حوار مع الدكتور زياد الزعبي: العقل العربي بين التبعية وإنتاج المعرفة


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتور زياد الزعبي: العقل العربي بين التبعية وإنتاج المعرفة

ابتداءً بالتموضعات الأرسطية لدى الفلاسفة المسلمين، ومحاولة اكتشاف تأويلاتها الحديثة في الدراسات الاستشراقية، لا سيما الألمانية، وليس انتهاء بالتأصيل النظري لبعض الاصطلاحات العلمية (مثلاً اصطلاح الصفر)، ومحاولة وضعها ضمن سياقيتها التاريخية والحضارية؛ يعمل الدكتور زياد الزعبي على استجلاء الأرضية الحضارية ضمن شرطها الثقافي، في محاولةٍ إسهامية لبلورةِ نسقٍ ثقافي، يُمكن التأسيس عليه لاحقاً في انبناءات حضارية عربية.

في كتابه (المثاقفة وتحولات المصطلح) اشتغل زياد الزعبي على المصطلح من حيث هو كذلك، ومن ثمَّ تحولاته الثقافية تبعاً لسياقات الشرط الحضاري لهذي التحوّلات، فقد أبرز إلى أيّ حدّ يمكن للمصطلح أن يأخذ بعداً مُغايراً تبعاً لانوجاده ضمن شرط ثقافي مغاير. وضمن سياقات الشرط الثقافي العربي الآني، إلى أي حد يُمكن أن نصل إلى مستوى المبادرة الحضارية؟.

حيث يشغل الآن كرسي عرار (الشاعر الأردني) في جامعة اليرموك، التقيتُ به للمرة الثانية –بهدف استجلاء وجهة نظره حول الشرط الثقافي العربي بملبوساته الآنية- بعد أن كُنت التقيتُ به للمرة الأولى في العام 2007 إثر صدور كتابه المذكور أعلاه.

معاذ بني عامر: بعد أن استعرضتَ في بحثك (الفلاسفة المسلمون وفن الشعر الأرسطي في دراسات المستشرقين الألمان) تأثيرات كتاب (فن الشعر) لأرسطو على العقل الإسلامي ومساهمته في نقله إلى العقل الغربي، عِبْتَ على المستشرقين الجدد –كذا على البحّاثة العرب- عدم الاطلّاع على الجديد من الدراسات –من كلا الطرفين- فيما يتعلق بكتاب أرسطو آنف الذكر.

إلى أي حدّ تعمقت القطيعة المعرفية بين الشرق (تحديداً العرب) وبين الغرب؟ ومن ثمّ إلى أي حدّ ثمة تبرير لهذا التلاقح –في حال انوجاده- التثاقفي، في ظلّ ثنائية (التابع/ المتبوع)، وهل حقاً العقل الغربي بحاجةٍ إلى هذا التلاقح ضمن سياق تفاعلي بين الحضارات، بعيداً عن منطق الهيمنة والأُحادية؟.

