جدل السياسة والدين والمعرفة


فئة :  قراءات في كتب

جدل السياسة والدين والمعرفة

جدل السياسة والدين والمعرفة

لا يخفى على دارس الفكر السياسيّ والديني الإسلاميّين المعاصرين، التداخل العميق بين هذين المجالين المعرفيين في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، وهو تداخل يؤثّر بقوّة على قطبي الحياة الإسلاميّة المعاصرة؛ أي بعديها الدينيّ والسياسيّ، لاسيما وهي تسعى إلى بناء نظريّة معاصرة في الإيمان وفي السياسة.

إنّ الترابط بين التأسيسين الديني والسياسيّ، يجعل من أوكد مهمّات الفكر العربيّ المعاصر دراسة آليات التعالق بين الديني والسياسي القديمين، لبحث سبل تطوير هذا التعالق بصيغة تجعل التجديد الدينيّ دافعا للتجديد السياسيّ ومؤصّلا له.

ومن هنا، تمثّل دراسة هذا التعالق بين الديني والسياسي في علم الكلام الإسلامي، بوصفه إحدى أبرز أنظمة المعرفة المحدّدة للثقافة العربيّة الإسلاميّة قديما وحديثا، إحدى المحطّات الرئيسة لفهم علاقة السياسي بالديني في الفترة المعاصرة وتأسيسها.

في هذا الإطار، يدخل تقديم كتاب المفكّر التونسيّ محمّد بوهلال، جدل السياسة والدين والمعرفة.

وهذا الكتاب كما يقول مؤلّفه: "بحث تأليفيّ في علم الكلام، وعقائده، و نساقه، وفرقه" (المقدّمة، ص13)

وما يميّزه عن سائر الكتب المهتمّة بعلم الكلام تاريخا ومدارس ومقالات، هو "دراسة علم الكلام في صلته بالمجتمع الذي أنتجه وبالمعارف المعاصرة له؛ أي دراسته بما هو عنصر من عناصر النشاط الاجتماعيّ، ومكوّن من مكوّنات المنظومة المعرفيّة القديمة" (المقدّمة، ص14). هو دراسة لا تسعى إلى التعريف بتاريخ علم الكلام، وإنّما إلى بناء تصوّر فلسفيّ عامّ عنه (المقدّمة، ص15).

وتعود أهميّة هذا الكتاب لاعتبارين رئيسين بين اعتبارات عدّة:

-الأوّل هو عجز المعرفة الكلاميّة التقليديّة عن الاستمرار في حلّ مشاكل المؤمنين العقديّة والاجتماعيّة، رغم تأثيرها الباقي في شعورهم ولاشعورهم، وذلك نتيجة التغيير العميق الطارئ على حياتهم بفعل الحداثة.

-أمّا الاعتبار الثاني، فهو معرفيّ علميّ، ويتمثّل في استحالة فهم الوضع الدينيّ والسياسيّ الرّاهن وبنائه المستقبليّ دون معرفة التجارب السياسيّة والكلاميّة المبكّرة للجماعة الإسلاميّة في القرون الأولى: لن يفهم الحاضر ويتوقّع المستقبل ما لم يفهم الماضي.

أمّا خطّة البحث أو خياراته المنهجيّة في هذا الكتاب، فيشرحها بوهلال تبعا للأهداف المقصودة منه، وللواقع التاريخي القديم لعلم الكلام الإسلاميّ، وللعقبات التي اعترضت الباحث في إنجاز دراسته؛ فالهدف من هذا البحث كما يعلن المؤلّف، هو دراسة الجدل التاريخي القديم بين الدينيّ والسياسيّ في الثقافة العربيّة الإسلاميّة القديمة، باعتبار هذا الجدل بين السياسيّ المتصل بصراع المصالح الفرديّة والجماعيّة، والدينيّ بما هو قيميّ روحيّ، استقطب أهمّ قضايا علم الكلام، وكان المحدّد الرئيس لمسائله، واتجاهاته، وأطواره، ومآله التاريخي. هذا الهدف والواقع، جعلا من خيارات الباحث الجمع بين دراسة كيفيّة انبناء المعرفة الكلاميّة، من جهة، ودراسة تأثيرها في محيطها الفكريّ والاجتماعيّ، وتفاعلها معه تأثيرا وتأثّرا، من جهة ثانية.

