ديمقراطيّة سيّئة السّمعة


فئة :  مقالات

ديمقراطيّة سيّئة السّمعة

1. تكفير الديمقراطيّة:

حدّث فرج فودة قال: "عندما رشّح أستاذ الجيل أحمد لطفي السيّد نفسه لعضويّة البرلمان، تفتّق ذهن منافسه عن حيلة طريفة؛ فقد أخذ يجوب القرى والكفور (جمع كفر) معلنا أنّ أحمد لطفي السيّد -والعياذ بالله- ديمقراطيّ. ولأنّ الجهل بهذه المصطلحات كان سائدا، فقد أخذ المستمعون يردّدون وراءه عبارات من نوع أعوذ بالله، أستغفر الله، بينما انبرى أنصار لطفي السيّد لإنكار الأمر، مؤكّدين أنّه من أسرة مؤمنة لم يعرف عنها خروج على العقيدة أو انحراف عن الملّة.

الديمقراطيّة وفق متخيّل المودودي هي حكم الأهواء وإمكانات الخروج فيها عن الحقّ -أي الشريعة الإلهيّة- واردة

وكان موقف المدافعين عن لطفي السيّد عصبيّا وضعيفا أمام عبارات المنافس الحاسمة، لقد سمعته بأذني يردّد ذلك. وأقسم بالله أنّني لو سمعت هذا من غيره عنه لأنكرته، وها أنذا أعرض الأمر عليكم فإن كنتم تريدون ترك الإسلام واعتناق الديمقراطيّة فانتخبوه، هذا شأنكم وقد أبلغت، اللهم فاشهد."[1]

لا تمثّل هذه الحادثة سوى عيّنة من متخيّل إسلامويّ رأى في الديمقراطيّة كفرا وخروجا عن الإسلام، وهو أمر يحتاج منّا إلى البحث في ثلاثة مسارات مختلفة: المسار الأوّل يقوم على عرض عيّنة من المواقف التي نظرت إلى الديمقراطيّة نظرة عدائيّة ومحاولة البحث في المطاعن التي قدّمها أصحاب هذا الرأي من أجل الإقناع برأيهم. والمسار الثاني يقوم على البحث في معقوليّة هذا التصوّر في إطار البدائل المطروحة التي تقوم في العادة على رسم مشاريع تتجاوز تهمة الكفر التي رصدها المتأسلمون وتؤسس لمنظومة بديلة يفترض أن تكون منظومة إيمانيّة. وأمّا المسار الأخير، فيقوم على دراسة التطوّرات التي شهدها تصورهم للديمقراطيّة من العداء إلى القبول المشروط بها.

يمكن أن نرصد مواطن التوتّر التي شابت العلاقة بين المتأسلمين والديمقراطيّة من خلال متخيّل القيم الذي حكم تصوّرهم. فسيّد قطب يرجع أصل أزمة الغرب إلى إفلاس في عالم القيم، إذ العالم الغربيّ وفق هذا المتخيّل "لم يعد لديه ما يعطيه للبشريّة من القيم، بل... لم يعد لديه ما يقنع ضميره باستحقاقه للوجود بعدما انتهت الديمقراطيّة فيه إلى ما يشبه الإفلاس، حيث بدأت تستعير -ببطء- وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقيّ وبخاصّة في الأنظمة الاقتصاديّة تحت اسم الاشتراكيّة."[2] وتُطرح مسألة الديمقراطيّة في إطار علاقة جدليّة بين القيم والقيادة، فبحسب هذه المقاربة، فإنّ خواء الغرب من رصيد القيم سيؤدّي حتما إلى نهاية الهيمنة الغربيّة على العالم. ويقوم هذا المتخيّل على اختزال الفرق الجوهريّ بين الغرب والإسلام برصيد القيم المسلوب من الغربيين والمنسوب إلى الإسلاميين. إنّ المسألة تبدو أقرب إلى أمم تقف في طابور الحضارة، تعرض فيها كلّ واحدة مشروعها. وإن فشلت مرّت القيادة إلى غيرها من الحضارات. ولهذا، فقد "جاء دور الإسلام"[3]، وهو دور الأمّة المتخيّلة التي تعني "جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوّراتهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلّها من المنهج الإسلاميّ."[4] "وهي متخيّلة لأنّ أفراد أيّة أمّة، بما فيها أصغر الأمم، لن يمكنهم قطّ أن يعرفوا معظم نظرتهم، أو أن يتلقوهم، أو حتّى أن يسمعوا بهم، مع أنّ صورة تشاركهم تعيش حيّة في ذهن كلّ واحد منهم."[5]