زياد الزعبي: العلاقة بين الشرق/ العرب والغرب علاقة معقدة يتداخل فيها التاريخ المرهن بالواقع الماثل، وتتشابك في أطرها مجموعة كبيرة من العناصر المثيرة تتعلق بعمليات الصراع والتثاقف التي تنهض برمتها على معرفة الآخر، أو على قراءته ورؤيته من منظور القارئ الذي يحدد مسارات الحوار، ومناهج القراءة وأهدافها المحكومة بتكوينه الثقافي والإيديولوجي. وقد بدأت علاقات التثاقف بين الحضارة العربية الإسلامية وأوروبا في العصور الوسطى، تلك العلاقات التي شكلت وما تزال مركباً ثقافياً معقداً تتداخل حلقاته وعناصره زمانياً ومكانياً، استناداً إلى سلسلة لم تنقطع من عمليات الامتداد والارتداد المتبادلة التي حكمت العلاقة بين الطرفين، مما جعل الحدود بينهما، بين عالمي الشرق والغرب، حدوداً متحركة جغرافياً وثقافياً. وقد ترتب على هذا الوضع تكوّن شبكة معقدة من التأثيرات الثقافية المتبادلة. ولست هنا معنيا باستعادة الأبعاد التاريخية للعلاقة بينهما، وما أصابها من التحولات المتمثلة في انقلاب موازين العلاقة بين الطرفين عسكريا وثقافيا، ولكني أود أن أتوقف عند الحال الراهنة التي لا يستطاع فصلها عن عمقها التاريخي، والتي تمثل حالة امتداد لطرف وارتداد لطرف آخر، حالة طباقية بين متفوق ومتخلف، بين مهيمن ومهيمن عليه. فنحن الآن نعايش هوة عميقة بين عالمين: عالم يملك كل شئ، وعالم لا يكاد يملك شيئا سوى التغنّي بالماضي، عالم لا يتوقف عن تشكيل ذاته وتشكيل الآخر، وعالم أشبه بالمادة القابلة للتشكيل، ولذا فإن اللاتكافؤ هو الذي يحكم العلاقة بين هذين العالمين.

من الواضح أن المؤسسة الاستشراقية قامت وتقوم بدور ضخم في قراءة التراث العربي قراءة تفصيلية تقف على مجمل الإنتاج الفكري والعلمي والأدبي، وعلى صور الحياة المختلفة في الثقافة العربية الإسلامية وفق مناهج علمية، وأدوات بحث، وإمكانات كبيرة لا تتوافر لدينا، وهذا أمر طبيعي في إطار ثقافة متفوقة مهيمنة، لكن الأمر الغريب أننا في العالم العربي لم نقم بقراءة تراثنا على نحو يمكن أن يقابل أو أن يقترب مما فعله المستشرقون، والأغرب أننا لم نسع إلى متابعة ما تنجزه المؤسسة الاستشراقية، وظلت معرفتنا بدراسات المستشرقين المتعلقة بثقافتنا في مختلف مجالاتها، وهي ذات طابع تراكمي ممتد، منذ ما يزيد على أربعة قرون، محدودة جدا لم تستطع متابعة منجز المؤسسة الاستشراقية الذي استقرأ الثقافة العربية في أغلب حقولها، وقرأها وفق رؤاه ومناهجه قراءات متفاوتة تفاوتا شديدا في قيمتها وموضوعيتها وعلميتها وأهدافها. وظلت معرفتنا المحدودة بثقافتنا كما ظهرت في هذه الدراسات تدور في كثير من الأحيان على "الرفض" والهجاء، وكان علينا أن ننتظر كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق)، لنرسم صورة لفعل هذه المؤسسة قائمة على منهج علمي غربي، استطاع استنادا إلى المعرفة الجذرية أن يدفع إلى الاعتراف بأن الاستشراق بعد كتاب سعيد غيره قبله.

