راهنية التخييل عند الزمخشري في مواجهة الفهم الحرفي للنص المقدس (القرآن)


فئة :  مقالات

راهنية التخييل عند الزمخشري في مواجهة الفهم الحرفي للنص المقدس (القرآن)

"المخيّل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير رويّة و فكر و اختيار، و بالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكري. سواء كان القول مصدقا به أو غير مصدق. فإن كونه مصدقا به غير كونه مخيلا أو غير مخيل؛ فإنه قد يصدق بقول من الأقوال و لا ينفعل عنه، فإن قيل مرة أخرى وعلى هيئة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق فكثيرا ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا، وربما كان المتيقن كذبه مخيلا"

ابن سينا

مقدمة:

يعيش العالم العربي اليوم موجة فكرية محافظة، لها امتداد واقعي فعلي على الصعيد السياسي والاجتماعي مركزها القرآن الكريم، ومحورها كيفية النظر فيه، وطريقة تفسيره والنظر من خلاله إلى واقع الحال والناس.

وبعيدا عن الأسس الموضوعية الاجتماعية لهذه الظاهرة، نرى أنه يتم إغناء هذه الأسس بمبررات فكرية يهمنا، هنا، مناقشتها من منطلق أن هناك فرقا بين واقع موضوعي ذي أساس مادي اجتماعي، وكيفية تبريره وتفسير مكوناته، وفقا لرؤية مسبقة مغلقة تعتبر نفسها كاملة ونهائية.

إن المعضلة الفكرية التي نعيشها اليوم تكمن، في أحد جوانبها، في فقر الأدوات والمصطلحات التي نقارب بها النص القرآني، حيث إنّ ضحالة المفاهيم والمصطلحات المعتمدة لمقاربة ظاهرة معينة تسهم، بشكل قوي، في إبعاد هذه الظاهرة عن الحقيقة والفهم الصحيح.

لهذا، سوف تحاول هذه المداخلة أن تناوش الموضوع الذي نحن اليوم بصدد تناوله من منطلق مغاير ووفقا لأفق مخالف، ويتعلق الأمر براهنيّة مفهوم التخييل في الثقافة العربية الإسلامية القديمة، خصوصا كيفية مقاربته من طرف الزمخشري، حيث إن مقاربته للقرآن الكريم بواسطة هذا المفهوم، أسهمت بشكل كبير في حلّ الكثير من المعضلات التي تعرقل عمليّة الوصول إلى فهم مستقيم للنص القرآني.

ضحالة المفاهيم والمصطلحات المعتمدة لمقاربة ظاهرة معينة تسهم، بشكل قوي، في إبعاد هذه الظاهرة عن الحقيقة والفهم الصحيح

معالم قبل البدء:

حرصا على شفافيّة الرؤية، ومن أجل ضمان قدر كاف من الوضوح في التصوّر، سيكون المنطلق هو مجموعة من المقدمات المؤطرة لمجال الاشتغال.

1.إن ّالمشكلة الأساسية التي نعيشها حاليا على الصعيد الثقافي العام هي مشكلة فهم وقراءة النصوص المقدسة، والشاهد هنا هو القرآن الكريم، حيث نجد أنفسنا أمام قراءتين له:

الأولى، وهي القراءة السطحية أو الحرفية التي ترى أنّ مضمون النص ومحتواه هو نتاج ما وصلنا عنه خلال مرحلة زمنية محددة، وبهذا تحصر هذه القراءة نفسها في زمن ومكان معينين؛ فمعنى النص القرآني هو ما قرّره الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء، فكل شيء قد قيل، وليس في الإمكان أحسن ممّا كان. ولا يكمن الإشكال هنا فيما قرره الرسول الكريم، ولكن المعضلة تتجلى في عملية الحصر التي توقف كل أشكال الفهم والتأويل، ولا تدرك أنها، بواسطة هذا الحصر، تفهم وتأول بطريقة غير مباشرة وضيقة جدا.