وبذلك، فمفهوم الأمّة الإسلاميّة التي تضمّ المسلمين المرتبطين بمرجعيّة إسلاميّة يختلف عن مفهوم المواطنيّة التي "تحدّد حقوق الفرد وواجباته الوطنيّة، ويعرف الفرد حقوقه ويؤدّي واجباته عن طريق التربية الوطنيّة. وتتميّز المواطنيّة... بولاء الوطن وخدمته في أوقات السلم والحرب والتعاون مع المواطنين الآخرين في تحقيق الأهداف القوميّة."[6] وتتمثّل سبل تحقيق المشروع الإسلاميّ في قيادة بشريّة قائمة -وفق تصوّر سيّد قطب- على مؤهّلي "العقيدة" و"المنهج" يختزلهما مفهوم المجتمع المسلم المقام على أساس تجاوز مرحلة الجاهليّة بالحاكميّة.

لقد قضى الفصل بين الحاكميّة الإلهيّة القائمة على أساس احتكار القيم مقابل الديمقراطيّة الغربيّة والماديّة القائمة على جاهليّة وحاكميّة بشريّة تدير شؤونها بالديمقراطيّة إلى متخيّل طوباويّ يلوذ بالمقولات الدينيّة لحلّ الأزمات السياسيّة. وإنّ من مثالب هذا التصوّر قيامه على مفارقة بين ما هو إلهيّ وما هو إنسانيّ. والحال أنّ جميع الممارسات تظلّ إنسانيّة، سواء بادعائها المرجعيّة الدينيّة أو باعتمادها مرجعيات أخرى علميّة أو فلسفيّة. فمنطق الفصل هو المؤسس للصراع الذي سيكون محور الطرح السياسيّ المبرّر بالإسلام، إذ يبرز العجز عن إقامة جسور تواصل بين مملكة البشر بكلّ عقلانيّتها الغربيّة ومنجزاتها العلميّة و"مملكة الإله" التي يصوّرها المتخيّل الإسلامويّ مجالا وحيدا للقيم الإنسانيّة. ولعلّ خطورة هذا الفصل تكمن أوّلا في وسم العقل الإنسانيّ بالعجز والدونيّة خارج الأنساق الإسلامويّة التي يضبطها الناطقون بلسان السماء. وأمّا الخطورة الثانية، فتكمن في خلق جدار فصل فكريّ ونفسيّ بين صرح المملكة الإسلامويّة المنضوية تحت منطق الحاكميّة الإلهيّة وتطبيق الشريعة الإسلاميّة، وصرح الحضارة الغربيّة الموسومة بالعقلانيّة والرّهان على العلم، باعتبارها تنتمي إلى الدائرة الكفريّة.

يقوم المشروع الإسلامويّ على نسف صروح البناء العقلي والحداثيّ الذي يختزل الجهد الإنساني بحثا عن حلول للأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة. ويقيم بدل ذلك صرحا متخيّلا أساسه استعادة الإسلام في عصر وسم بجاهليّة القرن العشرين. ولا غرابة حينئذ أن تكون الديمقراطيّة، باعتبارها وليدة المعسكر الكفريّ عنوان حكم بشريّ قاصر، وفق هذا التأويل، مقابل حكم إلهيّ مستمدّ من الشريعة الإسلاميّة.

لقد اكتسبت الديمقراطيّة سمعتها السيئة من الاعتقاد أنّها "عبارة عن منهاج للحكم، تكون السلطة فيه للشعب جميعا، فلا تغيّر فيه القوانين ولا تبدّل إلاّ برأي الجمهور ولا تسنّ إلاّ بحسب ما توحي إليهم عقولهم. فلا يتغيّر فيه من القانون إلاّ ما ارتضته أنفسهم وكلّ ما لم تسوغه عقولهم يضرب به عرض الحائط ويخرج من الدستور.

