دهشة الذكاء الصناعي في فلسفة العقل عند جون سيرل
فئة : مقالات
دهشة الذكاء الصناعي في فلسفة العقل
عند جون سيرل
مقدمة
روّجت وسائل إعلام إيطالية[1] في الشهور القليلة الماضية، وعلى نطاق واسع، قضية انخداع الرأي العام الغربي بخصوص مؤلف فلسفي من إنتاج الذكاء الصناعي الفائق حول إشكال راهن وملح؛[2] إذ نُشر في كانون الأول من سنة 2024، وراح يحلل مسائل التلاعب بالوعي والواقع معا في زمن الرقمنة، كان قد نشره كولاميديتشي Colamedici تحت اسم فيلسوف غير موجود من الأساس (جيانو شون) تمويها، فلقيَّ المؤلف احتفاء وترحيبا فائقين من دول غربية عديدة خاصة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ومارست أفكاره تأثيرها الخاص على الجمهور، قبل أن يتم كشف حيلته فيما بعد من طرف المتمرسين، ومن ثم بدأ التساؤل عن سؤال الأخلاق في هذه التجربة ناهيك بالاندهاش من القدرات المهارية التي يمكن أن تكون لهذا النوع من الروبوتات. غير أن المسألة الأخلاقية يمكن أن نتركها لبحث لاحق، فما أدهشني حقًّا هو قدرة الذكاء الصناعي على التفلسف وكتاب أعمال ناضجة في مجال يعد يضمن أعقد ما ينتجه البشر وهو الفكر النقدي، لذلك افترضت فيما بعد أن الذكاء الصناعي يستحيل عليه إنتاج أعمال فلسفية مثل ما يبدع الفلاسفة؛ لأن برمجياته تقوم فقط على محاكاة أعمال فلسفية من صنع العقل الإنساني، الذي عايش تجارب الحياة والموت والمعاناة والسعادة والإحباط والفرح، بخلاف الذكاء الصناعي الذي لا يعيش أي تجربة؛ إذ يقلد وينظم الجمل والعبارات والأقوال تحت الطلب وهذا أبعد ما يكون عن الفكر النقدي وسؤال الاصالة التي يختص بها الإنسان، وهذا هو أحد محاور فلسفة العقل، التي توجهت للذهن بالاهتمام، وتوقفت عند ظواهره الفريدة، التي من خلالها حاول الفلاسفة إعادة صياغة الأطروحات الرئيسية لتاريخ الفلسفة بدءًا من العقل والجسد، ثم الحرية والإرادة، ومسألة الهوية الشخصية...
1- إشكال فلسفة العقل
تعدّ مشكلات العقل وظواهره من أهم الأسئلة المطروحة على الإنسانية في الفلسفة المعاصرة، وفي العقود الأخيرة بوجه خاص، حيث أصبحت فلسفة العقل هي الفلسفة الأولى[3] The first philosophy والشغل النظري الأساسي؛ وذلك بعد أن تراجعت فلسفة اللغة عن الصدارة عندما هيمنت المشهد الفلسفي الأوروبي والأنغلوساكسوني لعقود عديدة، لكن سينتبه الفلاسفة فيما بعد إلى أن اللغة ليست سوى فرع من أصل متجذر هو العقل بوصفه ماهية الإنسان والمسؤول عن كل الجسد وباقي وظائفه، ففلسفة اللغة عند جون سيرل[4] John Searle مجرد تخصص فرعي ضمن مبحث فلسفة العقل[5] واللغة وظيفة واحدة ضمن الوظائف الكثيرة التي يقوم بالذهن البشري؛ ذلك أن أعراف الفكر منذ أرسطو ذهبت إلى أن الإنسان حيوان عاقل، ثم انصرف إلى تجليات هذه القدرات العقلية من حيث بروزه في المنطق وقواعده، ثم حضوره الاجتماعي والسياسي، أو بوصفه أداة للمعرفة أو قائد للسلوك البشري، حتى جاء فلاسفة العقل ليتوجهوا مباشرة إلى هذا العنصر المركزي في الحياة البشرية، فالعقل يبقى هو كل حياتنا، حتى أصبح اليوم السؤال الأول في الفكر هو كيف نفسر وجود الإنسان البارز كشخص واع ومسؤول وحر وعاقل، وفاعل اجتماعي وسياسي. وهكذا تمثل الإشكال الأول في ماهية الوعي والعقل وطبيعة علاقته بالجسد؛ أي العلاقة بين الوعي والواقع؟ بمعنى آخر كيف يمكن للحالات العقلية التي هي من طبيعة غير مادية أن تؤثر في الجسد وبالتالي في العالم؟ وكيف يؤثر القصد الذي هو مجرد عملية عصبية في حركة الجسد؟ ناهيك عن مدى خصوصية الذكاء الإنساني أم يمكن صنع ذكاء مساوي له أو متفوق لما لا عليه؟ وأسئلة أخرى كثيرة من هذا القبيل...
