حوار مع الدكتور جوهر محمد داود


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتور جوهر محمد داود

حوار مع الدكتور جوهر محمد داود[1]

"إن هذا الكتاب وإن كان يلتقط بعض خيوطه من نظرية النظم عند الجرجاني ويبني عليها، فإن النظرية التي يقدمها في فهم النظم القرآني تختلف عن تلك التي عند عبد القاهر اختلافًا كليًّا"

عبد السلام شرماط: سعيد بالتواصل معكم دكتور جوهر محمد داود، وأهنئكم على إصداركم الموسوم ب "نظم القرآن: قراءةٌ جديدةٌ فِي تَجَانُسِ إيقاعِهِ وَتَلَاحُمِ بِنَائِهِ"، وهو عنوان يذكر القارئ بنظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، ما حدود الائتلاف والاختلاف بين النظرية الجرجانية ونظريتكم التي تفضلتم بطرحها في كتابكم؟

جوهر محمد داود: وأنا أيضًا سعيد بتواصلكم دكتور عبد السلام شرماط، وأشكركم على هذا الحوار الذي يتيح لي الفرصة للتعريف بكتاب "نظْم القرآن" من خلال أسئلتكم السابرة.

فعلًا حين يقرأ القارئ عنوان الكتاب "نظْم القرآن" يقفز إلى ذهنه الإمام عبد القاهر الجرجاني ونظرية النظم التي ارتبطت باسمه على مدار القرون منذ أن ألّف كتابه الفذَّ "دلائل الإعجاز". والحقيقة أنني لما اخترت هذا العنوان أردت استثارة خيال القارئ وتذكيره بنظرية النظْم عند الجرجاني، وأردت كذلك أن أشير إلى أن الكتاب استمرار لجهود الأقدمين في البحث عن خصائص النظم القرآني.

إن هذا الكتاب وإن كان يلتقط بعض خيوطه من نظرية النظم عند الجرجاني ويبني عليها، فإن النظرية التي يقدمها في فهم النظم القرآني تختلف عن تلك التي عند عبد القاهر اختلافًا كليًّا. فقد كان النظم عند الجرجاني يعني تحديدًا "التركيب"، أو الـ Syntax، أي دخول الكلمات في علاقات تركيبية متنوعة تنوعًا لا يكاد يقع تحت الحصر. وبتنوع هذه العلاقات تتنوع المعاني التي تنتج عنها كالاختلاف الذي ينشأ من التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، والذكر والحذف، والفصل والوصل.

فالنظم بهذا المعنى المحدد عند عبد القاهر يُعني بتقصي هذه التراكيب وتحليلها في مواضعها وفي الجمل التي تقع فيها، وإبراز الجانب البلاغي فيها، وتقرير القاعدة الخاصة بها. ولكنه لا يُعنى بعد ذلك بالنظر إلى الآثار التي تتركه هذه التراكيب على مستوى النص كالسورة على سبيل المثال.

لنأخذ مثالًا واحدًا لتوضيح هذه الفكرة. في كلامه على التقديم والتأخير، يتناول الجرجاني هذه العبارة القرآنية بالتحليل: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ [الأنعام: 14].يقول: "واعلم أنَّ ... تقديم اسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة والمنع من أن يكون بمثابة أن يوقَع به مثل ذلك الفعل، فإذا قلت: "أزيدًا تَضْرِب؟"، كنت قد أنكرت أن يكون "زيد" بمثابة أن يُضْرَب، أو بموضِعِ أن يُجْتَرَأَ عليه ويُسْتَجازَ ذلك فيه، ومن أجل ذلك قُدِّم "غير" في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ ... وكان له من الحسن والمزيَّة والفخامة، ما تَعْلم أنه لا يكون لو أُخِّرَ فقيل: "قُلْ أأَتَّخِذُ َغَيْرَ اللَّهِ وَلِيًّا" ... وذلك لأنه قد حصل بالتقديم معنى قولك: "أيكونُ غيرُ اللهِ بمثابةِ أن يُتَّخَذَ وليًّا؟ وأيَرْضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك؟ وأَيَكونُ جهلٌ أجهلَ وعمًى أعمى من ذلك؟" ولا يكون شيء من ذلك إذا قيل: "أأَتَّخِذُ َغَيْرَ اللَّهِ وَلِيًّا"، ولأنه حينئذ يتناول الفعلَ أن يكون فقط، ولا يزيد على ذلك فاعرفه.[2]

على هذا النحو يحلل الجرجاني معاني التراكيب، ومعنى التقديم والتأخير، في الحالة التي بين أيدينا، وما يعنيه هذا التركيب وما لا يعنيه، ثم يقرر القاعدة العامة التي تنطبق على مثل هذا التركيب حيثما وقع في الكلام. وهذا تحليل نفيس يكشف عن قيمة بلاغية عظيمة لعل عبد القاهر أول من اهتدى إليها وأعطاها هذه الصيغة الناصعة الحاسمة.

غير أن هذه القيمة البلاغية ليست خاصة بالقرآن، بدليل أن الجرجاني يقدم بين يدي تحليله للآية التي فيها التقديم والتأخير، عبارة نثرية من صياغته، وهي "أزيدًا تَضْرِب؟" ويشرح مدلول تقديم المفعول فيها حتى يقرِّب المعنى الذي يريد إلى تصوُّر القارئ، ثم يشرع في شرح مدلول تقديم "غير" في العبارة القرآنية ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾. فالسؤال هنا: إذا كانت العبارة البشرية التي صاغها عبد القاهر بنفسه تكافئ في مدلولها العبارة القرآنية، فأين الإعجاز؟ ومن الواضح أن هذا التركيب يعني ما يعني بوضعه اللغوي، لا لأن القرآن استعمله، وإن كان استعمال القرآن له للتعبير عن غرضه في هذا السياق بهذه الدقة مما يُحسب بلا ريبٍ في النمط العالي من الكلام.