هذه خصائص الديمقراطيّة وأنت ترى أنّها ليست من الإسلام في شيء. فلا يصحّ إطلاق كلمة الديمقراطيّة على نظام الدولة الإسلاميّة."[7]

وقد افترض المودودي -انطلاقا من عدائه للديمقراطيّة- أنّ رأي الأغلبيّة هو رأي "العامّة" الموسومة في كتب التراث بأنّها "الغوغاء" أو "الرعاع" أو "الدهماء"، وبأنّ رأيها متهافت ويعبّر عن الأهواء. مقابل رأي الخاصّة الموسوم بالحكم والقائم على سلطة النخبة من رجال السياسة وأعوانهم من رجال الدين. ولذلك فالديمقراطيّة وفق متخيّله هي حكم الأهواء وإمكانات الخروج فيها عن الحقّ -أي الشريعة الإلهيّة- واردة. فيعتقد اعتقادا راسخا أن تعديل هذا الانحراف والقضاء على مسار الأهواء لا يكون إلاّ بالحاكميّة الإلهيّة وتطبيق شرع الله، باعتبارهما يقدّمان الضوابط الشرعيّة التي تضمن سقفا من القيم لا يمكن للعامّة الحياد عنها. وتقوم معقوليّة هذا التصوّر على أساس المفهوم السائد للعدل في الثقافة الإسلاميّة القديمة. فالعدل يعني "إنزال الناس منازلهم". ويعني ذلك، أنّ وظيفة الخليفة هي الحكم، وأنّ وظيفة الرعيّة هي الطاعة ووظيفة الخاصّة؛ فهي مساعدة الحاكم على بسط سلطته وضمان طاعة رعيّته. وترتبط قداسة منزلة الحاكم بقداسة منزلة الإله والنبيّ. فالبناء الهرميّ يحكم هذا التصوّر. ولذلك، فمن الطبيعيّ أن يعتبر خرق منازل الناس عبر المساواة بين الحاكم والخاصّة والعامّة كفرا. فكأنّه بشكل أو بآخر مسّ من المنزلة الإلهيّة وإرباك لمراتب المقدّسات في الإسلام.

يقوم المشروع الإسلامويّ على نسف صروح البناء العقلي والحداثيّ الذي يختزل الجهد الإنساني بحثا عن حلول للأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة

إنّ إقامة الأسوار بين مملكة القيم الإلهيّة ومملكة الأهواء البشريّة هو الذي جعل كثيرا من دعاة الإسلام السياسيّ يُعرضون عن محاولة فهم التحوّلات الكبرى التي شهدها الغرب. وإنّ دعوتهم بالدّعاة لقائمة على تنزيلهم منازل أقلّ من منزلة المصلحين الذين حاولوا تفهّم المنظومة الغربيّة ونقدها واستيعابها، وإن بدرجات مختلفة وبخلفيّات متعدّدة. أمّا دعاة الإسلام السياسيّ، فإنّهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء معرفة تلك الأنساق. فغلبت الأحكام المسبقة على تصوراتهم ووجدوا في ثنائيّة الإسلام والجاهليّة أو الكفر والإيمان وسيلة سهلة للتهرّب من عناء الفهم والتأويل والجدل العقليّ. وقد انعكس تواكلهم الفكريّ على المؤمنين بآرائهم، إذ لم يجدوا على أرض الواقع ما يؤسّسون به منظومة سياسيّة أو اقتصاديّة يمكن أن تمثّل منافسا حقيقيّا للنظم الغربيّة. فظلّ بعضهم متشبثا بالخلافة وكلّ مقوّماتها الرّيعيّة في الاقتصاد، جزية وخراجا وزكاة، وهي أشكال بدائيّة لا يمكن أن تؤسس منظومة اقتصاديّة متكاملة في عصر تعقّدت بنيته الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وارتبطت مصالحه عبر الشركات العابرة للقارات والمؤسسات الماليّة العالميّة. أو أنّهم لجأوا إلى التأقلم مع التحوّلات التي شهدها الوعي الإنسانيّ. فصاغوا مفهوما جديدا تخلّوا من خلاله ظاهرا على شعاراتهم القديمة كالحاكميّة وتطبيق الشريعة الإسلاميّة لتصير الديمقراطيّة حلاّ سحريّا للوصول إلى الحكم. ولكن رغم اعتناقهم الديمقراطيّة، فإنّها ظلّت بدورها سيئة السمعة. ولذلك، احتاج دعاة هذا التيّار إلى أسلمتها حتّى تطهّر الديمقراطيّة من "رجس" ارتباطها بعلمانيّة شموليّة تفصل بين الدّين والدّولة، وتضع أحكامها وفق أهواء العامّة لا وفق ما تمليه الشريعة الإسلاميّة، وهو موقف يعكس سلطة المرجعيّة التراثيّة على دعاة الإسلام السياسيّ. فهم لم يجدوا في التراث الإسلاميّ ما يمكن أن يؤسسوا به المفهوم الحديث للديمقراطيّة. فقد "كانت غائبة تماما عن نظام القيم في الثقافة العربيّة الإسلاميّة... وبعبارة أخرى، إنّها لم تكن حاضرة في حقل تفكير مفكّري الإسلام من متكلّمين وفقهاء وفلاسفة ومؤلفين في الآداب السلطانيّة."[8] ولذلك، ظلّوا في حرج من ديمقراطيّة وسمها الدعاة المؤسسّون بأنّها "كافرة".

