حوار مع الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد: جدل العلاقة بين الفكري والسياسي في المجال الإسلامي


فئة :  حوارات

حوار مع الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد: جدل العلاقة بين الفكري والسياسي في المجال الإسلامي

محمد أبو القاسم حاج حمد، كاتب ومفكر سوداني. عمل مستشاراً علمياً لـ"المعهد العالمي للفكر الإسلامي" في واشنطن. أسّس عام 1982 "مركز الإنماء الثقافي" في أبو ظبي، وأقام أول معرض للكتاب العربي المعاصر بالتعاون مع العديد من دور النشر اللبنانية. أسّس في قبرص "دار الدينونة" لإعداد موسوعة القرآن المنهجية والمعرفية، ومجلة "الاتجاه" التي تعنى بشؤون الفكر والاستراتيجيا في نطاق الوسط العربي والجوار الجغرافي. صدرت له عدة مؤلفات، منها: العالمية الإسلامية الثانية - منهجية القرآن المعرفية- الحاكمية- القرآن والمتغيرات الاجتماعية- تشريعات العائلة في الإسلام - جذور المأزق الأصولي- حرية الإنسان في الإسلام...

يعود إنجاز هذا الحوار إلى أكتوبر من سنة 2004، على إثر الزيارة التي قام بها المرحوم أبو القاسم حاج حمد إلى المغرب، وقد كانت رحلته هذه إلى المغرب هي السفر الأخير له في حياته، إذ توفي بعد عودته من المغرب إلى السودان صباح يوم الإثنين 8 ذو القعدة 1425هـ الموافق 20 دجنبر 2004م.

وجود أبو القاسم حاج حمد في المغرب، كان غنياً جدّاً من حيث المحاضرات التي ألقاها، ومن حيث المفكرين الذين قابلهم، وكذلك من حيث الشباب الباحثين الذين استمع لأطروحاتهم البحثية، سواء في مدينة البيضاء أو مدينة أكادير أو مدينة وجدة... اللغة التي يتحدث بها حاج حمد مع محاورين كانت لغة جذابة، وكان مقنعاً من حيث الأفكار التي يقول بها وهذا ما جعلني أجري معه هذا الحوار الذي كتب له أن يبقى مخبئا حتى هذه اللحظة.

ذ. يونس الوكيلي: الأستاذ حاج حمد يتميز بتجربة سياسية خصبة، وكذلك بتجربة فكرية مبدعة، كيف تلاقحت هاتان التجربتان، أو كيف تبادلتا العطاء في مسيرة حياته؟

ذ. محمد أبو القاسم: بسم الله الرحمن الرحيم

أولاً: يعد أي جهد فكري دون الاشتغال العملي في أرض الواقع تنظيرًا تهويميًا في فضاءات خارج الواقع، والشغل في الواقع هو الذي يصقل الفكر والتنظير؛ فالواقع هو الأداة العملية النقدية للفكر ولمنهج المفكر، هذا فيما يختص بالعلاقة بين العقل والواقع، الواقع يصقل العقل كما تصقل العبادة الرؤية الدينية... كما يقول طه عبد الرحمن: الشغل مهم للعقل المجرد ليصبح عقلاً سديدًا، فالعبادة واقع يصقل الرؤية الدينية، والواقع المجرد إطار نقدي عملي للنظرية. لهذا وفقني الله بفضلٍ من عنده لأن أجمع بين التحرك في واقع الفكر والتحرك في واقع الحياة التجريبية.

ذ. يونس الوكيلي: يرى بعض الباحثين، أقصد محمد أمزيان، أن الجانب الأكثر تعقيدًا في أزمة العلاقة بين الفكري والسياسي في إطار ثنائية الدولة والأمة، هو جانب الهوية أو المرجعية، إذ إن الدولة الوطنية الحديثة قدمت نفسها في القرن التاسع عشر بوصفها دولة " حداثية" بقيم وفلسفات أخرى، محدثة قطيعة معرفية مع تراث الفكر السياسي الإسلامي. ما هي في رأيك أسباب هذه القطيعة إن كانت هناك قطيعة فعلاً؟

ذ. محمد أبو القاسم: نريد أن نجزئ الإجابة إلى عناصر:

العنصر الأول: حين نأخذ العلاقة الثنائية في إطار المثقف والسلطة، من هنا تبتدئ الأزمة نفسها، فنوجد إشكالية عوضًا عن أن نحل الإشكالية.

ثمة طرح جذري هو"المثقف والمجتمع" لا بد من تناوله قبل أن نطرح "المثقف والسلطة"، لماذا؟ لأن السلطة كما ذكر أخي وصديقي أمزيان بأنها السلطة ما بعد القرن التاسع عشر؛ أي السلطة التي خالطتها شبهات النسق الأوروبي، وليس فقط الحداثة. فالإسلام فيه حداثة، وفيه فكر حداثي تبعًا لمراحل تطور النسق الإسلامي، هناك حداثة أيام المماليك، وهناك حداثة أيام العباسيين، وهناك حداثة أيام الأمويين. فالعقل الإسلامي ليس عقلاً عقيمًا، إذ أنتج حداثته الخاصة ضمن مراحل تطور مختلفة، أليس ابن خلدون ظاهرة حداثة؟ رغم أن مرحلته تعد مرحلة انحطاط. أليس ابن رشد مفكرًا حداثيًا استنادًا إلى مرحلته والظرف الذي كان فيه؟ فكلمة ربط الحداثة بتلاقحنا مع أوروبا بعد مرحلة الغزو النابليوني للشرق الأوسط هي ظلم لحداثتنا نحن، لحداثة موجودة لدينا مند عهد الخلفاء الراشدين؛ أي الحداثة بمعنى الفكر المتقدم على الواقع الذي يعطي مؤشرات تجديدية، ويحاول أن يحرك قوى اجتماعية ليس تقليدية بالضرورة.

وفي مرحلة أبي ذر الغفاري الذي كان مهتمًا بالفقراء، وبفئات معينة لها دور، هذا تركيز لقاعدة اجتماعية جديدة للتغيير غير القاعدة التقليدية في المجتمع ذاته. والمواقف في العهد الأموي من: هل المال مال الله أم مال الناس؟ هذا يندرج في فكر الحداثة في صراعها مع التقليد. كذلك حين تجد آراء معظم آبائنا من الفلاسفة في العصر العباسي، والرؤى التي طرحوها حول كثير من القضايا، كالمذاهب الإسلامية الكبرى، نعم، ظهرت بأنها فقه أو كتابة في أصول وفروع، ولكن تستبطن في داخلها رؤى فلسفية تقوم عليها طريقة استخراج الأصول.