وقد اتخذت هذه القراءة تسميات كثيرة وتلوينات مختلفة، تدور كلها حول حصر النص في دائرة ضيقة هي علاقة النص بزمانه ومكانه، وبشخصيات اللحظات الأولى للتلقي، ونقصد بها هنا التفسير بالمأثور. وهذه القراءة بشكل مباشر أو غير مباشر، تصر على توظيف معين للنص يسير به نحو أفق يغلق كل عملية فكرية تفاعلية، ويفرض قراءة أحادية تتماهى مع تصور محافظ للعالم والأشياء. وتسمح للتعصب بأن يجد له سندا ومرجعية، وترمي بكل أشكال التحاور والتفاعل المبني على احترام الاختلاف وراءها.

الثانية، ويتعلق الأمر بالقراءة المنفتحة على عوامل التغيير الناتجة عن تبدّل الزمان والمكان، والتي تستحضر قوة تدخلات العقل العلمي لخلق نوع من الملاءمة بين النص المقدس ومشكلات الواقع. كل هذا بأفق مفتوح على الاختلاف و التحاور مع الآخر كيفما كانت أطره المرجعية. وضمن رؤية تمنح للنص انفتاحه. فلا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، ولكننا نبني معا هذه الحقيقة. وكما يقول الإمام الشافعي" كلامي صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب"

معنى النص القرآني هو ما قرّره الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء، فكل شيء قد قيل

2.نزعم أنّ فعل الانسان في الوجود والتاريخ لا يمكن أن يدرك بكيفية مستقيمة إلاّ من خلال ثلاثة معطيات أساسية هي الثابت الحضاري الثقافي (القرآن الكريم) والواقع (نحن/ الآن/ هنا) والعقل (القدرة على الإدراك والإبداع). وإذا كان الصراع دائما هو بين الثابت الحضاري والواقع المتحول، فإن العقل هو الكفيل بإيجاد صيغة التفاعل الكيميائي بين هذين العنصرين، (سواء كانت نتيجته تغليب عنصر على آخر، أو التعادل بين العناصر، أوالخروج إلى محلول جديد تماما). معنى هذا أنه ليست هناك قراءة صافية أو حقيقية للنص. وليست هناك قراءة تحريفية للنص. ولكننا، على الدوام، أمام قراءة عقلية واقعية للنص. إنّ كل عنصر من العناصر السالفة الذكر يضغط في اتجاه الاستئثار بالحقيقة. ولكن المعضلة تكمن في أنّه كلّما ضغط النص ضعفت قوة العقل وفعله وغاب الواقع، وهذا ضدّ حركة التاريخ. لا مفرّ من الاعتراف بأننا كائنات تاريخية تعيش وسط حركة عالمية تتطوّر بشكل قوي جدّا، وتسعى، بشكل دؤوب، نحو القطع مع الثقافات والحضارات السالفة، حتى التي خلقتها. ولا يمكننا الابتعاد عن هذه الحركة أو ادعاء أنّنا محصّنون من تفاعلاتها ونتائجها. إنّ قدرنا نحن الكائنات الحضارية الثقافية التي تعيش في هذه الجغرافيا من العالم أن نحمل ثوابتنا، ونواجه واقعنا بعقل منفتح فاعل يصهر كل ما لديه من أجل إيجاد رقعة في التاريخ والحضارة الانسانية.

3.ليس هناك قراءة (تفسير أو تأويل) وفيّة للنص بشكل مطلق؛ فكلّ قراءة تحتوي على نصيب، يزيد أو ينقص، من التأويل وكل قراءة هي تدخل، بالضرورة لشخصية القارئ. ولا نقصد هنا من الشخصية ذات الفرد المطلق المنعزل عن الخارج، ولكن فهمنا ينصبّ على شخصية القارئ بوصفها تفاعلا بين عدّة عناصر مجتمعية فكرية ذاتية، تتدخّل فيها الثقافة والعلم والتاريخ. وبهذا تكون الشخصية، شخصية القارئ، خلاصة تفاعل كيميائي بين كل هذه العناصر، وهو لا يمكنه ادعاء الانفصال عنها أو الهروب من تأثيراتها. وخلاصة التفاعل هذه تصبح هي المنظار الذي من خلاله يرى القارئ / المفسّر/ المؤوّل النصّ، ويصبح ادعاء الحرفية أو الالتزام بالمعنى الحرفي للنصّ مجرّد أكذوبة أو جهل بالأدوات العلمية للاشتغال، بل الأقبح يتجلّى في السماح للأيديولوجيا بالتسلّل إلى خطاب لا يدرك من أين يدخله الخلل.