2. الحلّ السحريّ في الإسلام الديمقراطيّ:

لقد تحوّل مفهوم "الإسلام الديمقراطيّ" إلى وسيلة مزدوجة لضمان الارتباط الوثيق بالحداثة وعدم فكّ الحبل السرّي مع الإسلام، إذ أضحى لقب الإسلام بمثابة ثوب يستر عورة الديمقراطيّة ويهبها الشرعيّة الدينيّة. ولكنّ هذا الشعار يخفي تصوّرا يسيطر على فكر دعاته بأنّ الديمقراطيّة هي مجرّد آليّة للعبور إلى إرادة إسلاميّة جماعيّة؛ أي إنّه مادام دين الجماعة هو الإسلام، فإنّ الديمقراطيّة ستظلّ دوما تحت سقفه. وفي هذا التصوّر كثير من المخاتلة؛ ذلك أنّ الإطلاق في الحديث عن "الإسلام" لا يمكن أن ينتج تأويلا واحدا يجمع عليه كلّ المؤمنين به وخاصّة في مجتمعات متعدّدة الأديان والمذاهب. والحال أنّ الاختلاف والخلاف التأويليين قد قاما منذ عهود مبكرة للإسلام. ويمكن أن يقود هذا التصور إلى فرضيتين: تتمثّل الفرضيّة الأولى في أنّه إن كان المقصود بالإسلام تأويلا سلفيّا للنصّ القرآنيّ، فإنّ ذلك سيحوّل الديمقراطيّة إلى وسيلة للوصول إلى الحكم لا غير، هذا إن افترضنا القبول بها شكلا، وهو ما يمكن أن يؤدّي إلى قيام دولة الخلافة بكلّ نظمها القانونيّة القديمة، وهو أمر حصل ما يضارعه في أوروبا حين كانت الديمقراطيّة مطيّة لوصول أنظمة فاشيّة إلى الحكم. وأمّا الفرضيّة الثانية، فهي قائمة على تلوين النظام المدنيّ بمصطلحات تحقّق للمتخيّل المفتون بالأسلمة إشباعا لغويّا لا غير. أمّا جوهر الدولة، فيظلّ ليبراليّا. من ذلك استعمال مصطلحات مثل الشورى والزكاة والبنوك الحلال واللباس الشرعيّ من أجل تحقيق إشباع نفسيّ وإيهام بأسلمة الدولة...

وفي هذه الحالة، فالإسلام هو مجرّد وسيلة للدعاية الحزبيّة وحشد الأنصار. ولكنّه سلاح قصير المدى، لأنّه سيكشف بمجرّد الانتقال من التنظير إلى التطبيق خواء مقولات الإسلام السياسيّ ووهم الاعتقاد في شعارات الحاكميّة والدولة الإسلاميّة، بل إنّه سيفضي إلى وصول جماعات لا تملك مشاريع سياسيّة ولا رؤية حداثيّة إلى الحكم. فيكون الفشل مآلا حتميّا نتيجة غياب التصوّرات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة القائمة على مقاربة الواقع وتشخيصه تشخيصا علميّا.

