حوار مع الكاتب والباحث المغربي: الدكتور صابر مولاي أحمد


فئة :  حوارات

حوار مع الكاتب والباحث المغربي: الدكتور صابر مولاي أحمد

 

الدكتور صابر مولاي أحمد كاتب وباحث مغربي؛ مختص في قضايا الفكر الإسلامي والدراسات القرآنية؛ صدر له كتاب: "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم سورة البقرة نموذجا"، وكتاب: "التداول اللغوي للمفردة بن الشعر والقرآن" وكتاب "الوحي دراسة تحليلية للمفردة القرآنية" وسيصدر له كتاب: "القرآن ومطلب القراءة الداخلية سورة التوبة نموذجا".

عبد الواحد أيت الزين: مرحبا بالأستاذ والباحث في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية، أتقدّم لك بدايةً بالشكر الجزيل على قبولكم إجراء هذا الحوار معنا، وأوَدّ أن أَبْدأَهُ، بالتساؤل معَك عن رأيِك في الخطَاب الدّيني اليوم، في ظلّ ما أفرزته كورونا من سلوك ديني وثقافيّ جديد (الصلاة في المسجد، التراويح، العزاء والجنازات..)؟

صابر مولاي أحمد: شكرا لك أستاذ عبد الواحد أيت الزين؛ يعرف العالم الإسلامي قبل جائحة كورونا، اتجاها من الخطاب الديني، يعول عليه للمساهمة في مهمة الإصلاح والتجديد الديني؛ لأنه يعلي من قيمة الاعتدال وما يلزمها من مقومات علمية وتواصلية، ويؤمن بالاجتهاد في فهم الدين وقضاياه تبعا لروح العصر، وهو يمثل عموم الناس في العالم الإسلامي؛ مع العلم بأن هذا الجزء لا يعرف انسجاما كاملا من حيث وجهات نظره ومواقفه تجاه الكثير من القضايا والإشكالات المعاصرة، وكذلك من حيث مرجعياته الفقهية والمذهبية... كما أنه لا يتصف بالفاعلية الكافية التي تجعله يواكب طبيعة متطلبات الزمن الحاضر عبر بسط تصورات وأفكار جديدة ومعاصرة للمسألة الدينية. وهناك جزء آخر من الخطاب الديني في العالم الإسلامي، يعاني من انحراف معرفي ومنهجي وأخلاقي في فهم قضايا الدين والتدين والمجتمع ومجريات الحياة؛ وذلك لأنه لا يقبل بالاجتهاد في فهم الدين وقضاياه بأي وجه من الوجوه؛ وفي الوقت ذاته يتبنى العنف بقتال كلّ من خالفه الرأي والموقف... وقد جسدت الجماعات الأصولية المتطرفة مثل: (القاعدة وداعش...) ذلك الانحراف الذي أدى إلى سلوكيات وممارسة يومية تتصف بالعنف والتوحش والدمار...في حقّ الكثير من الأبرياء الذين تم قتلهم أو تشريدهم...

مع الأسف الأصولية المتطرفة استثمرت شبكات الإنترنيت لنشر خطابها المتطرف الذي يخلو بالكامل من أي وجه من وجوه العقل، ويتعارض بالكامل مع منظومة الإسلام الأخلاقية، وهي منظومة أخلاقية، تقدم قيمة العقل والعلم والمعرفة على قيمة الجهل، وتقدم قيمة الرحمة والسلم والسلام والأمن والأمان على قيمة الحرب والقتل والقتال. ولهذا، من البديهي أن يشتق الإسلام اسمه من قيمة السلم والسلام؛ فمسألة القتال في الإسلام مسألة عارضة وحالة استثنائية، وجزء صغير ينبغي قراءته من داخل ما هو كلي من داخل القرآن الكريم الذي تبتدئ كل سوره بقيمة بسم الله الرحمن الرحيم؛ ورحمة الله وسعت كل شيء؛ فقيمة الرحمة تعني من بين ما تعني الإعلاء من قيمة صناعة الحياة، بدل صناعة الموت والدمار وسفك الدماء. وعندما نؤكد بأن الإسلام يعلي من قيمة العقل والعلم والمعرفة... فذلك يعني العناية بكل نظم المعرفة الحديثة في مجال الفلسفة وعلوم الإنسان وعلوم الطبيعة؛ فالفلسفة في مداراتها الكبرى تحث على القيم الفاضلة، وتنظر إلى الإنسان في بعده الإنساني المتجاوز لبعده البيولوجي والجسدي.

