حوار حمّادي المسعودي في التّعامل مع النّصوص المقدّسة الجزء الثاني


فئة :  حوارات

حوار حمّادي المسعودي في التّعامل مع النّصوص المقدّسة الجزء الثاني


د. نادر الحمّامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذ حمّادي المسعودي في هذا الجزء الثّاني منه، ونجدّد له شكرنا على قبوله دعوتنا، وكنّا قد تعرّضنا في الجزء الأوّل من الحوار إلى مسائل تتعلّق بالمناهج وضرورة الوعي بأهمّيتها في مجال البحث العلمي والأكاديمي، هذا المجال الذي يبقى في حاجة دائمة إلى تطبيق المنهج بشكل جيّد، باعتباره عمدة من عماد البحث وأساساً لا غنًى عنه، لتحصيل الإفادة ممّا وصلت إليه العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة شرقاً وغرباً، وقد انتهينا إلى أنّ هذه المناهج الحديثة يمكن أن تطبّق أيضاً على دراسة ما يُعتبر خارج المباحث العلميّة، مثل النّصوص المقدّسة، ومن ضمنها النّص القرآني الذي بحث فيه الأستاذ المسعودي في كتاب خاص بعنوان: "الوحي من التّنزيل إلى التّدوين"، صدر منذ سنة 2005، وهو الآن بصدد التّفكير في تحيينه وإعادة نشره، ونحن نرحّب بذلك وننتظره، بالنّظر إلى ما يمكن أن تطرحه هذه المباحث من أسئلة، قد يثير تكرارها لدى البعض نوعاً من الاستفزاز المعرفي. فهل يمكن دراسة مقولة مثل مقولة الوحي، وهي مقولة إيمانيّة، دراسةً أكاديميّة علميّة؟
د. حمّادي المسعودي: للتّكرار وظائف، تبدو أحياناً منهجيّة وكذلك معرفيّة، فما كلّ تكرار ممجوج، وبهذه المناسبة أقول إنّ القرآن نصّ ينهض في الكثير من سوره وآياته على التّكرار، وهي ظاهرة تتجلّى فيه بوضوح كما تتجلّى في الثّقافة التي تخلّق فيها، من ذلك وجودها في الشّعر الجاهلي، فهي ظاهرة لها وظيفتها. ولئن كانت مسألة الوحي إيمانيّة، فهذا لا يمنع من دراستها علميّا، لذلك علينا أن نخرج بدراساتنا الدّينية من التّعامل العاطفي الإيماني إلى الدّراسة العلميّة الموضوعيّة والمحايدة، بغضّ النّظر عن تعلّقها بالنّص المقدّس، وإن كان على المتخصّص في هذا المجال أن يتخلّى عن إيمانه لتحقيق تلك الشّروط العلميّة، فلا يعني ذلك أن يتخلّى عنه مطلقاً، وإنّما أن يكون قادراً على الفصل بين إيمانه الذّاتي وشروط الدّرس، ولعلّ هذا ما ينقصنا في عالمنا العربي والإسلامي، ولذلك طغت على مجال دراسة الظّاهرة الدّينية الدّراسات التّقليديّة التي تقوم على النّقل والرّواية لا على العقل والرّويّة. ومن شأن بلوغ هذه الدّرجة من الفصل في التّعامل مع المسائل الدّينية، أن يجنّبنا الكثير من المتاهات والصّراعات والتّوتّر والتّشنّج. هذا ما أسمّيه ضرورة التّحلّي بالحياد الدّيني، وهو ما وصل إليه الغرب، وقد تجاوزونا بأشواط كبيرة، عندما أخضعوا النّصوص الدّينيّة المقدّسة والتّراث الدّيني عموماً، إلى الدّراسة العلميّة الموضوعيّة العقلانيّة في إطار بحوث النّقد الكتابي (La critique biblique)، وقد غنموا كثيراً، حتى أنّهم صاروا يتحدّثون عن علم اللاّهوت العلماني (La théologie laïque). والعجيب في هذا الأمر هو أنّ رجال الدّين وعلماء اللاّهوت المسيحيّين هم من أخضعوا النّصوص الدّينية المقدّسة إلى شروط النّقد العلمي، خذ على سبيل المثال ما قام به رودولف بولتمان (Rudolf Bultmann) (1884-1976) الذي أخضع النّصوص الإنجيليّة إلى قراءات عَلمانيّة، وانتهى إلى استنتاجات على قدر كبير من الأهمّية.
