خواطر عن عالم عربي يتقدَّم مُتراجعاً


فئة :  مقالات

خواطر عن عالم عربي يتقدَّم مُتراجعاً

خواطر عن عالم عربي يتقدَّم مُتراجعاً([1])


يُعتبر العالم العربي، منذ عقود، الأقلَّ اعترافاً "بحقوق الإنسان" في العالم، سواء مسَّ ذلك الحقّ في التعبير، أم في مجال الحقوق النقابيَّة، أم تجاوز الأمرين إلى حقوق المرأة. لذا تحدَّث العاملون في حقلي السياسة وعلم الاجتماع عن الاستثنائيَّة العربيَّة، كما لو كان العرب لا يعترفون بالحياة الديمقراطيَّة التي عرفتها مجتمعات مختلفة بأقساط متباينة.

وإذا كان في مصطلح "الاستثنائيَّة العربيَّة" ما يثير الفضول والتأسِّي، فإنَّ ما تطلَّع إليه العرب منذ قرن من الزمن يجعل الفضول أكثر وطأة. فقد عزا العرب نقص حقوقهم في المجال السياسي ذات مرَّة إلى السيطرة العثمانيَّة، وما أن جاء "سقوط فلسطين" حتى اتَّهموا الاستعمار الغربي، ولن يختلف الأمر مع مجيء "الحراك العربي الأخير"، حيث أشارت دوائرهم الحاكمة إلى "القوى الخارجيَّة".

يأتي الفضول الذي لا ينقصه التأسِّي من أمرين: "الاستثنائيَّة" التي تفصل بين المجتمع العربي والمجتمعات الأخرى، واستمراريَّة "الاستبداد"، التي تهمِّش الزمن وتستدعي الركود، ذلك أنَّ "المفكرين العرب" ندَّدوا بالاستبداد منذ نهاية القرن التاسع عشر.

1ـ الموروث الذي يرفض الرَّحيل:

استهلَّ الفكر العربي دخوله إلى القرن العشرين بكتاب السوري عبد الرحمن الكواكبي: "طبائع الاستبداد"، الذي عزا الاستبداد إلى عهد عثماني طويل. نقد الكواكبي نقداً نافذاً الاستبداد في ملامحه التركيَّة، متوقفاً أمام أبعاد أربعة: الحاكم المستبد، من حيث هو مرجع أعلى، يحكم الناس ويكون فوقهم، يسائل ولا يسأله أحد، كما لو كان امتداداً لإرادة عليا غامضة، تتيح له التصرُّف بشؤون البشر كما يريد. يتلو الحاكم الأعلى جهازه الذي يتمتع "بالمرتبة الصارمة"، إذ تحت الحاكم إرادة تلبّي أوامره بلا انزياح، تقمع ما تحتها، ما يحوّل المُخْضَعين، في ألوانهم المختلفة، إلى مخلوقات منضبطة تخاف ممَّا فوقها وتستبيح ما تحتها. انطوى المنظور السلطوي المتتابع، وهنا البُعد الثالث، على ثنائيَّة: المسموح والممنوع التي تلبّي مصالح السلطة ولا تنظر إلى مصالح المقموعين وحقوقهم، أو على ثنائيَّة الوعد والوعيد، بلغة أخرى، التي يعطيها الاستبداد أبعاداً فاجرة. كان في ذلك المنظور، الذي حافظ على ثباته طويلاً، تجسيد للقاعدة القائلة: كلُّ الأنظمة تميل إلى الفساد، وخاصَّة منها الأنظمة المستبدَّة.

أمَّا البُعد الأكثر خطراً ماثلاً، فهو في: «تطبُّع الرعيَّة»؛ ذلك أنَّ الاستبداد إن عاش طويلاً تطبَّع به الخاضعون له، وانصاعوا لأوامره، وأصبح الخضوع والانصياع جزءاً من طبيعة المقموعين، ما يجعل كلَّ حديث عن «تحرُّر الإنسان» بحاجة إلى ثورة تعيد صوغ الإنسان وعاداته اليوميَّة.