مع الأسف؛ الأصولية الدينية تستعدي الفلسفة والعلم، وكل ما هو معاصر ويتصل بتصورات الإنسان عن العالم والحياة، وكيفية العيش وبناء الأسرة والعلاقة بين المرأة والرجل والزوج والزوجة... والموقف من الفن والأدب... باختصار، فهي ترفض كل ما له صلة بحياتنا التي نحياها اليوم... وتتوهّم استرجاع نموذج من الماضي ولّى وانتهى تبعا لتصوراتها الذهنية حول مجتمع الصحابة وغيرهم؛ والغريب أننا في الوقت ذاته، نجد الأصولية المتطرفة تستثمر كل ما هو حديث في من وسائل التواصل وغيرها في نشر خطابها المتطرف. ولهذا، عندما ظهرت جائحة كورونا، واتخذت الدول الإجراءات اللازمة، سمعنا أصواتا متطرفة تستنكر إغلاق الحرم المكي وإغلاق المساجد في العالم الإسلامي، وهناك من دعا إلى الذهاب إلى المساجد... وغير ذلك من حماقات الخطابات المتطرفة؛ وكل هذا يؤكد لنا أن هؤلاء يستعدون العلم والمعرفة، ولا يراعون على الإطلاق الصالح العالم للناس جميعا؛ ولو كان لهم نوع من النفوذ لتمادوا في حماقاتهم كثيرا. ولهذا، فجائحة كورونا تكشف لنا مرة أخرى، عن جيوب الأصولية في العالم الإسلامي.

وأنا أدعو كل الحكومات والمؤسسات العلمية في الوطن العربي والإسلامي؛ بالعناية اللازمة بورش الإصلاح والتجديد الديني والثقافي، بعد جائحة كورونا؛ لأن العالم سيتغير بعد هذه الجائحة؛ فنحن ينبغي أن نواكب تحول وتغير العالم، لنكون في مستوى التطلعات المنتظرة.

عبد الواحد أيت الزين: تحاول أستاذ صابر في كتاباتك أن تفتح الوعي العربي على "قراءات جديدة" للقرآن، لا تختصره في مجرّد التفسير ومحاذيره، مثلما لا تردّه إلى مجرّد التاريخ ومناهجه. لهذه القراءة للدين والقرآن معاً، أصول نظرية يمكن الرجوع بها على الأقلّ إلى محمد إقبال، وأبي القاسم حاج حمد، وفضل الرحمن وغيرهم. يرَى هؤلاَء أننا في حاجة إلى قراءة كلية ومعرفيّة للقرآن (وليست تجزيئية) تقف عند فكره الكوني، وسعته الوجودية والحياتية، بأيّ معنى تمكننا هذه القراءة في إعادة مصالحَة الإنسان مع الوجود والطبيعة، خصوصًا في ظلّ هذا الخراب العمرانيّ والرّوحي الجليّ؟