إذا أعيد قراءة ما بذله مثقفونا كالإمام مالك، وأحمد بن حنبل، وابن القيم، مثقفونا بلغة العصر، أريد أن أرجع لهم كمثقفين، فهذا الجمع الضخم من المثقفين: كابن عربي، والسهرودي، وجلال الدين الرومي كأحد مثقفي الفلسفة الإشراقية. كل أولئك كانت الحداثة توجد في دواخلهم مند الخلفاء الراشدين، وليس بالضرورة أن نطلق كلمة حداثة على اصطدام نسقنابالنسق الأوروبي بعد مرحلة الغزو النابليوني.

وكثيرًا ما تزعجني هذه المقاربة، ولا أقصد محمد أمزيان؛ فهو يطرح الأمر طرحًا مختلفًا، فعتبي لا يتجه إلى ما قاله، أنا آخذ ما قاله حالة تصنيفية وليس مفهومًا نقديًا. فلذلك، نرجع إلى إعادة صياغة سؤالك ضمن الإشكالية الحقيقية، والإشكالية الحقيقية لدينا أن أوروبا التي تدخلت في فرض نتائج نسقها على السلطة السياسية لم تستطع السلطة السياسية التي فرضتها أوروبا في الوطن العربي والإسلامي كله أن تتحول إلى نظام. أريد أن أبسط لك الأمر فأقول: إن السلطة هي خلاصة إطار حاكم فوقي لنظام مؤسس مركب عليها، فحين نقول أخذنا النظام الديمقراطي عن أوروبا فماذا نقصد؟ أخذنا البرلمان والانتخابات؟ لكن هل أخذنا بالليبرالية كرؤية في العلاقات لفلسفة الليبرالية؟ هل أخذنا بالعلمانية لازمةً لفصل الدين عن الدولة وليس فصل الدين عن المجتمع؟ لأن الذي يفصل الدين عن المجتمع هو الفلسفة الوضعية وليس العلمانية، الفلسفة الوضعية لأوجست كونت، التي قالت باستبعاد اللاهوت والمرحلة اللاهوتية، ثم استبعاد المرحلة الميتافيزيقية ثم التأكيد على المرحلة الوضعية العلمية التجريبية حين كان الشكل الأول في عهد أوجست كونت. فهل أخذنا بشمولية التأطير عندما أخذنا بالنظم الغربية، فالمجتمع ليبرالي علماني بالمفاهيم، وبالعلاقات الداخلية، وأن يتحول الخطاب إلى الفرد وليس إلى العائلة، وألا تكون الأحكام الشرعية الفقهية تابعة لمؤسسات الدولة، ولم يحدث قط أن الشكل السلطوي الفوقي تجذر ليصبح نظامًا. لذلك تجد التناقض بين أنظمة الحداثة ومقومات الحداثة داخل مجتمعاتنا، ولا تجد أي انعكاس من الغرب تحول إلى نظام، بل أخذوا شكل السلطة.

لذلك ثمة انفصام بين السلطة والمجتمعات، ماعدا ثنائية هامشية أخرى حين تأخذ تركيبة النظام المغربي، أو النظام السعودي، أو النظام السنوسي قبل القذاقي، أو نأخذ بالنظام الهاشمي في المنطقة قبل 1948 ونشوء إسرائيل، فتجد لكل هذه الأنظمة جذورًا وشرعية في تركيبة الواقع، من مثل مفهوم تعاقب المرابطين في المغرب، والموحدين...إلخ ونجد نوعًا من السياق التسلسلي التاريخي الذي له علاقة بجدل الواقع المغربي التاريخي، فالذي حدث أنه أثناء الاحتلالات الفرنسية التي تمت، تم تلقيح السلطة بالحداثة وليس المجتمع المغربي، إن سيدي شيكر لازال حيًا في مراكش، لو كانت فرنسا فرضت حداثتها فعلاً فلن نجد سيدي شيكر شكلاً من أشكال الأهرامات القديمة التي نزورها للسياحة، ولكن لا زال لديه، وقد زرته، من ينتظر بركته حتى الآن.

إذن، لا نريد أن نمضي فنقول أن السلطة حداثية أو مرتبطة بالنسق الغربي، وأنها قد أثرت على المجتمع كثيرًا، فلا زال هناك انفصام بين السلطة، أو الشكل السلطوي، والمجتمع. وهذا الانفصام نسبي على درجات، البعض أراد لهذا الشكل الغربي أن يستوعب المجتمع؛ أي أن يكون سلطة ونظام، وهذا ما حاوله مصطفى كمال في تركيا، ولكن فشلت علمانية تركيا على مستوى المجتمع وبقيت في الشكل السلطوي؛ فالجيش علماني، ورأس الدولة علمانية، وصور أتاتورك موجودة، لكن مآذن اسطنبول تسمع كل تركيا.

وبالتركيز علىدور المثقف، فمثقفنا عبر التاريخ كان يرتبط بالمجتمع أكثر، وكان خطابه موجهًا للمجتمع. والفقه السياسي في كتبنا كلها عبر التاريخ فقه مداراة، مداراة للسلطة، ليتمكن المثقف من التفرغ للمجتمع، وحلقات النقاش والدرس في كل مساجدنا للأئمة الكبار، وهي حلقات من دارسين، ومدونين، ويندر أن تجد حضورًا سلطويًا فيها، يدارون السلطة بما يتحدثون عنه من خلافة الفاسق في حالة الاضطراب، وهذه كلها أنواع مداراة.

كان خطاب مثقفنا يتجه عبر التاريخ إلى المجتمع، حتى أن ابن خلدون عندما يكتب ويزين كتابه للسلطة في البداية، فهذا العدد الضخم من المخطوطات لا يمكن أن يستنسخ ويكون له في تقديري قيمة عملية إذا لم يأخذ به أحد من السلطة، وهو يكتب للمجتمع ليفهم السنن الاجتماعية في التحولات.

من الذي استفاد من ابن خلدون؟ إنه المجتمع، فالإشكالية التي يجب أن تطرح هي دور المثقف مع المجتمع في ظل عدم تحول السلطة إلى نظام يشمل المجتمع بكامل تفاصيله.

هنا سيجد المثقف نفسه أمام مهمة ترتبط بجدل الواقع كما يقول عبد الله العروي، وأنا أستشهد بدراسات عبد الله العروي كثيرًا لأنه خرج من إطار التصنيف المادي للتطور التاريخي، ليأخذ بالجانب الاجتماعي المرتبط بما يفرزه الواقع نفسه من خيارات، ويتعامل المثقف معه. لذلك انتهى عبد الله العروي في دراساته إلى الثورة الثقافية، ولكنها ثورة ثقافية حداثية لم يستنبطها من جدل الواقع الذي دعا إليه هو، لذلكغاب كثيرًا، مع أن عبد الله العروي قام بمحاولة كادت تجعله يصل حين درس النماذج التنويرية في الإديولوجية العربية المعاصرة. حين أخّذ السلفي نموذجًا، والتقني نموذجًا، والإصلاحي نموذًجًا، إذ بدأ يقترب من حيثيات الواقع، ويرى تأثيرات الحداثة عليه؛ أي على المثقف المطلوب منه الارتباطبجدل الواقع.