وهنا لا بد أن أشير إلى أن الدراسات الاستشراقية- كانت وما زال معظمها- يكتفي بما تنجزه هي، ولا تلتفت إلى ما يمكن أن يقدمه العرب أنفسهم، وقد كان هذا مفهوما في مراحل تاريخية معينة، حين لم يكن فيها إسهام عربي في هذا المجال، ولكن هذا الأمر يغدو غريبا في الوقت الراهن، وإن بدأنا نلمس بعض إطلاع محدود على دراسات بعض الباحثين العرب. وهذه حال طريفة في طرفيها؛ فالمستشرقون يتجاهلون أو يجهلون في الغالب الدراسات العربية، ولعل هذا يعود إلى اعتقادهم بأنه ليس هناك ما هو مهم، مما يجب الاطلاع عليه. أما العرب، فالمشكلة أعقد بكثير إذ إنها تعود عند بعضهم إلى موقف مسبق ضد الاستشراق والمستشرقين، ويحول عدم المعرفة باللغات الأوروبية عند كثيرين دون متابعة ما ينجز فيها من أعمال. وهناك سبب محوري في هذه الحال يتمثل في أن العرب لم يحاولوا حتى اليوم إنشاء مؤسسة موازية لمؤسسة الاستشراق تقوم على متابعة منجزاتها ومحاورتها والإفادة منها أو الرد عليها. كما أن الاستشراق يغيب من الخطط الدراسية لمعظم الجامعات العربية التي أعرفها. وهذا أمر يبعث على الهشة، وبخاصة حين نعلم أن عددا غير قليل من الآكاديمينن العرب تلقوا دراساتهم العليا في معاهد الاستشراق. كل ما سبق يبرز بوضوح أننا نحن العرب، لم نستطع إقامة عملية مثاقفة مع الغرب وبخاصة في سياق علاقته ومعرفته بنا، ولم نقدم ما يدفعه إلى محاورتنا أو الاهتمام بما نفعل، وليس هذا بعائد إلى إيمانه بتفوقه فحسب، ولكن بقدرتنا على الفعل.

معاذ بني عامر: هذا يقودني –بالتالي- إلى سؤال : هل يملك العقل العربي قدرةً على إنتاج معارف قادرة على إحداث خرق بنيوي في الجسد الثقافي للحضارة الحديثة، حيث يتحوّل هذا العقل من عقلٍ (تابعٍ) إلى عقل (مُنتج)؛ عقل (فاعل) غير (منفعل)؟.

زياد الزعبي: إذا كنت تقصد القدرة الكامنة أو القدرة بالقوة كما يقول الفلاسفة فنعم، ولكن إذا كان المقصود القدرة بالفعل، فهذا أمر يقع في دوائر الشك، لأننا لم نقنع أنفسنا بأننا قدمنا لأنفسنا ما يستحق أن نتوقف عنده أو أن نشير إليه. إن قراءة الواقع العربي الراهن أمر يبعث على الرعب؛ فهو واقع يشهد تراجعا مخيفا في معظم مجالات الحياة، اللهم باستثناء تراكم الثروة في بعض المواطن، وعدم الإفادة منها لإحداث نقلة نوعية في الفكر والثقافة والإسهام الحضاري. إن تأمل واقعنا الراهن ليجبرنا على التساؤل المر: لم ننتكس ونرتكس؟ لم لم نستطع أن نسير في طريق نهوض أو عملية تحديث تأخذ اتجاها خطيا متصاعدا؟بل ولم ما زلنا نتصارع على الماضي وفيه، ونجدد ملاحم داحس والغبراء، وإن تحت عناوين ومسميات أخرى. هنا في هذا السياق، هل يمكن الحديث عن عقل أو عقل منتج؟! أين يمكن معاينة حضور العقل في مجتمع يفتقر للنظام ولقيم العمل والعلم، مجتمع يتمحور الفرد فيه حول ذاته، مجتمع غير قادر على رؤية وإدراك التقدم الأسطوري الذي حققه الآخر، والذي يعمق الهوة بيننا وبينه بمتواليات هندسية. إن مجتمعا يحكمه الاستبداد والقمع والتخلف والعبث لا يمكن أن يكون قادرا على الإنتاج، ومن الصعب أن يكون مقابلا للآخر أو للعقل الفاعل. ولعلي أذهب انطلاقا من سؤالك إلى أننا لا نملك حتى فضيلة المنفعل، لأن المنفعل يملك حسا بالاستجابة لتحد يجابهه.

معاذ بني عامر: بعض الأمثلة التي أثبت فيها العقل العربي مقدرة على إنتاج المعارف، على اعتبار القدرة على إنتاجها؛ أم إنَّ الأمر –لناحية القدرة على إنتاج المعرفة- لا زال في طور الكمون والتكدّس في منطقة عتبة ما تحت الوعي؟.

