حوار مع ديل أيكلمان الأنثروبولوجيا وتحوُّلات المجتمعات الإسلاميَّة


فئة :  حوارات

حوار مع ديل أيكلمان  الأنثروبولوجيا وتحوُّلات المجتمعات الإسلاميَّة

حوار مع ديل أيكلمان[1] الأنثروبولوجيا وتحوُّلات المجتمعات الإسلاميَّة[2]

أجرى الحوار وترجمه: يونس الوكيلي

مراجعة: اضريوي بوزكري

يونس الوكيلي: طبعاً، السَّيِّد أيكلمان أستاذ معروف في الوسط الأكاديميِّ؛ لذلك لن أطلب أن تُعرِّفنا بنفسك، لكن لنطرح السُّؤال بشكل آخَر: كيف يمكن أن تُقدِّم لقُرَّاء مؤسَّسة مؤمنون بلا حدود، بشكلٍ عامٍّ، أهمَّ خُلاصات أبحاثك عن العالم الإسلاميِّ؟

ديل أيكلمان: منذ أكثر من نصف قرن؛ لا زلت مُنجذباً للبحث في المعتقدات والتَّعبيرات والممارسات الدِّينيَّة، وكيفيَّة تنوُّع الدِّين والإيمان عبر مسارات التَّاريخ والمجال. وبمعنى أكثر عموميَّة: انصبَّ اهتمامي على أنثروبولوجيا المعرفة؛ أي: التَّصنيفات والمفاهيم المنظَّمة حسب المعنى الَّذي يُضفيه النَّاس عليها، وبالتَّالي يتصرَّفون على أساسه في بيئاتهم الاجتماعيَّة والطَّبيعيَّة.

إنَّ الحكمة الشَّائعة مبكِّراً بالنِّسبة إلى جيلي في العلوم الاجتماعيَّة؛ هي أنَّ الدِّين الَّذي كان مركز الحياة الفكريَّة والاجتماعيَّة؛ أصبح هامشيَّاً أكثر فأكثر بالنِّسبة إلى الحياة العامَّة في المجتمعات المعاصرة، وحتَّى لَمَّا كنت طالباً في الدِّراسات العُليا، وقبل أن تكون لديَّ أيَّة تجربة في العالم الإسلاميِّ، لم أكن مُرتاحاً لقبول كيف أنَّ العلوم الاجتماعيَّة آنذاك افترضت بكلِّ ثقة تنامي إحالة الدِّين وحصره في المجال الخاصِّ، لقد كنت مُرتاباً في تلك الحكمة المألوفة، ومنذ منتصف السِّتِّينيات فصاعداً؛ حاولتُ أن أُبيِّنَ بدقَّة لماذا كنتُ أقف ضدَّ الافتراض القائل بأنَّ الدِّين كان يلعب دوراً هزيلاً في الحياة العامَّة.

لماذا ينبغي الاهتمام بأبحاثي وتحليلاتي ووجهات نظري؟ إنَّ المسألة الثَّابتة هي أنَّنا مُهتمُّون على نحوٍ مُتبادل بــــ: «كيف يرانا الآخرون؟». سأُحاجِج على أنَّه فقط وإلى حلول سنة 1830، على الأقلِّ في العالم النَّاطق بالإنجليزيَّة، طوَّر أحدُهم إطاراً فكريَّاً؛ حيث يمكن للمرء أن يكتب ويعتبر أنَّ الدِّين مُنفصل عن المعتقدات الشَّخصيَّة. في كتاب مُهمٍّ صدر في سنة 1964 لمؤرِّخ الأديان الكنديِّ «ولفرد كانتول سميث» (wilfred cantwell smith) بعنوان: (المعنى ونهاية الدِّين)، الَّذي تناول هذه القضيَّة، كما أنَّه أشار إلى تطوُّرات متوازية في اللُّغة العربيَّة بداية من القرن السَّادس فصاعداً، والَّتي سمحت تدريجيَّاً للنَّاطقين بالعربيَّة بفصل مفهوم «الإسلام» عن مفهوم «الإيمان».

دون سردِ قائمة طويلة من الأسماء؛ أعتقد أنَّ هناك عناوين كُتُب عربيَّة مثل (الإسلام والحداثة) أو بعض المناقشات التِّلفزيونيَّة (المُتلفزة) في منتصف التِّسعينيات على قناة الجزيرة، مثل برنامج «الاتِّجاه المعاكس» لفيصل القاسم؛ الَّذي عرضَ مناظرةً بين المثقَّف الشُّيوعيِّ صادق جلال العظم؛ ويوسف القرضاويِّ الَّذي يعتبر نفسه مرجعاً بفعل مساره المهنيِّ الطَّويل. إبان الفصل زمن أشرطة الفيديو؛ زرتُ محلَّات بيع تلك الأشرطة في دمشق وعمَّان والدَّار البيضاء والرِّباط والكويت ومسقَط. كلُّ أصحاب المحلَّات كانوا على عِلم بذلك البرنامج والعديد غيره، والسُّؤال الوحيد الَّذي كان يُطلَب منِّي هو: «هل جلبتَ معك شريطاً (من أجل إعادة التَّسجيل) أم أُزوِّدك بواحد؟». أعطتني هذه المعرفة الواسعة الانتشار عن مواجهة العظم والقرضاوي، مؤشِّراً مبكِّراً على قوَّة جمهور الجزيرة ومدى اهتمامهم بالموضوع. كما منحت، كذلك، لجمهور عربيٍّ عريض فرصة ليسمع تفسير «العلمانيَّة» تُشرَح مِن أحد دُعاتها بدلاً مِن أحد مناوئيها. بكلِّ تأكيد؛ يمكن للمرء الحصول على كُتُب مثل كتاب «علمنة الإسلاميِّين» لحُميرا اقتدار الصَّادر سنة 2011، وهو مؤلَّف يُلقي أضواء إضافيَّة على التَّغيُّر السَّريع لديناميَّات التَّفكير في دور الدِّين في المجتمع.

لا زلتُ دائماً خلال مساعيَّ لفهم الإسلام والعالَم المعاصر؛ تجتذبني التَّسارعات الَّتي تُحدِث تغييراً في الأفكار والممارسة. كان التَّركيز في الدِّراسات الإسلاميَّة، حينَ باشرتُها ينصبُّ على النُّصوص مُجرَّدةً؛ بغضِّ النَّظر عن السِّياق والجمهور. إنَّها نصوص حيويَّة، وهي مهمَّة كذلك في كيفيَّة فهم النَّاس في أوضاع اجتماعيَّة مختلفة للدِّين، بِمَن فيهم أولئك المتعلِّمون تعليماً عالياً أو سواهم. عندما زرتُ لأوَّل مرَّة جنوب العراق كطالب سنة 1968؛ رأيتُ في قُرىً صغيرة رجالاً مُتعلِّمين يقرؤون الجريدة بصوتٍ مُرتفع عند وصولها بالحافلة للَّذين لا يستطيعون القراءة، بعد تلك السَّنة؛ عاينتُ نفس المشهد في جنوب المغرب، حيث تصل الجرائد بحافلة «الستيام» (ctm).

