حوار يوسف هريمة مع الباحثة "وفاء الدريسي"


فئة :  حوارات

حوار يوسف هريمة مع الباحثة "وفاء الدريسي"

"فالجهاد في القرآن ليس عملاً مميّزاً، بل يندرج ضمن منظومة كاملة من الأعمال الصالحة، ولعل قيمته في النّص القرآني لا تكمن في ذاته بل في كونه وسيلة تمييز واختبار لأتباع الرّسول"

الطبري والتفسير الحربي للجهاد في القرآن

يوسف هريمة: حينما نقرأ القرآن الكريم، ونتفحص في الوقت ذاته ما آلت إليه بعض المفاهيم في الثقافة الإسلامية، ندرك حجم التفاوت في العديد من المصطلحات الرائجة في عالمنا المعاصر. ما السبب في هذا التباين؟ وكيف تفهمين كلمة الجهاد القرآنية بمقارنتها مع ما شحنته الثقافة الإسلامية فيها؟.

وفاء الدريسي: أرى أنّ الانزياح بين المفهوم القرآني للجهاد أو الشّهادة أو الهجرة أو غيرها من المفاهيم وبين المفاهيم المتداولة لم ينشأ في العصر الحديث، بل تبلور أساساً في تفسير الطبري. وعنه أخذ بقيّة المفسّرين قبل أن يطوّعوا ما جمعه الطبري لخلفياتهم الإيديولوجيّة. فالجهاد في القرآن ليس عملاً مميّزاً، بل يندرج ضمن منظومة كاملة من الأعمال الصالحة، ولعل قيمته في النّص القرآني لا تكمن في ذاته، بل في كونه وسيلة تمييز واختبار لأتباع الرّسول. أمّا في تفسير الطّبري، فالجهاد قتال بالأساس، ولكنه أيضاً بذل الجهد بالسّيف أو باللّسان. وهنا نتبيّن أنّ الجهاد الذي كان مبهماً في النّص القرآني قد صار مفصّلاً في تفسير الطّبري. وهذا التفصيل في أنواع الجهاد وقصره أساساً على مواجهة الأعداء ليس وليد عالمنا المعاصر، ولكنّه موروث ثقافيّ أنتجته ظروف سياسيّة معيّنة، وبقي متوارثاً عبر العصور، يتلوّن وفقاً لتغيّرها، ولكّن الجوهر ثابت.

يوسف هريمة: ونحن نطالع كتابات بعض الإسلاميين، خاصة الرّواد منهم كسيد قطب، نجد أنّ الجهاد في تصوره لم يكن يوماً حالة دفاعية، وهذا ما بيّنه في كتابه "معالم في الطريق". هل هذا التصور نابع من قراءة موضوعية للفظ الجهاد؟ أم هو حالة نفسية ارتبطت بمشروع قطب، ومن قبله المودودي؟

وفاء الدريسي: إنّ الانتقال من الجهاد الدّفاعي إلى الجهاد الأصولي لم ينشأ مع فكر الإخوان، بل ترجع أصوله أيضاً إلى أوّل تفسير جامع مانع للقرآن؛ فالقرآن يقيّد الجهاد أحياناً بالدّفاع عن النّفس، وطوراً تجنّباً للفتنة، وفي مناسبة أخرى بماهيّة العدوّ؛ أي إنّه لا يكون إلا لأولياء الشّيطان، وقد يكون مقيّداً بمنع الاعتداء، وأحياناً يكون مطلقاً إذا ما كثر الضّغط الهجوميّ من الأعداء، لكنّنا نجده في تفسير الطّبري قائماً على الهجوم فحسب، وهنا يظهر انزياح النّص المفسّر عن النّص الأصليّ.

فالنّص التّأسيسيّ في جلّ الآيات خالٍ من الدّعوة إلى القتل، بل هو تشريع للدّفاع عن النّفس حال وقوع اعتداء، وحثّ على حسن معاملة المخالفين في الدّين ممّن لم يسيئوا إليهم. لكنّ تفسير الطّبري فيه أمر بالهجوم وبنشر الدّعوة بالقتال حتّى يستسلم العدو، وجعل النّهي خاصّاً بقتل النّساء والأطفال. ونضرب على ذلك مثالاً تفسير الآية: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}، فرغم بروز الطّابع الدّفاعي في هذه الآية "قاتلوا الذين يقاتلونكم" فإنّنا نجده قد أوّلها بقوله: "قاتلوا في طاعتي وعلى ما شرّعت لكم من ديني، وأدعوا إليه من ولّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتّى ينيبوا إلى طاعتي أو يعطوكم الجزية صغاراً إن كانوا أهل الكتاب، وأمرهم ـ تعالى ذكره ـ بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم" (الطّبري، جامع البيان، ج2، ص235).

