دراسة وتحليل لكتاب "في اليقين" للودفينغ فيتجنشتين


فئة :  قراءات في كتب

دراسة وتحليل لكتاب "في اليقين" للودفينغ فيتجنشتين

دراسة وتحليل لكتاب "في اليقين"

للودفينغ فيتجنشتين

تقديم:

جاء كتاب فيتجنشتين "في اليقين" كنقطة مفصليّة في مساره الفلسفي، وتكمن أهميّته في الشكل المختلف الّتي تناول به موضوع اليقين من داخل مبحث المعرفة عما جاء به في كتابه "أبحاث فلسفيّة". فبعد التحديّات الّتي خلقتها الفلسفات النسبيّة والهجمات السيكولوجية والشكيّة في وجه فلسفة المعرفة، والّتي فنّدت اليقين بشكله الكلاسيكي أعادت نظريّة المعرفة من خلال فيتجنشتين طرح عدّة أسئلة من قبيل: ما هو اليقين؟ على ماذا يتأسّس؟ ما محلّ الاعتقاد في بناء مقاربة مختلفة عن الشكل الصارم لليقين؟ وهل فعلا لا زال يمكننا القول بيقين موضوعي؟

أ- فيتجنشتين ومور

يناقش فيتجنشتين مسألة اليقين من خلال كتاب يحمل نفس المفهوم: ' في اليقين' ويحدد منذ البداية مجال نقده المتمثل في أطروحة مور التأكيدية للمعرفة، إذ يعتبر هذا الأخير أنّ أساس كلّ معرفة هي "الأشياء من الضّروري تشاركها في المكان"[1] ويتمّ التوافق عليها في الحسّ المشترك، ولهذا فهي معرفة صادقة بشكل لا يدعو إلى الشكّ فيها، على اعتبار أنّ "من الطبيعي أن نفهم بأنّ الجملة 'من الضّروري تشاركها في المكان'، تعني أيّ شيء يمكن إدراكه من طرف الآخرين بنفس قدر الشّخص المعني بالأمر"[2]، ليستحضر أمثلة يعتبرها بسيطة وفي متناول الجميع إدراكيّا ومعرفيّا: "أنا أعرف بأن هذه يدي"[3] أو "أنا أعرف بأنّ هذا العالم يوجد قبل ولادتي"، يثبت من خلالها أنّ هذه معرفة شاملة وليست فقط ثقافيّة يتفق عليها مجتمع دون آخر، ويضيف مور أمثلة بسيطة بالنسبة إلى الجميع من قبيل: "أنا أعرف بأنّ تلك شجرة" وذلك من أجل الانتصار إلى إمكانيّة تحقيق فهم واضح وبسيط لمعرفة صادقة وليست مشكوكا بها.

ينتقد فيتجنشتين هذه الفرضيّة المعرفيّة منذ بداية الكتاب، ويكمن وجه الانتقاد في طريقة تحليل مور للمعرفة ويرى أن الأمر ما هو إلّا تعداد للمفاهيم من طرفه، كما أنّه لا يميّز بين الحالات اللّغويّة الّتي يطرحها الواقع، فمور يعرّف فعل "أعرف" كمرادف لمفاهيم "أعتقد" "أفترض" "أشك" "أكون مقتنعا بكذا"، لكن هذه التركيبة لا يمكن أن تحقق لنا منطقا للتأكيد. فمفهوم "أعرف" و"أكون" و"أكون متأكّدا من" هي مفاهيم جدّ مختلفة من ناحية الاستعمال اللّغوي، حيث يكون الأمر مرتبطا بحسب الحالة والسياق، ويأخذ فيتجنشتين مثال المحكمة[4] ليظهر الفرق بين استعمالات هذه العبارات، فحتّى مع جعل مور كلمة أعرف أقوى يقينيّا من كلّ الأفعال الأخرى إلّا أنها في حالة المحكمة ليست كذلك، فالقاضي يفضّل عبارة "أنا متأكّد" عوض "أنا أعرف".