زياد الزعبي: إذا كان المقصود الإنتاج المعرفي التاريخي؛ فنحن نستطيع أن نستحضر المرحلة الحضارية التي سادت فيها الحضارة العربية الإسلامية، وكانت الحضارة الكونية الأولى التي تركت طوابعها وآثارها على الحضارات الأخرى وبالذات على الحضارة الأوروبية. أما إن كان المقصود الحديث عن الوقت الراهن فأعتقد أن الإجابة متضمنة في السؤال السابق.

معاذ بني عامر: الشرط الحضاري الآني بملبوسه الغربي، يُمارِس نوعاً من الاستحقاق الوجودي بشأن الشرط الثقافي الآخر، المُغاير لناحية مُمارسة دور الوصاية المعرفية. وإذا أخذنا الشرط الثقافي العربي كأنموذجٍ على هذه الوصاية، سنجد (جزءا من هذا الاستحقاق أشرتَ إليه في كتابك "المثاقفة وتحولات المصطلح" ساعة مارست الثقافة العربية دوراً مشابها للذي تُمارسه الحضارة الغربية الحالية، سيما في مصطلح "الصفر" و "الشيفرة")، كثيراً من المصطلحات الغربية قد بدأت تفرض نفسها (واقعاً) على الحضارة العربية. إلى أي حدّ أمكنَ للعقل العربي تقعيد، مثل هذه المصطلحات الجديدة (ذهنياً) ومنحها أفقاً مفاهيمياً عربياً، أم إن الواقع يمارس دوراً فضائحياً بالنسبة للعقل العربي، لناحية عجزه عن تأطير هكذا اصطلاحات، وتركها تُمارس دورها الحياتي بالنسبة للإنسان العادي خبط عشواء، بعيداً عن أي منحى تنظيري يُبرّر وجودها الاندماجي داخل السياق الثقافي العربي؟.

زياد الزعبي: هذا سؤال مركب؛ فهو يتضمن ثلاث صور لعملية التثاقف تمت في مراحل تاريخية متباينة والمشترك فيها الثقافة العربية الإسلامية؛ في المرحلة الأولى كانت هذه الثقافة تتشكل مستندة إلى تفوق إيديولوجي عسكري من خلال حركة علمية استطاعت استيعاب الثقافات الأخرى اليونانية والفارسية والهندية، ونسجها في إطار ثقافة عربية إسلامية ذات طابع كوني دامت قرونا وتركت آثارها على الحضارات والثقافات الأخرى؛ وفي المرحلة الثانية كانت الثقافة العربية مصدرا اعتمدت عليه الثقافات الأوروبية الصاعدة عسكريا وعلميا، فكان أن أفادت من إرث ثقافي دخل أصحابه مرحلة التراجع، بل والهزيمة. وهذا ما يجعلنا نعاين فعلي مثاقفة متشابهين في الصورة متعاكسين في الاتجاه. أما المرحلة الأخيرة، فهي التي نشهد صورتها الراهنة، وهي لا تشبه المرحلتين السابقتين؛ ففيها أصبحت الثقافة العربية عالة على نفسها وعلى غيرها، بل لم تعد تعي بنيتها وحضورها عند الآخر المهيمن، وغدت ثقافة تابعة على نحو قشري للحضارة الغربية في كل مجالاتها. ففي الوقت الذي يعي الغرب بنيته الثقافية ومصادرها، ومنها المصدر العربي، ويقدم مادة علمية دقيقة عن عناصرها ومكوناتها، نجد أنفسنا عاجزين عن متابعة عناصر ثقافتنا لدى الآخر، ولعل مصطلح الشيفرة الأوروبي ذا الأصل العربي الذي تفصل الأدبيات الأوربية في كيفية دخوله إليها وتشرح التحولات اللغوية والدلالية التي أصابته، نجد الباحثين العرب يظنون أن لا مقابل عربيا له، بل يوضع مصطلح الشيفرة مقابلا للمصطلح الإنجليزي كود. ولا شك أن هذه طرفة ذات بعد "معرفي".