انطلاقاً من كلّ ما قلناه، فإنّ الإخوان لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن المصادر ليحوروا مضامينها، فما ورثوه عن شيوخهم كافٍ لتترسخ في أذهانهم صورة الجهاد الهجومية.

يوسف هريمة: يصرّ الأصوليون، خاصة من اهتمّ منهم بجانب المقاصد كالشاطبي والعز بن عبد السلام وغيرهم، على أنّ حفظ الدين هو أولى الضروريات من غيره، خاصة حفظ النفس. كيف تقرئين هذا الترتيب الذي يعتبره الكثيرون هو المنشأ الأكبر لتحريف لفظ الجهاد، حين تحوّل لحالة هجومية؟.

وفاء الدريسي: أولوية حفظ الدين عن حفظ النفس فكرة ظهرت مع انتشار الخطاب الوعظي منذ نهاية القرن الخامس للهجرة نتيجة تراجع الفتوحات وتتالي الحروب الصليبية، وكتب ابن الجوزي (ت 597) خير دليل على ذلك.

يوسف هريمة: في كتابه "أوهام الإسلام السياسي" يؤكد عبد الوهاب المؤدب على أهمية إدراك كيف تشكلت القراءة الأصولية لكلٍّ من القرآن والسّنَّة، لندرك أين ينغلق هذا النص على تحديث المعنى، وأين يمكن تطويعه بما يسمح بفهم جديد للموقع الذي نما فيه انغلاق التفسير والفقه. هل تتفقون مع هذا الطرح الفكري؟ وما هي مقاربتكم لهذه القراءة الأصولية؟

وفاء الدريسي: لا أتفق معه في نقطة مركزية، وهي تطويع النص للواقع، فالتطويع على وزن تفعيل ويفيد بذل الجهد للقيام بالحدث؛ يعني أننا نصرّ على المزج بين شيئين مختلفين لا ينسجمان ونحن نريد إجبارهما على التواجد والانصهار. أنا مع قراءة علميّة موضوعية للنصّ وفقاً لعصرنا وزماننا ومكاننا، وإن كان صالحاً لكلّ زمان ومكان فسنجد فيه رسالة إلينا، أمّا إن سلمنا بوجود مواضع ينغلق فيها النص وأخرى قابلة للتطويع فهذا دليل على أننا نقرؤه بمنظار القدامى لا بمنظارنا نحن وبمنظار عصرنا، ولذلك أقولها صراحة: أيّة قراءة أصولية للنّصوص التأسيسيّة تجميد لهذا الدّين.

يوسف هريمة: من أوهام الإسلام السياسي ربط عقيدة القتل بمفهوم آخر أكثر تعقيداً، ألا وهو مفهوم الشهادة. ماذا تعني الشهادة في أصولها؟ وهل كلّ من مات على عقيدة شمولية يُعتبر شهيداً؟.

وفاء الدريسي: الربط بين الشهادة والجهاد ليس من أوهام الإسلام السياسي فحسب، بل هو نتيجة الانزياح الذي حصل بين النص المقدّس والنصوص البشرية التي حفّت به منذ القرون الأولى.

لقد كانت لفظة الشّهيد بمعنى من قتل في سبيل الله تذكر بصفة عرضيّة في المعاجم الأولى، ثمّ صار ذكرها ـ منذ القرن الثّالث ـ معتمداً على ربطها بدلالة الجذر (الحضور والمشاهدة)، وبالبحث عن علاقة بين معنيي الشّاهد والشّهيد. ويعود استعمال المعنى الاصطلاحي إلى عدّة عوامل، أبرزها أنّ "شهد الحرب" بمعنى حضرها استعمال يكاد يكون اصطلاحياً في الجاهليّة، ممّا يمكن أن يبرّر اشتقاق كلمة شهيد للتّعبير عمّن يُقتَل في الحروب، وأنّ هذه الكلمة مستعملة في الأحاديث المرويّة عن الرّسول والأشعار التي نُسبت إلى معاصريه، وثالثها أنّ مصطلح الشّهادة بمعنى من قُتِل في سبيل الله، موجود في الجزيرة العربيّة بوجود النّصارى واليهود، ولكنّ هذا ليس السّبب الوحيد لنشأة الكلمة، بل إنّ كلّ هذه الأسباب قد تضافرت معاً لإفراز كلمة احتاجت إليها الظروف التاريخيّة فأنشأتها.