لقد تأسسّ وعي دعاة الإسلام السياسيّ على وهم الاعتقاد في احتكار الحقيقة والقيم. وتجاهلوا ما أنتجه عصر الأنوار من ثورة فكريّة وتأسيس لمشروع المواطنة وحقوق الإنسان. وحتّى أكثر التيارات جرأة على قبول الديمقراطيّة، فقد سعت إلى تجريدها من روحها المدنيّة برفض العلمانيّة وجعل الشريعة الإسلاميّة سقفا لا يمكن للتشريعات والأفراد والمؤسسات أن تخرج عنه. وهو ما يتأكّد في قول "راشد الغنوشي": "تشترك كلّ الحركات الإسلاميّة الرافض منها والقابل والمتحفّظ في مسألة الديمقراطيّة في التأكيد على أن الحكم جزء من الإسلام، ورفض العلمانيّة خاصّة في صورتها الشموليّة التي تجعل الدولة حربا على الدين وتقصي الدين من كلّ شؤون المجتمع. كلّ الحركات الإسلاميّة تشترك في التأكيد على ضرورة التسليم بأنّ المرجعيّة العليا في الدولة تشريعا وتنفيذا وثقافة ينبغي أن تكون لنصوص الوحي كتابا وسنّة، والمرجعيّة العليا لكلّ المؤسسات، ولا ضرورة أن تحتكر النطق بهذه المرجعيّة فئة مخصوصة."[9]

لقد أعاد "الغنوشي" بهذا الخطاب من الشبّاك ما أخرجه من الباب؛ فالسقف الذي لا غنى عنه في تصوّر الدولة هو الشريعة، وإن تغيّرت دوالها لتصير نصوص الوحي كتابا وسنّة. وتمنح مساحات التأويل التي يجد فيها المؤوّل حريّة في استعادة النظم التقليديّة للدولة كالخلافة أو تبرير الأخذ بالنظم الحداثيّة. فمثلما منحت الأديان قدرة على تأويل نصوص الوحي لتقبل بالحداثة ومنجزاتها وتقدّم التسامح على العنف، فإنّ النصوص ذاتها قد منحت أطرافا أخرى الحجّة لتأويل الوحي، وتبرير قيام دولة الخلافة وتطبيق النظم التشريعيّة القديمة، وفرض أشكال العنف البدائيّة ومصادرة حقوق الإنسان. فالوحي كان خزّانا للتكفير مثلما كان خزّانا للتنوير. والاحتكام إلى سقف الوحي لن يحسم المسألة لأنّ التأويل الدينيّ قائم على الخلاف والإقصاء أكثر من قيامه على الاختلاف والقبول بالآخر. وعقيدة الفرقة الناجية رسّخت الوعي لدى كلّ فريق بأنّه يمتلك الحقيقة المطلقة. أمّا قيم الحداثة ومبادئ التنوير، فتقرّ بسلطة العقل واحترام حقّ الآخر في الاختلاف وإنشاء عقد اجتماعيّ يضمن لكلّ فرد صفة المواطنة بكلّ ما تعنيه من الحقوق والواجبات وإلغاء الفوارق المصطنعة بين الأعراق والأجناس. وتكمن أهميّة الجوهر الحداثيّ للديمقراطيّة في منح الفكر النقدي قدرة على تطوير الآليات الكفيلة بضمان حقوق الإنسان والحريات. ولذلك، فالحداثة ذاتها قابلة للنقد والتجاوز. أمّا تحويل الديمقراطيّة عن وجهتها وتجاهل المسارات التاريخيّة التي ولّدتها لتصير إجراء شكلانيّا تجسّده الانتخابات والمجالس النيابيّة "فتبسيط إيديولوجيّ لفكرة الديمقراطيّة لا يقلّ خطورة عن أفكار تلك التيّارات التي ترفض الديمقراطيّة."[10] فتنقلب الشعارات بوجهيها الإسلاميّ والديمقراطيّ إلى وسائل للبقاء في الحكم وتحقيق غايات براغماتيّة.