ودون الخوض في جملة العقبات التي اعترضت المؤلّف في دراسته، فإنّ جملة خياراته المنهجيّة وأهدافه تتّضح من خلال الأسئلة التالية التي جعلها موجّها له في هذا البحث:

-ما الحاجة إلى ظهور علم الكلام وقتها؟

-ما مراحل تطوّره؟

-ما العوامل المؤثّرة فيه؟

-هل تكوّنت له بنية نظريّة تميّزه عن سائر العلوم؟

-ما المدارس الدينيّة التي تكوّنت في إطاره؟

-ما مكانته في محيطه الاجتماعيّ والعلميّ؟

-ما دلالته بالنسبة إلى المسلمين؟

هذه الأسئلة أملت على المؤلّف تقسيم كتابه إلى سبعة فصول، فضلا عن المقدّمة والخاتمة، شفع فيها كلّ فصل بخاتمة تأليفيّة لأهمّ أفكاره واستنتاجاته.

الوصف المفصّل للكتاب

الفصل الأوّل: في حدّ علم الكلام ومنزلته التاريخيّة (ص-ص 21-48)

يهتمّ هذا الفصل بثلاثة محاور رئيسة، هي: حدّ علم الكلام، و أبعاد المحنة أو منزلة علم الكلام بين العلوم الإسلاميّة، وأطواره أو مراحل تطوّره. ففي حدّ علم الكلام يذهب تركيز بوهلال خلف الاهتمام بالتعريف الاصطلاحي لأعلام، مثل الفارابي (ت339هـ)، والإيجي (ت756هـ)، وابن خلدون (ت808هـ) لهذا العلم، إلى رصد التطوّرات الحاصلة على تعريفه في ارتباط بتغيّر منزلته والوظائف التي نهض بها، وصولا إلى الاستحواذ السنيّ عليه منذ الأشعريّ (ت324هـ) إلى ابن خلدون. فيكشف أنّ تعريفاته ارتبطت بمراحل تطوّره، وأنّ التعريف السنيّ كان مكرّسا لخارجيّة علم الكلام بالنسبة إلى الدين بما أنّه يعتبر أنّ "الحقيقة معطى جاهز يجتهد المتكلّم بعديّا في تبريره وإثبات صحّته، ولا يسهم في إنتاجه وتشكيله"، وهذا يعني أنّ "مجمل العقائد والأفكار الكلاميّة كانت من صنع المتكلّمين أنفسهم" (ص32). وفي حديثه عن أثر المحنة على علم الكلام يفنّد بوهلال رأي جوزاف فان آس القائل بأنّ المحنة كانت السبب في ضمور علم الكلام، وانتصار الفقه عليه. وممّا يسوقه بوهلال من حجج على رأيه أنّ الأنساق الكلاميّة المعتزليّة، والزيديّة، والسنيّة، والإباضيّة، جميعها نضجت ولم تنتج كبار متكلّميها إلاّ أثناء المحنة أو بعدها. ومقابل ذلك، يردّ بوهلال هذا التراجع بداية من القرن السابع الهجريّ إلى عدّة عوامل، منها السياسيّ، ومنها ما يتّصل بموضوع علم الكلام، ووظيفته، ولغته.

المحور الثالث لهذا الفصل، يضبط فيه المؤلّف أطوار تطوّر هذا العلم، ومعياره في ذلك أنواع الموضوعات المتناولة في كلّ مرحلة، وطرائق الاستدلال، وحجم تقبّله من قبل المجتمع. وعلى هذا الأساس يحدّد بوهلال أطوار هذا العلم في خمس مراحل، بدايتها طور الكلام السياسيّ (من الاختلاف على عثمان إلى منتصف القرن الثاني للهجرة)، وثانيتها مرحلة الكلام العلمي الميتافيزيقيّ، تليها مرحلة الكلام المختلط بالفلسفة، فطور المختصرات والشروح، وهو من عصر ابن خلدون إلى محمّد عبده (ت1905م)، فطور "الكلام الجديد"، ويبدأ من ظهور كتاب محمّد إقبال "تجديد الفكر الدينيّ في الإسلام" (1930)، ويتواصل مع المدافعين عن وجهة النظر الإسلاميّة في المسائل الكلاميّة القديمة بتوظيف مناهج العلوم الحديثة، ومنهم شبستري، والطالبي.

