندية، تتغنى بـ ''رادها'' و''كريشنا''؛ أي أسطورة العشق الإلهي في الهند، مثلًا: إنّها أغنية فنية فقط؛ فاللّقاء بين الفن والمقدّس: هو لقاء إشكالي، ولا بد أن نستأنف التّفكير فيه، على اعتبار أن القداسة ليست حكرًا على الدّين فقط، وأن نزع القداسة عن العالم، يساوي الحداثة، كما بيّن ذلك ماكس فيبير، وكما طُرح ذلك في المنعرج السّردي؛ الذي بدأ مع الرومنسية الألمانية، وتواصل مع التأويليين؛ الذين أعادوا النّظر في العلاقة بين الشّاعر والفيلسوف، وبين الشعر والدّين، وبين كل تجارب المعنى التي تخص الشّعوب؛ فلا يمكن أن نقول: إن العالم الحالي فصل، نهائيًّا، في علاقته بالدين، وأنّه لا يُفهم بالدّين؛ فإعادة القداسة إلى الذاكرة الرمزية والإبداعية، شيء مؤكّد، ذلك؛ لأن الإبداع شكل من أشكال المقدّس، في معناه البشري، بالنّظر إلى جهة اعتباره تجربة معنى واسعة جدًّا.

د. نادر الحمّامي: ألا يمكن أن تعود جذور هذه العلاقة الإشكالية؛ بين الديني والفني، إلى أنهما ينتميان إلى المقدّس؛ أي أنهما يتنازعان منطقة المطلق ذاتها، مما سبّب نوعًا نوع من التوتّر بينهما؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: أنت تشير إلى الصّدام الذي وقع بين الفن والدّين، فيما مورس منه تحت راية الإرهابيين؛ الذين دمّروا آثار تدمر، وهاجموا المتاحف، مثلما حدث في متحف باردو في تونس، وحرّموا الموسيقى في أفغانستان، وغيرها ممّا فعل تنظيم القاعدة مثلًا. صحيح، هنالك هجمة على الفن من قبل الذين يرفعون راية الدّين، على اعتبار أنّه يمثّل خطرًا على الدّين، في نظرهم، خاصة في قدرته على تجسيد المقدّس، وهذا يفسّر المعارك التي خاضتها؛ كل من الكنيسة الكاثوليكية، والكنيسة البروتستانتية، والتي دامت اثنا عشر قرنًا، وخلّفت دماء وضحايا، وقد قامت على أساس رفض تجسد المسيح، وقد تواصل الأمر ذاته في الإسلام؛ فكان ثمة تحريم الصّور، وتحريم الشعر، وقتل الشعراء، رغم أن من الشعراء من مدحوا الرّسول، وتم صلب المتصوّفة؛ مثلما حدث للحلاج، والسهروردي المقتول، والكثيرين، إذن، ثمّة الكثير من الضّحايا الذين سقطوا في هذا الصّدام، بين الفن والدين، وهذا جزء من التّاريخ، ولا ينبغي أن يتواصل في إطار النظرة الحديثة للمسألة، لذلك؛ فالمعاني التي ينبغي أن نلتحق بها حديثًا، وأن نستدعيها في فكرنا العربي المعاصر، حتى نصالح بين ذواتنا المبدعة ومقدّساتنا؛ هي تلك التي تبني المصالحة بين كليهما، وقد وقعت بعد في الغرب؛ أي تلك المعاني التي تجعل من الفن إمكانية للتّسامح، وأن نواصل المقدس بطرق إيجابية، وأن نبدع إمكانيات رمزيّة أخرى؛ فالمشكلة، دائمًا، هي بناء ذاكرة رمزيّة عميقة موجبة، تجعل التّعايش ممكنًا بيننا.