لكن هل البحث في العقل، وتعقب مسائل الوعي أمور علمية محضة أم من اختصاص الفلسفة؟ إنها مسألة في غاية الأهمية حضرت باستمرار في الفكر الباحث في العقل؛ إذ ينطلق اتجاه فلسفي معاصر يطلق عليه الاتجاه السري، حيث يعتقد فلاسفته أن الوعي سر من أسرار الحياة، ولا يمكن أن نصل بأي شكل من الأشكال لحله حسب الطرق العلمية الموجودة راهنا، فـكولين ماكجتن وهو سري متشدد إلى أبعد الحدود، يرى استحالة كاملة على الإنسان أن يفهم كيف يحدث الدماغ أفعال الوعي، أما توماس نيغل[6] فهو أقل تشاؤما وتشددًا، حيث يؤكد أنه من الممكن فهم هذه الإشكالية لكن ليس في الوقت الحاضر بسبب تواضع الإمكانيات العلمية والمعرفية، حيث يضع شرط إحداث ثورة كوبرنيكية حقيقية جديدة في التفكير وفي البحث العلمي، حتى نصل لفهم دقيق حول الوعي. إضافة إلى هذا وذاك فبعض رواد النيروبيولوجية المعاصرة ترى أن مشكل الوعي ليست مشكلة العلم أبدا، وفي المقابل يجب ترك هذه البحوث للفلاسفة واللاهوتيين، وهذا ما يرضي جون سيرل ويتقبله ويوافق عليه.
2- ديكارت والعقل
ولأن تاريخ الفلسفة غير تاريخ العلوم؛ إذ يظل الأول حاضرا بتأثيره القوي بخلاف الثاني الذي ينظر إليه كتاريخ أخطاء، حيث ترجع أصول البحث فيما يرتبط بفلسفة العقل إلى القرن السابع عشر مع رينه ديكارت (1596-1650)، وخاصة بخطابه عن الثنائيات، أو ما أطلق عليه جيلبيرت رايل[7] شبح الآلة، ومضمونه أن العالم ينقسم إلى نوعين من الجواهر أو الموجودات المستقلة بذاتها، والتي يمكنها أن توجد بحد ذاتها، هذه الموجودات جواهر عقلية وجواهر مادية، ويطلق عليها أحيانا بثنائية الجوهر[8]. من خلال هذا تعد المحاولة الديكارتية هي الأولى من نوعها في إرساء أسس فلسفة العقل المعاصرة، حيث انتبه ديكارت بشكل مبكر لمشكلة العلاقة بين الجسد والعقل، ودفعه الفضول العلمي إلى استكناه مكان الارتباط والتواصل بين المادة واللامادي، فانتهى إلى نسبة ذلك إلى الغدة الصنبورية pinéal gland؛ أي تلك الحبة المشابهة للبازلاء والتي تقع في قاعدة الجمجمة، وهي في رأيه نقطة الاتصال بين الجسد والعقل عند ديكارت.