ومن ثم لم يكن بد من البحث عن مصدر آخر للإعجاز في القرآن لا يكون في طوق البشر إنتاجُ مِثْلِه. إن نظرية تلاحم البناء اللغوي في كتاب "نظْم القرآن" تتناول ذات العبارة القرآنية ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ بالتحليل ولكن للتوصل إلى نتيجةٍ مختلفةٍ عن التي توصل إليها الجرجاني. نتيجةٍ تكشف عن طريقة القرآن في تحقيق التلاحم بين أجزاء السورة المختلفة.

إذا نظرنا إلى الكلمات الثلاث الأولى من هذه العبارة وهي ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ ﴾، وجدناها تتألف من ثلاث كلمات كثيرة الشيوع في القرآن. فكلمة "قل" تتكرر في القرآن ثلاثمائةٍ واثنتين وثلاثين مرة، وكلمة "غير" مائةً وسبعًا وأربعين مرة، ولفظ الجلالة "الله" ألفين وستَّمائةٍ وتسعًا وتسعين مرة. فمن هذه الكلمات الكثيرة الشيوع، يصوغ النظم القرآني هذه العبارة، ثم يكررها مرتين في نفس السورة:

مرة في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 14]. وأخرى في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [الأنعام: 164].

إن هاتين الآيتين تقعان على طرفي سورة الأنعام، الاُولى في أوائلها والثانية قبل النهاية بآية واحدة، وتتكرر فيهما عبارة ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ﴾ التي لا نظير لها في القرآن، أي أنها لا تتكرر في أي سورة أخرى في القرآن، وأنها مما تنفرد به سورة الأنعام. وإن القصد من تكرارها في هاتين الآيتين هو الربط بين جزأين من أجزاء السورة متباعدين بآصرة لغوية فريدة للدلالة على التحام أجزاء السورة. وعلى مثل هذا التفرد يقوم بناء السورة في القرآن. ومثل هذا التفرد كثير جدًّا في القرآن، وعلى استقصاء مثل هذا التفرد يقوم كتاب "نظْم القرآن".

إنه ليس في طوق العقل البشري، مهما بلغ من القوة والذكاء، ومهما استعان بأشد الأجهزة تعقيدًا حتى في عصرنا الحاضر، أن يصوغ عبارة متفردة من كلمات كثيرة الشيوع كهذه الكلمات في موقعين متباعدين في سورة طويلة كسورة الأنعام، ثم لا يكرر مثلها في أي مكان في القرآن الكريم. هذا هو مدار الإعجاز في كتاب "نظْم القرآن". وهذا هو الفرق بين نظرية النظْم عند الجرجاني وبين نظرية النظْم في هذا الكتاب.

فالجرجاني يركز على إبراز معاني التراكيب، وكتاب "نظْم القرآن" يركز على التراكيب التي تنفرد بها كل سورة عن سائر السور في القرآن، ويسعى إلى الكشف عن الشخصية اللغوية المستقلة التي تنفرد بها كل سورة من خلال ما يشيع فيها من الكلمات والتراكيب، وإلى الكشف - بعد ذلك - عن المعاني المشتركة التي تؤديها في المواقع التي تتكرر فيها.

بعبارة أخرى، إن "كتاب نظْم القرآن" يرصد التراكيب اللغوية المتفردة التي تتكرر في مواقع متباعدة في السورة الواحدة، وما تحققه من التلاحم اللغوي، ثم ينظر إلى المدلولات الجامعة بينها وما تحققه من التلاقي الغرضي بين أجزاء السورة المختلفة. ولا يكتفي - كما يفعل عبد القاهر - برصد المعنى البلاغي وحده دون النظر إلى تأثيره في سياق النص الكبير.

***

عبد السلام شرماط: أشرتم في مقدمة إصداركم أنَّ السورة القرآنية لا تتناول موضوعًا واحدًا، وإنما تتناول موضوعات متعددة، لكن علم المناسبة لم يستطع العثور على خيطٍ فريدٍ يجمع بين هذه الموضوعات المتعددة من خلال المعاني المشتركة بينها، وذكرتم أن هذا الكتاب يقدم ذلك الخيط الفريد، كيف ذلك؟

جوهر محمد داود: لقد حاول ما يُعرف قديمًا بعلم المناسبة، وحديثًا بالوحدة الموضوعية، أن يعثر على خيط فريد يجمع بين الموضوعات المتعددة التي تتناولها السورة الواحدة. وقد كانت وسيلته إلى ذلك البحث عن المعاني المشتركة بين تلك الموضوعات، كالصبر والتقوى والإيمان والعقيدة والتشريع وغير ذلك من الأغراض العامة التي يتناولها القرآن. إلا أنه لم يستطع أن يعثر على ذلك الخيط الفريد لأن المعاني والأغراض تتعدد بتعدد الباحثين.