صابر مولاي أحمد: هناك من يظن بأن النصوص الدينية، وأقصد هنا القرآن الكريم خاصة، نصوص غارقة في القدم ولا فائدة ترجى من ورائها. ولهذا، فالاشتغال عليها عند هؤلاء، يعدّ نوعا من مضيعة الوقت أو ما شابه ذلك؛ والغريب أن الكثير من أصحاب هذا الرأي بالنظر إلى معيشهم وحياتهم اليومية ومواقفهم من الكثير من أمور الحياة؛ تجدهم من جهة، يتصفون بأفكار تقدمية وعلمية، ومن جهة أخرى تجدهم على نمط من التدين غارق في القدم، ولا يستجيب لأبسط مقتضيات العقل والعلم؛ وأتعجب لهؤلاء، عندما تجدهم عند عتبة الأضرحة مثلا نتيجة مصيبة كبيرة حلت بهم، أو يتمسكون بعادات وتقاليد تتصل بالاحتفال بمناسبات دينية وغيرها... أما ثقافتهم عن الإسلام، فتدور في دائرة ما توارثه عموم جمهور الناس شفاهة من أقوال وآراء فقهية تتصل بالعبادات وفقه الطهارة وما شابه ذلك؛ وإن أراد بعضهم أن يقرأ عن تاريخ الإسلام، تجده لا يفرق ما بين التاريخ والفعل الإنساني بشكل عام الموسوم بالصواب الخطأ، وبين الإسلام كمنظومة قيمة أخلاقية عليا، تجسدت عبر الزمن الذي ظلله الإسلام بمستويات متفاوتة ومتعددة بتعدد الزمان والمكان والإنسان؛ فمشكلة الكثير من هؤلاء وغيرهم، أنهم يرون بأن أمر العلم والمعرفة أمر يتصل بالحياة وبدراسة المادة وكل ما هو محسوس. أما إعمال العقل وكل مقتضيات وسائل العلم والمعرفة المعاصرة في فهم أمر الدين؛ فإنهم لا يؤمنون بذلك بوعي منهم أو دون وعي؛ تبعا لهذا الوضع يبقى أمر فهم الدين وقضاياه بيد فئة من الناس؛ لا صلة لها بما يجري في حقل العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية؛ وكل علوم العصر نتيجة ظرف كل واحد منهم، أو نتيجة ظروف عامة كان المجتمع من ورائها؛ قضية التجديد والإصلاح الديني إذن؛ تواجهها مشكلة مركبة بين تيار له معرفة بالتراث وبالمدونات؛ أصول الفقه والفقه والعقيدة... ولا يولي اهتماما لعلوم الفلسفة وللعلوم الإنسانية والطبيعية...

وبهدف إعادة مصالحَة الإنسان مع الوجود والطبيعة، خصوصًا في ظلّ هذا الخراب العمرانيّ والرّوحي الذي تعرفه الحضارة الحديثة اليوم، والتي قدمت قيم الاستهلاك والربح على قيمة الإنسان؛ وجب علينا تجديد المنهج في فهم القرآن الكريم؛ وذلك بتحليل وقراءة مواضيعه وكل القضايا التي تطرق إليها قراءة كلية تأويلية؛ تركز على فهم الفلسفة الأخلاقية التي يتضمنها القرآن ويدعو إليها؛ في تصوره ونظرته للحياة والإنسان، بدل الوقوف عند الجانب التشريعي منه؛ فكل ما هو تشريعي أو قانوني باصطلاحنا المعاصر، تكمن فيه قيمة أخلاقية إنسانية؛ قدم القرآن لها إجابة تشريعية وقانونية تطبيقية تبعا لمعطيات ومقتضيات الزمن الذي ظهر فيه، من أجل أن يضع لتلك القيمة نواة في الواقع يجعلها تنمو وتتسع بمرور الزمن، أو يجد لها وجودا من قبل، ويقويها بسند تشريعي من خلال آية من آياته أو سورة من سوره.

نحن اليوم، يلزمنا أن لا نقفز على الواقع الأنثربولوجي العربي الذي نزل فيه القرآن؛ وفي الوقت ذاته علينا أن نقرأ مجمل مواضيع والقضايا التي تطرق إليها القرآن، قراءة كلية من داخله؛ وذلك باستحضار مجمل جوانب كل موضوع بدل الوقوف عند جزء من الآيات لوحدها؛ فضلا عن استحضار مختلف العلوم في مجال المعرفة المعاصرة في حقل اللغويات والمناهج... وهذه مهمة ملقاة على المختصين والباحثين في حقل الدراسات القرآنية. وفي هذا الصدد، تأتي أمية العديد من المشاريع والكتابات الفكرية من قبيل كتابات أبي القاسم حاج حمد؛ وفضل الرحمان؛ ومحمد شحرور؛ ومحمد أركون؛ ونصر حامد أبو زيد؛ وعبد الله العروي؛ ومحمد عابد الجابري...وغيرهم