إنّ التّعامل مع النّصوص الدّينيّة بطريقة انفعاليّة إيمانيّة، من شأنه أن يوقعنا في الكثير من التّحامل على الأديان الأخرى، لأنّنا سنعتمد ديننا ونصوصنا المقدّسة معياراً في ذلك التّعامل، والحال أنّ علم الأديان وعلم الأديان المقارن وعلم الاجتماع الدّيني، كلّها تؤكّد على ضرورة الاعتراف بمختلف الأديان بما فيها الأديان الأقلّية، وأذكر ههنا المقولة المشهورة لإيميل دوركهايم (Émile Durkheim) (1885-1917) "لا يوجد دين خاطئ ودين صحيح، فكل الأديان صحيحة"، وعندما ننطلق من هذا الاعتبار، فإنّنا سوف نتعامل مع نصوصنا بشكل مختلف، وسنعترف بنصوص الآخر المخالف في الملّة ونحترمها ونحترم المؤمنين بها. وعندما نتوخّى المنهج العلمي في التّعامل مع نصوصنا الدّينية، لن تكون آفاقنا المعرفيّة ضيّقة، لأنّنا، ونحن نعالج هذه النّصوص، سنستحضر النّصوص الأخرى التي تمثّل، هي أيضاً، نصوصاً مقدّسة لدى المؤمنين بها؛ لذلك أقول إنّنا ما لم نتسلّح بمناهج العلوم الإنسانيّة الحديثة على اختلافها، بما فيها المنهج المقارني، فإنّ دراساتنا حول الظّاهرة الدّينية ستظل فيها ثغرات، من شأنها أن تُنشئ العداء بين المؤمن بهذا الدّين والمؤمن بدين آخر. ولعلّ من أكبر مشاكلنا اليوم في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، أنّنا نتعامل مع النّصوص الدّينيّة تعاملاً ذاتيّاً انفعاليّاً غير موضوعي، ونحن نعرف أنّ الكثير من عمليّات الإرهاب الدّيني موجّهة لأناس لا ذنب لهم سوى أنّهم لا ينتمون إلى الدّين الذي نؤمن به. ولو تأمّلنا في دين الآخر، فسنعرف أن نصّنا المقدّس يحتوي مقاطع من نصوصه، وسيزول التّوتّر، وسنصبح أكثر احتراماً لذلك الآخر الذي يخالفنا في الملّة، بالقدر الذي يحترم اختلافنا عنه، ولا سيما أنّ المجتمع العالمي قد توجّه منذ منتصف القرن العشرين نحو تكريس منظومة حقوق الإنسان المستندة إلى مجموعة من الحرّيات، ومن بينها حرّية الضّمير وحرّية المعتقد واحترام حقوق الأقلّيات.
د. نادر الحمّامي: إذا ما نظرنا في عنوان كتابك "الوحي من التّنزيل إلى التّدوين"، يمكن أن نفهم من المفردة الأولى إقراراً بأنّ النّص من صميم الوحي الإلهي المُنزل، وهذا يذهب شيئاً ما إلى الاتّفاق الإسلامي العام، ولكن حين نقرأ بقية العنوان: (من التّنزيل إلى التّدوين) نفهم أنّ لهذا الوحي سيرة وتاريخيّة، انتهت به إلى أن يكون بين دفّتي مصحف، فانتقل من مرحلة إلى أخرى عبر التّدوين، ما يجعلنا نلاحظ أنّك تخالف ما ذهب إليه المنظور التّقليدي من مطابقة بين الوحي والتّدوين، كما تخالف من جهة أخرى، الدّرس الاستشراقي، لا في المنهج، وإنّما في اعتبار إمكان وحي مسيحي أو يهودي في مقابل إقصاء إمكان وحي إسلامي، لتضع كل هذه الأصناف من الوحي في دائرة واحدة، ولعلّك تكرّس بذلك منهجا ثالثاً بين المنظور التّقليدي، من ناحية، والدّرس الاستشراقي كما استقر منذ القرن التّاسع عشر، من ناحية أخرى. فهل تجد هذه الملاحظات التي يثيرها عنوان كتابك صائبة؟