إن المعاني التي يراها مفسر في سورة الكهف مثلًا تختلف عن تلك التي يراها مفسر آخر. فمن المفسرين من يرى أنها تتحدث عن الفتن من أولها إلى آخرها: فتنة الشباب، وفتنة السلطان، وفتنة المال، وفتنة إبليس اللعين، وفتنة العلم، وفتنة الْمُلك، وفتنة يأجوج ومأجوج.[3] وليس في السورة ذكر لكلمة الفتنة أصلًا. ومنهم من يرى أن المحور الذي تدور عليه موضوعاتها هو "تصحيح العقيدة، وتصحيح منهج النظر والفكر، وتصحيح القيم بميزان هذه العقيدة".[4]

وإزاء هذا الاختلاف، لم يكن بد من البحث عن منهج جديد يكشف عن الأسس التي يقوم عليها بناء السورة. وهذا المنهج هو البحث عن العناصر اللغوية المشتركة بين موضوعات سورة الكهف المختلفة. ولكن الاشتراك وحده لا يكفي، وإنما ينبغي أن يقترن هذا الاشتراك بالتفرد. فإذا استطعنا أن نثبت وجود عناصر لغوية مشتركة بين أجزاء السورة الواحدة لا توجد في غيرها من السور، جزمنا بأن هذا الاشتراك وراءه قصد وإرادة وتصميم، واستطعنا أن نقدم للقارئ دليلًا ماديًّا ملموسًا لا يختلف فيه اثنان على أن السورة متماسكة بما يظهر فيها من خصائص لغوية لا توجد في غيرها، وبما يظهر فيها من تلاق في الأغراض التي تتناولها تلك الخصائص اللغوية التي تتكرر فيها.

نكتفي بضرب مثال واحد على ذلك مما جاء في كتاب "نظْم القرآن". "قال تعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف: 66]. وقال تعالى: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ [الكهف: 94].

إن النظرة الأولى إلى هاتين الآيتين لا توحي بوجود أي علاقة بينهما في اللفظ أو في المدلول، وخاصة إذا قرأهما الإنسان في موقعيهما المتباعدين وقصتيهما المختلفتين في المصحف. ولذلك لا تجد في كتب التفسير أي إشارة للربط بينهما، حتى في تلك التفاسير التي تهتم بذكر مناسبة الآيات. فالآية الأولى [الكهف: 66] تَعْرِضُ أول حوارٍ دار بين موسى – عليه السلام – والعبد الصالح، يقول فيه موسى للعبد الصالح: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ؟﴾. وهذه عبارة تلفت النظر بقوة. هذا موسى، وهو النبي الكريم الذي كلمه الله تكليمًا، يطلب ويستأذن أن يكون تابعًا لعبد من عباد الله. ويحدد الغاية من هذا الاتباع: ﴿عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾. وتعبير ﴿عَلَىٰ أَن﴾ يفيد الشرط، ويحدد الهدف، وهو العقد الذي بينه وبين العبد الصالح الذي يدرك خطورة هذا السؤال ويشترط هو الآخر لهذا الاتباع شرطًا من جانبه، كما نعلم من القصة.[5]

والآية الثانية تعرض كذلك أوَّلَ حوارٍ دار بين ذي القرنين وبين القوم الذين لا يكادون يفقهون قولًا لما بلغ بين السَّدَّين، والذين شكوا إليه يأجوج ومأجوج وإفسادهما في الأرض، فقالوا له: ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا؟﴾. وتعبير ﴿عَلَىٰ أَن﴾ يفيد الشرط هنا أيضًا. إنهم يَعِدُون ذا القرنين أن يعطوه خرجًا، أي أجرًا، على أن يَبْنِيَ لهم سدًّا يحجز عنهم خطر يأجوج ومأجوج. وهذا شرطهم. وفي مقابل شرطهم هذا، يقدم ذو القرنين شرطًا آخر من جانبه، وهو أنه لا يريد مالهم، ولكن يشترط عليهم أن يُعِينوه بقوة، [6] بسواعدَ قويةٍ، وأيدٍ ماهرةٍ تحسن البناء والعمل، [7] ويُمِدُّوه بموارد مادية تُستعمل في إقامة السد.[8]

من هذا التحليل السريع لمضمون الآيتين تبرز لنا جملة من السمات النصية: أولًا، أن الحوار هو العنصر البارز في هاتين الآيتين، وأنه أول حوار يقع بين الطرفين في الحادثتين. ثانيًا، يبدأ الحوار بالاستفهام، وأداة الاستفهام المستعملة في الآيتين هي "هَلْ". ثالثًا، يتضمن الحوار الشرط، وأداة الشرط المستعملة هي عبارة "عَلَى أنْ". رابعًا، وهذا ليس موجودًا في الآيتين، وإنما يأتي في الآيات التي تلي كُلًّا منهما، أن الشرط من السائل يقابله شرط آخر من المسئول. خامسًا، يريد السائل في الحالتين منفعة معينة من المسئول تتحقق من خلال قدرة خاصة يهبها الله للمسئول: فموسى يسأل العبد الصالح أن ينفعه بما آتاه الله من العلم. والقوم الذين وجدهم ذو القرنين يسألونه أن ينفعهم ببناء السد بما مكن الله له في الأرض.

إن هذه السمات الخمس البارزة وحدها كافية للربط بين هاتين الآيتين برباط محكمٍ وثيق. ولكن إذا أضيفت إليها حقيقة لغوية أخرى متفردة، اتخذ هذا الرباط صورة مادية ملموسة لا تقبل الإنكار ولا المراء. وهذه الحقيقة اللغوية هي أنّ عبارة ﴿عَلَىٰ أَن﴾ لا تقع مقترنة بأداة الاستفهام ﴿هَلْ﴾ في آية واحدة في القرآن كله إلا في هاتين الآيتين من سورة الكهف. وفوق ذلك، فإنّ عبارة ﴿عَلَىٰ أَن﴾ التي تفيد الشرط نادرة في القرآن، ولا تقع فيه إلا ثلاث مرات: مرتين في سورة الكهف، ومرةً ثالثةً في سورة القصص، وهي قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ [القصص: 27]. والعجيب في هذه الآية أنها هي الأخرى تقع في قصة موسى في سياق حوار بينه وبين الرجل الصالح الذي أراد أن يزوِّجه ابنته واشترط عليه أن يكون أجيرًا لديه....