أ-1 ما هي المعرفة؟

تستمد الفكرة يقينيتها حسب مور من خلال الاسم، فحينما أنطق كلمة "قدم" الكلّ يفهم وبشكل كامل عن ماذا أتحدّث كشكل وكجسم من خلال ما قلته، والأمر راجع إلى أن الاسم متداول بين جميع النّاس. وبالتّالي، فإنّ الصدق مبنيّ على أساس العبارات اللّغويّة الّتي تشكل أفكارا قد تمّ المصادقة على صحّتها من طرف الأسلاف.

لا يكتف فيتجنشتين بالعبارات المعرفيّة - كما فعل مور- والقول إنّها هي الوجه الوحيد لليقين، إذ يميّز بين حالتين من الفهم: هناك أوّلا حالات المعرفة وثانيّا حالات روح الاعتقاد، ويعتبر بأنّه في الحالات الأولى من المعروف بأنّ صيغة التأكيد موجودة بشكل صادق. أمّا بالنسبة إلى الاعتقاد، فإنّ هامش الظّن يكبر، حيث لا شيء مؤكّد. وفي نظره، فإنّ هامش الوقوع في الكذب والظن وارد إلاّ في حالة استعمال كلّ من المتكلم والمستمع ألعاب اللّغة، لذا فإنّ كلمة أعرف تعني أنني متأكّد ممّا أقول لكن الكذب يقع حينما لا يكون الآخر على دراية بلعبة اللّغة أو عند حدوث اختلال في استعمالها. لذا، فإنّ تحقيق الحالات المعرفية تمر من مراحل ومن خلال العديد من الجزئيات الّتي أغفلها مور من قبيل: طبيعة المتخاطبين، استعمالهما للعب لغة مدركة من طرفهما معا. ويعبّر فيتجنشتين عن الأمر من خلال القول: "إنّ مفهوما مماثلا للعبارة "أنا أعرف" لا يمكن أن يكون كاذبا، إذ يمكن أن نستدلّ من خلال تأكيد صدق العبارة الّذي يحدث بهدوء على شكل "أنا أعتقد بمعرفتي"- لكن إذا لم يتمّ قبول هذا النّموذج، فيكون ذلك بسبب ترتبّه على الاستحالة المنطقية لكذب في التأكيد. وهذا ما يجب أن يراه أي أحد يعرف لعبة اللّغة؛ التأكيد الّذي يمكن أن يمنحه شاهد موثوق يعرف هذا الشّيء لا يمكن أن يساعده في أي شيء"[5].

بالاستناد إلى ما خلصنا إليه، ألا يعتبر اليقين بشكله التداولي المعتمد على ألعاب متعدّدة للّغة بحسب فيتجنشتين يقينا ذاتيّا؟ ألا يمكن القول إنه فقط من خلال اليقين في شكله الترونستدنتالي أو التجريبي، يمكننا ضمان يقين موضوعي؟

ب- موضوعية اليقين بين الترونسندنتالي والتجريبي

ب-1 اليقين الترونسندنتالي

يرفض فيتجنشتين اليقين بمعناه الترونسندنتالي، ففي نظره كلّ الأشياء الصادقة الوجود لا يمكن أن تنفصل عن العالم وأحداثه ومعاني الكلمات الّتي تعبّر عن هذا العالم. وليس الأمر رهين بكتاب في اليقين فقط، وإنّما أخذ العالم منطلقا لكلّ فلسفته منذ كتابه "رسالة منطقية-فلسفية" فكل تفكير أو إدراك أو فهم لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال ألا ينطلق من العالم وأشيائه، لذا نجده قد استهلّ ذلك الكتاب ببناء منطقي لتصوّره معتبرا بأنّ:

"1- العالم هو كلّ ما هنالك؛

1.1.1 العالم هو مجموعة من الوقائع وليس الأشياء؛

2.1.1 من أجل أن تحدّد مجموعة الوقائع كلاهما ما هي القضيّة، وأيضا ما ليست القضيّة؛

1.3.1 الوقائع في مجال منطقي هي العالم؛

2.1 العالم منقسم إلى وقائع.