الفصل الثاني: الكلام السياسيّ (ص-ص 49-108)

يهتمّ بوهلال في هذا الفصل بـ "تبيين طبيعة هذا الكلام وأهمّ الأطراف الفاعلة فيه" (ص52). وذلك عبر دراسة "الظروف التي أنشأته وحدّدت مقالاته"، والتعريف "بأهمّ الفرق التي مثّلته، وهي الخوارج، والغلاة، والمرجئة، والقدريّة"، وتوضيح "الأدوار التاريخيّة التي نهضت بها، والخصائص العامّة التي ميّزتها من جهتي التفكير والممارسة" (ص52). وفيما يخصّ نشأة علم الكلام، يعقّب بوهلال على آراء فان آس، ومايكل كوك، وحسن قاسم مراد، وأحمد محمود صبحي، فيرفض ردّهم نشوء الكلام إلى القرن الأوّل للهجرة، كما يرفض عدم انتباههم إلى تطوّر الكلام من طبيعة سياسيّة نحو طبيعة فلسفيّة تأمّليّة (ص56). وفي ما يخصّ الفرق الكلاميّة والأحزاب، يعرض بوهلال لأربعة منها، هي الخوارج، والغلاة، والمرجئة، والقدريّة. ويقف على "البعد السياسيّ في فكرها وممارستها" (ص59). فيتعرّض إلى الخوارج (ص-ص 59-75). ويحصر السمات العامّة لتفكيرها الكلامي في خمس سمات (ص69-71)، ثمّ يتعرّض إلى غلاة الشيعة (ص-ص75-85) وصفاتها السبعة (ص82-83)، ثمّ المرجئة الذين يفصلون بين الشأنين السياسي والروحيّ (ص- ص85-98) في أطوارهم الثلاث، ثمّ القدريّة (ص99-102) بأنموذجيها البصري، والشاميّ، ممثلين في أبي الحسن البصريّ (ت110هـ)، وغيلان الدمشقيّ (ت105 أو 125هـ).

بعد هذا يخلص بوهلال إلى خمس نتائج مترتّبة عن هيمنة علم الكلام السياسيّ على الساحة الفكريّة الإسلاميّة لمدّة تجاوزت القرن من الزمان، أوّلها تحويل الشأن السياسيّ إلى شأن عامّ، والتعارض بين اتجاهين في شأن الحكم، أحدهما قصره على فئة أو عشيرة أو طبقة معيّنة، وأراد الآخر فتحه للجميع؛ وثانيهما المزج التام بين الدينيّ والسياسيّ، إذ عرّف الاعتقاد بما هو سياسيّ. ونتج عن ذلك ثالثا "أن تماهت الحقيقة في المجال السياسيّ بالحقيقة الدينيّة، وأصبح الحقّ السياسيّ حقّا إلهيّا...لقد كان هذا التماهي بمثابة الحجاب الذي منع المسلمين من الانتباه إلى نسبيّة ممارستهم السياسيّة. وهذا يفسّر العسر الذي يجده كثير من المسلمين المعاصرين في تقبّل فكرة بشريّة الحكم ووضعانيّة النظام السياسيّ، وإخضاع حياتهم لهذه الفكرة" (ص106)؛ ورابع النتائج هي حصول انشطار في الوعي السياسيّ بين الواقع و المثال.

في المحصّلة حوّل الكلام السياسيّ أزمة سياسيّة ظرفيّة تاريخيّة إلى أساس دائم لتحديد الاعتقاد.. وظلّت هذه الوظيفة توجّه جوهريّا نظرة السلطة السياسيّة قديما وحديثا إلى كلّ من يعارضها. ولهذا السبب فشل الكلام السياسيّ في العثور على حلول لمشاكل المجتمع الإسلاميّ القديم الرئيسة: مشكلة انقسام الجماعة، ومشكلة التعايش، ومشكلة البرنامج الواضح بالنسبة إلى الدولة.

الفصل الثالث: المنعرج الاعتزاليّ (ص- ص 109- 144)

يهتمّ بوهلال في هذا الفصل بالتحوّل الطارئ على علم الكلام منذ القرن الثاني للهجرة، فيذكر أسبابه، والقائمين به، ويعرض مظاهره. ففي شأن الأسباب الكامنة وراء هذا التحوّل، يحصيها بوهلال في أربعة أسباب رئيسة، هي تحالف المتكلّمين مع الدولة في الفترة العبّاسيّة، والحاجة إلى التخصّص في مجال العقيدة، خصوصا وقد اختصّ الفقه بميدان المعرفة العمليّة، والحاجة إلى الدفاع عن الاعتقاد الرسميّ، والردّ على الخصوم بالطرائق العقليّة.