وأخيرًا، ثمة عنصر لغوي آخر يربط بين هاتين الآيتين، وهو فاصلتهما: ﴿رُشْدًا﴾ [الكهف: 66]، و﴿سَدًّا﴾ [الكهف: 94]. فكلتاهما ثلاثية تنتهي بالدال، وتتكوَّن من سببين خفيفين. ويزيد الفاصلتين تلاحمًا قراءةُ ﴿سُدًّا﴾، بضم السين، وهي قراءة نافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر، لِمَا في ذلك من توحيد حركة الضمة فيهما.[9] بمثل هذا التلاحم المدهش العجيب الذي لا يقع مثله إلا في القرآن، تتلاحم الآيتان، وتتشابك القصتان."[10]

هذا مثال من أمثلة الخيط الفريد الذي يجري في السورة، وقد جاء في كتاب "نظْم القرآن" عشرون مثالًا من هذا النوع في الفصل الخامس الذي يتناول سورة الكهف للبرهنة على تلاحم قطاعات السورة المختلفة في بنائها اللغوي واتجاهها المعنوي من مقدمتها إلى القِصص الأربع الرئيسية وما تخللها من المواعظ ومشاهد القيامة والخاتمة.

***

عبد السلام شرماط: من القضايا التي شغلت بال عبد القاهر الجرجاني قضية الإعجاز القرآني، ورأى أن هذا الإعجاز كامن في النص ذاته، بل هو كامن في كل آية من آياته سواء كانت طويلة أو قصيرة، وفهم النص القرآني لا يتأتى إلا لمن عرف الشعر بوصفه دلالة وشاهدا على إعجاز القرآن. كيف يرى الدكتور جوهر رأي الجرجاني؟

جوهر محمد داود: سبق أن ذكرنا أن الجرجاني كان مشغولًا بتقرير المعاني التي تنفرد بها التراكيب المختلفة للتوصل من ذلك إلى أن القرآن الكريم يأتي بالنمط العالي منها حتى يبلغ حد الإعجاز. إلا أنه في أثناء تقريره لتلك المعاني يأتي بشواهد نثرية أو شعرية للتمهيد لما يريد تقريره. والشواهد الشعرية بوجه خاص تُمِدُّه بمادةٍ غزيرةٍ مما يريد تقريره. ومن ثم رأى ضرورة الاستعانة بالشعر واشترط أن الإعجاز لا يمكن فهمه إلا من خلال الشعر.

لا شك أن الشعر العربي مهم لتذوق البيان العربي والوقوف على طرائقه في التعبير وأساليبه في الإبانة، فلا يستغني عنه إنسان يهتم بفهم أسرار اللساني العربي الذي نزل به القرآن. إلا القول إن الشعر دليل وشاهد على إعجاز القرآن يتناقض مع مفهوم الإعجاز نفسه. وكثيرًا ما يأتي الجرجاني بالشاهد الشعري إلى جانب الشاهد القرآني لأداء المعنى نفسه، أو يقتصر على الشاهد الشعري وحده. فإذا كان النص البشري يؤدي نفس المعنى البلاغي الذي يؤديه النص الرباني، فأين الإعجاز؟

إن كتاب "نظْم القرآن" كله قائم على أساس أن القرآن يحمل دليل إعجازه في نفسه، وفي نصه الذي بين دفَّتي المصحف، ولا يحتاج إلى أي نصٍّ خارجي لإثبات ربانيته أو الدلالة على مواطن الإعجاز فيه. إنه لو مُحِي الشعر العربي كله من الوجود محوًا، لما ضر ذلك إعجاز القرآن في شيء. إن كتاب "نظْم القرآن" على ضخامته لم يستشهد بنصٍّ واحدٍ من خارج القرآن لإثبات أن القرآن لا يمكن أن يكون من إنتاج العقل البشري.

إن تحقيق هذا الاستقلال للقرآن الكريم عمل غير مسبوق في تاريخ الإعجاز. ولقد مضت القرون تلو القرون والعلماء يحاولون التماس الدليل على الإعجاز البلاغي أو البياني في القرآن في الشعر بصفة عامة، وفي الشعر الجاهلي بصفة خاصة. وآخر معركة دارت بين الباحثين والدارسين حول هذا الموضوع كانت القضية التي أثارها طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي" وتصدى للرد عليه كثيرون، ومنهم المحقق المعروف محمود محمد شاكر.

كلا الطرفين -في نظري- كان يخوض معركة وهمية لا قيمة لها ولا علاقة لها بالقرآن؛ لأن القرآن يختلف عن الشعر اختلافًا كاملًا في نظمه وفي الأغراض التي يتناولها. وقد تبين لنا من النتائج التي توصل إليها كتاب "نظْم القرآن" أنَّ إعجاز القرآن لا يتوقف على وجود الشعر، وأن القرآن يحمل دليل إعجازه في نفسه.