يهتمُّ كتابي الأوَّل «الإسلام المغربيُّ» moroccan islam (1976) بالدِّين الشَّعبيِّ كما تطوَّر خلال القرن الماضي؛ أي: ما أمكن استرجاعه من التَّاريخ السَّالف، وكيف تلاشت المعتقدات الشَّعبيَّة. أمَّا كتابي الثَّاني «المعرفة والسُّلطة في المغرب» (1985)؛ فقد ركَّز على المثقَّفين القُرويِّين في المجتمع المغربيِّ، وكان هؤلاء المثقَّفون، مثل نظرائهم في أماكن أُخرى، محوريِّين في ربط الممارسات الشَّعبيَّة بالفهم الرَّسميِّ للدِّين والزَّعامة والممارسة. وأخيراً، خلال العقدين الأخيرين، أصبح اهتمامي ينصبُّ على مساهمة ثلاثة عوامل في طريقة ونظرة النَّاس إلى أنفسهم ومجتمعهم وإيمانهم، وهذه العوامل هي: 1) ارتفاع المستويات التَّعليميَّة. 2) التَّطوُّر السَّريع للوسائل الجديدة للإعلام والتَّواصل. 3) التَّحوُّلات السُّكَّانيَّة والاقتصاديَّة الهائلة. وبكلِّ تأكيد؛ لا تقتصر أيٌّ من هذه العوامل على العالم ذي الأغلبيَّة المسلمة أو على شمال إفريقيا.

يونس الوكيلي: في حوار مع «إرنست غيلنر» (ernest gellner) ذكرَ أنَّ اشتغاله على المغرب كان صدفةً. أيضاً كليفورد جيرتز اشتغاله على المغرب كان صدفةً (أي: التَّعرُّف على المغرب كميدان بحث)... هل يمكن أن يخبرَنا أيكلمان عن سياق اهتمامه بشمال إفريقيا والشَّرق الأوسط؟

ديل أيكلمان: مثل آخرين مِمَّن درسوا الأنثروبولوجيا في السِّتِّينيات؛ نشأنا داخل تخصُّصٍ يُعطي أهمِّيَّة للنَّظريَّة الاجتماعيَّة بغضِّ النَّظر عن أمكنة مُحدَّدة. لكنَّني كنت دائماً أوازي هذه الرِّواية «الرَّسميَّة» للأنثروبولوجيا مع اهتمام متزايد بالإسلام والعالمِ الإسلاميِّ. لم يأتِ هذا الاهتمام مبدئيَّاً من الكُتُب، بل بمقاسمتي غرفة بالجامعة سنة 1963 مع طالبٍ سُودانيٍّ مُتديِّن وورع على نحوٍ لا يرقى إليه الشَّكُّ. وهكذا؛ دفعتني هذه التَّجربة بعد حصولي على شهادتي الجامعيَّة الأولى لأشرعَ في تعلُّم اللُّغة العربيَّة؛ مع التَّركيز على الشَّرق الأوسط. وبعد تخرُّجي في الأنثروبولوجيا من جامعة دارتموث؛ تابعتُ دراستي بمعهد الدِّراسات الإسلاميَّة بجامعة ماكغيل (mcgill) بكندا. كان أستاذي الأوَّل للعربيَّة عراقيَّاً، وكان الثَّاني شيخاً شابَّاً أزهريَّاً. بعد سنتين بماكغيل؛ حصلتُ على الماستر في الدِّراسات الإسلاميَّة، ثمَّ التحقتُ بجامعة شيكاغو لإعداد الدُّكتوراه في الأنثروبولوجيا. كان هدفي الأصليُّ قضاء سنتين في جنوب العراق، لم يوجد آنذاك أيُّ أنثروبولوجيٍّ (أو مؤرِّخ) درس في «الحوزة» أو حلقة الدِّراسات الدِّينيَّة في النَّجف، لذا أردت أن أقومَ بذلك، وحصلتُ على ترخيص من وزارة التَّربية ما قبل الحُكم البعثيِّ في بغداد، لكن لَمَّا وصلتُ هناك في بداية خريف سنة 1968؛ كان العراق قد قام بـ «ثورته» البعثيَّة في حزيران/يونيو 1968 متبوعةً بـ «الحركة التَّصحيحيَّة» في تموز/يوليو. عرفتُ بعد بضعة أسابيع أنَّ العمل الأنثروبولوجيَّ مُتعذَّر في العراق، وخاصَّة بالنَّجف. لذلك؛ ألغيتُ فكرة دراسة الحياة الدِّينيَّة للطَّلبة في الحوزة؛ ولم أتمكَّن من العودة إلى العراق وزيارة النَّجف لأوَّل مرَّة إلَّا في سنة 2009.

شاركتُ في جامعة شيكاغو سنة 1967 في ندوة دراسيَّة غير معتمدة قُدِّمَت من طرف «كليفورد جيرتز» (clifford geertz)، وطبعاً؛ قرأتُ كثيراً عن المغرب. أمَّا في بغداد؛ كان الكتاب الوحيد حول المغرب هو (الدَّليل البريطانيُّ للاستخبارات البحريَّة) (british naval intelligence handbook) الَّذي يعود إلى الحرب العالميَّة الثَّانية، وأشار في جملتين إلى «أبي الجعد» كمركزٍ دينيٍّ.

وصلتُ صحبةَ زوجتي إلى الرباط في تشرين الثاني/نوفمبر 1968. كان المعطي جوريو حينها لا يزال يعمل كاتباً عاما لوزارة الدَّاخليَّة. كان أوَّل ردِّ فعلٍ له، حينما قلت له إنِّي أريد دراسة «أبي الجعد»، أن أخبرني أنَّه يجب عليَّ العودة إلى الولايات المتَّحدة وإحضار الأوراق من السَّفارة المغربيَّة في واشنطن. أجبته: إنِّي قدِمتُ عبر بغداد، ودون أن يغيِّرَ نبرتَه؛ ردَّ قائلاً: «لا يوجد عندنا بروتوكول للطُّلَّاب الأمريكيِّين القادمين إلى بلدنا عبر بغداد، مرحباً!». ثمَّ كتب رسالتين قصيرتين تعريفيَّتين إلى عاملَي إقليمَي خريبكة وبني ملال، وقال: هناك تقسيمٌ إداريٌّ جديد، ولم يكن يَعرف إلى أيِّ إقليم تنتمي «أبي الجعد» آنذاك. ولمَّا وصلنا أبي الجعد؛ قضينا فيها سنة ونصف بدون انقطاع.