أما قضية انفصامية السلطة والمجتمع، أو السلطة والنظام في المجتمع؛ فالمثقف نفسه تعرض لهذه الثنائية الانفصامية؛ فهو يفكر بآليات الغرب وأدواته في خطابه، مما أفضى إلى أن يكون خطابه موجهًا إلى السلطة وليس إلى المجتمع. هذا ما طرحته في مؤتمر أصيلا في شهر غشت هذا العام، حين دعاني الأخ بن عيسى لحضور نقاشات حول مستقبل إفريقيا، وقد كان معظم الجالسين أمامي وزراء خارجيات، فرانكفونين بالذات، وبدؤوا يتحدثون عن مشكلات إفريقيا، محاكمين النسق الغربي في ذلك، لم يحاكموا إفريقيا من جدل الواقع. فمثلا، حينما تحدثوا عن الفقر سألتهم من الغني في إفريقيا؟ وكيف يقاس غنى الفقر؟ من هو الأغنى، هل هو عضو مجلس اللوردات في بريطانيا، أم زعيم العشيرة في إفريقيا المتزوج من أربعين زوجة؟ فهذا صاحب الأربعين زوجة أغنى من كل مجلس اللوردات في بريطانيا بمقاييس إفريقيا. ثم حين نحاكم المياه والبيئة بالمنطق الإفريقي، ونقول أن المياه في إفريقيا ملوثة، مياه أنهار تمر عبر الأشجار وتسكن فيها التماسيح وفرس النهر، هذه المياه لم نكتشف تلوثها عبر الأجيال شربناها ولازلنا نشربها، بينما اكتشفت أوروبا أنها ملوثة بناءً على مواصفات إنتاج المياه المعملية، ولكننا نشربها وتشرب معنا التماسيح وفرس البحر، ويشرب معنا الغزال، وكلنا نشرب من ماء واحد دون أن نشعر بالأوبئة، وإذا شعرنا بالأوبئة فلدينا عقاقيرنا المحلية التي ولّدناها من مشكلات البيئة نفسها، فلذلك فإن كل الطروحات حول إفريقيا وتخلفها ومشكلاتها مطروحة ضمن قياسات لا علاقة لها بإفريقيا، وبذلك نعجز عن حل مشكلاتنا كما حل المجتمع التقليدي مشكلاته، أقصد في إفريقيا، فالكي والحجامة مثلاً هي وسائلهم في التعامل مع المشكلات الصحية.

أما أوروبا، فتريدنا أن نشتري العقاقير التي جهزتها هي تبعًا لمواصفتها، في حين نعتز نحن بحكمة الشيوخ والأطباء المحليين، فحين عالجوا مشكلات إفريقيا ألغوا في الواقع إفريقيا، ألغوا تقاليدها، حين قالوا يجب أن يتوطن الرحّل ليتعلموا ولنقوم بالمهمات الطبية. هم لا يعرفون أن توطن الرحل في إفريقيا له دلالة اجتماعية أخطر من الدلالة المدنية للاستقرار. أنت حين تمنعهم من الذهاب في الشتاء إلى منطقة أخرى تشكل حياة نوعية، تلتقي القبيلة بقبيلة أخرى وتنتظر أن يتزوج أبناءها من هناك، فمنع الترحال بالنسبة إليه ليس قضية بسيطة. فكيف يتم تطويره في إطار الحفاظ على قيمه وأخلاقه؟ لذلك، الإفريقي يتمرد على التوطن ويعتبره عبودية.

هذه الظاهرة التي أسميها الظاهرة الإشكالية ناتجة عن أن نخبنا لم يعد ارتباطها بالواقع التقليدي لتدرسه من داخله، وقد انتبه إلى هذه القصة عالم الاجتماع الجزائري عمار بلحسن حين كتب عن السلطة المرجعية والمعرفية، فإمام المسجد أهم من وزير الإعلام، لأن هذا على ارتباط مباشر بالواقع، وهو محطأسرار الجماعة، من يريد أن يطلق، ومن يريد أن يتزوج...إلخ، فإذا كان الإمام وصوليًا أحدث خرابًا كبيرًا في الجماعة، وإذا كان مستنيرًا أنار الجماعة كلها، وهناك مرجعية أخرى هي مرجعية الأب، الأب الذي يغرس فهمه لواقعه ولمجتمعه ولثقافته في الزوجة، وفي الأبناء والبنات، ماذا فعل مثقفنا ليخاطب مرجعية الأب قبل أن يؤسس جمعية للدفاع عن الحقوق المدنية؟ الأب هو مرجع الحقوق المدنية في الأسرة، وإمام المسجد هو مرجع الحقوق المدنية في المجتمع، أما أن ينشئ جمعية للحقوق المدنية ويصدر حقوق البنت وحقوق الطفل...إلخ دون أن يكون الخطاب موجهًا للأب وللإمام فلن يكون ذلك مجديًا.

حتى المرجعيات التي تصنع المجتمع حين لا تخاطب إلا بمفاهيم غربية نسقية خارجية تكون مشكلة المثقف كمشكلة السلطة نفسها، انفصام عن مجتمع لم يؤسس على نظام تابع لهذه المرجعية ولهذا النسق الغربي.

ذ. يونس الوكيلي: يقول حاج حمد: "إن علمنة الدولة تشكل أهم مرتكز إسلامي لضمان الحريات التي أكد عليها القرآن الكريم في مواطن عديدة، كما أن مؤسسات الدولة المعلمنة وقيمها من فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيدية تكفل دستوريًا دور المواطن والشعب [...] فالعلمنة السياسية للدولة ضمان للاجتهاد النوعي في المجتمع بما تكفله من حرية الرأي وحياد السلطة، تجاه مختلف الأديان والآراء والاجتهادات [...] فعلمانية الدولة السياسية ضرورة إسلامية "ثم تضيف " فالتجربة تشهد بأن هناك دومًا ما يتهدد حرية الفرد وحقوقه، من خلال الميل إلى احتكار السلطة، سواء أكانت دينية أو غير دينية، وإلى مصادرة المشروعية، سواء أكانت من خلال المجتمع أم من داخله، وذلك تحت حجج وذرائع تميل في الغالب إلى مبادئ غيبية، كداعي المصلحة العليا وسيادة الأمة والحرص على الهوية [...] ولهذا فالضامن الأساسي للحريات والحقوق هو تعدد مصادر المشروعية والسلطة، ولعل العلمانية ليست شيئًا آخر سوى ذلك. فهذا الكلام يتفق معه بعض الناس في واقع المجتمع اللبناني المتعدد الطوائف، والذي تعيش أنت فيه. أما غيره من المجتمعات العربية والإسلامية، فلا تعيش هذا التعدد، ومن ثم فهم لا يحتاجون هذه العلمانية بشقيها السياسي والفلسفي؟ لماذا الحاج حمد،رغم علمه بهذا يتمسك بعلمنة الدولة؟

ذ. محمد أبو القاسم: موضوع الدراسة هو علمانية الدولة ضرورة إسلامية وليس ضرورة في المجتمع المتعدد فقط، لقد كان من أخذ رأيي منطلقًا من أن قولي قد ارتكز على التعددية الدينية في المجتمع، ولم يفهم حقيقة ما ذهبت إليه. أنا ذهبت إلى أن العلمانية ضرورية حتى في المجتمع المسلم بالكامل ولا تعدد فيه، لماذا؟ لأن ثمة منظورًا يجب فهمه في دراساتي.