***

عبد السلام شرماط: في نفس الإطار تعامل الجرجاني مع النص القرآني انطلاقا من اللغة، واعتبره كلاما ينتمي إلى اللغة، وهو كلام له معان وخصائص يتميز بها، بينما تفردتم في كتابكم بالبحث في الإيقاع المنبثق عن عناصر اللغة، والذي ينفرد به القرآن عن الشعر والنثر؛ السؤال هو ما الذي يميز كلاما عن كلام؟ هل الإيقاع وحده كاف لهذا التمييز أن إن ثمة تفاعلا يسهم في تداخل ما هو لغوي بما هو إيقاعي؟

جوهر محمد داود: إن أهم سمة يفترق بها كتاب "نظْم القرآن" عن نظرية النظْم عند الجرجاني أن عبد القاهر لا يلتفت إلى أهمية الإيقاع في الكلام بل يكاد ينكره. يقول في نص من النصوص المشهورة في كتابه "دلائل الإعجاز" بعد أن شرح العظمة البلاغية والفخامة البيانية اللتين يجدهما القارئ في قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 44]. يقول:

"أفَتَرَى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتُحْضِرك عند تصورها هيبةً تحيط بالنفس من أقطارها تعلُّقًا باللفظ من حيث هو صوتٌ مسموعٌ وحروفٌ تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟

فقد اتضح إذن بما لا يدع للشك مجالًا، أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كَلِمٌ مفردةٌ، وأن الفضيلة وخلافَها، في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك، مما لا تعلُّق له بصريح اللفظ [التأكيد من عندي]."[11]

بهذا التقرير الحاسم، ينكر الجرجاني دور الإيقاع في الروعة التي يجدها القارئ في نفسه وهو يقرأ هذه الآية الكريمة. ولئن خفيت كل درجات الإيقاع في هذه الآية، فلا يمكن أن يخفى ما للتجانس من إيقاعٍ يملأ النفس روعةً في قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، هذا الإيقاع الذي تطرب له الأذن وتهتز له له النفس في الجناس شبه التام في قوله: ﴿ابْلَعِي﴾، وقوله: ﴿أَقْلِعِي﴾، ثم في قوله: ﴿مَاءَكِ﴾، وقوله: ﴿وَيَا سَمَاءُ﴾. فإذا تأملنا الآية كلها وجدنا أن الياء الممدودة التي في مثل ﴿ابْلَعِي﴾ و﴿أَقْلِعِي﴾ تتكرر فيها ست مرات كما في قوله: ﴿وَقِيلَ﴾، وقوله: ﴿وَغِيضَ ﴾ لتتعاون في إبراز هذا الإيقاع. كما تتكرر فيها الألف الممدودة التي في مثل ﴿مَاءَكِ﴾ و﴿وَيَا سَمَاءُ﴾ ست مرات أيضًا بنفس المقدر حتى يتم التناسق بينهما والتوازن.

هذا كله لم يلفت نظر الجرجاني؛ لأنه لا يدخل في حيِّز المعاني التي جرد نفسه لتحريرها وتقريرها صارفًا نظره عن الأوعية التي تحمل هذه المعاني. غير أن هذه الأوعية في النظم القرآني لا تقل أهمية عن المعاني التي تحملها، بل هي توازيها في الأهمية، ولا تنفك عنها أبدًا. ذلك لأن القرآن يُعنَى برسالته كما يُعنى بالوعاء الذي تؤدَّى به تلك الرسالة، ولأنَّ جمال إيقاعه يوازي جلال معناه. والدليل على ذلك أننا لو قلنا: "وَقِيلَ يَا أَرْضُ ازْدردِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ كُفِّي"، بدلًا من قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، لفسد النظم كله، ولتوارى ذلك الإيقاع الجميل وذلك المعنى الجليل.

وليس ما فعله الجرجاني سيئًا بالضرورة؛ لأنه أتاح له التركيز على جانبٍ فأبدع فيه وأتى بشيء لم يُسبق إليه، غير أن الأثر السلبي لفعله هذا تجلَّى في أن الذين جاءوا من بعده أهملوا الجانب الإيقاعي في القرآن فلم يمعنوا في البحث عنه إلا في أضيق الحدود. يقول الزمخشري -متأثرًا بعبد القاهر- عند تفسيره للآية التي مرت بنا:

"ولِمَا ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية، ورقصوا لها رؤوسهم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله: ﴿ابْلَعِي﴾ و﴿أَقْلِعِي﴾ وذلك وإن كان لا يُخْلي الكلام من حُسن فهو كغير الملتفَتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور [التأكيد من عندي]."[12]

لمثل هذا التجاهل الذي يصرح به الزمخشري تصريحًا فيه إزراء واضح بمكانة الجمال الصوتي في القرآن، عقدتُّ فصلًا كاملًا للإيقاع في كتاب "نظْم القرآن" أتتبع فيه مصادره المختلفة وأُظْهِر الأنساق التي يظهر بها فيما يتكرر من الحروف والتنوين والضمائر والكلمات.

وللتوضيح أنقل بعض ما جاء في الكتاب مما يدل على تفاعل الإيقاع والمعنى من خلال تكرار بعض الحروف والضمائر.