ولكي يستدل أب الفلسفة الحديثة على وجود العقول الأخرى لدى الآخرين، يقترح التشابه أو الأنالوجيا، حيث في نظره إننا نستنتج أن للأخرين عقولا من خلال تشابه سلوكياتهم لسلوكياتنا، ولإثبات وجود العالم الخارجي، فإنه يجعل من الله الضامن لوجوده، والحيوان في نظر ديكارت هو مجرد آلة بلا عقل، وهو مختلف عن الإنسان باللغة، التي عدها التعبير الأسمى عن الروح، عكس الحيوان الذي لا يملك اللغة، وبالتالي لا روح له، هو جسد محض، من خلال هذه الرؤية سيفصل الوجود الطبيعي عن الوجود الإنسان فصلا حاسما وينكر على البشرية علاقتها بالطبيعة والأرض. وبخصوص العقل الإنساني، فيقول ديكارت عنه إننا لا يتعين علينا تصوره مثل قبطان سفينة في الجسد، وإنما علينا أن نفكر به ككائن يقطن في جميع أنحاء الجسد، ويورد في هذا السياق سيرل نصًّا يشرح فيه الفكرة، فيقول: "قال ديكارت في مقطع مشهور إنه علينا ألا ننظر إلى العقل، وكأنه قبطان سفينة في الجسد، ولكنه في الواقع علينا أن نفكر به ككائن مقيم في جميع أنحاء الجسد. إذا اصطدمت بشيء ما فأنا لا ألاحظ جسدي يصطدم بشيء آخر، كما يلاحظ القبطان اصطدام السفينة بالرصيف، ولكني أشعر بألم في ذلك الجزء من جسدي الذي احتك مع الشيء. يقول ديكارت إنه يجب أن نفكر بعقولنا وكأنها منتشرة في كل بقعة مكانية من الجسد. ولكن بناء على تحليله، ليس ممكنا لهذا القول أن يكون صحيحا، لأنه لا يمكن للجوهر العقلي أن يكون ممتدا مكانيا. لا يمكن له أن ينتشر في كل بقعة مكانية من الجسد، لأنه غير قادر على الامتداد أبدا."[9]
لقد كان ديكارت يعتقد بأن العقلي يتميز عما هو مادي؛ أي إن العقلي بوصفه عقليا، ولا يمكنه أن يكون ماديا، والمادي بوصفه ماديا، ولا يمكنه أن يكون عقليا، فالجسد عبارة عن آلة مادية، والعقل أو الروح غير مادي، وهو متميز عن الجسد، ومع ذلك فهو يؤثر فيه، فالعقل يسبب أحداثا في الجسد، وأن أحدثا في الجسد تسبب حالات عقلية. هذا التأثير يتم من خلال التقائهما فيما سماه ديكارت بالغدة الصنوبرية كما سلف، هكذا يطرح مواقفه التي أصبحت اليوم تقليدية، لكن هموم اكتشافها ما زال حاضرا بقوة.
3- نقد الثنائية والمادية
إن فكرة الثنائية لم تنته في القرن السابع عشر مع موت ديكارت، حيث ستجد من يتبنى مضمونها ويدافع عنها حتى وقت قريب، منهم كارل بوبر خاصة، الذي يدافع عن وجود عالمين كل منهما مستقل عن الآخر، عالم الماديات ثم عالم الوعي، بالإضافة إلى عالم ثالث هو عالم الثقافة وكل مظاهرها، كما يذهب جون اكلز إلى الرأي نفسه، فيقول كارل بوبر في هذا الصدد: "إنه يطلق على مسألة هل يوجد كلا النوعين من الحالات، الجسمية والعقلية، وهل يتفاعلان، أو هل هنا ارتباط بينهما هي مشكلة الجسم والعقل، أو يطلق عليها المشكلات السيكوفيزيقية". غير أن سيرل يرى أن كثير من الفلاسفة تخلى عن الثنائية، فهي مذهب لاهوتي يؤمن بخلود النفس أكثر منه تصور فلسفي، كما أن لا أحد استطاع إعطاء تفسير معقول للعلاقة بين هذين العالمين، ثم إنه من الممكن تفسير جميع الوقائع دون افتراض جود عالمين منفصلين، لذلك ليس لهذه المثالية حضور كبير، مقارنة بالتوجه المادي الذي مارس تأثيره على فلسفة العقل حتى أيامنها هذه، من خلال التأكيد أن الواقع الوحيد الذي يوجد هو الواقع المادي أو الفيزيائي، حيث اقتربت من أن تصبح دينا جديدا في أواسط الفلاسفة والسيكولوجية والعلوم المعرفية، لكن مؤاخذة جون سيرل الأساسية على هذا التيار هو إغفالهم الوعي والقصدية.