أولاً: أنا أميز بين حاكميات ثلاث؛ حاكمية إلهية طبقها الله في الأرض المقدسة في الفترة من موسى إلى داود وسليمان، وهي حكم إلهي مباشر عبر الأنبياء، وحاكمية استخلاف فوّض الله بها صلاحياته في الجن والطير والنمل لسليمان عليه السلام؛ أي جلسوا على كرسي الله مستخلفين عنه في صلاحياته، واسمها حاكمية استخلاف، وقبلها حاكمية إلهية كشق البحر، وانبجاس الماء من الصخر...إلخ، وقد نزل الاسلام بحاكمية ثالثة اسمها حاكمية كتاب، لأن رسول الإسلام هو خاتم الرسل والنبيين، ليس ثمة نبي من بعده. ما مرجعية هذا الكتاب، بعد ختم الرسالة والنبوة؟ مرجعيته العقل، إذن، الإسلام نفسه يقوم على حاكمية كتاب مرجعيته العقل، لماذا؟ لأن محمد خاتم الرسل والنبيين، وحاكمية باقي الأنبياء كانت بأخذهم الوحي المتتابع من الله تعالى.

لم يميز سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، رضوان الله عليهما، وكليهما أخطأ في الاجتهاد، بين حاكمية إلهية تستدعي وجود أنبياء وحاكمية الاستخلاف، والاستخلاف عند الله فيه تفويض صلاحيات، لذلك ذكر الله تعالى النمل والطير والجن لسليمان، ولم يذكر هذه الظواهر من قبيل الخرافات، بل ذكرها من قبيل حاكمية استخلاف بتفويض صلاحية المستخلِف للمستخلَف. أما ماذا يعني أن يكون مستخلفًا عن الله ولا يحمل إلا قربة الماء؟فلحاكمية الاستخلاف مواصفات، وللحاكميةالإلهية مواصفات، ولحاكمية الكتاب مواصفات، وقد وضع كون الإسلام خاتم الرسالات حدًا لأي وجود كهنوتي في العلاقة مع السلطة الإلهية والكتاب الإلهي، فظهرت علاقة ثنائية: الكتاب والعقل دون وسيط، وهي ثنائية تفترض تعدد الاجتهادات، دون أية وصاية دينية تحول دونها. ولذلك ارتبطت حاكمية الكتاب بِأولي الأمر منكم وليس " فيكم" بالتراتبية الكهنوتية داخل المجتمع؛ أي من يسمون أنفسهم علماء، وليس "عليكم" بالغلبة والاستيلاء، فكان التحديد لأولي الأمر "منكم" سواء أكنتم أنصارًا أم مهاجرين، فالتراضي في سقيفة بني ساعدةلا ينتقص منه أن تم فيه اختيار أبي بكر رضوان الله عنه، وهؤلاء الصحابة هم في منزلة الأنبياء على فكرة، لأن زعيمهم خاتم الرسل والنبيين وزوجاته أمهات المؤمنيين، وهؤلاء، عمر وعثمان وأبو بكر،خلفاؤه، ومن يسيء إليهم للأسف لا يعرف إلى أي مقام يسيء؛ فقد تم اختيار أبي بكر برضى الأنصار والمهاجرين، هذه هي دلالة "منكم"، رغم أن باقي القبائل لم تشترك، وتم اختيار عمر بمنطق أبي بكر في اختيار الأعدل والأصلح ضمن تجربة الصفوة القائدة للتجربة. فالرسول الكريم يُتحدث عنه في القرآن الكريم هو ومن معه {محمد والذين معه} أليس كذلك؟ يبايعونك تحت الشجرة، أليس كذلك؟ إنها أفضليات أعطيت لهذا النوع، فعندما يتم الاختيار بين مجموعة "محمد والذين معه أشداء على الكفار" ومواصفات الذين "يبايعونك تحت الشجرة" بمنطق العقل فهذا أيضًا أسلوب "منكم" الاختياري، وأبو بكر لم يفرض ابنه ولم يفرض أخاه، بل فرض رجلاً تنطبق عليه المواصفات كلها، مواصفات عدل في القرآن، وكذلك عندما اختير عثمان. فلذلك عندما نأتي لنظام الحكم الإسلامي، فهو حاكمية كتاب ترتبط بالعقل، وفيه حاكمية "عليكم" و"وفيكم" مرفوضة، أما الـ"منكم" فرد حرية الاختيار للإنسان.

وعليه، فالعلمانية بمعنى فصل السلطة عند اتخاذ القرارات النهائية في القضايا التي تمس مصير المسلمين علمانية أسست في مبتدإ الدعوة، ولكن أين يكمن الخلط؟ الخلط أن الناس لم يفرقوا بين العلمانية التي تحجم السلطة وتجعلها وفقًا لإرادة "منكم" والمجتمع، وبين الفلسفة الوضعية التي تريد أن تحيد المجتمع عن الدين. لقد أوقعتنا القراءة الخاطئة للنسق الغربي في إشكاليات متوهمة، ترى العلمانية جزءًا من تركيبة الحكم الإسلامي، لأنها حاكمية كتاب وليست حاكمية استخلاف أو حاكمية إلهية. وعليهم أن يدرسوا الإنسان في التطور الديني على حساب ما قضاه الله، وليس تطور عقل، أفهمت القصد؟

لذلك حين بدأت إشكالية العاصمة في الخرطوم علمانية أم غير علمانية. أنا قلت الآتي: انظروا ماذا يفعل الإخوة في إيران، إنهم يقدمون غاجاري للإعدام، وأنتم هنا أعدمتم محمود محمد طه من قبل لآرائه الدينية، فكيف نأمنكم على حاكمية الكتاب، والترابي قدم دستور 1998، دستور يتحدث عن الحقوق المثالية للإنسان كلها، ولكن لا يقنن الاحتجاج ضد الدولة، يعطيك حرية مطلقة، والإنسان حر وله أن يعبر على نفسه وتنظيمه، وعندما تذهب إلى المطار فإنك تمنع من السفر لحماية الدولة الإسلامية، وعندما تدعو إلى تظاهرة يقبض عليك بدعوى أنك تهدد أمن الدولة الإسلامية، لا توجد آليات لتحمي الحقوق، وهذا كله راجع إلى الحاكمية الإلهية، فهذا حكم الله، وهم وكلاء الله.فقلت لهم، طالما أنكم وكلاء الله فعوضًا عن إرسال أبنائنا إلى الجنوب، أرجو أن ترسلوا كتيبتين أو ثلاث من الجن، فقالوا كيف؟ قلت لهم: لأن الحاكمية عن الله تستوجب وجود تصرف في الجن كما كان لسليمان، أنتم ليس لديكم، فإذن ليست لديكم حاكمية إلهية ولا حاكمية استخلاف.