تُلقي إصداراتي اللَّاحقة، ابتداءً من 1970 إلى اليوم، الضَّوءَ على ارتباطي واهتمامي بالمغرب. منذ سنة 2012 ترأستُ talim (the tangier american legation institute of moroccan studies (www.legation.org)) أي: «معهد المفوضيَّة الأمريكيَّة للدِّراسات المغربيَّة بطنجة»، وهذا ما يجعلني أعود بانتظام إلى المغرب، كما أحاول قدر المستطاع أن أحضرَ إلى الذِّكرى التَّأبينيَّة للحاجِّ عبد الرَّحمن المنصوريِّ. لذا؛ فعلاقتي بالمغرب مهنيَّة وشخصيَّة. والآن؛ أعود إلى سؤالك الأساسيِّ، ليس هناك شيءٌ إلزاميٌّ في اختياري المغرب مكاناً للدِّراسة. وعلى أيٍّ؛ لَمَّا أقمتُ في المغرب؛ صارت علاقتي مع زملائي في الجامعة المغربيَّة وأصدقائي من مختلف الشَّرائح الاجتماعيَّة علاقةً متينةً وطويلة الأمد.

يونس الوكيلي: يمكن أن نُصنِّفَ، عموماً، أيكلمان ضمن الأنثروبولوجيا التَّأويليَّة برؤية تاريخيَّة. هل ما زالت الأنثروبولوجيا التَّأويليَّة الآن قادرةً على مواجهة تحدِّيات فهم العالَم وقضاياه، خاصَّةً في العالم العربيِّ؟

ديل أيكلمان: يشهد حقل الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة تغيُّراً مُستمرَّاً، لذا؛ أصبحت علامة «الأنثروبولوجيا التَّأويليَّة» أقلَّ استعمالاً اليوم بعد أن سادت في سنوات السَّبعينيات والثَّمانينيات. وهكذا؛ أجد نفسي أقلَّ فأقلَّ مقتنعاً باستعمال هذه العلامة أو غيرها؛ لأنَّ التَّاريخ الاجتماعيَّ والأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة تتغيَّر بانتظام من حيثُ الشَّكل والنِّطاق، شأنها شأن كلِّ الحقول العلميَّة. كيف يصف المرء باحثين أمثالَ «محمَّد الطُّوزي» على سبيل المثال أو «جون فرنسوا بايار» (jean-françois bayart) وكثيرين آخرين مِمَّن يشعرُ بتقاربٍ مهنيٍّ معهم؟. إنَّهم استعملوا حقولَهم الأصليَّة الخاصَّة؛ أي: علم الاجتماع وعلم السِّياسة، كمنطلقات، لكنَّهم تجاوزوا حقولهم الأوَّليَّة منذ فترة طويلة.

أعتبر أنَّ الكثير من أفضل أعمالي هي الَّتي تكون بالتَّعاون أو مستلهمة من التَّشارك. وأبلغُ مثالٍ مُعبِّر؛ هو الَّذي، ربَّما، كان مع المرحوم الحاج عبد الرَّحمن المنصوري، لقد تعلَّمتُ من مقاربته في شرح الوثائق وطرح الأسئلة. امتدَّت نقاشاتنا لسنوات، وشجَّعتني لتوسيع آفاقي. كذلك؛ أثَّرت المقاربة الَّتي تعلَّمتُ منه بشكل بارز في عملي في أماكن خارج المغرب، بما فيها سلطنة عُمان. إضافة إلى ذلك؛ عندما أُتيحت لي فرصة قضاء نصف سنة بجامعة محمَّد الخامس سنة 1992؛ استفدتُ من ندوات الكلِّيَّة الَّتي أجريتها هناك، وأيضاً من الحلقات الدِّراسيَّة مع طلبة الدِّراسات العليا خارج الحرم الجامعيِّ.

خرجتُ من خلال تلك المناقشات بانطباعٍ جيِّد عن التَّعليم العالي في المغرب، وأشعر بالارتياح في الأخير أنَّ أحدَ الطَّلَبة المشاركين، وهو عبد الغنيِّ منديب، أصبح يُدرِّس علمَ الاجتماع الآن في الجامعة. تملك الأنثروبولوجيا جماهير مُتعدِّدة عبر الزَّمان والمكان، لذا؛ ينبغي علينا جميعاً أن نسعى للتَّواصل، ليس فقط مع الفئة القليلة للمتخصِّصين، بل أن نساهمَ في حوارات أوسع مع جماهير مُتعدِّدة ومختلفة.

يونس الوكيلي: شملت اهتماماتكم، إضافة إلى المغرب، الشَّرق الأوسط (سلطنة عُمان) وفي نفس الوقت آسيا الوسطى؛ كيف تُبرِّر هذا التَّنوُّع الميدانيَّ؟ وما هي رهاناته العلميَّة؟

ديل أيكلمان: تعمل الأسئلة البحثيَّة في الفكر الاجتماعيِّ بشكل أفضل، لما تسع أمكنة وحالات مُتعدِّدة. اشتغل «كليفورد جيرتز»، على سبيل المثال، في البداية في كلٍّ من إندونيسيا والمغرب. قارن في كتابه الأوَّل (الإسلامُ الملاحِظ) (islam observed) (1968) بين كلا البلدين. وكان الكتاب في الأصل سلسلةَ محاضرات مؤثِّرة أُلقِيَت سابقاً في جامعة «يال» (yale). وكما شرح لي «جيرتز» في برنامجٍ تلفزيونيٍّ سنة 1974 أنَّ جمهوره الأصليَّ كان من الباحثين في «تاريخ الأديان»، وكان هدفه تشجيعهم لتركيز عملهم، ليس على النُّصوص فقط، ولكن على الاختلافات في الممارسة والتَّأويل كذلك. إنَّ فكرتَه عن إندونيسيا والمغرب، اللَّذين يقعان في طرفَي العالم ذي الغالبيَّة المسلمة، أضحَت نظرة متجاوَزة الآن بكلِّ تأكيد؛ لأنَّ الإسلام حاضر في كلِّ مكان، وبنفس القدر كجزء من النَّسيج الفرنسيِّ والصِّينيِّ والرُّوسيِّ والأمريكيِّ الشَّماليِّ، وأماكن أُخرى.

خلال تجربتي في السِّتِّينيات؛ وجدتُ العديد من المسلمين في أماكن أُخرى مقتنعين بأنَّ إسلام (هم) أو فهمهم للإسلام هو الأفضل. وكما أشرتُ سابقاً، ومنذ ذلك الحين، فإنَّ تضافر «وجود» وتفاعل كلٍّ من وسائل الإعلام الجديدة، والسُّهولة الكبيرة للتَّنقُّل، وارتفاع مستويات التَّعليم، كلُّها قادت إلى وعي أكثر باختلاف الفهم ورؤى الآخرين. والآن؛ فإنَّ الكثير من النَّاس على وعيٍ، والبعض الآخَر منهم متسامحون إزاء الرُّؤى المغايرة لإيمانهم. وبكلِّ تأكيد؛ هناك سِمة أُخرى للوضع المعاصِر، وهي أنَّ بعض النَّاس لا يُطيقون أيَّ فهمٍ بديل أو مُنافس لقناعاتهم.