فأمّا القائمون بهذا التحوّل، ورغم أنّ المنخرطين فيه كانوا من أغلب الفرق الكلاميّة، فإنّ الدور الأبرز فيه كان لمؤسّسي علم الكلام، وهم المعتزلة. وأمّا جوهر هذا التحوّل، فيتمثّل في الانتقال من الاهتمام الكليّ بالشأن السياسيّ إلى إعطاء الأولويّة للقضايا ذات الطابع الميتافيزيقيّ. ولم يعن هذا أنّ الممارسة الكلاميّة تركت قضاياها الأولى كالإمامة، والقدر، والموقف من مرتكب الكبيرة، إنّما أدرجت هذه القضايا ضمن قضايا أهمّ تؤسّس الاجتماع على المعرفة بدل القوّة، وهي معرفة تمحورت حول موضوع الألوهيّة منطلقا لتصوّر تفاصيل الواقع البشريّ. وتأسّس الجدل حولها على أساس نظرة علميّة للطبيعة والعالم، ذات مصادر فلسفيّة سمّاها المعاصرون النظريّة الذريّة. إنّ أهمّ خصائص هذا الكلام الميتافيزيقيّ الناشئ يحصيها بوهلال في محوريّة المعرفة (ص128)، والانفتاح على الآخر (ص130)، والخاصيّة الحجاجيّة (ص134)، وتقديم العقل على النقل (ص139).

الفصل الرابع: الكلام العلميّ (ص-ص 145-174)

يوضّح بو هلال في هذا الفصل الخصائص التي جعلت علم الكلام يسمّى علما، ويعدّ العلم الدينيّ الأعلى، بعد أن تضافرت جهود العلماء والساسة طيلة النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة والعقود الأولى من القرن الهجريّ الثالث على هذا التأسيس. ويحدّد بوهلال هذه الخصائص في ما يمثّل خصائص للعلم عامّة، وهي استقلاله بمنهج خاصّ، وموضوع أو مسائل، ووظيفة. فأمّا المنهج، فهو الاستدلال العقليّ القائم على التحليل اللّغويّ، وقياس الشاهد على الغائب لمعرفة اللّه عقليّا. بينما الموضوع والمسائل، فهي وإن تقسّم إلى دقيق الكلام أو لطيفه وموضوعه المسائل الطبيعيّة، وجليل الكلام أو جليّه وموضوعه المسائل المتصلة بالألوهيّة، فيمكن ردّها إلى قضايا خمسة هي المعرفة، والموجود، والألوهيّة، والعالم، والإنسان، وهي قضايا تدرس في إطار منظومة أصوليّة تكوّنت منذ القرن الثاني الهجريّ بأمر من المأمون (عام 206 هـ)، واختلفت أصولها حسب الفرق، وإن اشتركت في أغلبها. ولهذا يفصّل بوهلال المقاربات الكلاميّة المختلفة لهذه المنظومة الأصوليّة حسب الفرق، فيتعرّض إلى المقاربات الإباضيّة (ص159)، والشيعيّة الإماميّة (ص160)، والاعتزاليّة (ص161)، والسنيّة (ص162). ويبيّن أنّ الاختلافات بينها كانت في تصوّر التفاعل الأصليّ بين العقيدة والسياسة، فمقابل تغليب البعد الرّوحيّ في العقيدة على بعدها السياسيّ عند المعتزلة، كانت الخوارج والشيعة أبرز الفرق التي كرّست هيمنة السياسيّ على العقديّ.