حرف الجيم:

"حرف الجيم من الحروف القليلة الشيوع، وهو أقل شيوعًا من حرف القاف الذي مرَّ بنا، إذْ يمثل حضوره 1% فقط من جملة الحروف المستعملة في القرآن. ومن أجل ذلك، فإنّ تأثيره في الأذن أقوى من القاف ومن حروف أخرى أكثر شيوعًا منه، فوق أنه صوت بطبعه فيه قوة. يقول الله تعالى: ﴿تَتَجَافَىٰ جنُوبُهُمْ عنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [السجدة: 16]. يتردد حرف الجيم ثلاث مرات، ورنينه عالٍ لأنه مركَّزٌ في مكانٍ واحدٍ من الكلمات الأولى للآية. وتعبير ﴿تَتَجَافَىٰ جنُوبُهُمْ عنِ الْمَضَاجِعِ﴾ تعبير مجازي عجيب. فالمعنى المباشر هو أنهم لا ينامون الليل. ولكنه يُخْرِج هذا المعنى في صورة حيةٍ توحي بالجفوة والقطيعة بين الجُنوب والمضاجع. ويختار لهذه الصورة الفعلَ ﴿تَتَجَافَى﴾، ولا يختار الفعلَ (تتباعد) –مَثَلًا– لأنه لا يحمل معنى الجفوة المراد تصويره. وكذلك يختار ﴿الْمَضَاجِعِ﴾، وليس (الفُرُش) لأن المضاجع هي اللصيقة في وظيفتها بالجُنوب. هذا كله فوق ما في الكلمات الثلاث المشتملة على الجيم من تناسقٍ إيقاعيٍّ جميل."[13]

حرف الصاد: نادر الوقوع في القرآن، ويمثل حضوره فيه 0.63% فقط.

"وقد تتفرق أصداء حرف الصاد في آيات متجاورة، لا لتحقيق تجانس إيقاعي فحسب، ولكن لتحقيق غرض معنويٍّ معيَّن، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: 47-48]. في هذه الآيات الثلاث يفسر يوسف عليه السلام من سجنه رؤيا الملك، وفيها يرسم الملامح الكبرى لخطته لإنقاذ مصر من المجاعة، وإدارة مواردها الزراعية في سنوات الرخاء وسنوات الجدب.

تتكرر في هذه الآيات عبارات بنصها، كما يتكرر فيها عدد من الحروف. ولنا في هذا التكرار حديث. ولكن مما يلفت النظر أنَّ حرف الصاد يقع مرة واحدة في كل آية. الأولى في قوله تعالى: ﴿فَمَا حَصَدتُّمْ﴾، والثانية في قوله تعالى: ﴿مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾، والثالثة في قوله تعالى: ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ في هذه الآيات الثلاث يقع هذا الحرف في مواضعَ ذاتِ دلالةٍ خاصةٍ في تفسير رؤيا الملك. مواضع تحدد أهمَّ سمات المراحل الثلاث التي سَتَمُرُّ بها مِصْرُ في سنواتها المقبلة وهي: الحصاد في المرحلة الأولى، والإحصان في المرحلة الثانية، والعصر (وهو رمز للوفرة والرخاء) في المرحلة الثالثة.

بهذا التوزيع المحكم العجيب، يمثِّل حرف الصاد توزيعًا لإيقاعه الصوتي المتميز المتسم بالصفير على الآيات الثلاث بالقسط، كما يمثِّل تقسيمًا للمراحل الثلاث لخطة يوسف عليه السلام بإحكام. وفوق ذلك، فقد أسلفنا أن هناك عباراتٍ تتكرر بنصها في هذه الآيات منها عبارة ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا﴾ التي تَرِدُ مرةً مَتْلُوَّةً بعبارة ﴿تَأْكُلُونَ﴾، ومرةً مَتْلُوَّةً بعبارة ﴿تُحْصِنُونَ﴾. فالذي يحاول أن يحفظ الآيتين قد يرتبك لا يدري متى يقول ﴿تَأْكُلُونَ﴾، ومتى يقول ﴿تُحْصِنُونَ﴾. ولكن إذا عَلِمَ أنَّ حرف الصاد لا يتكرر مرتين في الآية الواحدة، عَلِمَ أن الآية الأولى لا بد أن تنتهي بقوله تعالى: ﴿تَأْكُلُونَ﴾، لِمَا قد سبق فيها من ذكر الحصاد.

ثم لاحظ تكرار "فيه" في قوله: ﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾، و﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾، وما في هذا التكرار من جمالٍ الغرضُ منه ذكر السبب والنتيجة منفردين، وهما الغيث والعصر، ثم رعاية توازن الإيقاع. ولو قال: "فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ويَعْصِرُونَ"، لضعف المعنى ولذهب جمال الإيقاع الذي يملأ الفم."[14]

ضمير المتكلمين (نا)

"ضمير المتكلّمين (نا) من أكثر الضمائر التي تطرب لها الأذن وتهتز لها النفس. فهو من ناحية الإيقاعِ ضميرٌ يستغرق النطق به مدة زمنية أطول، لأنه عبارة عن نونٍ متصلةٍ بالألف الممدودة التي يتطلب النطقُ بها انفراجَ الفم، وامتدادَ الصوت مع ارتفاعٍ في طبقته. فهو بسبب خصائصه هذه شديد الإطراب، عميق التأثير....

... فهو يُستعمل عند التعبير عن أغراض القرآن الكثيرة: منها بيان قدرة الله وإبراز نعمه، ومنها إدارة الحوار بين الرسل وأقوامهم، وتسجيل اعتراضات الكفار على الرسل والرسالات، ومنها عرض مشاهد القيامة، ومنها سرد القِصص، ومنها التوجه بالدعاء إلى الله.