4- سيرل والذكاء الصناعي القوي-الفائق Strong Artificial Intelligence
ففي عصر صارت المجتمعات تسير بسرعة نحو جعل كل شيء ذكي، بكيفية تصبح حياتنا في معظمها متوقفة على الآلة الذكية[10]؛ إذ ينكب الذكاء الصناعي على دراسة التصورات التي تسمح بجعل الآلة ذكية، كما يعتبر محاولة خلاقة لنسخ فكر وسلوك الإنسان ومحاكاتهما صناعيا، ففي محاضرة ألقاها ماكرتي، والتي أطلق فيها لأول مرة على هذا المبحث الذكاء الصناعي، اعتبر هذا الرجل أن هذا الذكاء المصنوع هو المفتاح لوصف القواعد التي تسمح للحاسوب بأن يفكر بنفس الطرائق التي يفكر بها الإنسان، ومنه برز توجه الذكاء الصناعي القوي، الذي رأى في الدماغ كمبيوتر رقمي،[11] فاعتبر الحالات العقلية حالات حسابية في المخ، ورأت أن المخ كمبيوتر والعقل هو برنامج أو عدة برامج نفذت في الأمخاخ، كما يذهب هذا التصور إلى أن الكمبيوتر الرقمي المبرمج بصورة مناسبة لا يقلد العقل فقط، بل إنه يمتلك عقلا بمعنى الكلمة، ويمكنه أن يتفوق على البشر بمناسبة استخدامه للمنطق الغامض وتأهيل ذكاء توليدي ل يعود في حاجة لمزيد من البرمجة. كما يفترض أن الدماغ الإنساني ليس إلا آلة تورينغ[12] في صورتها الشمولية، فالعقل الإنساني بهذا المعنى هو كمبيوتر رقمي مشابه لألة تورينغ الشمولية، ولكي نفهم القوى المعرفية الإنسانية، فإن كل ما نحتاجه هو اكتشاف البرامج التي تنفذها العقول البشرية حين استعمال القوى المعرفية المختلفة كالإدراك والذاكرة وغيرهما.
ولذلك، سيبرز سيرل كممثل قوي لتيار الذكاء الصناعي الضعيف، من خلال نقده الجارح لأسس المذهب الذي يتبنى فكرة الذكاء الصناعي الفائق، بسبب تجاهله لعدد من الصفات والمقومات الجوهرية التي يختص بها العقل البشري خاصة الوعي والقصدية والحدس وغيرها[13]، لذلك يفشل التحليل المادي في إعطاء صورة مناسبة عن الشروط الكافية للظواهر العقلية؛ ذلك أنه من الممكن التوفيق والملاءمة بين التحليل المادي لكن دون إقصاء هذه الظواهر العقلية. فسيرل غير مقتنع تماما لا بمواقف الثنائية ولا بمواقف المادية، ولكنه مع ذلك يراهما معا الاحتمالات الوحيدة الممكنة حتى اليوم ولا يوجد من ينافسها، ولكي يقيم هذا الفيلسوف خطوطا فاصلة بين الذكاء الإنساني الطبيعي والذكاء الصناعي، يقدم حجة الغرفة الصينية الشهيرة ضد تحاليل الذكاء الصناعي القوي. فالآلة تظهر وكأنها ذكية، لكن في الحقيقة فهي ليست كذلك. هكذا يستدل حسان الباهي على تصور أساسه أحادية التفكير الإنساني[14]، فالعقل الإنساني واحد في طرق تفكيره ومسالك استدلالاته، فهو يشتغل وفق قوانين ومبادئ كلية ومطلقة، بعكس الآلة التي تقوم على التوجيه والبرمجة.