واجه الكواكبي الاستبداد العثماني بهويَّة قوميَّة عربيَّة، مفترضاً أنَّ في «الروح العربيَّة» ما لا يأتلف مع «العنصر التركي»، الذي أراد باستبداده إذلال العرب وتأمين خضوعهم. بيد أنَّ مرور عقد من الزمن وأكثر على خطاب الكواكبي كشف عن «عطب مزدوج»: لم يرحل الاستبداد عن العرب برحيل العنصر التركي، إذ عاد من جديد مع «دولة الاستقلال الوطني»، ولم تزدهر الهويَّة القوميَّة التي استيقظت إبَّان الكفاح ضدَّ الاستعمار الأوروبّي، وغفت من جديد مع مجيء دولة الاستقلال في انتظار «صحوة قادمة».

وكما أنَّ «الزمن التاريخي»، وهو تعبير لا ينقصه الغموض، لم يعامل بكرم كبير ما أراده الكواكبي، فإنَّ هذا الزمن أخذ بخناق أحلام طه حسين، التي نظرت إلى مصر تظلّلها «الثقافة والمعرفة»، بعد معاهدة 1936 بين الإنجليز والمصريين، وفقاً لما جاء في كتاب السيد العميد: «مستقبل الثقافة في مصر»، فقد ربط طه حسين ربطاً محكماً بين التعليم والديمقراطيَّة، إذ التعليم بلا ديمقراطيَّة مريض واهن الأركان، والديمقراطيَّة بلا شعبٍ متعلمٍ لغو فقير المحصلة.

عزا العرب "سقوط فلسطين" 1948م إلى الاستعمار والتخلُّف والقوى الرجعيَّة، ورحل الاستعمار، وسارت فلسطين إلى نفق أكثر ظلاماً، وحافظ التخلُّف على حضوره طارداً "حقوق الإنسان" ونافراً من الديمقراطيَّة، وبقيت صفة "القوى الرجعيَّة" غامضة غموض "السُّلطة العربيَّة المستقلَّة"، التي تندِّد بالاستعمار حين تشاء، وتُرحِّب به حين تشاء أيضاً.

2 ـ في مآل الدولة العربيَّة المستقلة:

وعدت "دولة الاستقلال الوطني"، التي شهدتها أقطار عربيَّة كثيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، بأمور كثيرة: الحكم الديمقراطي؛ فلا مكان لحُكم مستبد في عالم عربي يحكم العرب فيه أنفسهم، ولا تخلُّف بعد أن غدا "التقدُّم" شعار المرحلة، وصولاً إلى "الوحدة العربيَّة" التي توحِّد ما منع الاستعمار الخارجي من توحيده، وصولاً إلى "تحرير فلسطين" الذي لا يتحقَّق إلا بأمَّة عربيَّة مستقلة ومُوحَّدة.

غير أنَّ وعود "دولة الاستقلال" آلت إلى ما آلت إليه أحلام طه حسين، وأعادت إنتاج ما ندَّد به الكواكبي. ذلك أنَّ الدولة الوليدة، التي بدت مهجوسة بالبناء الداخلي وتحرير فلسطين، رأت في "المجتمع الموحَّد" سبيلاً إلى الأهداف "القوميَّة" الكبرى، فحرصت على "تحييد الشعب"، الذي لا يعرف ما تعرف دولته، وأطلقت يد "الأجهزة الأمنيَّة". بدت السياسة الأمنيَّة، في معظم الدولة العربيَّة أو كلّها، قوَّامة على السياسات الاقتصاديَّة والعلميَّة والثقافيَّة، مختصرة الأمن في ثبات السلطة وتأمين ديمومتها. أخذت السلطة، في منظور يراقب الشعب ويستبعده، شكل المرجع الكُلّي الذي يقرّر في القضايا المجتمعيَّة والوطنيَّة جميعاً: فهو المرجع السياسي والثقافي والاقتصادي والإعلامي، وهو القوة التي تضبط حركة المجتمع ونزوعاته.