تأسسّ وعي دعاة الإسلام السياسيّ على وهم الاعتقاد في احتكار الحقيقة والقيم. وتجاهلوا ما أنتجه عصر الأنوار من ثورة فكريّة

لقد ظلّت الديمقراطيّة سيئة السمعة في الوعي الإسلامويّ، لأنّها تعطي الإنسان القدرة على تحرير العقل والنقد، بينما تظلّ المنظومات المتحصّنة بالوعي الديني تعاني من رهاب أبويّ مرتهن للتراث يجعل السير في مسالك المعرفة دون الشعور بوجود سقف دينيّ أمرا يمكن أن يؤول إلى الكفر والظلال. ومن هنا ظلّ خطاب الإسلام السياسيّ خطاب ولاء وطاعة للشيخ المريد الذي ينطق بالحقّ، سواء أكان زعيم حزب أو مرشدا أعلى أو إماما على المنبر. وظلّ الوضع الطبيعيّ في إطار هذه المنظومة، أن يتكلّم الإمام أو الزعيم أو المرشد الأعلى ويصمت الباقون، إذ يتصوّر أصحاب السلطة الدينيّة أنفسهم أوصياء على الحقيقة ومعبرا وحيدا نحو ممالك المقدّس. أمّا الديمقراطيّة، فتعني في جوهرها انعتاقا من سلطة الزعيم والإمام والشخص الخارق في فهمه وتفسيره وإيمانا بقدرة الفرد على تقرير مصيره واختيار منهجه في الحياة وحريّة فهمه للظواهر وتأويله للنصوص. فحين يقلع الفرد بذاته ويتحرّر من سلطة المرجع وحماة المقدّس، فلن يجدوا لأنفسهم سلطة وشرعيّة، لأنهم سيتحوّلون إلى حكّام دون محكومين وأئمّة دون تابعين ورعاة دون قطيع من المنقادين. فالديمقراطيّة لا يمكن أن تتأسّس دون مسارات الأنسنة التي تتطلّب تجاوزا "للأضداد المانويّة التي تسجننا فيها ثقافة الهيمنة والسيطرة والانتقام واجتثاث الآخر، ذلك الآخر الذي ينظر إليه كعامل جدليّ للارتقاء الشخصيّ نحو الكرامة والقيم المطلقة."[11] وتأسيسا لإنسان حرّ له الجرأة في الاعتراف بالآخر والمشاركة البنّاءة في الخلق والإبداع والنقاش من أجل الإسهام في التأسيس لإنسان ما بعد حداثيّ.

[1] فرج فودة، الأعمال الكاملة، ص241. انظر الرابط التالي:

http://mybook4u.com/books/0B2_C2Y5bmeROUDhyMWh3aXY1a28.pdf

[2] سيّد قطب، معالم في الطريق، ط6، مصر، دار الشروق، 1979، ص 3

[3] المرجع نفسه، ص 5

[4] المرجع نفسه، ص 6

[5] بندكت أندرسن، الجماعات المتخيّلة، تأمّلات في أصل القوميّة وانتشارها، (ترجمة ثائر ديب)، ط1، بيروت/ دمشق، شركة قدمس للنشر والتوزيع، 2009، ص 52

[6] أحمد زكي بدوي، معجم المصطلحات السياسيّة والدوليّة، ط1، بيروت/ القاهرة، دار الكتاب اللبناني/ دار الكتاب المصري، 1989، ص 26

[7] أبو الأعلى المودودي، نظريّة الإسلام السياسيّة، ط1، دمشق، دار الفكر، 1967، ص ص 29، 30

[8] محمّد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، ط2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2003، ص 79

[9] راشد الغنوشي، الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في الإسلام، ط2، الدوحة/ بيروت، مركز الجزيرة للدراسات/ الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2012، ص 130

[10] وليد نويهض، العقد السياسيّ، الإسلاميّون والدولة والمسألة الديمقراطيّة (1984-1996)، ط2، البحرين، إصدارات الوسط، 2009، ص 26

[11] محمّد أركون، الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخيّ نقديّ، (ترجمة محمود عزب)، ط1، بيروت، دار الطليعة، 2010، ص 51