يونس الوكيلي: الكتاب الأشهر لديك (الإسلام المغربيُّ)، خاصَّةً لدى المغاربة، صدر في السَّبعينيات (1976)، سؤال مباشر: ماذا تبقَّى الآن من كتاب (الإسلام المغربيِّ)؟

ديل أيكلمان: كان الهدف من كتابي الأوَّل المُعَنوَن باللُّغة الإنجليزيَّة (الإسلام المغربيُّ)، نقل الإسلام كما هو مُعاش ومفهوم في المغرب، وحينما تُرجم إلى اللُّغة العربيَّة، ولأسباب وجيهة، أصبح عنوانه: (الإسلام في المغرب)، وبعد فوات الأوان، لو كان الكتاب مُعنوَناً بالإنجليزيَّة (الإسلام في المغرب) (islam in morocco) ربما كانت لتكون التَّرجمة المناسبة لجمهورٍ مُتعدِّد الجنسيَّات.

ركَّز الكتاب على الفهم والممارسة الشَّعبيَّتين للإيمان، وفي حالات أُخرى؛ على بعض (وليس جميع) العناصر الدِّينيَّة السَّائدة إيماناً ومُمارسةً في «أبي الجعد». أدركتُ في السَّنوات الفاصلة منذ ذلك الحين تحوُّلات مُتدرِّجة وأحياناً سريعة، حول نظرة النَّاس لأنفسهم، وكيف يجب أن ترتبط اعتقاداتهم بالمجتمع، حيث يعيشون. أمَّا الكتاب الثَّاني حول المغرب؛ المُعنوَن بـ (المعرفة والسُّلطة بالمغرب) (1985)، المُترجَم بعد ذلك إلى اللُّغة العربيَّة؛ فقد عالج بشكل أعمق؛ الدَّورَ المعقَّد للمثقَّفين، خاصَّةً المثقَّفين الدِّينيِّين في المجتمع القُرَويِّ. كُتُبي الأُخرى، الَّتي تتناول «الشَّرق الأوسط ووسط آسيا»، و«سياسات مسلمة» (1993، 2004)، الَّذي ألَّفْتُه بالاشتراك مع الباحث السِّياسيِّ جيمس بسكاتوري؛ فهي أبحاث تتوخَّى توسيع دائرة البراهين السَّابقة، والدَّفع بالنِّقاشات حول الإيمان والممارسة الإسلاميَّتين لتكونَ من التَّيَّار الرَّئيس في الفكر الاجتماعيِّ.

يونس الوكيلي: بعد طولِ اشتغال على المجتمع المغربيِّ؛ خلصَ بعض الباحثين الأنثروبولوجيِّين إلى نتيجة أساسيَّة عن طبيعة المجتمع المغربيِّ، وهي: «المؤسَّسات حديثة، لكنَّ العلاقات تقليديَّة»، ومن هذه الخلاصة يُفسِّرون كثيراً من الظَّواهر والسُّلوكيَّات الجماعيَّة وحتَّى الفرديَّة، إلى أيٍّ حدٍّ تتَّفق أو تختلف مع هذا التَّحليل؟

ديل أيكلمان: تتغيَّر المؤسَّسات باستمرار، وكذا إدراك النَّاس لكيفيَّة اشتغال المجتمعات والعلاقات الشَّخصيَّة. يمكن تشكيل المؤسَّسات وتعديلها عن طريق البرلمانات، ومن خلال القرارات الحكوميَّة؛ حيث إنَّ التَّحوُّلات الرَّسميَّة يسهل تحديدها نسبيَّاً؛ مَا يصعب أكثر للتَّدقيق هي مفاهيم أُخرى ضمنيَّة ومُسلَّم بها في أيِّ مجتمع؛ إلى درجة اعتبارها طبيعيَّة تقريباً. غالباً؛ هناك مزيجٌ بين الرَّسميِّ وغير الرَّسميِّ، التَّغيير من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى. في أواخر السِّتِّينيات، حينما وصلتُ أوَّل مرَّة إلى المغرب، لم يكن أيُّ أحدٍ يتحدَّث عن الهويَّة البربريَّة أو ما سُمِّيَ فيما بعد بحركة الهويَّة الأمازيغيَّة. أمَّا مَن يتكلَّم مِن تلاميذ الثَّانويِّ إحدى اللُّغات «البربريَّة»، كما كانت تُسمَّى آنذاك؛ فكانوا يتحاشون ذلك قدر ما استطاعوا أمام زملائهم في الفصل. مع حلول التِّسعينيات؛ بدأ تحوُّل كبير في المنظور. وكان جزء منه على المستوى الرَّسميِّ، مثل البدء في بثِّ الأخبار التِّلفزيونيَّة بما سُمِّيَ مبدئيَّاً «اللَّهجات» البربريَّة الثَّلاث. وأمَّا الآن؛ فقد حُجِبَ مُصطلح «بربريَّة» بشكلٍ كُلِّيٍّ تقريباً؛ لتحلَّ محلَّه لفظة الأمازيغيَّة. هناك، كذلك، تحوُّلات كبيرة في كيفيَّة رؤية المغاربة النَّاطقين بالأمازيغيَّة لأنفسهم إزاء المجتمع المغربيِّ بالمعنى الأوسع.

إنَّ أصعبَ كتابة دراسيَّة؛ هي الَّتي تتناول المفاهيم المتعدِّدة، والأكثر تجذُّراً، والمسلَّم بها، مثل: الثِّقة، والمسؤوليَّة، وتقديم الذَّات، والسُّمعة، ودور الدِّين في الحياة اليوميَّة وفي كيفيَّة تفكير النَّاس في أنفسهم ومجتمعهم. إلى حدِّ الآن؛ مرَّ أزيد من عقدين على ظهور كتاب مونيَّة بناني الشَّرايبي المُعنوَن بـ (الخضوع والتَّمرُّد: الشَّباب في المغرب) (1994)، لكنِّي وجدت عملَها مهمَّاً باستمرار في ربط هذه الأفكار الضِّمنيَّة والعميقة حول الذَّات والمجتمع؛ مع القضايا الرَّاهنة في التَّربية والسِّياسة والتَّغيير الاقتصاديِّ الطَّويل المدى. وعملها هذا يتماشى بشكلٍ جيِّد مع رؤية بروديل حول «التَّاريخ الطَّويل» (la longue durée) من جهة، ويمزج بين التَّحليل الدَّقيق لكبرى قضايا وقتنا الرَّاهن، مع الأخذ بعين الاعتبار التَّحوُّلات الطَّويلة المدى في الأفكار والمجتمع من جهة أُخرى. إنَّ عمل بناني الشَّرايبي مُكمِّلٌ لِمَا أعتقده مُهمَّاً في «الكتابة الأنثروبولوجيَّة»، وهو الحوار مع الزُّملاء والنَّاس من جميع الشَّرائح الاجتماعيَّة في المجموعات التي تشكل موضوع الكتابة.