وإذا كانت وظيفة علم الكلام، كما يقرّر بو هلال، في تقديم أسس الإيمان القويم، فإنّ ما جعله يرقى إلى مرتبة العلم الدينيّ الأعلى هو قدرته على تقديم تصوّر للعالم يكافئ تصوّرات الفلاسفة وأرباب الديانات الأخرى أو يفوقها. ويكشف بوهلال تكوّن هذا التصوّر للعالم على مرحلتين تكفّلت بهما الطبقة السادسة من المعتزلة (لا سيما أبي الهذيل العلاّف (ت227هـ)، و إبراهيم النظّام (ت 221هـ))، ثم أبي عليّ الجبّائيّ (ت 303هـ)، وهو تصوّر استند على النظريّة الفيزيائيّة الذريّة، التي كانت الأقدر على إثبات وجاهة الاعتقاد الإسلاميّ، إذ مكّنت من عقد الصلة بين الألوهيّة والطبيعة. ولكنّ هذا لا ينفي أهميّة التحويرات التي أجريت عليها نتيجة توجّهها لخدمة التعاليم الدينيّة. ولهذا يقرّر بوهلال أنّه رغم الكمّ الهائل من المعارف الذي وظّفه علماء الكلام في استدلالهم العقديّ، فإنّ ارتباطهم بالغايات السياسيّة والعقديّة المذهبيّة منع علمهم من بلوغ العلميّة التي بلغتها الفلسفة البرهانيّة القديمة.

هذه الخصائص الأخيرة لعلم الكلام التقليديّ يستند عليها بوهلال، ليقرّ بعجزه عن القيام بالدور القديم نفسه الذي قام به في المجتمع الإسلامي القديم في المجتمعات المعاصرة، خصوصا مع تأكيد الإبستمولوجيا المعاصرة، منذ النقد الكانطيّ للميتافيزيقا، استحالة استمرار الجمع بين المواضيع المتفاوتة التي قام عليها علم الكلام التقليديّ، وهي مواضيع اللّه، والطبيعة، والإنسان.

الفصل الخامس: المدارس الكلاميّة (ص-ص 175-236)

هذا الفصل يخصّصه بوهلال "للنظر في الفرقة الكلاميّة من حيث هي جسم اجتماعيّ وجهاز تنظيميّ ومؤسّسة ثقافيّة وفضاء للحياة والفعل" (ص177). وينجز ذلك عبر دراسة مفهوم الفرقة أوّلا، والوقوف على أهمّ الفرق التي مثّلت في نظره مدارس دينيّة، وهي الشيعة، والمعتزلة، والخوارج، والباطنيّة، وأهل السنّة، ثانيا، ودراسة العلاقات التي ربطت بين هذه الفرق، أخيرا. ففي وقوفه على مفهوم الفرقة، يكشف بوهلال غياب تعريفها الدقيق عند القدامى. ويردّ ذلك إلى عدّة اعتبارات، أهمّها عدم تمييز المصنّفين بين الدينيّ والسياسيّ، وحرصهم على تحصيل العدد ثلاثة وسبعين فرقة، المذكور في حديث الفرقة الناجية. ولهذا يستعين بوهلال بالتعريفات الحديثة للفرقة، وأبرزها تعريف رضوان السيّد، وأدقّ منه تعريف المنصف بن عبد الجليل الذي يتأسّس على أربعة أركان، عقديّة، وسياسيّة، وتنظيميّة، وقانونيّة (ص180)، ليميّز بين نوعين من الفرق، هما الفرقة-الحزب، والفرقة- المدرسة. وحسب هذا التصنيف، تتمثّل المدارس الكلاميّة التي تتوفّر فيها شروط الفرقة-المدرسة عنده في المعتزلة، والشيعة، والسنّة؛ هي فرق ثلاثة جعلت هدفها صياغة تصوّر عامّ للدين والوجود والمجتمع، ووفّرت الأسس الدينيّة، والفلسفيّة، والقانونيّة، والسياسيّة لتحقيقه. ولهذا يخصّص بوهلال بقيّة الفصل لتعريف هذه الفرق، وعرض مميّزات أنساقها الكلاميّة دينيّا ومعرفيّا.

وأوّل الفرق التي يتعرّض إليها من هذا المنظور هي الشيعة، بمختلف فروعها، وأعلامها، وتفاعلها المختلف مع الكلام المعتزليّ. ويجمل بوهلال خصائصها في خمس خصائص تميّزها عن التسنّن والاعتزال، أهمّها تمييزها بين الباطن والظاهر في رؤيتها للعالم والتاريخ والنصّ، وقولها بأنّ الإمام أساس الكون وعماده، وكذلك قدرتها التركيبيّة بين أنساق معرفيّة كثيرة، كالفكر الاعتزالي، والفلسفة العرفانيّة والمشّائيّة، والميثولوجيا.