أخذت سلطات عربيَّة كثيرة، منذ مطلع ستينات القرن الماضي، بشعارات كبيرة، قوامها التقدُّم المجتمعي والوطني في المجالات جميعاً، ورأت في "الجيش القوي" الموالي للسُّلطة ضماناً للتقدُّم ومدخلاً إلى "الهويَّة القوميَّة". بيد أنَّ التقدُّم المأمول انتهى إلى نقيضه، بسبب "جهاز أمني" رأى في "الشعب" عدواً له، وفي الأحزاب السياسيَّة أداة انقسام وتخريب؛ ولهذا تمَّت عسكرة المرافق الاجتماعيَّة، إلى أن غدا دور "العسكر" مراقبة "كلّ شيء"، باستثناء مراقبة "كفاءة" الجيش الوطني، الذي سقط سريعاً في حرب 1967م.

نسيت "الدولة الوطنيَّة الوليدة"، التي تنقصها الخبرة والكفاءة، أنَّ التقدم الاجتماعي والوحدة العربيَّة شأن جماعي يقوم على الشعب ويتحصَّن به، منتهية إلى شكلين من الاختصاص الفقير: للسلطة اختصاص القيادة وتقرير المسموح والممنوع، وللشعب اختصاص الخضوع والانصياع. ألغت في الحالين مفهوم المسؤوليَّة، فالسلطة لا يسألها أحد، والشعب يُسأل ولا يَسأل، وعلى الطرفين أن يسيرا إلى خرابهما، المدعوم بثنائيَّة الفساد والاستبداد، التي تحيل على "مواطن" لا حقوق له وعلى سلطة لها الحقوق كلها، طالما أنَّ الحاكم الذي لا يُراقب، يضع كلَّ شيء داخله.

الأنظمة المستبدَّة التي أرَّقت الكواكبي إلى أن مات مسموماً اطمأنَّت إلى «سياسة الواحد»، الذي ينكر السياسة ويتوسَّل القمع المباشر، ولا يعرف "الهيمنة" التي تأخذ بها أنظمة تتَّسم بالشرعية. التبس الواحد بصيغ مختلفة تاخمت السخرية السوداء، بدءاً «بالزعيم الأوحد» الذي يهجس بمجتمع أجوف يحوّل "التصفيق" إلى عادة، ويستظهر جملاً جاهزة ترضي "الإعلام المتكلّس"، الذي تعبّر عنه "صحيفة واحدة"، وتشرف عليه إدارة شكلانيَّة طويلة العمر كمرجعها الأعلى الذي لا يتغيَّر، وصولاً إلى "حزب جماهيري واحد"، تلغي جماهيريَّته الزائفة معنى الحزب والسياسة معاً. كان كثير من الأنظمة العربيَّة، بدءاً من مطلع ستينات القرن الماضي، قد اعتبر الأحزاب سبباً "لخراب الأمَّة"، وباعثاً على "الفرقة والشقاق"، التي تعوّق وحدة الشعب السائر إلى التقدُّم والوحدة.

تتكشف غرابة "الاستبداد العربي" في قدرته على معاندة الزمن، كما لو كان له قدره الغريب البعيد عن أقدار حكومات الشعوب الأخرى، ذلك أنَّ الديمقراطيَّة شكل قديم من أشكال الحكم، تعود إلى الفكر السياسي الإغريقي، وتشير إلى حكم الأغلبيَّة أو الأكثريَّة أو الفقراء، كما أشار نوربيرتو بوبيو في كتابه "الليبراليَّة الديمقراطيَّة". وباختصار تعني الديمقراطيَّة، حسب ما تنبئ دراسة أصول الكلمة، حكم الشعب مقابل حكم الفرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد. ومهما قيل من كلام، ورغم مرور العديد من القرون وورود الآراء الكثيرة حول الاختلاف بين الديمقراطيَّة لدى القدماء ولدى الحداثيين، فإنَّ المعنى الوصفي العام للعبارة لم يتغيَّر.