د. حمّادي المسعودي: للقارئ الحقّ في أن يقف عند كلّ لفظ في عنوان، وينقده أو يبيّن ملاحظاتك حوله؛ فالكتاب بعد نشره لا يكون ملك صاحبه، وإنّما هو ملك القارئ ورهن قراءته، والقراءة قراءات. وإذ يحاول هذا الكتاب أن يعالج الكثير من القضايا الموصولة بالنّص المقدّس؛ أي القرآن، فإنّه يطرح نظرة لهذا النّص مخالفة لما تسوّغه حوله المؤسّسة الدّينية الرّسميّة ومن يدّعون الوصاية على الدّين، الذين يقولون بأنّ النّص منزّل ومُتلقّى من الذّات الإلهيّة، ما يجعله محفوظاً من التّبديل والتّغيير. وقد حاولت أن أبيّن في مختلف فصول الكتاب أنّ هذه الأطروحة ليست سليمة، وأنّ النّصّ الحامل للوحي موجود بين دفّتي مصحف تمّ تدوينه بقرار سياسي في عهد عثمان بن عفّان، وأنّ الاعتقاد السّائد لدى أكثر المسلمين وأغلب علماء القرآن القدامى، بأنّ القرآن جُمع في عهد الرّسول، هو اعتقاد مجانب للصّواب؛ فلو نظرنا إلى النّص في تاريخيّته منذ عهد النّبوّة إلى زمن التّدوين، فإنّنا نقف على اختلافات بين الرّوايات للنّص نفسه، بين ورش وقالون وحفص وغيرهم، كما أنّ علماء القرآن القدامى أثبتوا وجود مصاحف مختلفة، وبالعودة إلى "كتاب المصاحف" لابن أبي داود السّجستاني (230-316ه) نتبيّن وجود اختلافات في مصاحف الصّحابة والتّابعين، وحتّى في مصاحف زوجات الرّسول، أضف إلى ذلك تعدّد القراءات بين سبع كرّسها ابن مجاهد، وعشر وأربع عشرة قراءة. لذلك، فهذه الاختلافات جميعها تدلّ على أنّ ما اعتقد المسلمون بأنّه نصّ منسجم غير مختلف فيه، هو في الحقيقة على خلاف ذلك مختلف فيه وغير منسجم.
وقد تعرّضت في القسم الأوّل من الكتاب، إلى قضيّة الثّقافة الشّفويّة، وهي مسألة مهمّة في سياق تفسير العناصر التي ذكرتها آنفاً، وما لم نضع النّص القرآني في إطاره الثّقافي الشّفوي الذي تخلّق فيه، فستظل قراءتنا ناقصة، فلثقافة المشافهة تأثير كبير انعكس على اختلاف القراءات للوحي، وقد ذكرت كتب علماء القرآن القدامى أنّ الكثير من الصّحابة تظلّموا لدى الرّسول بسبب اختلاف قراءة صحابي عن قراءة صحابيّ آخر مزامن له، وكان الرّسول يدعو المتظلّمين بأن يأمر هذا بقراءة الآية التي وقع فيها الاختلاف، وبعد أن ينتهي من القراءة يقول لصاحبها "أحسنت، وهكذا نزلت"، ثم يأمر الآخر المختلف، فيقرأ قراءة مختلفة، فيستحسنها الرّسول، ويقول له الجملة نفسها، "أحسنت، وهكذا نزلت"، ومعنى هذا أنّ الرّسول حين كان يُقرِئ الصّحابة، لم يكن يعوّل على نصّ مكتوب ثابت، وإنّما كان يُقرأ من حوله مشافهة، وقد تكون القراءة لجماعة، وقد تكون لأفراد، وفي أزمنة وأمكنة مختلفة، وقد يكون إقراؤه لصحابي مختلفاً عن إقرائه لصحابي آخر؛ وهكذا فالقضيّة ترجع بالأساس إلى مسألة التّداول الشّفوي للقرآن.