4.نعتبر التخييل، شأنه شأن كلّ مصطلح، تخريجا معرفيا لقضية فكرية مجتمعية سياسية بالدرجة الأولى. وهنا يطرح التخييل نفسه ليس بوصفه أداة لمقاربة وتناول النصوص الإبداعية، والتوصل إلى درجة إبداعها وجمالها فقط، بل هو أداة فكرية شكّلت التخريج المعرفي لنقاش ظواهر فكرية مجتمعية، وزبدة صراعات سياسية وتفاعلات قوية لمشاريع مجتمعية متصارعة. كانت كلّها تعتمد على العقل وتستند على القرآن الكريم. وليس مصطلح التخييل حالة شاذّة في هذا الصدد، ولكنه نقطة واحدة في مسار تشكل مصطلحات ومفاهيم البلاغة والنقد العربيين، حيث إنّ المسار نفسه سيشهده كذلك مصطلح المجاز والبديع والفواصل/ السجع.

لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، ولكننا نبني معا هذه الحقيقة. وكما يقول الإمام الشافعي" كلامي صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب"

5.ليست الغاية من هذا الارتداد الزمني الدفاع عن رؤية سلفية ماضوية لمقاربة القرآن الكريم. ولكن هدفنا يتوجّه إلى لفت الانتباه إلى وجود مقاربات متطوّرة في الزمن القديم، تعكس نضجا عقليا كبيرا في تناول النصوص، خصوصا المقدسة منها، وبشكل أخصّ القرآن الكريم. وقد تمّ هذا وقفا لتصوّر عقلي يسعى إلى خلق التلاؤم الواجب بين الانسان، بوصفه كائنا عاقلا يعيش وسط مجتمع، ومحكوم بشروط تاريخية، ومفروض عليه أن يتطور، وبين القرآن باعتباره نصا إلهيا منقطعا عن الزمان والمكان، باختصار النظر إليه بوصفه معطى ثابتا. إنّ الإشكال الجوهري يكمن في الأساس الواجب اعتماده، هل هو الثابت أم المتحوّل. وبالصيغة الكلامية الفلسفية القديمة هل هو النقل أو العقل.

6.ولعل ما يفرض الحديث عن هذه الراهنيّة الكامنة في تصوّر الزمخشري، خلال مقاربته للقرآن الكريم، هو موجة التسطيح والتهافت على المعنى الحرفي، والتعصب له بوصفه الأفق الوحيد والأوحد، بشكل يجعل هذه الموجة تمعن في إغلاق النصّ دون كلّ عمليات التفاعل الضرورية مع القارئ، وعدم استحضار إكراهات التحوّلات الواقعية. وقد تصل شطحات هذه النزعة إلى حدود إخراج كلّ المقاربات المخالفة لها من دائرة الإسلام.

التخييل وسيلة للفهم والإقناع:

يطرح الزمخشري التخييل، باعتباره أداة منهجية ضرورية لفهم القرآن، اعتبارا لمجموعة من المعطيات منها أنّ التخييل يحرّر النص من الفهم السطحي؛ يقول:

« وفي قوله (وسع كرسيه) أربعة أوجه: أنّ كرسيّه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلاّ تصوير لعظمته وتخييل فقط ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد كقوله (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) من غير تصور قبضة وطي يمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي».[1]

فالإلحاح هنا على نفي الأشياء المادية، يصرف الذهن إلى التصوّرات العقلية والحالات النفسية التي سوف يكون عليها المتلقي جراء استيعابه للعبارة القرآنية؛ فالزمخشري يدعوه إلى تجاوز المعنى القريب المباشر. ويلحّ عليه لكي يُعمل عقله وقدراته التخييلية من أجل تصوّر الغرض من الكرسي ومجموع حقوله الاستعمالية في الثقافة العربية، لكي يتمثل مفهوم الكرسي بوصفه رمزا للقوة والقدرة والعظمة. إذن، هناك ارتقاء بعملية الفهم والإدراك الانساني للنصّ، حيث تسمح بنوع من التلاؤم بين النص ومجموع مدارك الانسان.