ومن مشاهد الوقوف أمام الله، قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12]. نسمع في توالي ضمير المتكلمين في الشطر الثاني من الآية الكربَ الذي تكتظ به حناجر المجرمين في قولهم: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾، يستغيثون بربهم أن يعيدهم إلى الدنيا، حتى يعملوا صالحًا بعد أن أبصروا وسمعوا ما كانوا ينكرون وهم اليوم موقنون. أمّا في الشطر الأول، فانظر إلى هذه الصورة الحية للخزي في قوله: ﴿نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ﴾، وهي صورة "تكاد تبصرها العينُ لشدَّةِ وضوحها وتسجيل هيئتها".[15] ثم تأمل تجانس الإيقاع فيها. وتأمل كذلك التجانس في قوله: ﴿رُءُوسِهِمْ﴾، ﴿رَبِّهِمْ﴾ حيث كرر ضمير الغائبِين. ثم انظر كيف مهَّدتْ (نا) التي في ﴿نَاكِسُو﴾ لتوالي ضمير المتكلمين في الشطر الثاني."[16]

***

عبد السلام شرماط: ما مظاهر الانسجام والاتساق في التلاحم اللغوي الذي وقفتم عنده من خلال بعض السور القرآنية؟

جوهر محمد داود: حول هذا السؤال يدور الكتاب كله. وتتخذ مظاهر الانسجام والاتساق صورًا كثيرة بعضها ظاهر نراه بوضوح كالفاصلة القرآنية التي تُعد أبرز مظاهر التناسق في بناء السورة القرآنية ولكنها لا تظهر بوضوح إلا في السور القصار التي تتكون آياتها من مقاطع قصيرة تتيح للفاصلة أن تقرع السمع لتقارب مواقعها. وبعضها خاف لا يظهر إلا بعد البحث والتنقيب.

فهذا النوع هو الذي ركزنا عليه في كتاب "نظْم القرآن" ويتخذ أربع صور:

الصورة الأول تتمثل في الكلمة المفردة تتكرر في موقعين أو أكثر في السورة الواحدة ثم لا تتكرر في أي سورة أخرى في القرآن. وهذا النوع نادر نسبيًّا. والصورة الثانية تتمثل في التركيب النحوي المتفرد يتكرر في السورة الواحدة مرتين أو أكثر ثم لا يظهر في أي سورة أخرى في القرآن. وهذا النوع هو الكثير الغالب في القرآن. والصورة الثالثة تتمثل في الاقتباس، اقتباس كلمات من نص سابق لإنشاء نص لاحق في نفس السورة بطريقة لا نظير لها في القرآن. والصورة الرابعة تتمثل في العنصر اللغوي يتكرر في سورة معينة أكثر من تكرره في أي سورة أخرى في القرآن.

وحتى لا أطيل، أكتفي بمثالين على الصورة الأولى والصورة الثانية.

مثال الصورة الأولى: "فمثلًا تتردد كلمة "اليوم" في القرآن أكثر من أربعمائة مرة، وهو شيوع كبير يضعف قوتها في الربط بين المقاطع. ولكن السياق القرآني يأخذ هذه الكلمة الشائعة ذاتها ويكسوها حلةً تركيبيةً فريدةً فيصنع منها آصرةً لغويةً قوية. قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّـهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16]، وقال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّـهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29]. فعبارة ﴿الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ فريدةٌ لا مثيل لها في القرآن، ولا تقع إلا في هاتين الآيتين، وهي من ثَمَّ عروةٌ وثيقةٌ تربط بين مقدمة السورة وجزئها القصصي ربطًا لفظيًّا ومعنويًّا، وتجعل المقدمة تمهيدًا لقصة موسى وفرعون. إنها عبارة واحدة تؤدي معنيين مختلفين في السياقين: فالْمُلْكُ في السياقِ الأولِ غيرُ الْمُلْكِ في السياق الثاني، وكذلك اليوم. فهي بهذا التفرد تستوفي الشروط الثلاثة للآصرة اللغوية، وهي التفرد وبعد المسافة واختلاف السياق. وفي هذا تتجلى اللمسة الباهرة ليد القدرة التي تخلع على كلمة عادية كثيرة الشيوع هذه الصفة الفريدة فتجعلها عَلَمًا بارزاً بين العبارات لا يشبهها شيء."[17]

مثال الصورة الثانية: "وفي سورة الحج جاء قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: 15]. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]. يختار السياق في هاتين الآيتين أداةً من أدواتِ النحو المشهورة ليصنع منها آصرةً لغويةً فريدةً وهي "ثُمَّ" التي تتكرر في القرآن أكثر من ثلاثمائة مرة. و"ثُمَّ" حرف عطف يدل على الترتيب مع التراخي في الزمن أو الرتبة. وعلى كثرة شيوعه في القرآن، يأتي هذا الحرف في هذه السورة متفردًا في بنائه النحوي، وذلك أنه لا يأتي تاليًا للام الأمر في القرآن كله إلا في هاتين الآيتين، في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا﴾.

ومن عجيب تركيبه هنا أن الفعل الذي يلي لام الأمر في الآيتين يبدأ بحرف القاف: "قطع" و"قضى"، ليكون التناظر في الآيتين بهذه الدقة الهندسية الباهرة. ومن التناظر العجيب في الآيتين أنَّ لام الأمر تتردد في كلٍّ منهما ثلاث مرات. ففي الآية الأولى قوله تعالى: ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾، و﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾، و﴿فَلْيَنظُرْ﴾. وفي الثانية قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا﴾، و﴿وَلْيُوفُوا﴾، و﴿وَلْيَطَّوَّفُوا﴾. كما يتردد فيهما حرف الفاء ثلاث مرات بالتساوي.