وفي شأن ثاني هذه الفرق، وهي المعتزلة (ص197) واضعة علم الكلام، يكشف بوهلال دورها الرياديّ في ترقية الجدل الميتافيزيقيّ إلى علم. كما يشرح تميّزها بإسنادها الدور المركزيّ في نظامها الدينيّ المعرفيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ للعقل والحريّة اللّذين اعتبرا أساس التكليف الدينيّ والمسؤوليّة الاجتماعيّة. ورغم صلابة هذا النظام، فإنّ اندثار المعتزلة يعود حسب بوهلال إلى مجموعة من العوامل، أبرزها نخبويّتها، وحصار الدولة السنيّة للتفكير العقليّ.

أمّا فرقة أهل السنّة (ص207)، فيميّز بوهلال بين تيّارين في صلبها، الأوّل تاريخيّا تيّار موغل في التقليد والاعتماد على النقل، بينما يتعاطى التالي له، وهم متكلّمو السنّة، مع العلوم العقليّة. ورغم التطوّر الحاصل بين المقلّدين ومتكلّمي السنّة، فإنّ صفات خمسة يمكن أن تمثّل خصائص تيّار التسنّن إجمالا، وأبرزها قولهم بأسبقيّة النقل على العقل، وتمثّلهم للدين تمثّلا فقهيّا، واعتبارهم الشريعة جوهر الدين. وقد طبعت هذه الخصائص مرحلتهم الكلاميّة، إذ جعلوا دور العقل والجدل الكلاميّ الدفاع عن العقائد السنيّة التي جاء بها السمع، بل تبريرا للمشروع السنيّ في كلّ أبعاده السياسيّة والدينيّة والمعرفيّة، وهو ما أدّى إلى إلجام العقل والقضاء على فاعليّته.

الفصل السادس: أصناف المتكلّمين (ص-ص 237-262)

موضوع هذا الفصل تحديد ملامح الصورة المميّزة للمتكلّم عن سائر علماء الدين، والوظائف التي اضطلع بها، ومختلف علاقاته بالمجتمع والدولة. وينجز المؤلّف ذلك من خلال ثلاثة محاور، أوّلها يخصّص لدراسة نماذج المتكلّمين، بينما يتعلّق الثاني بثقافتهم، في حين يتّصل الثالث بحياتهم العامّة. ففيما يخصّ نماذج المتكلّمين يتحدّث بوهلال عن نموذجين، هما المتكلّم السياسيّ - وهو النموذج السابق تاريخيّا- والمتكلّم العالم، وإن كان يميّز داخل هذين النموذجين بين ستّة أصناف من المتكلّمين (ص240). وهو يشرح خصائصهما المميّزة، ويذكر أهمّ ممثليهما.

وفي شأن ثقافتهم (ص248)، يبيّن بوهلال التجاور في هذه الثقافة بين منظومتي العلوم العقليّة والعلوم الشرعيّة، مفنّدا الزعم القائل برفضهم لمنظومة العلوم النقليّة المتصلة بالنصّ، موضّحا أنّ ما كان يميّز تعاملهم مع هذه المنظومة عن سائر علماء الدين، هو نوعيّة الهدف من هذه الثقافة، وطريقة التعامل معها؛ ذلك أنّ ما شغل اهتمامهم كان بناء المعرفة النظريّة المتعلّقة بالوجود والإله والإنسان، فـ "المتكلّم لم يكن من الناحية المعرفيّة مجرّد راوٍ لخبر، ولا كالمفسّر مجرّد مفتّش عن المعنى في نصّ جاهز، ولا كالفقيه مقيّدا بخطاب الشارع وبالنوازل المحتاجة إلى حكم عمليّ، بل كان منتجا للمعرفة النظريّة يبني تصوّرا للوجود، ورؤية للألوهيّة، وفهما للإنسان والمجتمع والمصير" (ص 254).

أمّا فيما يخصّ حياتهم العامّة (ص255)، فيبيّن بوهلال تميّز المتكلّمين بانتمائهم الحضريّ والعلميّ، ممّا جعلهم يعتبرون أنفسهم من الطبقة الخاصّة العالمة، ويمارسون دورا تعليميّا لمذاهب فرقهم، عبر الدعوة والتدريس في المساجد. وأدّى انقطاعهم عن العمل السياسيّ بداية من القرن الرابع الهجريّ، وتفرّغهم للعلم النظريّ الذي لم ير الناس حاجتهم إليه في حياتهم اليوميّة، إلى تهميشهم اجتماعيّا، بل إلى اتّهامهم في عقيدتهم. وحدث ذلك خاصّة في عصر ابن خلدون بدفع من أئمّة الحديث والفقه.