ليست هناك قراءة صافية أو حقيقية للنص. وليست هناك قراءة تحريفية للنص. ولكننا، على الدوام، أمام قراءة عقلية واقعية للنص

إنّ العقل بوصفه القدرة الوحيدة التي يمتلكها الانسان لإدراك الوجود، تبقى دائما ملتصقة بالسؤال وملازمة للشك إلى أن تفهم (والفهم هنا هو التلاؤم بين معطيات العالم وكيفية إدراك الانسان). وما لم يحصل العقل على الأجوبة التي يريد، يستمر في الإلحاح. وهذا معطى مخالف للإيمان الذي يعدّ المرتكز الأساس في القرآن الكريم، والمفهوم المركزي في كلّ عمليات الفهم.

ومعلوم أن ّعملية الاستحضار هذه، وحركة التخييل، في هذه الحالة، لا تمرّ غفلة، ولكنها تكون مفعمة بشحنات انفعالية عاطفية تدعو إلى تقدير المعطى بشكل صحيح، وتدفع الذات نحو الإذعان والقبول. فالتخييل يرتكز، فضلا عن قدرته على تركيب صور جديدة غير مخزّنة في الذاكرة، على خلق انفعال نفسي لدى المتلقي بالقبول أو الرفض عبر الإمتاع أو النفور. وهذ المعطى ضروري في عملية الإقناع، لأنه هو الذي يدفع نحو قبول أو رفض الشيء موضوع التخييل.

إنّ أهمية مفهوم التخييل تكمن، إذن، في تجاوز عملية التقريب الصارمة بين ذات الله وتصوراتنا عنها. إنّ معضلة الفهم السطحي المباشر للقرآن الكريم هو أنها لا تستطيع أن تبعدنا بشكل عملي وفعلي عند إدراك تجسيدي لذات الله، لأنها عندما تلحّ على المعنى المباشر وتلغي المجاز والتخييل، لا تملك إلاّ أن تمنع عنّا التفكير في ما لا تستطيع التعامل معه، ولا تستطيع إلا أن تنعت بالمروق والإلحاد كل عمل يصبو إلى الاقتراب من المناطق التي تبدو لها حرجة أو متمنعة عن الفهم السطحي.

والتخييل، هو أيضا، أداة لإدراك عالم لا محدود بوسائط محدودة تتوسّل بعالم الحسّ، وهذا يرجع بنا إلى تعريف التخييل، باعتباره ذلك الانفعال الذي يبديه الإنسان على إثر تأثره بالكلام المخيّل، وكذلك بوصفه ذلك التأثير الذي يحدثه الخطاب في الإنسان، وهو يندرج ضمن فاعلية القوة المتخيلة التي يشرحها ابن سينا في النص التالي:

''والمخيّل هو الكلام الذي تذعن له النفس، فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير رويّة وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكري، سواء كان القول مصدّقا به أو غير مصدّق. فإنّ كونه مصدقا به غير كونه مخيّلا أو غير مخيّل؛ فإنه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه، فإن قيل مرة أخرى وعلى هيئة أخرى، انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق؛ فكثيرا ما يؤثّر الانفعال ولا يحدث تصديقا، وربّما كان المتيقّن كذبه مخيّلا''.[2]

 إنّ الإشكال الجوهري يكمن في الأساس الواجب اعتماده، هل هو الثابت أم المتحوّل. وبالصيغة الكلامية الفلسفية القديمة هل هو النقل أو العقل.

فنحن مع التخيّل، نكون بصدد خلق عالم جديد غير مألوف، انطلاقا من معطيات مألوفة، الغاية منه إدراك عالم لا يمكن فهمه وإدراكه، ومن ثم الإيمان به لو قدّم في شكله الحقيقي.

وعن التخيّل ينبثق التخييل، لأنه كما سبقت الإشارة هو تفاعل المتلقّي مع الصور التي ألقيت في ذهنه وتجاوبه معها.