إننا نقرأ النصوص الأوربية في آخر صورها دون معرفة بأصولها، حتى لو كانت عربية، مما يعني غياب الوعي بما نفعل. وهذه حال تنسحب على سلسلة طويلة من المصطلحات في الحقول العلمية المختلفة التي نكتفي فيها بتبني المصطلحات الوافدة دون مساءلة، مما يقود إلى تشوهات فكرية ومعرفية تفتك بما نسميه البنية الثقافية العربية المعاصرة، وهذا ما يستطيع المرء أن يرى آثاره في المعاهد والجامعات العربية التي تكاد تغيب عن تيار الحياة المعاصرة.

معاذ بني عامر: من بحثك (التعجيب عند ابن سينا: المصطلح والمفهوم)، أقتبس:

"إن قراءة نصوص ابن سينا وأفكاره، لا تتحقق – فيما أرى- إلا حين تؤخذ مجتمعة، وليست مفردة أو منفصلة؛ فثمة نسق معرفي يجمع بينهما على اختلاف مواطنها وتباعد مصادرها وتعددها. ولذا، فإن فكرة التعجيب عند ابن سينا يمكن أن تفهم دون شك بوصفها"متعة جمالية" يستثيرها النص الشعري من خلال بنيته المغربة التي تستند إلى الحيل الفنية".

هل أسهم النسق المعرفي السينوي –نسبة إلى ابن سينا- في تعزيز "العقل المستقيل" بتعابير محمد عابد الجابري (والجابري في كتابة نحن والتراث اعتبر ابن سينا أحد المؤسسين للعقل المستقيل ضمن سياقاته العربية)، سيما أنك ركّزت في بحثك على مفهوم بلغ مبلغاً متطوراً مع ابن سينا، ألا وهو التعجيب، والتعجيب هو إحداث نوع من الغبطة بعيداً عن أي سياق منطقي، والتجربة الصوفية (ومقولة العقل المستقيل التي استقاها الجابري من تحليل للخطاب الصوفي تستند في مرجعياتها إلى هذا الخطاب) تنحاز للجمال على حساب التجربة البرهانية القائمة على العقل المنطقي؟.

زياد الزعبي: شكرا أولا للجابري الذي استعمل مصطلح العقل المستقيل، ولم يستعمل العقل المتقاعد، لأن الأول ربما كان قادرا على استئناف العمل. أما الثاني فلا، لأنه وصل مرحلة النهاية. أما أنْ يكون ابن سينا من المؤسسين لاستقالة العقل فأمر لا أتفق معه البتة، لأن ابن سينا كان واحدا من أهم الفلاسفة الذي امتلكوا رؤيا فكرية وفلسفية، أسهمت في تفعيل العقل الناقد وترك آثار على الفكر الأوروبي وبخاصة على ألبرت الكبير في القرن الثالث عشر وعلى توماس الأكويني. ولعل ما قدمه الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ في كتابه المعنون "ابن سينا واليسار" يقدم تصورا عميقا حول فكر بن سينا وأثره في الفكر الأوروبي الذي يصنف ابنا واحدا من "العقلانيين".

أما مصطلح التعجيب عند ابن سينا، فيرتبط بالمتعة الجمالية الناجمة عن التغريب، وهو مصطلح يعود إلى أصول أرسطية تظهر في "الخطابة" وكذلك في كتاب "النفس"، ولا يتعلق بالخطاب الصوفي أو الفلسفة الإشراقية، وربما كان أكثر ارتباطا بالنظريات الجمالية المعاصرة. ولعل مما يجب ذكره هنا أن عمل ابن سينا لم يكن شرحا أو اقتفاء لأعمال أرسطو، بل من خلال نقده لآرائه فتح باب الحوار والجدل في الفكر الأرسطي. وأعتقد أننا بحاجة إلى قراءة التصورات السينوية في الفن قراءة أخرى تؤسس لرؤى مباينة للتصورات المتداولة حول فكرة كونه شارحا لأرسطو، لأنه جاوز هذا إلى تقديم نسق معرفي يؤسس لنظر في الفن وتأثيره على نحو مفارق لما هو موجود عند أرسطو.