هذه هي الإشكالية، فالعلمانية بمعنى تحجيم سلطة الحكم، وتحجيم سلطة الحكم في العلاقة مع الناس مبدأ إسلامي تقوم عليه آية "أولي الأمر منكم"، ويقوم عليه مبدأ الحاكمية للكتاب. ولكن حين طبقوها في النسق الديموقراطي الآلي والليبرالي، ظننا أن الليبرالية هي الإباحية الفردية، والديموقراطية بآلية الحر التي لا تتيح اختيار عمر وأبي بكر بالطريقة القديمة شيء مناقض لتركيبتنا الإسلامية. وهنا مكمن الخطأ؛ أي عدم فهم الإشكاليات من داخل تركيبتنا وتراثنا. ففولتير علماني ولكنه يكره الإلحاد، وهذا معروف منذ كتب عن بعض الفلاسفة الملحدين في كتابه "الفيلسوف الجاهل"، فهو في الدين أصولي متطرف، ولكنه علماني يدافع عن العلمانية حتى الموت، ورفض وصاية الكهنة "الكاثوليك" عليه حين وضع على فراش الاحتضار، وطلبوا منه الاعتراف، فطلب رسالة مكتوبة من الله شخصيًا تتيح لهم سؤاله أن يعترف لهم، رغم أنه في حياته كان يكافح الإلحاد.

إذن العلمانية قيمة إسلامية، هذه ناحية، وليست قضية تعدد فقط، والذين قالوا إن حاج حمد أخذ التعدد حلاً، وألبس العلمانية للإسلام أخطأوا قراءة الواقع، لماذا؟ ربما لديهم ما يبرر توجههم، فحين حصل الصراع بين إخواننا في جنوب السودان، وغالبيتهم ليسوا مسيحيين، فـ 80% من جنوب السودان ديانات إفريقية. أما المسيحية والإسلام فقليل، وأنا أعلم بلاهوتية الحركة الإسلامية في السودان، لأنها حركة غير منهجية، هي حركة تسييس للدين وليست حركة نهوض ديني، وبدؤوا يصرون على علمانية العاصمة، وقد طُرحت هذه الوثيقة العلمانية ضرورةً إسلامية؛ فالأخ جورج قرنق قائد حركة الجنوب، وهو صديق أحترمه ويحترمني، والإخوة في المعارضة جميعًا، قوى التحالف دكتور تيسير محمد أحمد علي، وحركة تحرير السودان فيها الآن البروفيسور شريف حرير في دارفور، أخذوا هذه الوثيقة وترجموها واعتبروها إحدى وثائق المؤتمر. وقد ظهر خبر يقول، إن رؤيةحاج حمد في أن العلمانية ضرورة إسلامية تسكت أفواه الحركة الإسلامية في شمال السودان التي تريد باسم الإسلام أن تختلف مع العلمانية لتجهض أي فكر، فقالوا: حاج حمد يريد تبرير العلاقات التعددية، فوضع هذه الوثيقة إرضاء لأصدقائه جورج قرنق، وشريف حرير، والتنظيمات المعارضة...إلخ، وهذه ليست الحقيقة، الحقيقة أني طالبت بالعلمانية في إيران والسعودية، كيف لفكر وهابي منغلق يعبر عن البداوة، كما يذكر المفكر المرحوم الإصلاحي الكبير محمد الغزالي في مدارسته، وكيف للمستنيرين السعوديين والشباب الإصلاحي السعودي أن يكبت بفكر بدوي أعمى؟ لماذا؟ لأن السلطة متحالفة مع الوهابية.

العلمانية هي التي تفك العلاقة بين السلطة السعودية والكهنوت واللاهوت الوهابي، لتطلق لطاقات الإبداع الإسلامي والفكري في المجتمع السعودي قدراته على تطوير الفكر السعودي، هذا نهج عبد العزيز بالذات، الملك عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية فقد فضّ الحلف مع الوهابية منذ 1924، والناس لا يدركون ذلك، وكان مستشاره الفكري رشيد رضا من مدرسة محمد عبده، وهناك كتابات حول هذا الموضوع في مجلة المنار. ولكن ماذا فعل الملك فيصل بالذات بسبب التخوف من الجمهورية في اليمن وصراعه مع عبد الناصر؟ لقد أعاد الارتباط مع الوهابية فأجهض المجتمع السعودي. الإجهاض الفكري للمجتمع السعودي وبداية الأصولية هي سمة فترة فيصل، وهذا خلاف ونقيض عبد العزيز، وهذا ماورد في كتابي " إبستمولوجية المعرفة الكونية"، وهذه ليست أسرار، بل آرائي المعلنة؛ فالأصولية ظاهرة شاذة في ثقافتنا الإسلامية. من أوجد هذه الأصولية؟ أوجدها بريجنسكي، مستشار الأمن القومي، ليستخدمها ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، واستخدمها الملك فيصل ضد عبد الناصر والجمهورية في اليمن، واستخدمها السادات ليضرب بها التيار الناصري ويمرر كامب ديفيد، هؤلاء جميعًا هم الذين بعثوا الأصولية كظاهرة شاذة، ووُظفت الوهابية ورابطة العالم الإسلامي وندوة الشباب الإسلامي العالمي في هذا الإطار.

فحين طرحت "العلمانية ضرورة إسلامية" من داخل النص القرآني كنت أقصد إيقاف هذا التلاعب في تطورنا الثقافي العربي، منذ أحمد بن حنبل.

ذ. يونس الوكيلي: ألا ترى أن ربط مشروع إسلامية المعرفة بعلمانية الدولة يعتبر أدلجة للمشروع، خاصة أن حاج حمد، كما يقال، يريد أن ينتزع المشروع من المعهد العالمي للفكر الإسلامي؟

ذ. محمد أبو القاسم: إن مصطلح مدرسة إسلامية المعرفة، ليس ملكي وليس ملك معهد فرجينيا في واشنطن، بل طرحه البروفيسور محمد نقيب العطاس في ماليزيا مند عام 1977 وسرقت أفكاره، ولم أكن أعلم إلا متأخرًا جدًا أن أصل الفكرة ترجع لمحمد نقيب العطاس، فجماعة إسلامية المعرفة في واشطن نسبوها إلى أنفسهم وللفاروقي، والفاروقي أخذها من العطاس دون أن يشير إليه.