يونس الوكيلي: اسمحْ لي أسألكم بخصوص اشتغالكم على المغرب وعلى سلطة عُمان، وأن أستدرجكم إلى مقارنة (على الطَّريقة الجيرتزيَّة في المقارنة بين المغرب وإندونيسيا)؛ هل يمكن أن تلخِّصَ لنا الاختلافات والتَّشابهات بين الثَّقافة المغربيَّة والثَّقافة العُمانيَّة؟

ديل أيكلمان: هذا سؤال مُدهش؛ بعد أن عملتُ لأزيَد مِن عقد في المغرب؛ كنت أعود إليه في كلِّ فرصة أُتيحت لي منذ أواخر السِّتِّينيات، وبالمثل، أحسستُ في قرارة نفسي أنِّي أميل إلى الاهتمام بعمق بجزءٍ آخَر من العالم العربيِّ والإسلاميِّ.

كانت سلطنة عُمَان خارج حدود معظم الدِّراسات الأنثروبولوجيَّة حتَّى سنة 1970، ثمَّ سعيتُ لمعرفة كلِّ ما أستطيع حولَها ابتداءً من سنة 1976، وبعدئذٍ، وبمساعدة من طلَّابٍ عمانيِّين في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، والسَّفير العمانيِّ في الولايات المتَّحدة، والمستشار العُمانيِّ الرَّسميِّ الَّذي زار جامعة نيويورك حيث كنتُ أعمل، حصلتُ على ترخيص لزيارة البلد لمدَّة شهر، وذلك عام 1978. وبضربة حظٍّ، كما حصل معي في اختيار أبي الجعد، اخترتُ عاصمة إقليميَّة قَبَليَّة تُدعى «حمراء العَبريِّين»، تقع في الشَّمال الدَّاخليِّ لسلطنة عُمان. عدتُ مع أسرتي للإقامة هناك من 1979 إلى أوائل 1981. كانت الحمرا في ذلك الوقت تفتقر إلى الطُّرق المعبَّدة، والكهرباء، والهاتف، لكنَّ عوزها لتلك الخصائص كان مِن حُسْنِ الطَّالع كذلك. لقد كان شيخ القبيلة مُرتاحاً لمقامنا بالجماعة، وأمدَّنا بكلِّ دعم.

انصبَّت اهتماماتي الأولى على أساسيَّات فهم التَّنظيم القَبَليِّ؛ خاصَّةً أنَّ القبائل كانت لا تزال عنصراً مهمَّاً في المجتمع العمانيِّ، على الرَّغم مِن أنَّ معنى القبيلة والنَّسب القَبَليِّ كان يتغيَّر بسرعة. أنتقل بخطى حثيثة في الزَّمن، سنة 1988، التقيتُ يوسف العلوي وزير الشُّؤون الخارجيَّة العمانيَّ، في سياق غير قبَليٍّ بالمرَّة، بفندق والدروف أستوريا في نيويورك the waldorf-astoria hotel، وقال لي: «نحن [العمانيِّين] مُجتمع قَبَليٌّ، ونحن فخورون بذلك».

قطعاً؛ يتغيَّر معنى القبيلة عبر الزَّمن، كما تتغيَّر جميع الهويَّات الرَّئيسة، إنَّ «الانتماء» القَبَليَّ في القرن الواحد والعشرين بكلِّ تأكيد، لم يعد يحمل نفس المعنى المتداوَل في عصر ابن خلدون. تتضمَّن اختلافات فهم «القبيلة» في المغرب وسلطنة عُمان عدَّة فوارق جهويَّة وتاريخيَّة، وبالطَّبع، وهو كذلك نفس الشَّيء بالنِّسبة لأساليب تعامل النَّاس فيما بينهم. على سبيل المثال: كتبتُ سنة 1984 مقالاً لمجلَّة «الشَّرق الأوسط» بعنوان: «ملوك وشعب: المجلس الاستشاريُّ لدولة عُمان». كان الاسم الأصليُّ لهذا المجلس: «المجلس الاستشاريَّ للدَّولة»، وكان كلُّ أعضائه مُعيَّنين. ومؤخَّراً، عندما أصبح أعضاؤه يُنتخبون، تغيَّر اسمه إلى «مجلس الشُّورى». في سنة 1982؛ حاورتُهم جميعاً، ما عدا عضواً واحداً من المجلس الأصليِّ. كان واضحاً سنة 1982 أنَّ أولئك الَّذين اختاروا أعضاء «المجلس» لهم معرفة جيِّدة بالقبائل العمانيَّة، وطوائفها، وهويَّاتها الإثنيَّة. إذا تقدَّمنا في الزَّمن وانتقلنا إلى انتخابات مجلس الشُّورى العمانيِّ لسنة 2015، وكنت ملاحِظاً حينئذ، فإنَّ الدِّيناميَّات تغيَّرت بشكل لافت. وكانت عناصر الهويَّة القَبَليَّة لا زالت تندرج في اختيارات النَّاخبين، وارتقاء المستويات التَّعليميَّة ارتفعت، وصارت الأسبقيَّة للنُّوَّاب المتعلِّمين والأصغر سنَّاً.

سواءٌ في سلطنة عُمان أو في المغرب، أو في أيِّ مكان آخَر: ما هو الإسلام؟ هو السؤال الَّذي يشغل النَّاس، سواء في الفضاء العامِّ أم في المناقشات بين الأصدقاء في الفضاءات شبه العامَّة. والآن؛ صار يتزايد تعداد مَن يتحدَّثون عن مُعتقداتهم أكثر بكثير مِمَّا كان عليه الوضع قبل عقود مَضَت. إلَّا أنَّ كيف ينخرط النَّاس في هذه النِّقاشات، وكيف تؤثِّر فيما يقومون به في المجتمع؛ يختلف على نحوٍ لافت من مكان إلى آخَر، ويتغيَّر بشكل عميق عبر الزَّمن. لقد عرضتُ وجهات نظري في مقالة عنوَنْتُها بــــ: «التَّعليم العالي العموميِّ والمخيال الدِّينيِّ في المجتمعات العربيَّة المعاصرة» (1992)، حيث قمتُ بمقارنة التَّطوُّرات في كلٍّ من المغرب وسلطنة عُمَان ومصر. أمَّا الأمثلة الَّتي سُقتها في المقالة؛ تُعدُّ متجاوزةً الآن بعد مرور حوالي ربع قرن، لكنَّ الأسئلة المطروحة تبقى أساساً متميِّزاً لمقارنة طويلة المدى تتعلَّق بكيفيَّة ربط النَّاس للقضايا العامَّة بسياقات مُعيَّنة.