وسواء عادت الديمقراطيَّة إلى الفكر الإغريقي القديم أو ارتبطت بالفكر السياسي الحديث، فإنَّ الأنظمة العربيَّة، منذ النصف الثاني من القرن العشرين بخاصة، أخذت على عاتقها عدم الاعتراف بها، منتهية إلى استثنائيَّة سوداء لا تنقصها الطرافة. ربَّما كان من الممكن القبول بهذه الاستثنائيَّة المزعومة لو رفضت الأنظمة "الحداثة السياسيَّة" التي تترجمها الديمقراطيَّة، والتفتت إلى "حداثات أخرى" مرجعها العلم والتقنية أو الاقتصاد، غير أنَّ الإخفاق الشامل في الميادين الاجتماعيَّة جميعاً، يسحب السؤال من مجال الاستبداد إلى مجال أكثر سلباً عنوانه: الأنظمة المتخلّفة التي تعيد إنتاج التخلُّف، وتجتهد في تولُّد مجتمع متخلُّف الوعي، بوسائل بوليسيَّة أو ما هو مشتَّق منها. في علاقة العالم العربي بالديمقراطيَّة ثلاثة وجوه تثير المساءلة: حضور الاستبداد في زمن السيطرة العثمانيَّة وبعد رحيلها. تحولَّت "تركيا الحديثة" بعد عشرينات القرن العشرين إلى دولة ديمقراطيَّة، ولو بقدر، واستأنف العالم أحواله العثمانيَّة، كما لو كان فيه "جوهر" يستدعي الاستبداد ويأتلف معه. ولم يختلف الأمر بعد رحيل الاستعمار الأوروبِّي، إذ بقي العرب مع "استبدادهم"، على خلاف دول آسيويَّة كانت مستعمَرة استقلَّت واختارت الحكم الديمقراطي، مثل الهند واليابان، ما كشف عن زيف القول «بالاستبداد الشرقي» الذي حافظ عليه العرب دون غيرهم. تجلَّى البُعد الثالث في "تطوُّر وزارات الداخليَّة العربيَّة"، المشغولة بقمع الإنسان العربي وإهدار حقوقه، بمعزل عن أشكال الحكم وإيديولوجياتها، لا فرق إلا بقدر محدَّد بين النظم الجمهوريَّة والنظم الملكيَّة. وحتى حين أخذ بعضها "بالليبراليَّة الاقتصاديَّة"، حال النظام الساداتي، فإنَّ تلك الليبراليَّة طردت ما هو سياسي واكتفت بالاقتصادي، منتهية إلى شكل تلفيقي من الحكم، يعود اقتصادياً إلى القرن العشرين، وينصرف سياسياً إلى ما قبل العصور الوسطى.

أنتج العالم العربي في القرن العشرين "أنظمة طويلة العهد"، كأن يستمرّ الحاكم في الحكم طيلة حياته أو أن يرث الأبناء السلطة بعد رحيل الآباء، على اعتبار أنَّ الحكم "ملكيَّة خاصة"، يتصرَّف بها فرد وحاشية أو فرد وعائلة، تعبيراً عن غياب الشعب أو "تغييبه". وبهذا حقَّق العرب وحدتهم سلباً، بقيت الحدود في مكانها، والخلافات السياسيَّة والفكريَّة كما كانت، ولم يتحقَّق إلا ذاك الشكل من الحكم الإطلاقي في منهجه الاختزالي؛ حيث عنف السُّلطة ومصادرة حقوق الشعب مالك السُّلطة، والعنف حاكم أعلى تأخذ استمراريَّته الطويلة شكل الأحجية، فهو يعيش في القرن العشرين وتستمرُّ فيه قرون سابقة عليه.

ومع أنَّ "المثقفين" انشغلوا طويلاً بقضايا الديمقراطيَّة والقوميَّة والعلمانيَّة والاشتراكيَّة، فإنَّ ما ظلَّ ينتظر التحليل والمعالجة تمثَّل في "السُّلطة المستبدَّة القائمة"، التي لها "استبدادها الرأسمالي"، بقدر ما أنَّ لها "استبدادها الاشتراكي ـ العلماني"، أو خيارها "الديني ـ التراثي" الذي يطوِّع التراث والدين كما يشاء.