فمثلا؛ عندما نقرأ في القرآن؛ قوله تعالى: "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)" (الأعراف)؛ فهذه آية ليست للوعظ أو لتقرأ على الأموات أو تتلى في الصلوات، وانتهى الأمر. إنها قيمة أخلاقية إنسانية عليا، تحذر الحضارة والإنسان؛ من آفة تحول العلم والحضارة إلى آلة فساد في الأرض تهلك الحرث والنسل؛ فعواقب كل ذلك ستكون وخيمة وشديدة الأثر على الإنسان الحر في الإرادة وفي الفعل والاختيار؛ الإنسان عليه أن لا يكون سببا في خراب البيت الذي هو فيه وعليه؛ أي الأرض؛ وهذه معضلة وإشكالية فلسفية اليوم؛ ويمكن أن نحددها في إشكالية أخلاقية العلم؛ هل العلم سيتصرف بما يريد البعض من الناس، بمعزل عن القيم والأخلاق التي تراعي إنسانية الإنسان وكرامته؛ مع العلم أن الإنسان يستمد كينونته الأخلاقية من الجانب المتعالي فيه وهو الروح. وعندما نتحدث عن الروح، فإننا نتحدث عن موطن كل ما هو متعالٍ وإنساني بطبعه (الدين- الفن - الثقافة)؛ فلا يمكن بحال من الأحوال، أن نختزل الإنسان في جانبه البيولوجي والطبيعي والاستهلاكي. وإذا كان ذلك تبعا لمصالح البعض، فلا شك أننا سنكون أمام إنسان فاقد للضمير وللأخلاق؛ فبإمكانه أن يقوم بكل شيء. إنه الإنسان المشيّأ؛ الإنسان الذي أريد له أن يختزل في الطبيعة؛ إلى درجة يتصور معها أنه سيسيطر على الطبيعة نفسها نتيجة غروره... القرآن يفاجئنا بحتمية المصير قال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)" (الروم) صحيح هذه آية قرآنية ونص ديني، ولكنه يفتح أعيننا على قضية فلسفية تتصل بالمصير وبالوجود الإنساني ككل؛ أليست قضية التلوث البيئي، وقضية أسلحة الدمار الشامل وقضية الأسلحة النووية وغير ذلك، من القضايا المهددة للمجتمع الإنساني ككل... لا شك في ذلك الإنسانية اليوم أمام امتحان صعب؛ ولا شك أن الاختلاف بين العلماء اليوم؛ حول "فيروس كورونا" هل هو مصنع بالكامل، أو تم تطويره مما هو طبيعي إلى ما هو صناعي؛ أمر يجعل من موضوع سؤال العلم والأخلاق؛ موضوع سؤال ونظر؛ الإنسانية اليوم تتذوق بعض مما عملته أيدي بعض منها؛ ولاشك أن هذا سيسهم في تغيير الكثير من المسلمات الفكرية والفلسفية بعد جائحة كرونا التي جعلت كل الناس في العالم يدركون عن قرب أن مصير الإنسانية مصير واحد.

ونحن هنا لا نقول، إن القرآن يقدم للإنسان حلولا لكل مشكلاته الحضارية، بل على العكس من ذلك؛ فالقرآن يضم بداخله الكثير من المداخل المعرفية في نظرته للإنسان والوجود والكائنات ككل متكامل؛ فالأمر يتطلب دراسة مثل هذه الموضوعات في سياقها الكلي داخل القرآن، وفي علاقتها بكل المواضيع الأخرى التي ترتبط بها بشكل مباشر أو غير مباشر.

عبد الواحد أيت الزين: ثمة جدالٌ صاخِب بين "الدّين" و"العلم"، سواء في المغرب أو خارجَه. ويظهر أنّ "أزمَة المعْنى" و"أزمات كورونا" وإرباكاتُها تزيدُ هذا النقاش تعقيداً، بل أحياناً صداميّة، كيف يفهم مولاي أحمد صابر هذه العلاقة؟ وهل صعب أمام الإنسان المعاصر أن يكون من أهل "العلم" و"الدين" في الوقت نفسه، وإن كان ذلك ممكناً فما السّبيل إليه؟

صابر مولاي أحمد: في تقديري؛ نحن اليوم في حاجة لنخرج من التفكير الذي يعتمد الثنائيات؛ من قبيل الدين/ العلم، العقل/ النقل، النص الديني/ النص الفلسفي، الإسلام/ العلمانية... التفكير بمنطق الثنائيات التي ينظر إليها بأنها متضادة؛ في الغالب يفضي بصاحبه إلى انسداد أيديولوجي مع هذا الاتجاه أو ذاك؛ والأيديولوجية بمفهومها السلبي طبعا؛ دائما تكون ضد ما هو علمي وضد ما هو موضوعي؛ سواء كانت أيديولوجية باسم الدين أو أيديولوجية باسم العلم أو أيديولوجية باسم فكر أو مذهب أو مدرسة ما...