1.2.1 كل شخص يمكن أن يكون إما القضيّة أو اللّا-القضيّة، وكلّ شيء أيضا يمكن أن يبقى نفس الشّيء"[6]. فبالرّغم من اختلاف فهم فيتجنشتين لمعنى العالم من اعتباره صورة منطقية تترجمها اللّغة لإدراكاتنا المشكّلة لفهمنا للأشياء إلى اعتبار أنّ الأشياء لا تأخذ مكانتها في الفهم الإنساني إلّا من خلال استعمالها، فإنّ فيتجنشتين يعتبر أنّ كلّ معنى لكلمة ما هو إلا شكل من أشكال استعمالها في العالم. وتضمّ الكلمة كلّا من الدّلالة والقاعدة وبتغيّر الاستعمال تتغيّر لعبة اللّغة(الدلالة)، لكن القاعدة تظل ثابتة ويعطي فيتجنشتين مثال الشطرنج ليوضح بنية الكلمة: هي لعبة لها قواعد متفق عليها، لكن حركات أجزائها متغيّرة ومتعدّدة، وفي كلّ اختلاف بينهما، فإنّ لعبة الّلغة تفقد الأهميّة ويتمّ تعديل اللّغة. "فكلّما تغيّرت لعبة الّلغة، فإنّ المفاهيم تتغيّر ومن خلال المفاهيم تتغيّر كذلك دلالات الكلمات"[7]. لكن، إذا أخذنا التوازي الّذي أقرّه فيتجنشتين منذ البداية بين اللّغة والمعرفة، فكيف يمكننا توفيق المفاهيم المتغيّرة مع المعارف الثابتة اليقينيّة؟ وإذا ما ربطنا أهميّتها في تشكيل المعرفة، وبالتّالي نسقيّة اليقين فكيف يمكن إذن قياس وإظهار درجات اليقين؟

يرى فيتجنشتين أنّ مسألة المعرفة بشكلها الموضوعي الثابت لا يمكن أن تعبّر عن لعب اللّغة، بل أكثر من ذلك، فإنّ الاعتقاد بما فيه جزؤه الكاذب ليس دائما كاذبا كما قد يظهر في البداية، بل إنّ الكذب ليس إلّا سببا، لكنّه أيضا بناء أصلي على اعتبار أنه من المشكوك فيه أن يجد الكذب مكانه فيما نعرفه بشكل صادق مثل حقائق الرياضيات على سبيل المثال، "فصدق معظم الحقائق الإمبريقيّة المبنيّة على إدراكات العالم تنتمي إلى نظام الإحالة فينا"[8]. ليعود ويفحص عبارة مور القائلة: إنّ "وجود الأرض سابق منذ وقت طويل لوجودي" فإنّ معنى أعرف هنا يحمل معنى "لديّ قناعة لا تتزحزح بأنّ وجود ..."، بينما الأمر له ارتباط أساسي بمبدأ الإحالة فينا الّذي يحيلنا على قول: الكلّ يتحدّث لصالح وجود الأرض بفترة طويلة قبل ولادتي وليس هناك ضدّ لذلك. وهنا نكون أمام اعتقاد معلّل بالنّظر الزمني لوجودي ووجود الأرض.

عودة لحالات الاعتقاد وحالات المعرفة كما يطرحهما فيتجنشتين، فإنّه حينما نكون في حالة اعتقاد تنشأ علاقة بيني وبين الصدق كما سجلت في وعيي؛ بمعنى أنّ كلّ نتيجة يقينيّة ستكون ذاتيّة في هذه الحالات، بينما يختلف الأمر حينما أكون أمام موضوع من حالات المعرفة، إذ لا يكون هناك وجود لعلاقة بيني ومعنى القضيّة.

هل نفهم من هذا أنّ الاعتقاد ذاتي بينما المعرفة موضوعيّة؟

يحلّل فيتجنشتين مثال مور "أعرف بأن الكون يوجد قبل ولادتي"[9] ويسلّم بصدق قوله في البداية، ليبدأ في البحث عن نقطة الإحالة على مصدر هذه المعلومة، ليخلص بأنّها معلومة مستخلصة بشكل جماعي ودون تحقق تجريبي من صحّتها، ومردّها الأصلي إلى فكرة نابعة من خلفياتنا المعرفيّة الموروثة، والّتي حدّدت لنا ما هو الصادق والكاذب.