د. نادر الحمّامي: نلمس في الدّرس الاستشراقي، خاصّة مع غونتر لولينغ (Günter Lüling) (1928-2014)، طموحاً للوصول إلى ما يسمّى "ما قبل المصحف" أو القرآن في مرحلته الشفويّة التي تحدّثت عنها، فهل هذا الطّموح مشروع فكريّاً وأكاديميّاً، وهل لنا ما نعتمد عليه للوصول إلى ذلك؟
د. حمّادي المسعودي: لو لم يكن لدينا ذلك الطّموح لما قمنا بهذه المباحث. ولكي نحقّق ذلك، علينا العودة إلى المصطلح القرآني وإعادة فهمه من جديد. لذلك، فاستعمالي في الكتاب لمصطلحات (الوحي، التّنزيل، التّدوين...) لم تكن الغاية منه أن أقرّها، وإنّما هو استعمال تداوليّ، فلا علاقة على سبيل المثال بين مصطلح "التّنزيل" الذي أستعمله، وبين ما يقوله علماء القرآن القدامى من أنّ الآيات نزلت منجّمة على الرّسول لأسباب متعدّدة، من بينها إمكان استيعابه للقرآن شيئاً فشيئاً، لأنّه لو نزل عليه دفعة واحدة لما استطاع تبليغ الرّسالة، ولفظ "التّنزيل" يرد بكثرة في النّص القرآني متعلّقاً بلفظ "الكتاب"؛ ''هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ..." (آل عمران 7)، "وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ..." (النحل 64)، إلاّ أنّ الكتاب في السّياق القرآني، لا يمكن أن يفيد الكتاب في الاستعمال اللاّحق، ولعلّ من بين معانيه "جزء من الوحي"، كذلك لا يتعلّق لفظ "اقرأ" بمفهوم القراءة البصريّة ولا بالكتاب، ونجد في ترجمة ريجيس بلاشير(Régis Blachère) (1900-1973) للقرآن إلى الفرنسيّة، لفظ "اقرأ" في "اقْرَأْ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خَلَقَ..." (réciter) أو (prêcher) بمعنى استظهر عن ظهر قلب، أي رتّل. ولفظ "كتاب" لم يُستعمل بكثرة في القرآن، ولا يمكن أن نأخذه بمعنى (Livre)، وذلك لأنّ القرآن في زمن الرّسول لم يكن كتاباً مدوّناً. وهكذا، فمسألة التّنزيل بمعنى العمليّة الأفقيّة التي تتمّ من السّماء إلى الأرض أو من أعلى إلى أسفل، سواءً تعلّقت بالقرآن أو بالنّصوص المقدّسة في الدّيانات الأخرى، ينبغي أن تُراجع، فهي لا تُستساغ في علم الأديان المقارن ولا في علم الاجتماع الدّيني، لأنّ أيّ دين أو ظاهرة دينيّة لا يمكن أن تسقط هكذا من السّماء ما لم يكن لها سند في الأرض؛ لذلك فما نقرأه في النّص القرآني على اعتباره وحياً منزّلاً من السّماء، هو في الأصل مسائل صاعدة من الأرض إلى السّماء ثمّ أعيد تنزيلها. هذا ما ذهب إليه الغرب في قراءاتهم لنصوصهم المقدّسة، واعتبروا أنّ الوحي أو الكلام الإلهي هو كلام إلهي بشري في آن (théandrique)، وهذا ما ذهبت إليه المعتزلة، وقال به القاضي عبد الجبار (359 – 415هـ)، وأعتقد أنّنا لو أخذنا بهذه المقولة التي ظهرت في القرن الرّابع الهجري، لقطعنا أشواطاً كبيرة في دراساتنا لنصوصنا الدّينيّة المقدّسة.
د. نادر الحمّامي: ولو أخذنا بمثل هذه المقولات لتجاوزنا الكثير من الإشكاليّات، لأنّ البحث في الوحي والتّنزيل والقرآن والمصحف ليس ترفاً فكريّاً، وإنّما هو وعي بتاريخيّة النّصوص الدّينيّة، وهو ما لم يتفطّن إليه الفكر العربي الإسلامي، الأمر الذي عمّق من حجم العوائق والصّعوبات أمام ما يمكن أن تطمح إليه المجتمعات العربيّة والإسلاميّة من فكر ينهض بها، ولعلّنا نلمس ذلك خاصّة منذ القرن التّاسع عشر مع بداية ما يسمّى "فكر النّهضة" الذي مثّل إطاراً لطرح أسئلة الوعي بالتّخلّف والاستبداد والمشاكل الثّقافيّة والحضاريّة، ولكنّ الإجابات أعوزتها الجرأة في الكثير من المسائل، حتى أصبح فكر النّهضة إشكاليّا وموضوعاً للدّرس والبحث، وقد صدر لك في هذا المجال كتاب حول "إشكاليّة النّهضة في الفكر العربي الحديث"، وسوف يكون هذا الموضوع مدخلاً مناسباً للجزء الثّالث من حوارنا معك أستاذ حمّادي المسعودي، فشكراً لك.

البحث في الوسم
حمّادي المسعودي