معاذ بني عامر: السؤال السابق يقودني إلى استحقاقٍ ثقافي آني؛ فالمجتمعات العربية مليئة بالتكايا والزوايا وحلقات الذكر الصوفية، وما يُرافق ذلك من معارف تلقينية بعيداً عن أية ضجّة نقدية عقلية. فمن جهة تتوغل مثل هذه الثقافة في المجتمعات العربية، ويصبح شيخ الطريقة قطباً أو حقلاً مغناطيسياً يُؤخذ منه ولا يردّ عليه، ومن جهة ثانية ثمة تغييب للدراسات المنطقية والفلسفية -في المنهاج التعليمي العربي إلا في حالات نادرة- القادرة على إفراز جيل قادر على الجدل والنقاش والحوار الحُرّ؟

هل هذا من قبيل الوهم الثقافي فما يحدث هو الآن أمر طبيعي، ويتأتّي ضمن سياقاته الصحيحة، أم إن الشرط الثقافي العربي يرزح بالفعل تحت وطأة ثقافة تلقينية لا نقدية تحليلية، أسهمت بشكلٍ أو بآخر في تقهقر العقل العربي، وثباته عند نقطة زمكانية محدّدة أضرّت بنسقه الدفقي، وقدرته بالتالي على اجتراح معجزة إبداعية جديدة؟.

زياد الزعبي: ليست المسألة هنا مرتبطة أو مقصورة على التكايا والزوايا وحلقات الذكر أو باختصار على المرجعيات والأطر الدينية؛ فالمنظومة التعليمية في العالم العربي منظومة متداعية، لم تنهض على أسس علمية منهجية، ولم يكن لها رؤية استراتيجية، كان هدف هذه المنظومة التخلص من عار الأمية؛ أي أن يستطيع أفراد المجتمع القراءة والكتابة، وقد عد هذا في معظم الحالات إنجازا عظيما تقام احتفاء به الاحتفالات، وتلقى الخطب الطوال والشعر الرصين. ولعل تدبر واقع الجامعات العربية يظهر إلى حد غدا النظام التعليمي هياكل حاوية، بل إنها في بعض الأحيان تسهم بفعالية في "تنمية التخلف". وأستطيع القول دون تردد إن ثقافة التلقين الرصينة قد غابت، مما يعني أن الحديث عن التعليم القائم على الفكر النقدي التحليلي ترف لا مكان له في هذا السياق. فأي عقل سيتشكل في إطار هذه المنظومة التعليمية بدءا من المدرسة الأساسية وحتى التعليم المسمى عاليا.

إن هذه حال مركبة تثقلها الفوضى والعبث وغياب الرؤية، وتسندها الأساطير وبنية اجتماعية محكومة بالبدونة أو القبلنة التي لا ترى سوى المصلحة الفردية، ولا تقيم وزنا لمعنى الفكر والعمل، ومحكومة بثقافة النهب والغنيمة. فأي عقل يمكن أن يتشكل في هذا الإطار. إن العقل العربي يرزح تحت وطأة فوضى مدمرة مؤذنة بالخراب على حد تعبير ابن خلدون، وتحت ركام هائل من الانهيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إن ربيع الثورات على الاستبداد والظلم الذي نشهده اليوم ليس للأسف ربيعا للعقل العربي، بل ربما يكون خريفه. إن نظاما تعليميا لا يعي ذاته، ولا يسيطر على لغته، ولا يعرف تاريخه ومنجزاته، ولا يدرك واقعه الذي يشكله غيره، نظام لا يملك سوى عجزه الذي لا يعيه، مما يعني أنه بحاجة إلى زلزال تنهض من بين أنقاضه بنى جديدة.