من وجهة نظري؛ إنَّ التَّحدِّي الأساسيَّ في دراسة الإسلام هو وصفُ كيف تحقَّقت مبادئه الكونيَّة أو المُجرَّدة في سياقات اجتماعيَّة وتاريخيَّة مُتنوِّعة دون تقديم الإسلام كجوهر متجانِس من جهة أولى، أو كمجموعة مَطَّاطيَّة لا متجانسة من المعتقدات والممارسات من جهة أخرى. لقد يسَّر لي امتداد العمل الميدانيِّ في سلطنة عُمَان والمغرب إدراك هذه القضايا والقدرة على تأويل الأحداث في أيِّ مكانٍ آخَر.

يونس الوكيلي: يلاحَظ في العالم العربيِّ أنَّ حقل الأنثروبولوجيا ما زال لم يؤسِّس تقاليد راسخة: كثير من الجامعات العربيَّة لا تتوفَّر على أقسام أنثروبولوجيَّة؛ المتخصِّصون يمكن إحصاؤهم على رؤوس الأصابع. في نظركم؛ كيف ترون، عموماً، واقع البحث الأنثروبولوجيِّ عربيَّاً، أقصدُ: ما تقييمُكم؟

ديل أيكلمان: جزء من السَّبب هو افتقاد الموارد الماليَّة، وجامعة تدير إجراء أبحاث ميدانيَّة مُتعمِّقة على نطاق واسع. والسَّبب الآخَر؛ هو عامل الشُّكوك المحلِّيَّة، فزملائي، وبتعبير ساخِر، من المغرب والخليج العربيِّ -دون الإشارة إلى المصريِّين- يجدون عوائق عدَّة لإجراء أبحاث أنثروبولوجيَّة طويلة المدى أكثر مِمَّا يبدو لي أنا كباحث من خارج المنطقة. وهناك سبب ثالث، هو تغيُّر مفاهيم العلوم الاجتماعيَّة؛ عندما قدِمتُ إلى المغرب أوَّل مرَّة سنة 1968؛ اعتُبِرَت اهتماماتي بدراسة وفهم الممارسات الدِّينيَّة المحلِّيَّة كَـ «فلكلور» وهامشيَّة بالنِّسبة إلى القضايا الأساسيَّة الَّتي يمكن، كما يعتقد البعض، تفسيرها بناءً على المفاهيم الكبرى للماركسيَّة والإيديولوجيَّات الأُخرى.

في أواخِر السَّبعينيات؛ بدأت تتغيَّر الفكرة الَّتي مفادها أنَّ أهمِّيَّة الدِّين تنحصر في العصور التَّاريخيَّة السَّابقة فحسب. إضافةً إلى ذلك، مع تعريب الدِّراسات الجامعيَّة في التَّاريخ بالمغرب، بدأت تتكاثر، على سبيل المثال، دراسات مهمَّة في التَّاريخ المحلِّيِّ؛ كان من بين أوائلها، دراسة «إنولتان» لأحمد التَّوفيق سنة 1984. وقبل سنتين من ذلك؛ كانت مناقشته للدُّكتوراه حدثاً جماهيريَّاً كبيرا، قُدِّمَت أمام جمهور جِدُّ كثيف في أكبر مدرَّجات جامعة محمَّد الخامس (كنتُ هناك أيضاً) وأُنجِزَتْ حولها تقارير على نطاق واسع في الصَّحافة الوطنيَّة. ما يشدُّ الانتباه، على الأقلِّ بالنِّسبة إليَّ، هو أنَّ أحمد التَّوفيق، حقيقة، مدينٌ كثيراً في تدريبه المهنيِّ للرَّاحل جرمان عيَّاش؛ اليهوديِّ الجزائريِّ المولِد، الَّذي قال لي إنَّه تعلَّم العربيَّة الأكاديميَّة مِن أجل تدريب الجيل الأوَّل مِن المؤرِّخين المغاربة. وكما سجَّلْتُ، أنَّ عدداً من طلَّاب التَّاريخ قاموا بدراسة مناطقهم الأصليَّة. وهو كذلك الأمر في حالة الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة؛ حيث يجد المرشَّحون للدُّكتوراه في الغالب صعوبة للعمل في أيِّ مكان بالمغرب.

وبالمثل؛ يجد كثير من العرب صعوبةً في العمل في أماكن خارج حدودهم الوطنيَّة في المنطقة. لكن، هناك استثناءات بالطَّبع، على سبيل المثال: السَّيِّد الأسود، وهو أنثروبولوجيٌّ مصريٌّ، درس بجامعة ميشيغان، أنتج دراسات ممتازة في الدِّين والكوزمولوجيَّات الشَّعبيَّة في بلده، وأيضا في البحرين والإمارات العربيَّة المتَّحدة؛ حيث يُدرِّس لعدَّة سنوات. وهناك استثناءٌ آخَر، هو الرَّاحل فؤاد خوري، الأنثروبولوجيُّ اللُّبنانيُّ، الَّذي لم يدرس بلده فقط، بل البحرين كذلك. في بعض البلدان؛ لا يحظى البحث الأساسيُّ في العلوم الاجتماعيَّة بأيِّ تشجيع لأسباب سياسيَّة. إضافةً إلى مسألة أُخرى، وهي ضعف أو هزالة تمويل التَّعليم العالي. على الرَّغم من هذه القيود؛ أعلم مِن خلال مشاركتي الحديثة العهد في حلقات دراسيَّة في المغرب وأماكن أُخرى، أنَّ هناك تأقلماً لافتاً للانتباه من جانب الباحثين وطلَّاب الدِّراسات العليا للعمل؛ اعتماداً على الموارد المتاحة لديهم.

يونس الوكيلي: نلاحظ أنَّ اهتماماتكم البحثيَّة شملت الدِّراسات القرآنيَّة أيضاً، (دراستكم: القرآن والعلوم الاجتماعيَّة)، ونحن تعوَّدْنا أن نجد هذا الاهتمام عند المستشرقين أكثر من الأنثروبولوجيِّين، كيف تفسِّرون اهتمامكم بدراسة القرآن؟

ديل أيكلمان: أحد الأسباب الَّتي دفعتني لنيل شهادة عليا في الدِّراسات الإسلاميَّة قبل الحصول على أخرى في الأنثروبولوجيا؛ هو أنِّي لم أجد قِسماً للدِّراسات العليا يُقدِّم دراسة اللُّغة والدِّين بشكل جادٍّ كما يُقدِّمها في «النَّظريَّة» الأنثروبولوجيَّة.