يُقال: يتعيَّن مضمون السُّلطة من شكل الوصول إليها. وجاء الوصول إلى السُّلطة، عربياً، عن طريق "عائلات" ترث وتورِّث، وتتباهى بالحسب والنسب، أو عن طريق "انقلابات عسكريَّة" مفتوحة، تشدُّ أزرها "بالأحكام العرفيَّة" التي هي شكل من "عسكرة الحكم". لم يكن هناك في الحالين مكان للشعب، ولا لذلك "الحلم" القائل: "حكم الشعب بالشعب"، فما حصل هو حكم الشعب بالأجهزة القمعيَّة، التي إن طال عهدها تحوَّل "الشعب" إلى "سُكَّان"، أي إلى مجموع ديموغرافي لا علاقة له بشؤون الحكم والوطن.

3 ـ الاستبداد والعدالة المستحيلة:

يمكن الدخول إلى موضوع العدالة في العالم العربي، كما ظهر في العقود الخمسة الأخيرة، من مداخل ثلاثة: حكم الفرد المتسلّط الذي أعفى نفسه من الرقابة الاجتماعيَّة. مصر التي هي البُعد العربي الأكثر قِدَماً وعراقة عمل رئيسها: محمَّد أنور السادات على إعفاء نفسه، دستورياً، من المساءلة، كما لو كان يحكم الشعب ويقف فوقه، أو ينتسب إلى جنس بشري مغاير. وأخذ غيره من الحكام، مع فروق محدودة، بما أخذ به، حتى تحوَّلت "دولة القانون" إلى وهْم أو إلى حكاية ساخرة، فاتحة الطريق إلى فساد استثنائي، طالما أنَّ "سارق" المال العام يقف فوق البشر، ولا ينطبق عليه القانون. أفضى الأمر إلى نهب مُمنهَج للشعب، فأصبح يأكل أقلَّ ويلبس أقلَّ ويعيش أقلَّ، زاهداً بالتحزُّب والسياسة، بعد أن دُفع دفعاً إلى تحصيل "الحدّ الأدنى من معيشه".

وإذا كانت "العدالة" تعني المساوة، وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات، فإنَّ نظاماً يكتفي "بالحاكم وأجهزته" لا علاقة له بالعدالة في شيء. بل تصبح فيه المطالبة بالعدل أمراً "تخريبيَّاً" يعاقب عليه القانون عقاباً صارماً. ولهذا دعا الرئيس السادات انتفاضة الجياع "عام 1977م "بانتفاضة الحراميَّة"، ناعتاً المطالبين بحقوقهم باللصوص. يفسِّر تغييب العدالة في الأنظمة المستبدَّة، إلى حدود الإلغاء، العلاقة العجيبة بين السُّلطة والثروة، إذ السُّلطة لا تعني تسيير شؤون البشر وإنصافهم، بقدر ما عنت: سرقة حقوق الناس "شرعيَّاً"، وتوزيعهم إلى فئتين: الفقراء إلى تخوم البؤس والمجاعة، والأغنياء المتبطِّرون الذين يعيشون على سرقة "الشعب" الذي له كلُّ الحق في الضنك و"السكن في المقابر" والعشوائيَّات، والعمل المرهق الذي يؤمن حياة يخالطها الموت.