ذ. يونس الوكيلي: والعطاس يقول هذا أيضًا.

ذ. محمد أبو القاسم: وأنا اكتشفتها مؤخرًا، اكتشفتها عن طريق صديقي الدكتور عمر جاه من غامبيا، حين دُعيت في قطر للحديث ضمن ندوة عن القدس، لأن عندي خمس عشرة حلقة تلفزيونية سجلها شباب منظمة الجهاد الإسلامي الذين أحبهم، وأعد الحي والميت منهم شهيدًا، فدعيت لألقي بوجهة نظري، والتقيت صدفة بصديقي الدكتور عمر جاه، قال لي: هناك كتاب صدر عنك وعن العطاس وإسلامية المعرفة أصدرته مؤسسة العطاس (المركز العالمي للفكر والحضارة الاسلامية - ماليزيا -)، فذهلت عندما قرأته.

ذ. يونس الوكيلي: كتاب مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية.

ذ. محمد أبو القاسم: هذا هو اسمه الذي ضيعته، أما أنت فتحفظ الاسم، وقد أعطاني الكتاب، وفيه مدارسة لكل أفكار العطاس، ذكره الله بالخير في الدنيا والآخرة، فقلت إذن لماذا أخفت عني جماعة واشنطن المؤسس، وأخفت عن فضل الرجل، وأنا أذهب إلى ماليزيا لإلقاء محاضراتي في كلية الوحي. هذه بالفعل كارثة أغضبتني. لذلك، حين كتبت عن إسلامية المعرفة كتبت أن مدرسة إسلامية المعرفة مدرسة انتهازية، اختطفت المشروع لأغراض مالية لتستفيد من تمويل الراجحي، أنا لا أخفي الحقائق مهما كانت جارحة، لأن هذه مسائل تهم المسلمين، وليست قضية عدم مرونة.

فلذلك حين كتبت موضوع إسلامية المعرفة ونشر على نطاق واسع، قلت: إسلامية المعرفة تعني بالنسبة لي خط العطاس منذ 1977، وما طرحت بفضل الله من منهجية القرآن المعرفية، وما يخرج على ذلك فهو مدرسة وسطية تلفيقية، والإسلام ليس وسطيًا تلفيقيًا وانتهازيًا، يجامل من شاء أن يجامل بالوسطية والتلفيقية. من هنا تم الافتراق عمليًا ونظريًا بيني وبين المجموعة التي تسمي نفسها إسلامية المعرفة، ويجب أن تعاد إسلامية المعرفة حين تذكر إلى مرجعية العطاس، وليس إلى مرجعية فرجينيا واشنطن.

ذ. يونس الوكيلي: الإسلام مرتبط بعالم الأمر الإلهي، ومن ثم فالحاكمية للبشر وفق فهمهم للكتاب، كما ذكرت، وتخلص إلى أن الشكل الدستوري للحكم وآلياته السياسية، ينبغي أن يفهم في إطار هذه المنظومة المتكاملة، وتذهب إلى أن التجربة الأوربية جاءت بالشكل الدستوري والسياسي الذي يتسق أدائيًا مع طبيعة النظام الإسلامي، لكن تم إقرار الحرية في المضمون الفلسفي، الحرية التي تقفز فوق شرعية الزواج والعائلة، وبوتقوا الإنسان في دهرية ضيقة بمعزل عن الرؤية الكونية للإنسان، وأسسوا الديمقراطية على تقنين الصراعات لا على إلغائها بمنطق الإسلام، ثم تدعو إلى الأخذ بآليات شكل الحكم الديموقراطي الليبرالي العلماني المدني وتفعيل هذه الآليات إسلاميًا. (إبستيمولوجيا المعرفة الكونية)

ذ. محمد أبو القاسم: (يقاطع) الديمقراطي ولم أقل الليبرالي إلا تقييدًا بالعائلة، هذا هو الخلاف بيني وبين الغربيين.

ذ. يونس الوكيلي: أود أن تحدثنا عن معالم هذا التفعيل.

ذ. محمد أبو القاسم: أنت شرحته بنفسك الآن.

ذ. يونس الوكيلي: ولكن تتكلم عن ديمقراطية المجلسين... إلخ.

ذ. محمد أبو القاسم: نعم، ديموقراطية المجلسين ليست أصلاً في الآلية الديموقراطية، إذ إنها ديمقراطية موجهة إلى شيء محدد هو "أولي الأمر منكم" بالانتخاب الحر"منكم"، وهنا تنتهي الديمقراطية بالنسبة لي كآلية. ولكن حين تجد مجتمعًا يجب أن تدرس جدل الواقع لتضع الصيغة الدستورية التي تؤمن ما أشار إليه الله في الشورى: "وأولي الأمر منكم" فقد تم ربطها بقاعدة خطيرة جدًا لم ينتبه الناس إليها في التطبيقات الإسلامية { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه}، أي البرامج الحزبية، {وهو ألد الخصام}، و{وإذا تولى} حتى يسيطر بموجب البرنامج المثالي على الأغلبية والسلطة، {سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}. فهؤلاء؛ أي أصحاب البرامج الحزبية، ينقلبون على برامجهم من اليوم الثاني للسلطة بعد أداء القسم الدستوري.