وجدتُ هذه المقاربة محلِّيَّة، بصراحة، ولذلك، تخلَّيتُ عن فكرة المضيِّ قُدُماً في دراسة الأنثروبولوجيا بجامعة هارفارد، وقضيتُ، بدلَ ذلك، عامين بجامعة ماكغيل؛ حيث كانت أطروحتي للماستر، والَّتي نُشِرَت سنة 1967، عن مسيْلمة «الكَذَّاب» أحد أشهر أربعة رُسل كذَّابين في القرن السَّابع بشبه الجزيرة العربيَّة.

كان هدفي هو تحليل ما كان يُعرَف بمسيلمة بن حبيب من بني خليفة، من أجل فهمٍ أفضل للفكرة الاجتماعيَّة حول كيف يؤسِّس أحدٌ ما صيتاً للنُّبوَّة في مجتمعات عصره، ويتجاوز روابط الجماعة المحلِّيَّة لمخاطبة ودعوة جماهير واسعة وعبر مراحل تاريخيَّة طويلة؟. تتَّخذ الدِّراسات القرآنيَّة أبعاداً عديدة، ومقاربتي تعاين اختلافات فهمِ القرآن كنَصٍّ، وكيف يرتبط بمختلف أطوار الحياة الأخلاقيَّة والدِّينيَّة. ولمَّا زرت أوَّل مرَّةٍ الشَّرق الأوسط والعالَم العربيَّ؛ رأيتُ طرقاً شتَّى ومختلفة في احترامها وفهمها للنَّصِّ القرآنيِّ.

زرتُ في بعض الأماكن، مثل سلطنة عُمَان، «مدارس»؛ حيث يحفظ الطُّلَّاب القرآن حتَّى قبل قدرتهم على قراءة وتفسير النَّصِّ للآخرين. وهو كذلك نفسُ الشَّيء بالنِّسبة للحلقات الدِّينيَّة في إيران وباكستان، وفي المغرب؛ قال لي المرحوم الحاجُّ عبد الرَّحمن المنصوريُّ إنَّه حفظ القرآن قبل أن يستطيع الحديث بالعربيَّة، وبعد ذلك الحين؛ التقيتُ آخرين لديهم نفسُ التَّجربة. ومن المؤكَّد أنَّ لغة القرآن ليست هي عربيَّة الحياة اليوميَّة في أيِّ جزء من العالم العربيِّ الَّذي أعرفه، على الرَّغم من أنَّ أولئك الَّذين يستطيعون توظيف عبارات قرآنيَّة ملائمة في خطابهم يمتلكون سُلطة في أرجاء المنطقة.

عندما كنتُ في الدِّراسات العليا؛ تذكَّرتُ نصيحةً أسداها إليَّ أنثروبولوجيٌّ مُسلم غير عربيٍّ، حيث قال: إنِّي عندما أكون في المغرب؛ لا بُدَّ أن أستقرَّ في بلدة «بربرية» نائية، من أجل أن أشعرَ بالمغرب الحقيقيِّ، حيث يقلُّ جدَّاً تأثير «الغزاة» العَرَب؛ بل أكثر من ذلك، وكما نُصِحْتُ، إنَّ قدرتي على تحدُّثِ العربيَّة وقراءتها، على الأقلِّ ما سَمَّيتُه عربيَّة «مُعلِّم المدرسة»، ستجعلني أنحاز لصالح المثقَّفين المحلِّيِّين الَّذين سيشوِّهون فهمي للمغرب الحقيقيِّ. لقد وجدتُ مثل هذه الأفكار مفيدة، لكن ليست بالطَّريقة الَّتي يقصدها المتكلِّم. كنت حسَّاساً للاستعمالات المتعدِّدة لِلُّغات والقراءة والكتابة في كلِّ أنحاء المنطقة. في بلداتٍ عراقيَّة جنوبيَّة سنة 1968؛ كنت أجلسُ في مقاهي البلدة، وأرى كيف يقرأ المتعلِّمون للأميِّين أخبار اليوم بصوتٍ عالٍ من الجرائد الَّتي كانت تصل في الحين. ولاحقاً من نفس السَّنة؛ رأيتُ في جنوب المغرب نفسَ المشهد مراراً وتكراراً. لقد رحَّبتُ بمشاهدة مزيجٍ غنيٍّ من النَّاس يتقاسمون مواردهم من أجل فهم المجتمع من حولهم، بدلاً من حجب فكرِ ودورِ المثقَّفين المحلِّيِّين؛ بل الأكثر من ذلك، في الظروف غير المستقرَّة الَّتي عاشها المغرب في السَّبعينيات؛ أصبحتُ بشكلٍ حادٍّ مَعْنيَّاً بكيفيَّة انتقال الأفكار والمعلومات والتَّعلُّم بطرائق أُخرى، وليس فقط عبر الدَّوائر الرَّسميَّة.

يونس الوكيلي: قريباً ستُصدر كتاب «memory in morocco» هل يمكن أن تحدِّثنا عن رهانات هذا الكتاب وأهمِّ انشغالاته؟

ديل أيكلمان: كتبتُ قبل عدَّة سنواتٍ أنَّي عازم على إنجاز كتاب بذلك العنوان، كان إعلاناً قبل الأوان. تأجَّل بفعل المسؤوليَّات الإداريَّة الجامعيَّة والطَّوارئ المهنيَّة. كانت الفكرة أساساً؛ هي العودة إلى أبي الجعد ليس لبعض الأيَّام أو لأسبوع، كما أفعل عادةً، بل لشهر أو شهرين. رسمتُ في سنتَي 1969 و1970 رسوماً بيانيَّة؛ حيث توجد الدَّكاكين، وفي نفس الوقت استطعتُ تدوين كلِّ الأحياء في المدينة. بالتَّأكيد؛ لقد توسَّعَت المدينة بشكل كبير، وعرف استعمال الفضاء العامِّ تطوُّراً ملحوظاً. فاليوم، وعلى عكس خمس وأربعين سنة حينما وصلتُ أوَّل مرَّة إلى «أبي الجعد»، هناك فهمٌ أفضل للعلوم الاجتماعيَّة، وأصبح النَّاس يتحدَّثون عن ماضيهم ومجتمعهم بطريقة عرفت تَغيُّراً عميقاً. أمَّا عنوان الكتاب؛ فلا زال ينتظر استكمال المخطوطة.

يونس الوكيلي: لا أريد أن يفوتَني هذا الحوار دون سؤالكم عمَّا يجري في العالَم العربيِّ اليوم. على ضوء اهتمامكم بالتَّحليل الثَّقافيِّ لمجتمعات الشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا وتحوُّلات الفضاء العامِّ ورمزيَّات السُّلطة... إلخ، كباحث أنثروبولوجيٍّ أمريكيٍّ؛ كيف تقرؤون ما يجري في العالم العربيِّ منذ 2011؟

ديل أيكلمان: كنتُ في نهاية كانون الثاني/يناير وبداية شباط/فبراير 2011 بفندق متواضع في دمشق، كنت تقريباً ضيفَه الوحيد. عند فطور الصَّباح في الفندق؛ كان نادلان اثنان يُشاهدان التَّظاهرات في ميدان التَّحرير بمصر. قال أحدهما للآخَر: «نحن اللَّاحقون». لقد كانَا على صواب. وقد أكَّدَت الأحداث في مصر وتونس وليبيا وسوريا، وتظاهرات مهمَّة في بلدان أُخرى؛ كيف كانت تتغيَّر الأحداث بسرعة.