يتعيَّن المدخل الثاني بالتعريف القديم "للمستبِد" القائل: يضع الحاكم المستبد كلَّ شيء داخله، ولا يترك لخارجه إلا قليل القليل. يرتاح الحاكم المستبد إلى "عبادة الكمّ"، فله كلُّ المسموح والممنوع، وله ما يملكه الشعب (الرعيَّة) وما لا يملكه، وله "التأويل الدّيني" الذي يسوّغ ممارساته، وله كلُّ الألقاب والنعوت: فهو الحاكم الأوَّل والمعلِّم الأوَّل والحكيم الأوَّل...، ولا غرابة أن يتحوَّل بعض الحكَّام إلى "مُنظِّرين وفلاسفة"، وأن يكون لهم اجتهاداتهم السياسيَّة و"إبداعهم الإبداعي"، وأن تنسب إليهم صفات الإبداع والعبقريَّة. وواقع الأمر أنَّ القارئ الذي يعود إلى صفات "الحاكم المستبد"، لدى أفلاطون وأرسطو، وهو أمر سهل ومتاح، يجد أنَّ "الصفات السَّبع" التي اقترحها الفيلسوفان اليونانيَّان لا تفي بحاجات "الحاكم العربي الحديث"، الذي يورّث الحكم لمن يشاء، ولا يعترف بحاضر الوطن ومستقبله. جاء في كتاب روبرت نوزيك: "الفوضى، الدولة، واليوتوبيا" الصادر عام 1974م، ما يلي: «إنَّ للأفراد حقاً في تملُّك أو حيازة ما حصلوا عليه بطريقة عادلة (مبدأ العدالة في الحيازة)، بما في ذلك كلُّ ما حصلوا عليه بطريقة عادلة من أي طرف سابق (مبدأ العدالة في التداول ونقل الملكيَّة). أمَّا إذا تنطَّعت الدولة لأيَّة مهمَّات أخرى عدا هذه، فإنَّها تتصرف بصورة غير عادلة، لأنَّها تتدخل دون مسوّغ في حياة الأفراد وحريَّاتهم».

إن كان في الاستبداد ما يناقض الديمقراطيَّة، فإنَّ في إلغاء الدولة، التي اختصرت في مرجع مستبد أعلى، ما يلغي العدالة في احتمالاتها المختلفة؛ ذلك أنَّ الحاكم الذي لا يحاسَب يلتهم حقوق الدولة والبشر معاً...، لذلك تأخذ كلمات "نوزيك" صيغة مقلوبة لا تنقصها السخرية السوداء، فيصبح: « للحاكم المفرد حقٌّ في تملُّك كلِّ ما حصل عليه بطريقة عادلة، وكلّ ما حصل عليه بطريقة غير عادلة...». وبسبب "العدالة الساخرة" التي يفرضها الحاكم الذي لا يعرف العدالة تغدو مطالبة الشعب بحقوقه فعلاً عدائيَّاً وعدوانيَّاً، يحاكم عليه "القانون".

يحيل المدخل الثالث على "خبرة النظم الاستبداديَّة الطويلة العهد" التي ترى: أنَّ تأمين حاجات المجتمع الحياتيَّة والتعليميَّة، ولو بشكل نسبي، يدفع المجتمع إلى العمل في السياسة والتعامل بشكل نقدي مع قضايا الوطن والشأن العام. ولهذا فإنَّ تأمين صمت المجتمع وخنوعه يقضيان بتجويعه وتجهيله، فالجائع يسأل عمَّا يسكت جوعه، والجاهل لا يسأل ويسلِّم أمره إلى القضاء والقدر. وواقع الأمر أنَّ الحكَّام المتعالين على الناس يسقطون حين يعرف المقموعون من أين جاؤوا. لذا فإنَّ التجويع والتجهيل ركنان أساسيَّان من مرتكزات كلِّ مستبد مكين، فلا يطالب الإنسان بحقوقه "الغائبة" إلا إذا عرف من نهبها. تبدو الثقافة، كما السياسة، والحال هذه، عدواً لكلِّ نظام يرفض المساواة.

من العبث الحديث عن العدالة في نظام مستبد، إذ لا استبداد بلا فساد يتيح للقلة أن تسرق حقوق الأغلبيَّة، ومن العبث أكثر الحديث عن المساواة في نظام مؤسَّس على الاستبداد المفسد، يرى في الثروة سُلطة وفي السُّلطة ثروة.