الفصل السابع: الروحانيّة الكلاميّة (ص- ص 263 - 282)

يدرس بوهلال في هذا الفصل الكيفيّة التي خدم بها المتكلّمون الدين في بعده الروحيّ، ومعنى هذا البعد عندهم. وينجز ذلك عبر دراسة نشاطهم الكلاميّ، ومدى خدمته للروحانيّة الدينيّة؛ فيبيّن أنّ غايات أربعة أساسيّة سعت إلى تحقيقها مختلف المدارس الكلاميّة، هي على التوالي: إثبات الحاكميّة المطلقة للّه، والتشريع للثورة على الحكم الجائر، وقد سعت إليها الخوارج تمشّيا مع تصوّرها للمؤمن المثاليّ، وللشريعة باعتبارها جوهر الدين، وإثبات شرعيّة الإمام المضطهد وتفوّقه، وقد نهضت بها الشيعة، والحفاظ على عقيدة المجتمع وتماسكه، وكان شاغل الأشعريّة بين لحظتيها الأشعريّة والغزاليّة، وأخيرا إضفاء المعقوليّة والمعنى على الوجود، وتأسيس التفاؤل في الحياة، وقد سعت إليها المعتزلة (ص265)، وذلك توافقا مع حرصها على تقديم نظريّة إنسيّة في الوجود والإيمان مركزها العقل والحريّة.

الخاتمة (ص- ص 283 -287 )

خاتمة الكتاب عبارة عن خلاصة تأليفيّة تتعلّق بالمنزعين الأساسيّين لعلم الكلام، وهما الكلام السياسيّ والكلام الميتافيزيقيّ. ففي شأن الكلام السياسيّ، يشير بوهلال إلى ثنائيّة الدور الذي أدّاه، فهو من ناحية أولى جعل السياسة شأنا عامّا، ولكنّه من ناحية ثانية أنجز عمليّة تديين للسياسيّ، حوّلته إلى شأن ثابت متماه مع الحقيقة، وهو ما حوّل التاريخ السياسيّ الإسلاميّ إلى تاريخ دينيّ، صيّر صراعاته الدنيويّة صراعات على امتلاك الحقيقة. ولهذا يدعو بوهلال إلى ضرورة استعادة خطّ التمايز الأصليّ بين ما هو دينيّ، وما هو سياسيّ، منعا لمخاطر الأدلجة المتسلّلة في ثنايا هذه المماهاة.

أمّا الكلام الميتافيزيقيّ، وهو الذي يمثّل مرحلة متطوّرة من تاريخ علم الكلام تجاوزت ارتباطه السياسيّ نحو ارتباط معرفيّ، فهو يبغي تأسيس رؤية للعالم متمحورة حول الألوهيّة تسطّر تفاصيل المشروع المجتمعيّ. ولكنّ كثافة المضمون العقديّ لهذا النوع من الكلام أدّت إلى جموده المعرفيّ وانغلاقه وانسياقه - تماما كالكلام السياسيّ- وراء صراع المصالح والرؤى. ولهذا، فتماما كما في شأن الكلام السياسيّ، يعتبر بوهلال أنّه لا بدّ من الفصل بين المضمون المعرفيّ والعقدي لهذا الكلام.

إنّ محتوى التفكير الدينيّ الذي مثّله نوعا الكلام السابقين، لم يكن في الواقع غير استجابة لشروط التاريخ بمعرفته وأحداثه وصراعاته. ولذلك، فإنّ من أبرز مهامّ العصر الحديث تجديد هذا الفكر الدينيّ بفكّ ارتباطه من زمانه القديم وإدراجه في زمانه الجديد،عبر وصل التفكير في الإيمان بالمعرفة الحديثة، ولكن أيضا عبر إعادة إبراز منزلة هذا العلم بين سائر علوم الدين، وكشف دور مسائله في حياة المؤمن. كلّ هذه المهمّات تجعل بوهلال يتساءل: "هل يستطيع "علم الكلام الجديد" أن يكون جديدا حقّا". (ص287).