أمّا القرآن، فقد استعمل كلمة شهيد بمعنى شاهد في جلّ الآيات بطريقة لا شكّ فيها ولا خلاف باستثناء خمس آيات رجّحنا بعد تحليلها أن يكون المقصود فيها هو الشّاهد لا المقتول في سبيل الله، لكنّ الطّبري رأى أنّ الشّهيد في تلك الآيات، إنّما تعني المعنى الاصطلاحي للكلمة لا معناها اللغويّ، وهذا التردّد في معرفة معنى الشّهيد في هذه الآيات سيتواصل في التّفاسير اللّاحقة له.

وقد عبّر القرآن عن المقتول في سبيل الله بعبارات متنوّعة "قُتِل في سبيل الله" و"مات في سبيل الله" و"شرى/ اشترى" و"قضى نحبه" و"اشترى نفسه" في آيات قليلة غير متّفق عليها ـ هذا الاختلاف في تحديد آيات الشّهادة نتبيّنه من اختلاف القراءات بين "قَاتَلُوا" و" قُتِلُوا" و"قَتَلُوا" و"قُتِلُوا" ـ يميّزها الإجمال والاقتضاب، بل تجعل الثّواب نتيجة، إمّا للقتال أو الجهاد (بالنفس والمال)، أو الهجرة؛ أي إنّ الله يجازي الإنسان من أجل ما بذله في سبيل دينه ـ بما فيه من تضحية بالحياة ـ لا من أجل الموت في حدّ ذاته. والجزاء الذي حفظه الله للشّهيد هو ذاته ما وُعِد به المؤمنون، وكلّ من عمل صالحاً في سبيل الله بصفة عامّة من غفران ذنوب وجنّة وأمن ورحمة وثواب، ماعدا ثواباً واحداً خاصاً بمن يقتل في سبيل الله، وهو أنّهم "أحياء عند ربّهم يرزقون"، وهذه الحياة في القرآن حياة غامضة. أمّا في تفسير الطّبري، فقد وجدنا توسّعاً وتعمّقاً في تصوير جزاء الشّهيد قبل القيامة، خاصّة حياته بعد الموت، إذ حاول تحديد مكانه وكيفيّة حياته، فهو أحياناً في البرزخ، أو على بارق نهر بباب الجنّة يخرج عليهم رزقهم بكرة وعشيّاً، وأحياناً في حواصل طير يأوون إلى قناديل ذهب معلّقة في العرش. وقد حاول المفسّر من خلال الآثار تحديد رزقهم، فهو ثورٌ فيه طعم كلّ مآكل الجنّة، وحوتٌ فيه طعم كلّ شراب الجنّة. وإذا بالشّهداء ـ في أيّ شكل كانوا عليه ـ يحيون حياة ماديّة شبيهة بأمانيهم التي يحلمون بها في الدّنيا، يأكلون ويشربون ويقرؤون ويستبشرون ويضحكون ويمرحون في انتظار القيامة.

أمّا جزاء المجاهدين أو المقاتلين أو المهاجرين فلم يتعمّق فيه المفسّر، وإنّما أعاد ما ورد في الآية بدون تعمّق ـ رغم تعدّد الآثار والأحاديث حولها ـ وقد رجّحنا أن يكون جزاؤهم ثاوياً وراء جزاء الشّهادة، ممّا جعلنا ننتقل من نصّ يعطي الأهميّة والجزاء للفاعل ـ مجاهداً كان أو مقاتلاً أو مهاجراً أو منفقاً ـ إلى نصٍّ حافّ به يعطي الثّواب للمفعول. فصار الحدّ بين الجهاد باعتباره طلباً للحياة، والجهاد باعتباره طلباً للموت غير بيّن، رغم أنّ البون شاسع بين الاثنين.