تحيل العدالة المستحيلة في النظم العربيَّة الاستبداديَّة إلى "بنية مؤسساتيَّة مستبدَّة"، أو إلى مؤسَّسات تلبّي منظور الحاكم وحاشيته، ولا تعترف "بالمواطنين وحقوقهم". فمهما يكن شكل هذه المؤسَّسات فإنَّها تنتهي إلى "شكلانيَّة فارغة"، حال "مهزلة الانتخابات" في أكثر من بلد عربي، التي تعيد صوغ الخوف والفساد، أو ملهاة "البرلمان" حيث أعضاؤه خليط من السماسرة والانتهازيين، يحكمون باسم الديمقراطيَّة ويمارسون إلغاءها. فما هي خصائص تلك "الجمهوريَّة" التي "يملكها" الرئيس مدى الحياة، أو يورّثها إلى آخرين لا يختلفون عنه في أيِّ شيء؟

إذا كان في الديمقراطيَّة ما يستدعي إنساناً له الحق في الاختيار، دون الإساءة إلى الآخرين، وفي العدالة ما يستدعي مؤسَّسات اجتماعيَّة تمارس الإنصاف والمساواة، فما هي حظوظ الديمقراطيَّة والعدالة في مجتمعات عربيَّة لم تدخل فعليَّاً إلى الأزمنة الحديثة؟ وما السبل إلى معالجة "الفوات التاريخي" المروّع الذي يعانيه العالم العربي؟ وكيف يمكن تجسير المسافة بين مؤسسات تقليديَّة متخلّفة (سابقة على الرأسماليَّة كما يقال) ومفاهيم سياسيَّة واجتماعيَّة من صميم الأزمنة الحديثة، مثل الفرد وحقوقه، والمواطنة السياسيَّة، والحق في العيش والكلام، وحق الاختيار السياسي والإيديولوجي؟ والسؤال الأكثر مأساوية: من أين تأتي الحداثة الاجتماعيَّة في مجمتعات عربيَّة اجتهدت سلطاتها اجتهاداً نموذجيَّاً في "وأد السياسة" و"بناء العقل الأحادي"، وخنق "المجتمع الحِواري"، واجتهدت مجتمعاته، بعد "تصنيعها سلطويَّاً"، في مطاردة الجديد والاحتفاء بالتقليدي؟

قد تأتي من ثورة اجتماعيَّة تجبر الحكَّام على الاعتراف بالمواطنين. لكنَّ الثورة تحتاج إلى فضاء اجتماعي له قيم تغاير القيم المتسلّطة، فضاء عاش الديمقراطيَّة أو اقترب منها وعرف شيئاً من العدالة الاجتماعيَّة. وقد يأتي من تواتر الثورات المجهضة التي تقترح رغم إخفاقها اعترافاً بالإنسان وحقوقه، وقد تأتي شيئاً فشيئاً مع سيرورة بطيئة من التحوُّلات الاجتماعيَّة.

دخل العرب إلى القرن العشرين من باب الشعور القومي ورفض الاستبداد، وبعد قرن من الزمن تراجع النزوع القومي وبقي الاستبداد حاضراً. من أين جاء القصور العربي الذي تلازمه الهزائم، انتصرت إسرائيل على العرب جميعاً، ودخلت المجتمعات العربيَّة في طور من التفكك، بعد أن عاشت طوراً طويلاً من الاستنقاع، ولا يأتي ذكر الثورة العلميَّة/التقنيَّة إلا من باب "الاستيراد".

مهما تكن الأسباب التي تدفعنا اليوم إلى الحديث عن الديمقراطيَّة والعدالة، وهما موضوعان مُعقَّدان، فإنَّ السُّلطة العربيَّة، من حيث هي مرجع مقرّر وحيد، هي سبب حاسم في الوصول إلى "الوضع التراجيدي" الذي يعيشه العرب اليوم.

إشارات

1 ـ نوربيرتو بوبيو: الليبراليَّة الديمقراطيَّة، دار كنعان، دمشق 1994.

2 ـ جون رولز: العدالة كإنصاف، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت 2009.


[1] نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 10، 2017