وضع الله القاعدة سبحانه وتعالى،{يا أيها الذين ءامنوا أدخلوا في السلم كافة}، فالسلم الاجتماعي من موجبات السلم الاقتصادي. وليس ثمة سلم اجتماعي يقوم على تفاوت طبقي ومجتمع فقر وأغنياء. كلمة السلم كلمة خطيرة في الاستخدام القرآني {يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان} وخطوات الشيطان هي الفساد والحروب والإضرابات، فهي تؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل. إن الله تعالى يؤسس الشورى "وأولي الأمر منكم" على قاعدة السلم الاجتماعي، وأنا أميل إلى تطبيق الآلية الديمقراطية بالمنطق العلماني ضمن النص القرآني؛ ففي عهد الخلفاء الراشدين أوافق فورًا على اختيار أبي بكر مع أن آلية الانتخاب هي اتفاق الأنصار والمهاجرين وليس كل القبائل المسلمة، فتم تفضيل المهاجرين والأنصار الذين وقفوا معهم، ومع الرسول لحظة العسرة، فكانت المرجعية عدل وأخلاق ومنطق ودين. ولم يطلب حضور كل القبائل العربية لتجلس وتصوت؛ فكان الخلفاء بمثابة أنبياء في المرتبة، لأنهم يرتبطون بخاتم الرسل والنبيين، هذا قياس يجهله الفقهاء في التعامل مع موروث أولئك العظماء رضوان الله عليهم. أما الآن، فتجد مجتمعات مدنية تقوم على أطر متقدمة، وتجد مجتمعًا ريفيًا تقليديًا لا زال وراء الإبل والبقر والغنم في الأرياف، مرجعيته عند شيخ العشيرة أو شيخ الطريقة الصوفية أو الطائفة. في الحقيقة هؤلاء حين يختارون وينتخبون، ينتخبون بتوجيهات هذه المرجعيات إما شيخ العشيرة، أو شيخ الطريقة الصوفية، أو شيخ الطائفة أو شيخ الموارنة في لبنان، أو البطرك، أو قداسته وأنا أحبهم جميعًا. أجد مجتمع تختلف مرجعياته في الاختيار عن مرجعيات الخلافة الراشدة، مجتمع منقسم بين حداثة تشكل 10% إلى 17%، فقوات مسلحة وشرطة وجامعات وأساتذة، يأتون إلى الانتخابات برؤاهم الذاتية وفكرهم وحرياتهم، ومجتمع يشكل 83 أو80% مرجعياتها ريفية تقليدية، وهؤلاء، أقصد المرجعيات، فعلاً الذين ينتخبون في الأرياف وليس المواطن، فيختارون ابن شيخ العشيرة أو أحد المقربين لزعيم الطريقة الصوفية، فتجد أن 80% من النواب الذين يأتونك إلى العاصمة من الريف يختارهم ثلاثة أشخاص في الواقع، والذين انتخبوا في دوائر المدينة اختارهم كل شعب المدينة، فما الذي يحدث؟ هذا صراع بين قوى الحداثة والقوى التقليدية، وحينما تتضايق قوى الحداثة من التقليديين (الجهلة) تلجأإلى الانقلابات لتسيطر، بحجة أن هؤلاء المتخلفين يقودون المجتمع نحو التردي، والقوى التقليدية تتمسك بالشرعية فترجع بالقوة بوسائل أخرى، ونعيش الاضطراب، لذا وضمانًا للديمقراطية يجب الرجوع لقاعدة السلم القرآني بين الفرقين "يا أيها الذين ءامنوا أدخلوا في السلم كافة"، كيف نضع جانبًا الصراعَ بين القوى الاجتماعية الحديثة التي تأثرنا بها منذ القرن التاسع عشر، كما قال أخي محمد أمزيان، وبين قوى التقليد، للتخلص من الصراع حول السلطة وتفادي للاضطرابات والمظاهرات والانقلابات، والبلاغ رقم واحد، وإنقاذ البلد، ثم يعودون ويهلكون الحرث والنسل.

إن تطبيق قاعدة السلم تفرض وجود مجلسين: مجلس تدخل فيه قوى الحداثة، ومجلس يكون لقوى المجتمع ككل، وهذا لا يكون بقاعدة الصوت الواحد للناخب الواحد. أنا أعلم أن المجلس البرلماني الذي يأتي بقاعدة الصوت الواحد للمواطن هو مجلس الثلاثة أشخاص: شيخ العشيرة، وشيخ الطريقة الصوفية، وشيخ القرية. وأعلم أن هؤلاء أشخاص بـ remote controle يتحكمون عن بعد من وراء الستار بالمجلس الوطني المنتخب ديمقراطيًا، فيعطون صلاحيات كاملة؛ حقوق المواطنة؛ والتشريع...إلخ، والمواطن هو من يصوت ويفترض أن يكون له حق التشريع، وكل مواطن حداثي أو غير حداثي يتساوى بمواطنيته في صندوق الاقتراع، فيأتون بهذا المجلس التشريعي الذي له كامل الصلاحيات الدستورية، ولكن أريد أن أضع رقيبًا على تخلفه ضمن المسائل الديمقراطية؛ لأسقط منطق الانقلابات والوصاية على المجتمع من قبل المثقفين الحداثيين والعسكريين، فقلت: يكون أولئك في المجلس الموازي الذي تكمن قوته الدستورية في النقض وليس في التشريع، حتى إذا ما اتخذ أولئك تشريعًا يبيح تقسيم الأرض بينهم وبين عوائلهم على حساب الشعب، من الذي يدافع؟ مجلس النقض، أم المجلس الفئوي، أم مجلس قوى الحداثة الذي لم يمنح حق التشريع، بل منح حق نقض القرارات التي يرى أنها مكرسة للتخلف، تلك هي المعادلة. المطلوب هو الانطلاق من القاعدة القرآنية وليس من القاعدة الغربية، مع أن الغربيين وصلوا عبر تجريبيتهم، وأنا أرى أن فكر الإنسان خارج الوحي هو نبوة عقل، وأقر بنبوة العقل تبعًا للنصوص من مثل: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب"، و"أولي الألباب" هم الذين يذكرون الله ويستخرجون مفهوم الوجود من الكون، فنبوة إبراهيم ليست نبوة وحي، بل نبوة عقل، ونبوة العقل موجودة في التجربة الغربية لدرجة تصل فيها إلى تحقيق مفهوم السلم. وليس مجلس اللوردات والعموم، ومجلس الشيوخ والنواب (الكونجرس في أمريكا)، إلا تكريسًا للقوتين في إطار متوازن. والمثال الأخير ليس في واقع صناعي متقدم، بل في واقع ما قبل صناعي؛ أي واقع متخلف، فاللوردات هم الذين يمثلون شيوخ القبائل، وهم الذين يحكمون. فميزت بين مجلس النقض الفئوي، والمجلس الدستوري، وطرحت مفهوم الديمقراطية المتوازية، من خلال نص قرآني، فمرجعيتي هي قرآني؛ أي نبوة الوحي. أما هم؛ أي الغرب، فقد قدموا طرحهم من خلال نبوة العقل.

ذ. يونس الوكيلي: سؤال كلاسيكي ومعروف، من يصنع القرار في المجتمع العربي المفكر أم السياسي؟

ذ. محمد أبو القاسم: المفكر لا يصنع القرار نهائيًا، وفي ذلك يقول سعد الدين إبراهيم، وأنا أحبه وأحب كتاباته: كمثقف أريد مع السلطة جسرًا ذهبيًا، وقد حاول، ولم يفتح له الجسر الذهبي. أراد جسرًا فضيًا وحاول ولم يفتح له الجسر الفضي، فتنازل وطلب جسرًا خشبيًا، فانهار به الجسر حين اعتقلوه. لا تعطي السلطة للمثقف حتى الجسر الخشبي، لذلك لا أطرح قضية المثقف والسلطة، وأعتبرها إجهاض. أما قضيتي الأساسية،فهي: المثقف والمجتمع.