ويعود ذلك حسب رأينا إلى دور رجال الدّين في الحثّ على المشاركة في الحروب ـ حتّى وإن كان أمل الموت أكبر من أمل الحياة نتيجة تطوّر النّظم الحربيّة ـ من خلال نمذجة وقائع زمن النبوّة وشهدائه.

كما أنّ الإسلام لم يعتبر كلّ من مات في حرب شهيداً، بل ضيّق من دائرة الاستشهاد في الحرب لينفتح على شهداء آخرين. فالمجاهد في سبيل الله "هو الذي لا يقاتل شجاعة ولا رياء ولا حميّة، بل لتكون كلمة الله هي العليا، وذلك هو سبيل الله". و"سبيل الله" في الحديث لا يحدّد علاقة الإنسان بغيره بقدر ما يحدد علاقته بربّه، الأمر الذي يجعله محدّداً من دائرة الشّهداء إذ تتدخّل النيّة في إقصاء العديد من المقتولين من دائرة الشّهادة التي تدخل بدورها ضمن منظومة كاملة من الأعمال الصّالحة. وبالتالي، رُبَّ محارب في النار، ورُبَّ ميت في سريره شهيد.

يوسف هريمة: في بعض الأصوليات يتحوّل المنظّر لثقافة الموت والحاكمية الإلهية وتطبيق حدّ الردة إلى شهيد. كيف يمكن أن نقرأ موت بعض الرموز واغتيالهم وإعدامهم لأسباب سياسية؟ هل الشهادة هنا طابع إسلامي محض، أم مفهوم مطبوع بطابع الكونية، يندرج ضمنه كلّ من بقيت قضيته شاهدة على عمق فكره، وبالتالي ممكن أن ندخل هنا تشي غيفارا، وغاندي، ومانديلا؟

وفاء الدريسي: الموت في سبيل الله أو في سبيل العقيدة ليس خاصّاً بالإسلام، بل هو مشترك بين الأديان الثّلاثة؛ فهو في اليهوديّة "تقديس لاسم الإله، فإسرائيل قد استسلم له ليشهد بوفاته حبّه لربّه ومنذ اضطهاد أنطيخوس إيبيفانوس، كثيرون هم اليهود "الذين يقبلون الموت بدلاً من التنكّر لدينهم وتعاليمه ودراسة قوانينه". والشهادة عندهم هي "تفضيل الموت على ارتكاب إحدى الخطايا الثلاث التالية: الخيانة والزنى والقتل". (Encyclopaedia Britannica, article "martyr").

ولهذا اعتبرت عملاً شخصياً وتحدياً للمحرمات، وتفضيلاً للموت على عصيان أوامر الله (Med AYYOUB, martyrdom in Islam and Christianity, in newsletter, n 19.)، وهي في الحروب "استعداد للموت في سَبيل الشَّريعَة" (الكتاب المقدّس، العهد القديم، سفر المكّابيين الثّاني8/ 21.) إذ كان يهوذا المكابي يحفز جنوده على الحرب قائلاً: "إِنَّ هؤلاء إنّما يتوكّلون على سلاحهم وأعمالهم الجريئة، أمّا نحن فنتوكّل على الله القدير الذي يستطيع بإيماءة واحدة أن يصرع الزّاحفين علينا (الكتاب المقدّس، العهد القديم، سفر المكّابيين الثّاني 8/ 18.)

أمّا في المسيحيّة، فالشّهادة هي الموت من أجل العقيدة)انظر في هذا الملف المسيحي حول الشّهادة (Daniel Rance, mourir pour sa foi, in Fêtes et saisons, n°538, octobre 1999). وقد اكتسبت مع الكنيسة المسيحية معنى جديداً تعكسه محنة المسيح، وهو الذي نستشفّه من قوله: "اذكروا الكلام الذي قلت لكم ليس عبد أعظم من سيده، وإن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم". ولهذا كانت الشهادة عندهم محاكاة المسيح في محنته، فبالنسبة إلى إيناثيوس "الشهيد هو من يحاكي المسيح في آلامه". (AYYOUB, martyrdom in islam and Christianity, in newsletter, n 19. Med)

وإيناثيوس هو أحد رجال الكنيسة المخلصين كان في نظرهم "رسولاً ورجل دين وشهيداً"، وقد غادر روما من أجل المسيح، وقال: "إنّه هو الّذي أبحث عنه، هو الذي مات من أجلنا"، فاعتُبر شهيداً معه. (Jean Luis Vial, Ignace D'Antioche, p15, 88.) ويصّور لنا هذا في إنجيل لوقا فنقرأ: "وإذا كان في جهاد، كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات الدم نازلة على الأرض" (الكتاب المقدّس، العهد الجديد، إنجيل لوقا 22/44).

