دنيس كوش ومفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية


فئة :  مقالات

دنيس كوش ومفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية

دنيس كوش ومفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية

من منا لم يسمع بكلمة ثقافة، حيث نقول هذه ثقافة المجتمع الفلاني، وهذا الشخص أو ذاك مثقف، وغير ذلك من التوصيفات التي نستعملها بشكل يومي، سواء أدركنا معناها أو لم تتسع مداركنا لفهمها. لهذا نريد أن نقف مع مفهوم الثقافة ونحن ندرك بأنه لفظ من صميم العلوم الاجتماعية والفلسفية والنفسية، فلا يمكن أن ندرك الإنسان في تنوعه دون أن نستحضر هذا البعد المركزي فيه.

كلنا نعلم بأن الإنسان يتجاوز البيولوجيا في كثير من الأشياء، فهو كائن ثقافي بامتياز. فقد تأقلم الكائن الإنساني ومنذ ملايين السنين مع محيطه الطبيعي، وتطور بشكل كبير إلى الحالة التي نراه عليها الآن، لكنه في الوقت نفسه كان هناك تطور مواكب بالنسبة لما هو ثقافي، حيث بدأت مجموعة من الغرائز تعوض بشكل تدريجي بأشكال ثقافية متنوعة. والمثير في كل هذا المسار الطويل من التاريخ الإنساني أننا قد نلاحظ أن المجموعات الإنسانية تشترك في المخزون الوراثي، لكنها في الوقت نفسه تتمايز وتختلف فيما بينها باختياراتها الثقافية، إذ نجد أن كل مجموعة من هذه المجموعات تبتدع حلولا تختلف عن المجموعة الأخرى لما قد يصادفها في هذه الحياة من مشاكل وتعقيدات وقضايا آنية. ولهذا يمكن القول إن كل التمايزات والاختلافات التي قد تبدو إلينا بأنها شأن بيولوجي محض، فإذا أمعنا النظر فيها أيضا، نجد أن الثقافة تعمل فيها بشكل أساسي على سبيل المثال قضية اختلاف الجنس، فمحددات الذكورة والأنوثة في المجتمع لا يمكن النظر إليها فقط من زاوية بيولوجية، بل أيضا من زاوية ثقافية. ولا يقف التمايز فقط عند هذا المحدد، فحتى الوظائف البشرية يمكن النظر إليها من زاوية ثقافية مثل الجوع والنوم والرغبة الجنسية، فهذه الأشياء كلها تزودها الثقافة بمعلوماتها.

وإذا كان هذا المفهوم له حضور وازن في حياتنا اليومي، وانشغالاتنا الأساسية بما في ذلك وظائفنا الفيسيولوجية، فإنه يمكن أن نقترح تصورا يقربنا من هذا المفهوم، حتى يسهل الاستيعاب والفهم.

1- الصيرورة الاجتماعية لكلمة ثقافة

ما يجب التأكيد عليه هو أن الكلمات مثل أيّ كائن حي تولد، فتخضع لكل المؤثرات التي يخضع لها أي كائن آخر، وتعمل عوامل النمو والتطور فيها عملها بشكل أساسي. لكن دعونا نساير هذا المفهوم من خلال المراحل التي نشأ فيها، وبمعنى أدق دعونا نتعرف على كيفية تكون الكلمة ومن بعدها المفهوم العلمي المتعلق بها. لقد طبقت الكلمة أول مرة ولا تزال على حقائق بالغة التنوع (فلاحة الأرض، الإكثار الجرثومي، تربية الأبدان...). ولنقف أولا مع المثال الفرنسي لاستعمال كلمة ثقافة. فقد دخل هذا المفهوم في عصر الأنوار قبل أن ينتشر بواسطة الاقتراض اللساني داخل اللسانين المجاورين الإنجليزي والألماني. انحدرت كلمة ثقافة من لفظ CULTURA اللاتيني التي تعني العناية الموكولة للحقل والماشية؛ وذلك للإشارة إلى قسمة الأرض المحروثة. في بداية القرن السادس عشر لم تعد تدل على حالة الشيء المحروث، بل أصبحت تعني فعلا فلاحة الأرض، وبعد ذلك أصبحت تعني معنى مجازيا أي تطوير كفاءة، والاشتغال بإنمائها. وفي القرن الثامن عشر، بدأ المعنى المجازي يترسخ بشكل كبير في المجال التداولي الفرنسي ففي قاموس الأكاديمية الفرنسية أصبحت تضاف الكلمة إلى موضوع الفعل كأن يقال: ثقافة الفنون، ثقافة الآداب، ثقافة العلوم. وشيئا فشيئا تخلصت كلمة الثقافة من فلاحة الأرض، وأيضا من متمماتها المضافة لتدل على تكوين الفكر وتربيته؛ أي حال الفكر وقد أخصبه التعليم، حال الفرد ذي الثقافة. وقد تكرس هذا المعنى إلى درجة أنهم بدأوا في استعماله ضد ما هو طبيعي على أساس أن الثقافة هي الخاصية المميزة للجنس البشري، فهي بعبارة أخرى جملة المعارف التي راكمتها الإنسانية خلال تاريخها الطويل. هنا يمكننا الإشارة إلى أن الاستعمال الإنجليزي للكلمة كان متأثرا أيضا بثقافة الأنوار الفرنسية.