لهذا عدّ الزمخشري التخييل شرطا أساسيا لفهم القرآن وتعاطي تأويله؛ فهو طريقة لتطوير المعنى وإيصاله إلى قلب السامع لكي يحسّ به أكثر؛ يقول:

«ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإن أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما. وما أتي الزالون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره لما خفي عليهم أن العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه».[3]

فإذا كان معلوما أن القرآن يحتوي على محكم ومتشابه، وهذا ما تعضده الآيات القرآنية من خلال قوله سبحانه وتعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)[4]. فإن الإشكال الذي سوف يطرح هو كيفية تعاطي التأويل، أو كيفية التعامل معهما، ومتى تكون الآية محكمة، ومتى تكون متشابهة. وهنا يقترح الزمخشري الأداة الأساسية، وهي التخييل، وهو تطوير لمفهوم المجاز وتعميق له.

إنّ الإشكال الأساسي الذي كان يواجهه الزمخشري هو نفسه الإشكال الذي واجه المعتزلة، ويتعلّق الأمر بتعريف ذات الله تعالى. فقد انطلقوا في هذا المجال من المفارقة بين العالمين، ذات الله باعتبارها مطلقة وكيفية إدراك الانسان، باعتباره محدودا ناقصا ومحصورا في الزمان والمكان. وهذا هو الذي أعطاهم فكرة التنزيه؛ أي تنزيه ذات الله عن كلّ ما يشوبها من آثار العالم الإنساني، أو يجعلها قريبة من العالم المدرك من طرف الإنسان.

وفكرة تنزيه ذات الله تعالى طرحت، أيضا، أمامهم مشكلا جديدا، وهو وجود آيات تصف ذات الله سبحانه وتعالى بصور توهم بالفهم السطحي. وهنا سوف يأتي التخييل، باعتباره مصطلحا معرفيا، وأداة منهجية لحلّ الإشكال. فالأصل هو أنّ الله ليس كمثله، وهذه آية، حسب هذا التصوّر، محكمة، وكلّ الصور التي تنسب له صفات حسية أو إنسانية هي آيات متشابهة؛ أي مجرد تخييلات الغاية منها تقريب الصورة وتوضيحها وخلق الإحساس الواجب بالصفة الحقيقية. يقول:

«( ليس كمثله شي )[5] قالوا مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية (...) فإذا علم أنه باب الكناية لم يقع فرق بين قوله ليس كالله شيء، وبين قوله: ( ليس كمثله شيء ) إلاّ ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنّهما عبارتان متعاقبتان على معنى واحد، وهو نفي المماثلة عن ذاته ونحوه، قوله عز وجل: ( بل يداه مبسوطتان )[6] فإن معناه، بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط لها، لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر، حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له. فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له».[7]

عدّ الزمخشري التخييل شرطا أساسيا لفهم القرآن وتعاطي تأويله؛ فهو طريقة لتطوير المعنى وإيصاله إلى قلب السامع لكي يحسّ به

فالتعامل السطحي مع هذه الآية منذ الوهلة الأولى، يعطينا ممثّلا وممثّلا به، ويوقع في الإشراك، مما يفرض استلهام المجاز والتخييل للخروج من الإشكال الذي يطرحه المعنى السطحي. وكلّ هذا انطلاقا من معيار هو الآية المحكمة التي تصبح، في هذه الحالة، هي المتحكم في عملية الفهم والتأويل.

لقد عمّق الزمخشري تصوّر المعتزلة، عندما وضع اليد على خاصية مهمّة من خاصيّات القرآن الكريم، وهي التخييل حيث رأى فيه مخرجا لطيفا لمشكلة الآيات الكريمة التي يوهم ظاهرها التشبيه. لهذا كان يربط غالبا بين التخييل وتصوير المعنى، وهو عندما يثبت خاصية تصوير المعنى والتخييل يقطع الطريق على التصورات الحرفية. على أساس أن الله خاطب عقول الناس، وذلك بإنزال المفاهيم المجردة والمطلقة إنزالا إنسانيا وإخراجها مخرجا حسّيّا عن طريق التمثيل والتخييل وتصوير المعنى.