د. نادر الحمّامي: في هذا السياق؛ تتحدثين عن الحداثة الدّينية، انطلاقًا من استقراء كانط، وأنت تستقرئين كانط، وفي ذهنك حداثة دينية أصبحت أكثر من ضرورية اليوم، بالنسبة إلى المجتمعات العربية والإسلامية، على وجه التحديد.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: ''كانط والحداثة الدينية'': هو كتاب منشور في 2006م، وأعدت نشره في مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" بعنوان جديد، وبتقديم جديد، اخترت أن يكون ''كانط والحداثة الدينية''؛ لأن الكتاب كله، يكاد يشتغل رأسًا على المسألة الدّينية لدى الفيلسوف الكبير كانط، وقد اهتممت بكانط؛ لأنه قدم صياغة حديثة لما يمكن أن يكون الدين في الأفق الحديث للإنسان؛ فمثلما تأسّست الحداثة العلميّة، ضمن تصور علمي جديد للعالم والحداثة السّياسية، ضمن فهم جديد للدّولة القائمة على العقد الاجتماعي، ودولة القانون والمؤسسات، وعلى مفهوم الجمهورية، ومفهوم الفضاء العمومي، ومفهوم الحرية والمواطنة، وكل المفاهيم السّياسية الحديثة الأخرى؛ فثمّة ضرورة لبناء حداثة دينية، والدين، بالنسبة إلى كانط، ضرورة؛ لأنّه يأتي من الطّبيعة البشرية، وقد قرّر أن يقدّم معالجة طريفة للمسألة الدّينية، على عكس ما يعتقد البعض، تمثّلت في المعالجة العقلانية للدّين، ونحن نحتاج إلى استدعاء العقل مرة أخرى إلى حضارتنا، من أجل أن نرى المسألة بوضوح، ومن أجل أن نحسم علاقتنا مع الدين الإسلامي بشكل، سلمي وكوني، يخوّل لنا أن ننتمي إلى الإنسانية الحالية، دون أن نصطدم مع الآخر؛ فكانط يقترح علينا الربط بين العقل والدّين؛ أي تصوّر ديانة عقلية، من أجل نبذ كل أشكال الانفعالات السيّئة والخبيثة، ومنها؛ التّكفير مثلًا، بما هو انفعال سيء، وفعل خطير يرسم الفرقة بين الشّعوب، ويقسّمهم إلى كفّار ومؤمنين، ونجد أنّه فصل في هذه المسألة، وذهب باتجاه ما يسهّل إمكانية التّعايش الأخلاقي السّلمي والكوني بين النّاس، وضخّ كمية من العقلانية في الدّين؛ لجعله مؤهّلًا لأن يشارك في اقتراح قيم التّعايش الكوني، بدل أن يكون دين تطرّف، وتناحر، ودغمائية، وقتل، وتوحّش.

د. نادر الحمّامي: هل تعتبرين أن هذه المقاربة الكانطية، بإمكانها أن تساعدنا على تجاوز التمسّك بهوية قاتلة أوّلًا، وحداثة مسقطة أو ''كسولة'' ثانيًا، عبر تأسيس حداثة دينية، تعيد العقل إلى المكانة التي يجب أن يكون فيها؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: علاقتنا بالحداثة، منذ قرنين من الزمان، متوتّرة، وقد حاول كل المفكرين أن يفكّروا في المسألة؛ فكتبوا حول الحداثة والإسلام، ونحن والإسلام، والإسلام والحداثة، وغيرها من العناوين، وعملوا على أن يطبّقوا الحداثة على التّراث، كما فعل الجابري مثلًا، وهذا كلّه، يعني؛ أننا نعاني من التّوتّر في علاقتنا بالحداثة، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى؛ نجد المتطرّفين يتّهمون كل من يقرأ الفلسفة الغربية أو الثقافة الغربية، بأنه مغترب واستعماري، وبأنه خرج عن ملّته، ثمة، إذن، كراهية للحداثة، رغم انخراط الجميع في تملّقها؛ لأنّهم يستعملون كل الأدوات الحديثة، والتكنولوجيا، والفضائيات، والإنترنت، من أجل نشر أفكارهم المضادة للحداثة؛ فموقفهم منها منافق، وقد آن الأوان أن نقول لهم: كُفّوا عن ذلك؛ لأن الحداثة كونيّة، وليست غربيّة فقط، وكل حديث اليوم عن شرق وغرب، ونحن وهم، وعن متخلّفين ومتطوّرين، قد انتهى، وصار أمرًا مضحكًا ومثيرًا للسخرية؛ لأنّنا نعيش في عصر العولمة: وهو عصر أصبح فيه العالم قرية صغيرة، ونحن لا نستطيع، إلا أن ننتمي إلى هذه القرية التي تأوي الجميع، ولا يمكن، بأي شكل، أن ننعزل في منطقة روحيّة، كأن نقول: نحن مسلمون وكفى، ويمكن أن نستقي كل شيء من تراثنا، وننغلق على أنفسنا كالحلازين. نحن في العالم، وينبغي أن نقيم شكلًا من الحوار الإيجابي مع الإنسانية الحالية، وأن نرسم لأنفسنا صورة أجمل، ونكفّ عن الرؤية الضيقة للإسلام.

د. نادر الحمّامي: لا أرغب في تكرار سؤال قديم، بدأ منذ القرن التاسع عشر مع النهضة العربية: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ فلم يعد هذا السؤال مطروحًا؛ لأننا اليوم في لحظة انهزام شئنا أم أبينا، ولكن في المقابل؛ هناك انهزام آخر، يبدو من قراءة الواقع، وهو انهزام أخلاقي أصبح شبه عام؛ فما هي الأخلاقية الكونية التي يمكن أن نبحث عنها اليوم؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: صحيح أن تلك الأسئلة تم نقدها وتجاوزها، لكن عندما نتحدث عن كانط في سياق كوني، يمكن أن يحيلنا ذلك على مسألة العيش معًا، في إطار السّلم الأدنى بين الشعوب، ولا نقصد، هنا، الكونية بالمعنى المفهومي الكبير؛ فقد تم تجاوزها بمفاهيم أخرى، مثل؛ الكوكبية، والعولمة، وكل أشكال تسميات العالم الحديثة، لذلك؛ فأنا لا أرى أننا في موقع الانهزام؛ وإنّما نحن لا نزال في حقل التّاريخ دائمًا.