لكن بالرغم من هذا الاستعمال للكلمة بشكل قوي داخل سياقات فكرية متنوعة، إلا أن كلمة الثقافة كانت قريبة من كلمة أخرى تتداخل معها بشكل كبير إلى الحد الذي تبدوان فيه متفقتين. إنها لفظة الحضارة، لكن بالرغم من هذا المشترك بينهما، إلا أن هناك تمايزا يمكن الإشارة إليه بأن لفظة الثقافة تشير إلى التقدم الفردي، بينما تشير لفظة الحضارة إلى التقدم الجماعي.

عرفت الحضارة على أنها صيرورة تجويد المؤسسات والتشريعات والتربية. الحضارة حركة لا تكتمل ووجب دعمها، وهي تمسّ كل المجتمع بما فيه الدولة التي يجب أن تتخلص من كل ما هو غير عقلاني في أدوات اشتغالها وتسييرها. إن استخدام ثقافة وحضارة في القرن الثامن عشر يوحي بحسب دنيس كوش أن هناك تصورا جديدا للتاريخ منزوع القداسة، وبتعبير أدق لقد تحررت فلسفة التاريخ من لاهوت التاريخ؛ أي تمت صياغة تصور جديد مفاده مركزية الإنسان بدلا من مركزية الرجاء الديني السائدة في القرون الوسطى.

في اللسان الألماني الأمر مختلف بشكل كبير، فقد تطورت الكلمة سريعا جدا نحو منحى أكثر حصرا من نظيرها الفرنسي. ويعزى هذا النجاح إلى تبني البورجوازية المثقفة الألمانية للكلمة وإلى استخدامها في معارضتها لأرستقراطية البلاط. فالمعروف أن الأرستقراطية والبورجوازية الألمانية كانتا على خلاف حاد، فقد كان النبلاء معزولين نسبيا عن الشرائح الاجتماعية الوسطى.

من خلال هذا الوعي، انزاح تدريجيا توكيد النقيض بين حضارة وثقافة من التعارض الاجتماعي إلى التعارض القومي نتيجة مجموعة من الأسباب نجملها فيما يلي:

-  ترسخ القناعة بوجود صلات بين العادات المتحضرة التي كانت للبلاطات الألمانية وحياة البلاط الفرنسي،

-  إرادة رد الاعتبار للسان الألماني،

-  البحث عن القومية الألمانية من خلال الوحدة الثقافية،

-  تحول كلمة ثقافة في القرن التاسع عشر من خاصية مميزة للبورجوازية المثقفة الألمانية في القرن الثامن عشر إلى علامة مميزة للأمة الألمانية،

-  فكرة الثقافة الألمانية هي من ابتداع طبقة وسطى تشك في نفسها، وتشعر أنها مستبعدة من السلطة ومن التشريف،

-  نزوع مفهوم الثقافة الألماني منذ القرن التاسع عشر إلى تحديد التباينات القومية وتثبيتها.

لنعد أيضا إلى مفهوم الثقافة الفرنسي، ولكن هذه المرة خلال القرن التاسع عشر. فقد تطور بشكل كبير عن القرن الذي سبقه نتيجة مجموعة من العوامل لعل أهمها:

-  ولع الأوساط المثقفة بالفلسفة الألمانية،

-  لم تعد الثقافة تركز على البعد الفردي، وبدأت تنحو نحو ما هو جماعي،

-  أصبحت الثقافة تعني جملة من السمات الخاصة بجماعة ما كثقافة فرنسية أو عربية أو ألمانية.

لكن المهم هو أن المفهوم الفرنسي للكلمة ظل مطبوعا بوحدة الجنس البشري. وعلى الرغم من التأثير الألماني، كانت الغلبة لفكرة الوحدة على حساب الوعي بالتنوع. وقد تجلى ذلك في مجموعة من التعبيرات:

-  تم التقليل من شأن الخصوصيات الثقافية،

-  أنكر المثقفون التعارض الحاصل بين الثقافة والحضارة الذي أقامه الألمان،

-  آمن الفرنسيون بالفكرة الكونية التي جاءت بها مبادئ الثورة.