5- حجة الغرفة الصينية
الغرفة الصينية حجة قدمها جون سيرل ضد توجهات الذكاء الصناعي القوي، ومضمونها أنه عندما نضع شخصا لا يعرف شيئا عن لغة الصينيين، حتى إنه لا يقدر على التمييز بين حروف اليابانية والصينية، إذ نضعه في حجزة بها صناديق مليئة برموز تنتمي لتلك اللغة، كما نضع رهن إشارته كتابا يضم كل قواعد اللغة، باختصار برنامج كومبيوتري يمَّكن صاحبنا من الإجابة عن أسئلة تطرح باللغة الصينية، بحيث يتلقى هذا الشخص رموزا يجهلها لكنها عبارة عن أسئلة، وهو بذلك يقرأ رموز الصناديق ويرتبها وفقا لتعليمات البرنامج، وبعدها يضع الرموز المطلوبة والمترجمة كأجوبة. من خلال هذه التجربة، فذلك الشخص لا يفهم الصينية، ولكنه مع ذلك يمكن افتراض أنه اجتاز اختبار تورينغ لفهم الصينية بنجاح.[15] تعال مرة أخرى، نضع نفس الشخص في نفس الغرفة، لكن هذه المرة يقوم بتجربة مشابهة مع لغة يفهمها، نأخذ العربية مثلا، ستجده يجيب مرة أخرى بنفس الطريقة بين العربية والصينية بالتساوي، إذ أنه سيجتاز اختبار تورينغ بنجاح في كلتا الحالتين.
لكن، داخليا، هناك فرق شاسع بين التجربتين، فاختبار العربية، كان الشخص موضوع التجربة يجيب بلغة يفهم معنى كلماتها. أما في حالة اللغة الصينية، فهو مجرد حاسوب لا أكثر ولا أقل. وهذا هو الفرق بين قدرات الذكاء الطبيعي التي تدرك وتفهم وتتأمل وتتفلسف، وبين مميزات الذكاء الصناعي التي تفتقر لكل ما سبق. ذلك أن سيرل يعتقد بأن هذه الحجة قد ضربت مشروع الذكاء الصناعي القوي في القلب؛ لأنه تبنى استراتيجية مختلفة تماما في تناول هذا الموضوع، تختلف جوهريًّا عن الحجج المقدمة في السابق، خاصة مع من يطرح بعض التحديات على الذكاء الصناعي فيبادر المهندسون إلى صناعة أكثر إتقانا لتجاوز الحدود وتكسير التحدي، لكن هذه الحجة تفترض النجاح الكامل من طرف الذكاء الصناعي في تقليد ومحاكاة المعرفة الإنسانية، ذلك أن الحاسوب يعمل بالرموز، أما العقل الإنساني فإنه يعطي معنى لهذه الرموز، حيث يرفض سيرل فكرة أن الدماغ كمبيوتر رقمي؛ لأن الحساب لا يوجد في الطبيعة بل ينسب إليها، فطريقة وجود الحساب في الآلة تماثل وجود المعلومات في الكتاب، لا أكثر ولا أقل، فوجودها يعتمد جوهريا على الذات الملاحظ هي من تفهم تعطي معنى للعالم.
6- سيرل والطبيعية البيولوجية
إن جهوده في فلسفة العقل يطلق عليها سيرل الطبيعية البيولوجية Biological natrulism، لأنها تقدم حلولا طبيعية لمشكل العقل والجسد التي ظلت مطروحة منذ ديكارت، فهي حلول تشدد على الجانب البيولوجي للحالات العقلية، وتتجنب في نفس الوقت الطريق المؤدية إلى الثنائية والمادية، لكنه لا يقطع مع هذين المذهبين، بل يبدو أنه يأخذ من كليهما ما يناسبه ويسعفه في صياغة نظريته، كما يرى سيرل أنه رغم الأصول الديكارتية لأحدى مشكلات العقل المعاصرة، فإن تقديم أطروحات في الموضوع نفسه دون استعمال مفردات ديكارت، هذا العمل يزيل الكثير من الغموض، وتصير الأطروحات في غاية الوضوح،[16] وكأن سيرل يقول إن إخفاق ديكارت لا يتوقف عند حلوله لعدد من مشكلات العقل، بل يتجاوزه إلى كيفيات طرح الأسئلة واختياره لمفردات الصياغة.