ب-2 المعرفة التجريبية عند فيتجنشتين

بعد الإحالة لخلفيّاتنا الذاتيّة سيطرح فيتجنشتين العديد من الأسئلة، من قبيل: أليس هناك صدق موضوعيّ؟ هل يمكن القول إنه كلّما نقص الشكّ تنقص المعرفة؟ فمن أجل أن نشكّ ألا يجب أن تكون هناك حجج الّتي تبني الشكّ؟ هل التجربة هي المفصل في الحكم على صدق أو كذب معرفة ما؟

يجيب فيتجنشتين إنّ التجربة ليست هي أساس لعبة الحكم؛ لأن التجربة بشكلها الاستقرائي تجعلنا نغفل عن القوانين التفصيليّة وتجعل فكرنا يتجه بشكل فوري نحو تعميم الحالات وضبطها في قانون واحد. وهذا بالضبط ما فعله مور حينما قال إنّه يعرف كذا وكذا إلّا أنّ كّل ما قام به في هذه الحالات ما هو سوى تعديد للفرضيات بدون فحصها بشكل خاص في نظر فيتجنشتين، وهذا ما يجعل حجة مور عبارة عن اعتقاد أكثر منها معرفة على اعتبار أنّه رجّح أحكاما معيّنة بتأثير تاريخي متوارث عن الآباء والأجداد من قبيل وجود الأرض قبل ولادتي. كيف ذلك؟

ج- الاعتقاد أساس التعلّم والمعرفة

"حينما نبدأ في الاعتقاد بشيء ما، فإنّ الأمر ليس فرضيّة معزولة وإنّما نظام شامل للفرضيّات، هو ليس بديهيّات منعزلة تظهر بديهيّة لكنّه نظام تكون فيه النتائج والمقدّمات مترابطة بشكل تبادلي"[10]. مثال ذلك الطفل الصغير الّذي يبدأ بالتصرّف وفق ما يعتقده عن الأشياء، ويكوّن شيئا فشيئا نظاما لما يعتقده سيسمّى بعد ذلك نظاما معرفيّا ثابتا وفق عدّة أسباب ومتغيّرات: منها الحس المشترك الّذي يرسم حدود ما هو صادق وما هو كاذب، ومنها ألعاب اللّغة المكتسبة وفق نوعيّة اللّغة.

يرفع فيتجنشتين من قيمة الاعتقاد ليعتبره شكلا أوّليا سابقا عن أيّة عمليّة فكريّة أخرى، فلكي نشكّ مثلا يجب أن تكون لنا معتقدات أوّلية. وتتشكّل هذه الاعتقادات من صور للعالم وكلّ ما تعمل عليه ذاتنا هو وصف تلك الصّور وترجمتها إلى معارف ثابتة مع الوقت. وهنا بالضبط سيأتي إلى الشكل الثاني الّذي يؤسّسه الاعتقاد ألا وهو التعلّم. فـ "التعلّم يتأسّس طبيعيّا على الاعتقاد"[11]. وهنا يعطي فيتجنشتين مثال مور أنا أعرف أنّ الإنسان لا يستطيع الذهاب إلى القمر فهذا اعتقاد وليس معرفة. يمكن فهم انتماء مور لمرحلة قبل أن يصعد الإنسان للقمر، أنّ كل ما هو حسّ مشترك فهو المؤسّس للصدق، فإذا كان هذا الحس المشترك يعتبر أنه من المستحيل أن يقع ذلك، فإنّ فيتجنشتين يعتبر أنّ هذه المعرفة جاءت بناء على ما تعلّمه مور، لكنّها في الأساس اعتقاد. لذا، فإنّ اليقين الّذي ينتصر له فيتجنشتين هو اليقين الذاتي، وليس الحسي مشترك، إذ يقول: "أتصرّف بكلّ يقين، لكن هذا اليقين هو يقيني"[12]. لذا فبالضرورة كلّ ما أعرفه أعتقده. لكن يعود بنا الأمر إلى سؤال: متى يكون اليقين موضوعيّا؟

يمكننا أخذ فرضيّة مور حول "معرفته بنشوء العالم قبل ولادتنا" لنطرح سؤال هل لدى هذه النظريّة تأكيدات من خلال ربطها مع حقائق العالم؟