فاعتبار الشّهادة وسيلة لإثبات حبّ الإنسان لدينه ووفائه له إذن عامل مشترك بين الأديان الثّلاثة. وقد كان القادة ومازالوا يعتمدونه وسيلة لإقناع المحارب العادي بضرورة خوض الحروب من أجل نصرة الدّين لا لتحقيق الأغراض السّياسيّة؛ أي إنّ الشّهادة همزة وصل بين الدّين والدّنيا.

ولا يقتصر الأمر على الأديان الثلاثة فحسب، بل إنّ كلّ الحضارات قد خصّت البطل بموت خاصّ. ولا أدلّ على ذلك من قصة آر اليوناني (انظر قصّة آر في رحلته إلى العالم العلوي، في: أفلاطون، جمهوريّة أفلاطون، ص262ـ267). وبين قصّة آر والشّهيد المسلم نقطة تشابه تتمثّل في أنّ آر هذا "رجل شجاع تقول القصّة إنّه قُتِل في إحدى المعارك، فلمّا رُفِعت جثّته ـ وقد اعتراها فساد ـ كانت ما تزال طريّة فحملوها إلى البيت ليدفنوها، وفي اليوم الثّاني عشر وضعوها على دكّة الجنازة فانتعشت، وفتح الميّت عينيه، وجعل يقصّ على السّامعين ما رآه في العالم الآخر". أفلاطون، جمهوريّة أفلاطون، ص261. فهو إذن حيّ في موته، يتجوّل في عالم الآلهة ويراقب الحساب والعقاب لكنّه لا يتمتّع، وهو ما يبيّن أهميّة الموت في الحرب في كلّ الثّقافات. فهذا المقاتل الشّجاع الذي قتله الأعداء قد تمكّنت روحه من السموّ إلى عالم الآلهة ونقله إلى الحاضرين. (انظر تصوّر اليونان للحساب الأخروي في platon, phédon ou de l'immortalité de l'âme, p 243--255.). ومن يموت مثل سقراط في صفائه، وفي ثقته المطلقة، وفي عدم رؤيته الموتَ إلا زورقاً يحمله نحو شموس جديدة أكثر قرباً من المرسى النهائي، مرسى السّلام الموعود للأرواح الصادقة، يعيش مع الآلهة. (platon, phédon ou de l'immortalité de l'âme, p 16.)

وبالتالي يتضح لنا أنّ فكرة الشهادة فكرة كونيّة، لكنّ ما انفرد به الفكر الأصولي هو استعمال هذه الفكرة سلاحاً لاستقطاب المريدين ولمواجهة المخالفين. وفي هذا يرى سيد قطب أنّه "وفقاً لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين، سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشّهادة"، ووفقاً لهذا المفهوم أيضاً يجب أن نحارب الجاهليّة الحديثة؛ أي إنّ الإسلام في نظره بحاجة إلى جهاد جديد شبيه بجهاد الإسلام الأوّل لإعادة نشره، وهذا يحتاج إلى الإعلاء من شأن الشّهادة حتّى تكون حافزاً للجهاد.

يوسف هريمة: في سياق هذا الواقع العربي المهترئ، حيث تبدّلت المفاهيم والقيم، نختم بالتساؤل التالي: كيف نستعيد حيويتنا من جديد؟ فلم نعد نعرف من الجهاد إلا القتل، ومن الإسلام إلا الحدود، ومن إنسانيتنا إلا فكرة الأفضلية على باقي الأجناس، ومن الحضارة إلا تدمير كلّ قيم الحبّ والفنّ والتراث؟.

وفاء الدريسي: شخصياً أنا لا أؤمن باستعادة الحيويّة بقدر ما أؤمن باعتبار الماضي مرجعاً وعبرة وأداة من أدوات بناء مستقبل منسجم مع ظروف عصرنا. أنا أرى أنّ التشبّث بالمجد الغابر هو سبب انتشار الفكر المتطرف، ولا سبيل إلى مواجهته إلا بالتفكير في المستقبل.