ذ. يونس الوكيلي: هل صحيح "أن العالم حكمه العسكريون ثم السياسيون، ثم الاقتصاديون وفشلوا ولكي يصلح ينبغي أن يحكمه الفلاسفة"؟

ذ. محمد أبو القاسم: جمع الله بين الفلاسفة والأنبياء في سورة واحدة في قوله تعالى: {إن الذين يقتلون النبيين والذينيقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس}، رجال الإصلاح هؤلاء هم الفلاسفة من الناس، وميزهم عن النبيين وأجملها في سورة واحدة، المطلوب هو الحكم الصالح وهو حكم الأنبياء والفلاسفة. والإنسان لا يقبل بمنهج الحق سواء أكان صادرًا عن نبي أم عن فيلسوف؛ فكل الأنبياء حوربوا من قبل شعوبهم؛ نوح ما آمن به إلا قليل، وهود خرج من قومه مع من آمن به، وثمود ذبحوا ناقة الله، وخرج صالح مع قليلين منهم، ولوط ويونس كذلك، ما عدا تجربتين تدخل الله فيهما، إن جاز التعبير، هما: تجربة بني إسرائيل، رغم أنهم قالوا لنبي الله: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"، يبدو أنه قانون بشري يثبته تاريخ الأنبياء. وقد نبه الله تعالى سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، من البداية أنه "لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم". فلذلك أنزل له الملائكة مردفين ومسومين، فانتصر الإسلام بقوة الله وليس بقوة الأميين العرب.

إن الديانة التي نجحت واستمرت كانت بتدخل إلهي استثنائي؛ فقد فضل الله بني إسرائيل على العالمين تفضيلاً إلهيًا وليس عرقيًا، وكانت النتيجة أن ذبحوا معظم الأنبياء؛ فهم "يقتلون" ويحرفون الكلام عن مواضعه.

أما {الذين يأمرون بالقسط من الناس} فأنبياء العقل، وقد تمت محاربتهم كذلك،إذ أعدم سقراط بالسم، وهرب أفلاطون بعد أن دبرت له عدة محاولات اغتيال، كم من المصلحين في أوربا أحرقوا؟ وكم منهم قتلوا؟ فليس من طبيعة البشر الاستجابة للأنبياء والفلاسفة؛ فالذين يقولون أن إنقاذ البشرية هو بحكم حاكمية الأنبياء والفلاسفة صدقوا، ولكنهم يطالبون بالمستحيل. أما أن يحكم العسكريون، إذا كان بالمقياس التاريخي أن أول المجتمعات التي كونت في التاريخ هي مجتمعات المحاربين وطبقات العبيد، فقد تضامن المحاربون مع طبقات النبلاء والإقطاع، وهذا يعني أن القوة تفرض نفسها في السيطرة على الواقع سواءً من قبل العسكريين أم النبلاء أم الإقطاعيين، وتنضم إليهم الكنيسة كما حدث بالفعل، فيتحول الدين ذاته إلى لاهوت، ولا تبقى مفاهيمه إلهية، بل تتحول إلى لاهوت خلال قرن أو قرنين، فتجربة سيدنا المسيح الموحد بالله يتحول في حضارة ضخمة جدًا إلى ابن إله في أقل من مئة عام. حدث ذلك، لأن البشرية تفرض منطقها اللاهوتي على الأديان.

وليس بعيدًا عن ذلك ما يعتري تراث الإسلام من خزعبلات، لم يتم المس بالنص القرآني لأنه محفوظ بالذكر، فحرفوه من خلال ما أسموه بالسنة. وكلمة السنة لم ترد على لسان الرسول، صلى الله عليه وسلم، طوال حياته، وما كان يقوله ويفعله كان من وحي الكتاب: { والذين أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقًا لما بين يديك}؛ أي الفهم الخاص بالكتاب الذي يرقى على فهم الآخرين، فيأتينا بما يسمى فعلاً وقولاً من الكتاب، لماذا؟ لأن الرسول معصوم {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، فلذلك أسموها السنة، وهي كلمة لم ينطق بها الرسول "لتنذر بلسان عربي" ليس فقط بلسان عربي بل مبين، والإبانة الدقة في استخدام المفردة. وحين يقال الثقلين {سنفرغ لكم أيها الثقلان} [قالوا]: أن الثقلين معناه القرآن، ويقول أخرون أن المعنى هو ذرية الرسول، ويقول غيرهم الثقل الثاني هو السنة، وثمة قراءة ترى أن الثقل الثاني هو ذرية فاطمة، والثقلان هما الإنس والجن {يا معشر الإنس والجن}، فـ 90% من التراث الإسلامي لاهوتي كالتزييف الذي حدث في المسيحية.

أما الفلسفات، فقد تعرضت لما يشبه ذلك، فهل طرح ماركس نفي الاستلاب الإنساني؟ يتقدم الفكر الاشتراكي قائلاً: يأتي حزب يسيطر على العمال والفلاحين ويفرض وصايته ويتحول إلى بديل أسوأ من القياصرة. لم يقل ماركس ذلك من 1848 حتى بداية الثورة السوفيتية عام 1917، وإنما تم تحريف الفكر الماركسي في التجربة السوفيتية.

ذ. يونس الوكيلي: سؤال أخير، يلاحظ أن الحركة الإسلامية منذ نشأتها انحازت للسياسي على حساب الفكري ومازالت كذلك. ما رأيك في هذا الطرح؟ وماذا تقول للحركة الإسلامية إن كان هذا صحيحًا؟

ذ. محمد أبو القاسم: أقول لهم اتركوا نهج معاوية وارتبطوا بنهج علي، هذا الانحياز ليس بدعة بالنسبة لهم، هم يتبعون معاوية اتباعًا كاملاً، انحياز للسياسي على حساب العقدي. ويقولون العبارات التي أدانها سيدنا علي كرم الله وجهه: "كلمة حق أريد بها باطل" وصراعاتهمبينهم شديدة، فلا يوجد منطق إجماع داخلهم، ويطالبون الناس بالأخذ بالإجماع، وهم لا يجمعون على شيء، بل سرعان ما ينقسمون. فالحركة الإسلامية في مصرر الآن، يجب أن ترتبط بأخلاق النبوة وبالإجماع {وشاورهم في الأمر}، ولا يطبقون الشورى وكل المبادئ التي يبشرون بها باسم الإسلام، ويتخذونها شرعية، أين شوراهم وقد انقسموا إلى سبعين فرقة أو ثمانين؟ أين الإجماع وهم ينقسمون؟ فتجد الأمير عندهم يظل أميرًا إلى أن يموت، ولا يتم تجديده بمنطق الأجيال ولو فقد البصر. لذلك ليست الحركات المعاصرة، وأنا أسميهم أتباع معاوية هؤلاء، إلا تسييسًا للدين. ولديهم دائما قميص عثمان يرفعونه في وجه الأنظمة ويرفعونه في وجه المعارضين، وعليه ليست هذه ظاهرة جديدة، أو حركة إسلامية، بل فريق معاوية بن أبي سفيان، الذي لازال حيًا يرزق بينهم، ولا زال علي يقتل كل يوم، حتى في إيران وليس عند السنة فحسب.

ذ. يونس الوكيلي: شكرًا جزيلاً.

ذ. محمد أبو القاسم: العفو.