فلم يسبق أن صوّب العالم علينا الكاميرات، مثلما يقع منذ 2011م إلى اليوم، ولا يهم، فعلًا، إن كانت الصور سلبية أو إيجابية؛ لأن التاريخ يحدث هنا، والعالم العربي والإسلامي تحت المجهر الآن، وكل الأجندات العالمية تعمل من أجل استيعابنا، والسّيطرة علينا؛ فما يحدث في العالم الإسلامي من ثورات، أو إرهاب؛ هو يوجدنا في التّاريخ، وينبغي، حسب رأيي، أن نقتنص الفرصة التّاريخية العظيمة، من أجل أن نجد الطّريق؛ فقد فُتحت أمام العالم الإسلامي ''فوهة الزمن''، والزمن يتغيّر في لحظة الزلزال، أو لحظة العاصفة، ولا يتغيّر في لحظة السّلم والهدوء، ونحن، الآن، في قلب العاصفة، لذلك؛ علينا أن نحدّق جيدًا في ما يحصل لنا، وهذه مهمّة المثقف والكاتب، الذي ينبغي أن يساعد شعبه على التحديق في الظّلام.

د. نادر الحمّامي: إذن، على المثقف أن يقتنص هذه الفرصة، علميًّا، وفكريًّا، وفلسفيًّا، وفنيًّا، من أجل رسم الطّريق، ولكن هناك تيارات تحول دائمًا دون ذلك، ولا أتحدث، هنا، عن التيارات التي تصنَّف رجعيّة أو ارتدادية أو ماضوية؛ أي تلك التي تتشبث بهوية ثابتة، فنحن نراها وهي تعبّر عن ذاتها بوضوح، ولكنني أتحدّت عن تيارات أخرى لا نراها، أليس الإشكال الحقيقي أو الخطر الأكبر في ما لا نراه تحديدًا؟

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: نعم، ثمة، دائمًا، زائفون، وثمة من يُحسب على ميدان الثّقافة، ولكنه يعطّل، ويحاول حجب الرؤية، وثمة سياسات ثقافية، لا تمكّن من التقدّم في الاتّجاه الصّحيح أحيانًا، ولكن المثقّف الذكي؛ هو الذي يستطيع أن يقتنص الفرصة، من أجل أن يغنم إمكانية إيجاد طريق مغاير، يسير فيه بمعية شعبه، ولا ينبغي، هنا، أن نسبق، ولا أن نلحق؛ لأن الكثير يتّهم المثقفين، بأنهم التحقوا بالثورة متأخرين، وهذا غير صحيح؛ فالثورة نفسها فعل فلسفي كبير، وقد حدثت؛ لأن ثمة من استبقها بشكل ضمني وغير واع؛ فالثورة أفكار نزلت إلى الشارع، وقالت كفانا، نحن هنا من أجل الحرية، والحرية والعدالة والكرامة، كلّها أفكار كبيرة، ومن يستطيع أن يجد الفكرة المناسبة، في الوقت المناسب؛ فطوبى له.

د. نادر الحمّامي: حتى لا يُفهم منك؛ أنّك تميلين إلى الإيمان بفكرة المؤامرة؛ فتقصرين الإشكال في من يحولون دون إيجاد الطّريق، فهناك، أيضًا، وطأة الموروث التّاريخي والثّقافي، الذي بقيت له الغلبة في مجتمعاتنا.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: أنا لا أرى ذلك وطأة، صحيح أنّ التراث جرح ثقيل يعطّل إمكانية أن نلتحق بشيء ما أجمل، ولكن كل المِلل، والطوائف، والشعوب، لديها تراث، ولكلٍّ طريقته في تدبير علاقته بماضيه، وأنا أعتقد أن المثقفين العرب والمصلحين منذ قرنين من الزمن؛ أي منذ النهضة العربية، قد جرّبوا الكثير من الطّرق لتدبير العلاقة بالذّاكرة، وينبغي أن نؤكّد على أنه ليس ثمة أية قطيعة بيننا، وبين ذاكرتنا؛ فنحن نحملها، دائمًا، معنا، وهي ليست ماض بأي شكل من الأشكال؛ فالخطر أن نتصور الذاكرة ماض، وأن نحاول أن نتخلص منها كلّها؛ أنت ترى أنّها عبء، ولكنها تلازمك دائمًا؛ لأنها جزء منك، ولتكون هذا "الأنت": الذي يحمل ذاكرته معه دائمًا؛ فعليك أن تنتقي منها، ما بوسعه أن يعيش مع الحداثة، وتدفن ما تبقّى؛ لأنه قد مات، لذلك؛ علينا أن نحسن دفن موتانا، لا أن نستعيدهم في شكل مسوخ وجثامين، وحتى لا يزورنا الماضي على هيئة أشباح مخيفة، لا بدّ علينا أن نجد الطّريق، وهذا ما يقوم به، في الحقيقة، الكثير من التّأويليين، ومن المفكّرين، والكتّاب الذين يضطلعون بالفكر العربي والإسلامي، ولا ينبغي، أبدًا، أن نواصل في تبخيس الفكر العربي المعاصر؛ فالعرب يفكّرون، وهم بصدد بناء أدوات المقاومة، لما يحدث في علاقة بالواقع، وبالتّراث، وبالذّاكرة، وكل هذه الأشياء معًا.