إن "جون سيرل" في حله لمشكلة العقل والجسد لا يكتفي برفض البديلين فقط، بل يدعو إلى تغيير المقولات، حتى نتوصل إلى إدراك يعتبر بأن الوعي كعملية عقلية مادية وفي نفس الوقت غير قابل للاختزال، ولن يتحقق هذا في نظره إلا إذا تخلينا عن المقولات التقليدية حول "المادي" و"العقلي" كما استعملت في تاريخ الفلسفة، والتي ظلت تعتبر الوعي إذا كان عبارة عن نشاط أو حالة عقلية فلا يمكن أن يكون من العالم المادي، وبالتالي تجعل من العقل والمادة يتبادلان استبعاد بعضهما، إذا كان الشيء عقليا فلا يمكن أن يكون ماديا، وإذا كان ماديا فلا يمكن أن يكون عقليا، كما يرفض إقصاء ما هو عقلي وغير مادي لصالح ما هو مادي.
من جهة أخرى، يختصر سيرل تصور فلسفته الطبيعية البيولوجية للعقل، وخاصة في باب الوعي بأنه أولا الحالات الواعية ظواهر حقيقية في العالم الواقعي، ولا نستطيع بأي شكل القيام باختزال حذفي للوعي؛ وذلك ببيان أنه مجرد وهم، وفي مستوى ثاني، يعتبر أن الحالات الواعية تسببها كليا عمليات نورو بيولوجية من مستوى أدنى من الدماغ، كما أن هذه الحالات الواعية إنما تتحقق كصفات في الجهاز الدماغي؛ ذلك أن الوعي يوجد في الدماغ مثلما أن الهضم هو صفة بيولوجية في الجهاز الهضمي، وأخيرا يرى سيرل بما أن هذه الحالات صفات حقيقية في العالم الحقيقي، فإنها تقوم بوظائفها بصورة سببية.
سنرى فيما بعد كيف أن سيرل أصبح يعتقد باتجاه ذري في تفسير الوعي، أي انه يعمل على تجزيء مشكلة الوعي برمتها إلى كم كبير من مشكلات صغرى، ثم يتم يقوم بتجزيئها بدورها إلى مشكلات أصغر فردية، حيث لا نعود نسأل بصورة عامة عن كيف ينتج الدماغ الوعي، ولكن السؤال المهم هو كيف ينتج الدماغ تجربة واعية معينة للون الوردة الأخرة؟ لكن رغم هذه الجهود ففيلسوف الوعي والقصدية يعتقد بأن الوعي ظاهرة مذهلة وسرية لدرجة تشعر الباحث بالفشل الذريع قبل بدء البحث.
7- الوعي ظاهرة بيولوجية
يقصد سيرل بالوعي تلك الحالات من الإحساس أو الإدراك التي تبدأ بصورة نموذجية عندما نستيقظ في الصباح من نوم بلا أحلام، وتستمر طوال اليوم حتى نعود مجددا للنوم مرة أخرى، وعند محاولتنا لتعريف ما الوعي؟ فإننا نجد أنفسنا نصف حوادث ومدركات قريبة منا، أي سنعرف الوعي من خلال محتوياته؛ أي الانفعالات والاحساسات الداخلية والمدركات الخارجية والأفكار، فصعوبة تعرف الوعي آتية من صعوبة جعله موضوعا للإدراك والدراسة، وهكذا يرى سيرل أنه تسببه عمليات دماغية مما يجعله ظاهرة بيولوجية، مثله مثل باقي الظواهر البيولوجية الأخرى، فالشعور هو سمة عليا على مستوى الجهاز العصبي للدماغ مثلما أن الهضم سمة عليا على مستوى الجهاز الهضمي[17]. وهذا في نظر الفيلسوف ما يعطي حلا ممكنا للمشكلة الميتافيزيقية للعقل والجسد، لأن كل الحالات الواعية تتم عن طريق نشاط الخلايا العصبية على مستوى الدماغ، وهذا ما يشكل تجاوزا للمقولات، التي تتبادل استبعاد بعضها، كالعقل والمادة، والروح والجسد، فالوعي هو من الظواهر البيولوجية، لا يمكن بأي حال إقصاؤه لصالح ظواهر ذات وجود غيابي، لأن الوعي على حد تعبيره يتميز بأنطولوجية حضورية.