يمكن ضمان يقينيّة معارفنا بالنسبة إلى فيتجنشتين من خلال ربطها بالعالم، إذ يقول: إنّ "وجود الأرض هو جزء من الصّورة الكليّة الّتي تشكّل بالنسبة إلى نقطة انطلاق الاعتقاد"[13]. تعطى لنا الفرضيات (الصوّر) الإمبريقيّة على شكل كتلة متجانسة في البداية، لكنّها بعد ذلك لا توضّح العلاقة مع الواقع. ليعطي فيتجنشتين تفسيرين لمدى موضوعيّة معرفتنا:

الشكل الأوّل هو: الانطلاق من صور العالم لإدراك يقين موضوعي؛

الشكل الثاني هو: أن نظريّة مور مبنية على دليل تاريخي أكثر منه علمي يجعل المعلومات الملقنّة على أساس أنّها معارف، لكن السؤال المعكوس هو: على ماذا يبني أحدهم عدم وجود الأرض لمدّة طويلة؟ هل هو اعتقاد علمي؟ أم صوفي؟

يرى فيتغنشتاين بأنّ الاعتقادين معا يتعارضان مع الرّؤية الأساساتيّة لليقين؛ إذ يعتبر أنّ التشكيك في عدم وجود الأرض لمدّة طويلة لا أساس له؛ لأنّ لا وجود لفرضية أو اعتقاد أو دليل حسّي يؤيّد هذا الطرح إلّا إذا استثنينا دليلا صوفيا على ذلك، بل وعلى عكس الأطروحة المعاكسة، فإنّ اعتقاداتنا تضمن بأنّها صحيحة وهذا ما يحيلنا على النتيجة الّتي يخلص إليها فيتجنشتين، والّتي تعتبر أنّ: اليقين ذاتي وليس معرفي، فنحن حينما نعتقد بصحة معلومة معيّنة، فإنّ تأكدنا منها يظل إلى أن يأتينا شك من الخارج حسب الظروف. فـ "على أساس الاعتقاد المؤسّس هناك الاعتقاد الّذي لم يؤسّس"[14].

ج-1 دور لعبة اللّغة في الاعتقاد

على عكس فيتجنشتين المبكّر الّذي جعل المعرفة المنطقيّة ثابتة بناء على صور العالم، فإنّه من خلال كتاب في اليقين ينفي هذه الصّيغة الواحديّة، ليعتبر أنّه من غير الممكن أن تتحقّق لنا معرفة شاملة وثابتة، وإنّما هناك ظروف وحالات محيطة متغيّرة ومتحوّلة. ولا يمكن التعبير عن هذا التغيّر وفهمه إلّا من خلال ألعاب اللّغة وبهذا يكون فيتجنشتين قد طوّر مفهوم الفهم لكي يلائم الشكل الجديد للمعرفة، فالفهم لم يعد تجربة داخلية خاصّة، وإنما أصبح تكنيكا ذا طبيعة تفاعليّة حسب تعبيره، يتفاعل مع استعمالات الدلالات اللّغوية ودور لعبة اللّغة هو تعديل المفاهيم الواصفة لهذه الدلالات وبالتّالي فهمها، فتعبير مثل "أنا أعرف" يبقيه فيتجنشتين من أجل وصف الحالات الّتي تستعمل في الحوادث العاديّة للّغة.

تثبّت ألعاب الّلغة منذ الصّغر من خلال التعليم، وهي القاعدة للانطلاق نحو تشكيل المعنى، صحيح أن المعرفة تعبّر عن يقين خفيف (حسب تعبيره) لكنها لا يمكن أن تعبّر عن شكل الحياة المتغيّر والغير المتوقف.