لقد كان الرصيد الذي انطلق منه الزمخشري هو تلك القدرة المتوفّرة لدى التخييل على تحويل المعطيات الواقعية أو الحسية كما هي في الطبيعة واستثمارها من أجل تحقيق غاية دينية تتعلق بتحبيب الإيمان للنفس، وجعلها تدرك قوة وعظمة الله، يقول:

«ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المتحقق والمتوهّم في معرض المتيقن والغائب كأنّه شاهد».[8]

ولعل إحدى اللحظات القوية في تصوّر الزمخشري نجدها من النص التالي، لأنّه يقدّم لنا التخييل باعتباره عملية أساسية جرت العادة الاعتماد عليها من أجل حلّ معضلة أساسية كانت دائما مطروحة أثناء عمليّة الفهم والإفهام، ولعل الجملة الأولى (ولضرب العرب الأمثال) تتوجه إلى عمليات التخييل المتوجهة إلى العامة من أجل إقناعهم بمفاهيم مجردة ودفعهم إلى التفاعل ـ عبر القبول والإقبال ـ عليها، في حين تتوجه الجملة الثانية (واستحضار العلماء المثل والنظائر) إلى العلماء الذين كانوا يواجهون تعسّرا وتوعّرا في بسط المفاهيم المجرّدة، وجعلها واضحة للمتلقي. كما يركّز الزمخشري، من خلال هذا النصّ، على وظيفة التخييل المزدوجة الكامنة في توضيح المعاني المجردة وتخريجها تخريجا حسّيا. هذا من جهة، وفي تطبيق مبدإ إسقاط الشاهد على الغائب واعتبار هذه العملية تمرّ بالضرورة عبر التخييل وليس التصورات العقلية، مادام أن ّالغائب هو المطلق، وهو اللانهائي والمجرد والحاضر هو تجليات الذات الإلهية في الطبيعة من جهة أخرى.

 الحقيقة أنّ مفهوم التخييل يتّسع مداه الإجرائي إلى ما فوق ذلك خصوصا الآيات والأحاديث التي كان الغرض منها تصوير الجنة وتحبيبها للناس وتصوير النار وأهوال جهنّم وتنفير الناس منها.

قد يبدو أنّ التحليل سار مسارا ضيقا، يقتصر على ذات الله وصفاته سبحانه وتعالى، ولكنّ الحقيقة أنّ مفهوم التخييل يتّسع مداه الإجرائي إلى ما فوق ذلك خصوصا الآيات والأحاديث التي كان الغرض منها تصوير الجنة وتحبيبها للناس وتصوير النار وأهوال جهنّم وتنفير الناس منها.

وخلاصة القول، إنّ التخييل كما طرح سالفا هو المفتاح لإدراك انفتاح القرآن وتحريره من لحظة ولادته، وجعله صالحا لكل زمان ومكان. وهنا نؤكّد على ضرورة تجاوز المناسبة المباشرة، ليصبح النصّ منفتحا على متعدّد الدلالات، وله قدرة على توليد أفهام متعدّدة ومختلفة في الآن نفسه.

وهذا فعلا هو ما يفضي بنا إلى تقرير أنّ كلّ تفسير للنص، لا يمكن بأية حال أن يكون قبضا نهائيا على المعنى، ولكنّه مجرّد قراءة أو تأويل يسعى إلى الاقتراب من المعنى الإلهي حسب الشرط التاريخي الذي تعيش فيه ووفق الأدوات المعرفية المتاحة له.

كما يفضي بنا أيضا إلى تقرير أن ّكلّ تفسير مهما علت قيمته، هو وجهة نظر واحدة لها حظّها من الصواب ولها حظّها من الإخفاق، والأساسي أنّه يبقى تفسيرا محاصرا بالزمان والمكان والمشاريع المجتمعية المطروحة في شرط تاريخي معين.

إنّ عمليّة أو عمليّات محاربة التخييل أو تضييق مجالاته هي جرّ للنصّ نحو الحرفية والانغلاق داخل زمن ومكان معيّنين محدّدين.

وقبل هذا وذاك هي عملية سياسية، تسعى بشكل حثيث نحو وأد كلّ مشروع يصبو إلى الانفتاح على شرائح مجتمعية جديدة، ويستلهم مشاريع مجتمعية مغايرة.


[1]- الكشاف 129/2

[2] - ابن سينا،فن الشعر، ضمن أرسطو، فن الشعر، تح. عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، د ط، د تـ، ص 161-162

[3]- الزمخشري 409/3

[4]ـ آل عمران/7

[5]- الشورى 11

[6]- المائدة 64

[7]- الكشاف 462/3-463

[8]- الكشاف 195/1