بمثل هذا التنسيق الدقيق يربط القرآن بين آية تتحدث عن إنسانٍ يئس من نصر الله له في الدنيا والآخرة، وتُبَيِّن أن هذا الإنسان لن يستطيع أن يُذْهِبَ ما يَغِيظه حتى لو اختنق بحبل يمده إلى السماء ثم يقطعه، من جهة، وبين آيةٍ أخرى تتحدث عن بعض ما يختم به الحاجُّ أعمالَه من حلق الشعر أو تقصيره، وقص الأظافر، وإزالة ما علق به من الأوساخ أثناء أدائه لمناسك الحج الشاقة، والوفاء بالنذور، والطواف بالبيت العتيق طواف الإفاضة، من جهة أخرى. موضوعان يبدوان منفصلين تمام الانفصال ولكن يجمعهما هذا التركيبُ اللغويُّ الفريد، ثم المقابلةُ بين الذين يئسوا من رحمة الله وبين الذين يرجون رحمته ويلوذون بحماه."[18]

عبد السلام شرماط: كلمة أخيرة لفضيلة الدكتور جوهر محمد داود.

جوهر محمد داود: أنا أزعم -والحكم في النهاية متروك للدارسين والباحثين- أن كتاب "نظْم القرآن" يقدم قراءة جديدة للإعجاز اللغوي في القرآن بكل ما تحمل الكلمة من معاني الجِدة والأصالة في النظرية وفي التطبيق. فقد مضت القرون والعلماء يبحثون عن مكمن الإعجاز في القرآن. وقد نجحوا في أن يضعوا أيديهم على خصائص بلاغية عالية القيمة، ولكنهم لم يستطيعوا تقديم نظرية شاملة تفسر بصورة موضوعية الأسس التي يقوم عليها بناء السورة القرآنية. ويأتي هذا الكتاب سدًّا لهذا النقص الكبير، معتمدًا في بناء نظريته وتطبيقها على القرآن وحده، لا على أي مصدر خارجي.

وأزعم أيضًا أنه بهذه المساهمة الأصيلة سيُحدِثُ ثورة معرفية في حقل الدراسات القرآنية الذي ظل يجتر إنتاج القرون الماضية وحسب، ويفتح آفاقًا جديدة للبحث في النص القرآني عن أسرار إعجازه، ثم مساءلة كل ما قيل عن تاريخ تدوين القرآن وجمعه، وتاريخ القراءات وصحة تواترها. إن القرآن الذي كشف عنه هذا الكتاب، بما ظهر فيه من خصائص التلاحم اللغوي الفريد، لا يمكن أن يكون في أصله نصًّا تُدُوول شفويًّا لفترة ممتدة قبل تقييده بالكتابة، كما تزعم الروايات الرسمية. إن سبكه المحكم الفريد يشهد بما لا يدع للشك مجالًا أنه دوِّن وقُيِّد كتابةً فور تنزُّله، ولم يخضع للتداول الشفوي إلا بعد تقييده كتابة. كما يشهد سبكه المحكم أنه لم يكن يومًا متعدد الألفاظ، وأن القرآن الذي بين دفَّتي المصحف هو عين القرآن الذي تلاه النبي (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه لم يتغير ولم يتبدل.

فإذا كتب الله لهذا الكتاب أن ينتشر بين القرّاء، المتخصصين منهم خاصة، فلا شك عندي أنه سيثير تساؤلات كثيرة، تنتج عنها أبحاث جادة تخدم هذا الكتاب الخالد، وتحرره مما أحاط به من المرويات والتصورات والمعتقدات المتأخرات التي طمست معالمه الربانية الناصعة.

وأخيرًا أشكرك أستاذي الفاضل الدكتور عبد السلام شرماط، وأرجو أن ألتقي بك في حوار آخر.

[1] . باحث متخصص في الدراسات القرآنية. حصل على الدكتوراه في الدراسات الدينية من جامعة أبردين بالمملكة المتحدة. وكان عنوان الدراسة: تلاحم البناء اللغوي في القرآن، وعنوانها الفرعي: السورة القرآنية: مفككة أم متشابكة؟ وقد تم تقديم الدراسة باللغة الإنجليزية وكان عنوانها: Lexical Cohesion in the Qur’an – The Surah: Disjointed or Interwoven?

[2] . أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1984)، 122.

[3] . مصطفى مسلم وآخرين، التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم (الشارقة: كلية الدراسات العليا والبحث العلمي - جامعة الشارقة، 2010)، 2144 وما بعدها.

[4] . سيد قطب، في ظلال القرآن (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الشرعية الثانية والثلاثون، 2003)، 2257.

[5] . ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف: 70].

[6] . ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ [الكهف: 95].

[7] . جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق الشيخ عادل عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض بمشاركة الأستاذ الدكتور فتحي عبد الرحمن أحمد حجازي (الرياض: مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى، 1998)، 3: 615.

[8] . سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة: دار الشروق، الطبعة الشرعية الثانية والثلاثون، 2003)، 2292.

[9] . أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد (ت: 324ه)، كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد، تحقيق شوقي ضيف (القاهرة: دار المعارف، بلا تاريخ)، 399.

[10] . جوهر محمد داود، نظْم القرآن: قراءة جدية في تجانس إيقاعه وتلاحم بنائه (بيروت: مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، 2022)، 374-376.

[11] . عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، 46.

[12] . جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق خليل مأمون شيحا (بيروت، دار المعرفة، 2009)، 485.

[13] . جوهر داود، نظْم القرآن، 51.

[14] . جوهر داود، نظْم القرآن، 60-62.

[15] . سيد قطب، التصوير الفني، 29.

[16] . جوهر داود، نظْم القرآن، 76-79.

[17] . جوهر داود، نظْم القرآن، 140.

[18] . جوهر داود، نظْم القرآن، 156.