ج-2 المعرفة واليقين الإمبريقي

يحلّل فيتجنشتين يقينيّة فكرة "أنا أعرف" ويخلص إلى أنّها عبارة ناتجة عن "كتلة من الفرضيّات الإمبريقيّة العامّة الّتي تقبل بالنسبة إلينا كيقينيّات"[15]، لأنّ التجربة تعلّمنا مثل هذه الفرضيّات بشكل ترابطي تداولي بين تجربتي وتجارب الآخرين، وبعد ذلك أختار من هذه التجارب ما تبتغيه تجربتي. ويتحقّق هذا الترابط بين اعتقاد الفرد وبين اعتقادات الآخرين بناء على لغة مشتركة مبنيّة على الملاحظة والاستيعاب، فيما تنبني المعرفة على الاستقراء الإمبريقي الّذي يفضي بنا إلى عدم وجود شك في قضيّة ذات أساس تجريبي. لكن، لطالما صاحب هذا المبدأ سؤال: هل كلّ قضيّة إمبريقيّة هي فعلا كذلك؟

تأخذ القضيّة الإمبريقيّة في بداية الأمر كمسلّمة مفروغ في أمر صحّتها ومع مرور الوقت تترسّخ في الأذهان وتستعمل عن طريق الاستحضار* كفرضيات لتتحوّل فيما بعد هذه القضايا الإمبريقيّة إلى قضايا نظريّة. ماذا يعني هذا؟ يعني أنّ قضيّة "أعرف" تعبّر عن استعداد لاعتقاد العديد من الأشياء وليست معرفة واحدة ثابتة على اعتبار أنّ هناك حركيّة في الاعتقاد الذاتي ولا وجود لثبات موضوعي، وهذا بالضبط ما تساءل عنه فيتجنشتين. "ما يظهر أنّه معقول أو غير معقول للنّاس هو موضوع في تغيّر، لكن ألا توجد هنا خصوصيّة موضوعيّة؟"[16]

يرى فيتجنشتين أنّ فهم الأشياء مرتبط بإدراك دلالاتها في الحياة اليوميّة عوض التطبيقات الفلسفية الصّارمة (سواء النظريّة منها أو التجريبيّة)، وتدخل العديد من العناصر من أجل تحقّق هذا الفهم كالسيّاق، الإشارة، الزمان، المكان... ويعطي مثالا توضيحيّا لذلك: "أنا هنا" ليس لها معنى إلّا في سياق معيّن بحضور المخاطب الّذي يراني أمامه. فمثلا: "هذه ceci" إشارة بصريّة، وبالتّالي فإن الاستعمال والسيّاق هو ما يحدّد طبيعة المعنى. ويفسّر الأمر من خلال مثل يقول أنّ: "ما يفحصه الطبيب النفسي هو طريقة فهمي وقدرتي على معرفة الأشياء، أسماؤها ووظائفها"[17]. وليس الأشياء في حدّ ذاتها بمعنى استعمالاتها اليوميّة وأدوارها الواقعيّة.

يشير فيتجنشتين إلى أنّ المعرفة هي تجربة فرديّة، بينما المطلوب هو اعتقادات تشكل الحياة وتتغيّر بتغيّر استعمالات الأشياء ولعب الكلمات، فحتّى وإن كنت أعرف قدمي فإنّها مرتبطة بالمهمة المنوطة بها، والّتي هي المشي، فصحيح أنّ المعرفة هنا لا تقبل الشكّ لكن حالة عدم الشكّ هذه تنتمي إلى جوهر لعبة الّلغة، والّتي هي أمر لا يمكن التنبّؤ به تماما فهي موجودة كالحياة.

المعرفة لا تبنى وفق مبادئ صارمة، وإنّما هي اعتقادات تتضخّم عن شكلها الأوّلي بعد الاستعمالات، ومن خلال استعمالات الأشياء نتأكّد من عدم الشكّ في وجودها، لكن السّؤال المطروح هو كيف يمكننا أن نعطي أساسا للاعتقاد إذا كان من غير الممكن أن نكون متأكّدين؟

يحمل الاعتقاد عناصر اليقين، حيث إنّ كلّ شكّ في اعتقاد معيّن يزول من خلال الاعتراف الجماعي بصدق الموضوع؛ بمعنى أنّ هناك حركيّة في الأفكار المتبنّاة من طرف الأفراد؛ لأنّ "المعرفة في نهاية المطاف تتأسّس على الاعتراف"[18]، ومن ثمّ، تصير المعرفة الفرديّة بفعل لعبة اللّغة مقرونة بالحالة الّتي يكون عليها المخاطب. وهذا ما يشكّل ضربة قويّة لليقين بمعناه الكلاسيكي "فالإنسان لا يعرف الصدق على يقين كامل، اليقين الكامل هو فقط مسألة موقف"[19].