لهذا، نحن في حاجة لنطرح السؤال ما هو الدين؟ مع العلم أن الإنسان كائن متدين تبعا لما يقول به علم الأنثروبولوجيا؛ هل أمر الدين ينحصر في طبيعة تدين الناس وفي سلوكياتهم تجاه الدين وثقافتهم وطباعهم وعاداتهم وتصوراهم ومختلف علومهم...؟ لن نخلص إلى نموذج واحد في تعريف الدين، إن سلكنا هذا المسلك؛ إذ سنجد أنفسنا أمام أنماط لا متناهية في فهم الدين، وفي طبيعة السلوكيات والأقوال والأفعال والطباع التي تفرغت عنه وباسمه، بمعزل عن تقييمها؛ هل هي مفيدة أم غير ذلك. في تقديري، الدين هو منظومة القيم والأخلاق التي دعا إليها القرآن الكريم؛ فالقصص القرآني بما فيه استرجاعه لوقائع تاريخ النبوة، والآيات والسور التي تحدثت عن الوجود والكائنات... كل ذلك تكمن من ورائه منظومة قيم وأخلاق؛ يدفع القرآن القارئ تجاهها بدرجة أولى؛ فمثلا عندما تستفيض سورة البقرة في الحديث عن بني إسرائيل، فليس الهدف بدرجة أولى هو التأريخ لما كان عليه شعب بني إسرائيل، وليس الهدف الأول حفظ متن السورة وتكرارها في المناسبات وما شابه؛ الهدف الأول الذي يريد القرآن أن يكون له حضور عملي في الواقع هو القيم الأخلاقية التي تكمن من وراء سردية سورة البقرة. ولهذا، من البديهي أن نجد القرآن يخاطب الروح والعقل والنفس والجسد والجوارح، وهو يتواصل مع القارئ، وعندما يتمثل الإنسان الفرد والجماعة منه منظومة القيم تلك؛ فنحن داخل دائرة الفعل الإنساني القابل للصواب والخطأ تبعا للمحيط الاجتماعي والثقافي الذي يظلله. نحن اليوم تظللنا الحضارة الحديثة، فنحن من جهة ينبغي أن نعيش زماننا نحن؛ وليس زمن من مروا من الآباء والأجداد، وفي الوقت ذاته ينبغي أن نكون قادرين على نقد وتحليل مقتضيات الحداثة، لنتجنب منزلقاتها وآفاتها، وفي الوقت ذاته تكون لنا القدرة لننتقد أنماط التدين الموروث والميت الذي لم يعد مناسبا للحياة التي نعيشها اليوم. وبهذا، يكون لنا تدين يليق بزماننا وفي الوقت ذاته معرفة راشدة تعلي من قيمة النقد، ومن قيمة ما هو أخلاقي وإنساني؛ كل ذلك نتيجة الخروج من ثنائية الدين/ والعلم؛ فروح الدين وجوهره لا تتعارض مع فضيلة العلم والفلسفة؛ لأن الإنسان قبلتهما؛ بالرغم من أننا قد نصادف نمطا منحرفا من التدين لا مصلحة فيه للإنسان؛ فالمشكلة تكون في التدين، وليس في الدين، أو في نمط من الفلسفة والعلم، تترتب عنهما إساءة بليغة للإنسان؛ فالمشكلة في التفلسف وليست في الفلسفة وفي نتائج العلم وليس في العلم؛ ولهذا الجمع بين مقتضيات الدين كرؤية أخلاقية للوجود والإنسان وبين العلم، ليس إشكالا على الإطلاق، وبالأخص عندما نتحدث عن القرآن الكريم.

عبد الواحد أيت الزين: هناك من يذهَب أستاذ صابر إلى أنّ روحيّات جديدة (لها عوالمها في الفن وشعبه وغيرها من ضروب "الرّوحنَة" في العالَم المعاصر) قد تعوّض الدّين وما ينجزه من وظائف في عالم المعنى والحياة، وأنّ بقَاء التقليد الدّيني الإسلاميّ حبيسَ ما أنتجَه المتقدّمُون، سيوقِع الدّين في مآزق واقعيّة وعمليّة جذريّة، ما تعليقُكم عن الموضُوع؟