د. نادر الحمّامي: إذن، علينا أن نفكر جيدًا أوّلًا، وأن نحسن دفن الميّت من الماضي، حتى لا يسبّب لنا صداعًا قديمًا نعاني منه، وقد كتبتِ في هذا الصّداع القديم قصيدة، عنوانها: ''في كل زيتونة صداع قديم''، لو نختم بها حوارنا.

دة. أم الزين بنشيخة المسكيني: نعم، الزيتونة مباركة، وهي؛ دينيّة وفنّية، والقصيدة: هي التي توفّر لنا إمكان أن نكتب العلاقة ما بين الفن والدّين، وتمكنّنا من أن نبني عالمًا متصالحًا بينهما.

في كل زيتونة صداع قديم

تعشقين أسماءك...

وتعبرين كنشيد قديم...

في ذاكرة مهجورة...

لا تأبهين لمن مرّ من كلماتك

إلى قلب كوكب آخر...

ومرارًا يدعونك للموت خلسة...

ولا تأبهين...

لمن مرّ عشقًا...

ولا لمن بقي سهوًا...

في انتظار هذا الحجر الحزين...

وتكتبين على عجل:

"ألا... في كلّ برتقالة

ربيع يؤجّل حلمه ويهاجر...

وفي كلّ زيتونة صداع قديم..."

افتحي هذا الحجر المُلقى

في عين الصقيع...

ستجدين كل الذين عبروا من هنا

بأحلام معطوبة...

بأقدام نسيت حنّاءها وجاءت...

بعيون فقأوها بصمتهم...

ستهاجمك أرواحهم

وستهربين إلى عمق الحروف

تتدثّرين بغبار صنم خرج راكضًا من المعبد

باحثًا عنك...

ومرارًا ستحلمين...

ومن عادة أحلامك

أن تتلاعب بهذا القدر الحزين

ومن عادة أحلامك أن تنسى حقل السنابل

وأن ترسم وجه الزعتر في أرض بلا حنين...

كم ستزرعين من الزنابق قبل أن يداهمك الليل؟

كم سترقص بين أناملك هذي الصوامع الجارحة؟

كم من الرماد تحتاجين

كي تودّعي هذي التمور المدنّسة

بلعاب الدول

الرابضة حذو قنابل تنتظر شعبًا

من الحالمين؟

لن تموتي قبل اسمك

أي لا تموتي...

وأنت...

لن تموتي قبل حرفك

لن تموتي قبل سرّاق السنابل

من قلوب القادمين...

...

ستعودين يومًا كعادة أحلامك

تحضنين الموت المستحيل

وتعودين بقلب حافي الدماء

وتعودين...

بأنامل من الحبر الذي ضيّع لونه

في بحر حزين...

وتعودين كعادة أحلامك

تصنعين الجوع المقوّى

بسخط من ضحك وطين

ها... أنت أنت...

تعودين كي تلدي كل القادمين

كي تأكلي بعض العائدين

وتعودين بأحلامك

كي تلدي الوطن الملفوف

بعطر ينتثر في حقل

يشرب ريق الياسمين

كي ينام مساء

بين شفتي غيمة

في سماء العاشقين...

د. نادر الحمّامي: على هذا النّوع من الأمل، ومن الشّعر العميق؛ أجدّد شكري للأستاذة: أم الزين بنشيخة المسكيني، على هذا الحوار الفلسفي الفكري الشعري الممتع، والدّاعي إلى التّفكير؛ لأن القصيدة تفكّر، والحواس تفكّر، وأرجو أن تواصلي إبداعاتك، وتفكيرك، وطريقك نحو اللّامتوقّع، ونحو صندوق باندورا، وإلى لقاء آخر.