يكشف فيتجنشتين قصور المعرفة ويعتبر أنّها لا تشكّل نظاما واسعا بالقدر الّذي يحقّقه الاعتقاد، فكلّ الفرضيّات الّتي تظهر على أساس سؤال أو على أساس فكر معيّن نستخدم فيها عبارة "أنا أعرف"، لكن الأصح هو استعمال عبارة "أعتقد المعرفة"، فالمعرفة تلقين وليست يقين حسب فيتجنشتين؛ إذ إنّ لها دلالة قويّة في بعض الحالات لكنها تضعف في حالات أخرى، ويعطي مثال استخدام كلمة أعرف في المحكمة كما ذكرنا آنفا. لذا فالمعرفة هي لعبة من لعب اللّغة. لكن هل نفهم من هذا بأنّ فيتجنشتين ينتصر للشكّ في مقابل اليقين؟

يذهب فيتجنشتين إلى أنّ هناك حالات يكون فيها الشكّ مستحيلا من قبيل الرياضيّات. بالإضافة إلى طبيعة لعبة اللّغة؛ فهل نفهم من هذا أنّ اليقين يقيم في طبيعة لعبة اللّغة؟ تتأسّس لعبة اللّغة على كلمات وموضوعات معترف بها: فحينما أقول إن هذه الّتي أكتب بها هي يدي، فكلمة يدي معترف بها من طرف الجميع ومدركة بالنسبة إلى كل من يعرف طبيعة استعمالها. وبالتّالي، فإنّ اللّغة ليست نابعة من التعليل العقلي، بل من الاستعمال التوافقي لها. ودليل ذلك أن هناك بعض الأشياء الّتي لا أراها ولا أملك معنى لقولها أو للتعبير عن حقيقتها لكنّني أعرفها بشكل فردي وأدرك في نفس الوقت بأنّ ليس هناك اعتراف بها من طرف المتلقّي. وهذا ما قصدناه بفكرة التلقين، إذ إنّ لعب اللّغة تكتسب منذ الصّغر، وهي من تعلّمنا ما هو قابل للفحص وما هو دون ذلك، ويتمّ الأمر وفقا لاستعمالات الأشياء فالطفل لا يتعلّم أنّ هناك كتبا أو كراسي، ولكنّه يتعلّم الذّهاب للبحث عن الكتب والجلوس على الكراسي.

إنّ الطريقة الّتي ندرّس بها الأطفال هي طريقة تظاهريّة* تجعل كلمة شجرة مطابقة لنا في أذهاننا لصورة الشجرة في الواقع؛ وبعد ذلك يصبح وجودها مضمرا ومتّفقا عليه. وبالتّالي، فإنّ هذه الاعتقادات تصير بفعل العادة اليوميّة يقينا، عند ورود شكل جديد من الأشجار فإنّنا نعتقد أوّلا فيما إذا كان ينتمي إلى العبارة الأولى الّتي نصطلح بها "شجرة"، وبعد اعترافنا وإجماعنا على أنها شجرة تصبح فيما يلي معرفة يقينيّة "فإذا ما أجمع الكلّ أنّ لا وجود لكلمة "أعرف" فيجب أن يتمّ زحزحتها"[20]. وبالتالي، فإنّ المعرفة "تستلزم إجماعا بين الفاعل والآخرين، لكن الاعتقاد يمكن أن يكون مشتركا ويحتمل الصحّة الدّائمة لدى الفرد"[21]. فالمعرفة ليست خطوة أوليّة في فهم الأشياء، وإنّما هي ذات طبيعة بعديّة تسبقها العديد من المراحل من قبيل: الحالة الّتي يكون عليها المخاطب، وقاعدة أوليّة لمفاهيم الأشياء ودلالاتها فأنا: " لا أستطيع أن أصف وردة بغير معرفة سابقة تأسيسية للّون الأحمر"[22]. لذا فإنّ فهمنا يحمل في كلّ مرّة دلالات تأسيسيّة للأشياء الموجودة في الواقع، ولا يمكن الحديث عن معرفة سابقة لها وإلّا سنكون أمام فهم غير مرتبط بأشياء العالم، وهو الفهم الثالث بعد الفهم النظري والتجريبي؛ أي الميتافيزيقي وهو الأمر الّذي حاربه الفلاسفة التأويليين منذ انطلاق مشروعهم.