إنَّ اللُّغة الأوَّليَّة الَّتي استُعمِلَت لوصف أثرِ هذه الأحداث -غير المسبوقة تقريباً منذ التَّظاهرات الَّتي قادت إلى الاستقلال في المستعمرات السَّابقة في المنطقة- على الأقلِّ لنصف قرن، عملت بمثابة نداء يقظة لنا جميعاً للانتباه للتَّحوُّلات الطَّويلة المدى الَّتي تحيط بكامل منطقة الشَّرق الأوسط وباقي العالم. إنَّ تكنولوجيَّات التَّواصل الجديدة تُضخِّم الأحداث في جميع أنحاء المنطقة والعالَم، وتسمح بالتَّقاسم السَّريع للمعلومات.

غدا هذا التَّسلسل السَّريع للأحداث بعد وقت قصير معروفاً بــــ «الرَّبيع العربيِّ». بالنِّسبة للعديدين منَّا؛ يحمل هذا العنوان وجهَين: بعد كلِّ شيء؛ اعتبر «ربيع براغ» لكانون الثاني/يناير 1968، من قِبَل الكثير كبداية تحرير أوربا الشَّرقيَّة من نهاية حكم الدِّيكتاتوريَّة الشُّيوعيَّة، لكن انتهى إلى حتفٍ مُفاجئ في آب/أغسطس 1968.

زادت الأحداث سنة 2011 من ارتفاع حدَّة مكامن الخلل الموجودة سابقاً في الشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكنَّ هاته التَّحوُّلات لم تظهر كلُّها دفعةً واحدة. كم مِنَّا يتذكَّر «ربيع دمشق» عام 2000 الَّذي ما زرع آمالاً إلَّا ليراها تتحطَّم على عَجَل. تواجه عدَّةُ بلدان في المنطقة نموَّاً سكَّانيَّاً مُرتفعاً، واقتصادات راكدة أو غير مُستقرَّة، وأنظمة تعليميَّة غير قادرة في الغالب على توفير تعليم ملائم، إضافة إلى التَّغيُّر المناخيِّ وارتفاع نقصِ المياه، وغياب الأمن الجهويِّ، وعجز الحكومات على مواجهة التَّحدِّيات.

لا يقتصر عدد من هذه التَّحدِّيات على الشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ فَفرنسا، على سبيل المثال، تواجه مشاكل اقتصاديَّة وبنيويَّة عويصة، ونفس الأمر في بلادي. يستعمل زملائي الأتراك مصطلح «الدَّولة العميقة» بشكل فضفاض جدَّاً، لكنَّ أكثر الدُّول والمؤسَّسات الوطنيَّة نجاحاً هي تلك الَّتي تظهر أنَّها تُعطي أملاً للتَّحوُّل والتَّغيُّر. ربَّما، أحياناً، يمكن أن تحدث أكثر التَّحوُّلات عمقاً، عندما لا تواجَهُ «الدَّولة العميقة» وجهاً لوجه، لكنَّها مُقتنعة أنَّ تغييراً مهمَّاً ضروريٌّ. إضافة إلى ذلك؛ إنَّ التَّواصل البَينيَّ للاقتصاديَّات والسِّياسات يؤثِّر على كلِّ بلدان المنطقة. كما أنَّ قرارات القوى خارج المنطقة لديها تأثير عميق، وإنْ لم يكن متوقَّعاً على ما هو ممكن اقتصاديَّاً وسياسيَّاً. يلعب الدِّين دوراً مهمَّاً، لكن، كما في كلِّ مكان في العالَم، فإنَّه عنصر ذو أوجه إيجابيَّة وسلبيَّة. كان لاهوت التَّحرير في أمريكا اللَّاتينيَّة، وكذا دور الكنيسة الكاثوليكيَّة في حركة التَّضامن البولنديَّة؛ عناصر إيجابيَّة على المدى البعيد. أمَّا لغة الإسلام في معظم بلدان الشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ فلعبت دوراً حيويَّاً في النِّقاش الدَّائر حول المصلحة العامَّة، كما أنَّ الإسلام الرَّئيس استُخدِمَ أحيانا لمُراقبة تجاوزات القطاع العامِّ والخاصِّ.

على المدى البعيد؛ خلق ارتفاع مستويات التَّعليم وانتشار الإعلام التَّواصليِّ الجديد والسُّهولة الكُبرى للتَّنقُّل -عند الغالبيَّة- إمكانيَّات جديدة لصالح أولئك الَّذين يبحثون عن «تحمُّل مسؤوليَّة» حياتهم. إنَّ الطَّبيعة المُجزَّأة، وغالباً الفوريَّة للتَّواصل المعاصر، تعني كذلك أنَّ القرارات والاستجابات يجب أن تؤخَذ بوتيرة سريعة، وأن تكون مبسوطة بشكلٍ مُباشر لفحصٍ واسع الانتشار. هناك تحدٍّ لأيَّة حكومة أو قيادات دينيَّة ومحلِّيَّة لوضع أهداف بعيدة المدى وبعث الأمل بأنَّ المستقبل القريب سيكون أفضل من الماضي القريب. تفتح الأزمات، أحياناً، فرصاً للإصلاحات الجريئة وتغيير الوجهة؛ مثلما أنَّ الإدارة السَّيِّئة تُسرِّع، أيضاً، إمكانيَّة تداعي الأمور. دعنا نأمل من هذه العمليَّة من التَّغيُّر المتنامي بسرعة والأحداث غير المتوقَّعة أن النِّقاش والجدل العامَّ حول ما يجب استعماله بوصفه ورقة مُربحة تتفوَّق على السِّرِّيَّة. وفي حصيلة تفاؤليَّة؛ سيقود «الإسلام الرَّئيس» إلى مجتمعات مدنيَّة ديناميَّة وقويَّة.

[1] - الحوار مقتطف من كتاب أنثربولوجيا المجتمعات الإسلامية، ديل إيكلمان، تحرير يونس الوكيلي، الصادر عن دار مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع.

[2] - أشكر السَّيِّد ديل أيكلمان الَّذي صبر على إلحاحي في إنجاز هذا الحوار، والشُّكر موصول إلى الأستاذ اضريوي بوزكري الَّذي راجع التَّرجمة، ولا يفوتني أن أشكر الأستاذة مريم الوكيلي والأستاذ حسن احجيج على ملاحظاتهما النَّبيهة والسَّديدة حول التَّرجمة. لكلِّ هؤلاء كامل امتناني.