لذلك، يجد جون سيرل في طبيعته البيولوجية حلولا لمشكلة العقل والجسد، حيث يعتقد بأن العمليات الدماغية هي التي تسبب الحالات والعمليات الشعورية، وهذا المنهج الذي اتبعه هو الكفيل بإحداث ثورة في فلسفة الذهن المعاصرة، حيث اعتبر تصوره هذا تجاوزا للمقاربات الميتافيزيقية لمشكلة العقل والجسد، وانقلاب على الثنائية والمادية معا، فيقول في هذا الصدد: "هكذا نكون قد طبعنا الشعور، والحقيقة أن الاسم الذي أطلقه على هذه النظرية هو الطبيعية البيولوجية، وهي طبيعية لأن العقل فيها هو جزء من الطبيعة، ونمط تفسير وجود الظواهر العقلية هو بيولوجي[18].
المراجع:
1- سيرل، جون، العقل، مدخل موجز، ترجمة مشيل حنا ميتاس، عالم المعرفة، 2007.
2- سيرل، جون، العقل واللغة والمجتمع، الفلسفة في العالم الواقعي، ترجمة صلاح إسماعيل، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2011
3- عز الدين العمراوي، الذكاء الصناعي من التكنوفيليا إلى التكنوفوبيا، مجلة مخاطبات، العدد 38، 2021
4- John Searle, The Rediscovery of the Mind, July 1992
5- الباهي، حسان، الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، إفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الأولى 2012
[2] AI, Hypnocracy: Trump Musk, and the Architecture of Reality.
[3] سيرل، جون، العقل واللغة والمجتمع، الفلسفة في العالم الواقعي، ترجمة صلاح إسماعيل، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2011، ص22
[4] جون سيرل 1932 هو فيلسوف أمريكي ذو نفوذ ثقافي بارز، بدأ باعتبارها فيلسوف في اللغة على طريق أوستين، ثم شق طريقه الخاص في فلسفة العقل، حيث أصبح من أهم الوجود الفلسفية حتى يومنا هذا، من مؤلفاته: كتاب القصدية (1969).
[5] John Searle, The Rediscovery of the Mind, July 1992, p 01
[6] نفس المرجع، ص 74
[7] جيلبيرت رايل(1900-1976) من أشهر فلاسفة بريطانية في القرن العشرين، مثل المذهب التحليلي أشمل تمثيل، وعمق بحوثا مهمة في فلسفة العقل، من مؤلفاته: مفهوم العقل (1949).
[9] جون سيرل، العقل، مدخل موجز، ترجمة مشيل حنا ميتاس، عالم المعرفة، 2007، ص. 34.
[10] عز الدين العمراوي، الذكاء الصناعي من التكنوفيليا إلى التكنوفوبيا، مجلة مخاطبات، العدد 38، 2021، ص. 119.
[11] جون سيرل، العقل مدخل موجز، مصدر سبق ذكره، ص ص 58 -59
[12] آلة تورينغ وهي نموذج تجريدي لتشغيل آلة حاسبة (ميكانيكية) (من نوع الكمبيوتر). يقدم هذا النموذج الذي ابتكره آلان تورينغ عام 1936 تعريفًا دقيقًا لمفهوم الخوارزمية (التي كانت تسمى آنذاك "الإجراء الميكانيكي").
[13] حسان الباهي، الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، إفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 2012، ص 143
[14] نفس المرجع، ص. 40
[15] جون سيرل، العقل مدخل موجز، مصدر سابق، ص، ص. 77 -78
[16]نفسه، ص. 97.
[17] جون سيرل، العقل واللغة والمجتمع، الفلسفة في العالم الواقعي، مصدر سابق، ص. 83