يتدرّج فيتجنشتين في الأسئلة والشكّ من أجل الوصول إلى اليقين ليصل إلى طرح السؤال الذاتي التّالي: هل أفترض أنّني أعرف اسمي كذا أم إنّني أشكّ أيضا في الأمر؟ يرى فيتجنشتين أنّ فرضيّة الأسماء الشخصيّة "لا تنتمي إلى فرضيّة إمبريقيّة ولا نفسيّة، بل لها خاصيّة القاعدة"[23]، إذ إنّ هناك أشياء أساسيّة لا يمكن زحزحة إحالتها ألا وهي الأسماء الشخصيّة، فإذا لم يكن اسمي كذا ولم أكن متأكّدة من أنّه كذلك كيف لي أن أقيّم أساس كلّ مفهوم إذا ما كان صادقا أم كاذبا، كما أنّ كلّ واحد منّا يعرف بكلّ يقين اسمه انطلاقا من لعبة اللّغة الّتي تتأسّس على أسماء الأشخاص.

خلاصة:

نستخلص أنّ فيتجنشتين قد طبق منهج هيوم الرّيبي بشكل واضح من خلال شكّه في كلّ المعارف السابقة وحتّى منها الّتي قد تبدو واضحة للعيّان من قبيل الشك في أطرافنا (أقدام، أيادي) إلّا أنّه قد أبقى أساسا لا يمكن تغييره، وهو العالم كمنطلق ثابت لكلّ الدلالات المتغيّرة للأشياء، والّتي تتحقّق انطلاقا من فهم استعمالاتها. ويأتي ليعتبر أنّ الاعتقاد هو الأكثر توافقا مع هذا الفهم الجديد بعد أن يكشف عن قصور المعرفة في ذلك، على اعتبار أنّ الاعتقاد أسلوب تفكير متحرّر من كلّ يقين ثابت، فصحيح أنّه يتأسّس على قاعدة ذاتيّة ثابتة (الأنا)، لكنه أسلوب تفكير يتفاعل مع المعطيات الحسيّة والدلالية للأشياء وذلك حسب استعمالاتها في الظروف اليوميّة وحسب أيضا ظروف المخاطبين الفاعليّة، وهذا الأسلوب يتناسب مع ما يناقشه فيتجنشتين من معارضته للدوغمائية كطريقة للتفكير أو التحليل وعدم التزامه بنسق من الأنساق الفلسفيّة دون غيرها.

[1] Moore. G.E. Selected Writings, Edit. Thomas Baldwin, Pub. Routledge Taylor and Francess Group, London, 1993, P. 150

[2] Ibid. P. 152

[3] Wittgenstein Ludwig. De la certitude, Tr Fauve Jacques, Gallimard, Les essais, 1965, P.31

[4] Ibid. P. 32

[5] Ibid. P.35.

[6] Wittgenstein Ludwig. Tractatus Logico-Philosophicus, Tran C.K. Ogden, DOVER PUBLICATION, INC. Mineola, New York, 1999, p.30

[7] Wittgenstein Ludwig. De la certitude, Tr Fauve Jacques, Gallimard, Les essais, 1965, P..4

[8] Ibid. P. 45

[9] Moore. G.E. Selected Writings, Edit. Thomas Baldwin, Pub. Routledge Taylor and Francess Group, London, 1993, P.107

[10] Wittgenstein Ludwig, De la certitude, Tr Fauve Jacques, Gallimard, Les essais,1965. P 57

[11] Ibid. 63

[12] Ibid. 63

[13] Ibid. 68

[14] Ibid. P.75.

[15] Ibid. P.78

* re-presentation.

[16] Ibid. P. 88

[17] Ibid. P. 93

[18] Ibid. P. 96

[19] Ibid. P. 100

* monstrative.

[20] Ibid. P.121

[21] Ibid. P.124

[22] Ibid. P.128

[23] Ibid. P.119