صابر مولاي أحمد: هناك أقوال الكثير منها لم تسبقه أبحاث أو دراسات علمية؛ مثلا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين؛ هناك من يرى بأن الدين والتدين أمر تجاوزه العلم إلى درجة أنه لا فائدة من دراسة الدين في علاقة ذلك بالمجتمع والثقافة والإنسان؛ فذلك مضيعة للوقت؛ فبتقدم العلم وتصاعده سيزداد الإنسان ثقة وقدرة بذاته، ويتخلص بالكامل من جهله بقوانين الطبيعة ومن عقدة الخوف المترسبة لديه منذ القدم من ظواهرها؛ وبالتالي ستزول الأسباب التي من وراء حضور الدين في حياة الإنسان؛ وفي تلك الحقبة؛ وقد تم النظر إلى التدين وإلى الدين في تلك الحقبة بأنه مصدر التخلف؛ فالتقدم يعني القطيعة مع الدين ومحو كل مظاهر التدين في المجتمع بدل تجديدها أو انتقادها... وقد صاحب ذلك ردود فعل بين مؤيد ومعارض؛ في العالم كله بما فيه العالم الإسلامي؛ الغريب في الموضوع أن صيرورة التاريخ ذهبت بعكس هذا الادعاء الذي لا دليل عليه من العلم؛ وذلك بعودة الإنسان الغربي بشكل عام إلى الدين؛ ونسبة العودة هذه؛ ظهرت بشكل عام بدءا من العقد الأخير من القرن العشرين؛ فممكن أن نتحدث اليوم عن حضور المسيحية والإسلام والبوذية... في الغرب؛ والمسألة هنا لا ترتبط بدرجة أولى بالجاليات المهاجرة؛ بقدر ما ترتبط بحاجة الإنسان في الغرب إلى الدين، وإلى ما هو روحي بشكل عام؛ فمجمل الدراسات السوسيولوجية والإنسانية تجاوزت النظرة التي تختزل وجود الإنسان والمجتمع في البعد المادي؛ إلى الإقرار بأن التدين مطلب يتصل بوجود الإنسان. وفي هذا السياق، يأتي مطلب الاهتمام بالروحانيات وبالفنون من هذا النوع... أما أن يكون الفن بديلا عن الدين، ونحن نتحدث عن الفن هنا بصفته الروحية من موسيقى ورسم ومسرح... وليس الفن المشيأ الذي يدور في دائرة الغريزة والجسد... فإن تمعنا في علاقة الفن بمختلف الديانات الكبرى بما فيها الإسلام؛ فلا شك أننا سندرك أن الدين يأتي محمولا على أجنحة الفن؛ في القرآن الكريم جمال النظم والكلمة والمعنى...وفي الحضرة الإسلامية، تجد جمال العمارة في المساجد... تجويد القرآن...وكذلك في المسيحية جمالية الكنائس ورسوماتها وترانيم وأناشيد التعبد...وفي الهند تعد أنواع من الموسيقى عبادة ومناجاة... فالتدين في الثقافة الإسلامية في مختلف جوانب الحياة، لا يكتمل إلا بلمحة فنية جمالية.

عندما نتحدث عن الدين، فنحن نتحدث عن معطى كلي لرؤية وتصور معين لوجود الإنسان؛ كما نتحدث عن جزاء وثواب وعقاب... وأمور كثيرة مترابطة؛ فالديانات الكبرى عبر العالم تختلف من حيث تصوراتها. أما عندما نتحدث عن الفن أو روحانية ما... فنحن نتحدث عن جزء لا يمتلك تصورا للحياة والعيش... والجزء لا يمكن أن يكون بديلا عن الكل؛ والحقيقة أن العلم والمعرفة؛ ستكشف عن ماهية الدين الأكثر انسجاما مع التطورات العلمية والأكثر إنسانية... وأختم هنا بالتذكير بأن القرآن قد دشن حضوره في التاريخ في الحاضر بقوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)" (العلق) المسألة بالنسبة إلى القرآن ولمن يدور في دائرته، كما عبر أبو القاسم حاج حمد؛ هي مسألة قراءة في الخلق وفي عالم المخلوقات؛ وفي الوقت ذاته هي قراءة فباسم الله الأكرم؛ فعلينا نحن بني الإنسان، أن لا نفرط في بعدنا الروحي المتجاوز للطبيعة البيولوجية فينا؛ وهو البعد الذي يؤهلنا لنرتقي إلى ما هو أفضل وفيه خير للناس جميعا.