الهيرمينوطيقا وعبور الفجوة التاريخية في فهم النص القرآني


فئة :  مقالات

الهيرمينوطيقا وعبور الفجوة التاريخية في فهم النص القرآني

الهيرمينوطيقا وعبور الفجوة التاريخية في فهم النص القرآني

يذهب بعض الدارسين إلى أن الهيرمينوطيقا اتخذت "هرمس" إلهً ورسولاً كان يعبر المسافة بين تفكير الآلهة وتفكير البشر، كما هو موجود في الأساطير اليونانية، ويزود البشر بما يعينهم على الفهم وتبليغه،[1] وتعني كلمة hermé اليونانية "القول والتعبير والتأويل والتفسير"، وهي دلالات متقاربة، وقد ظهرت كلمة "هيرمينوطيقا" لأول مرة سنة 1654 في عنوان كتاب لدانهاور.[2] وتدل الهيرمينوطيقا في علم اللاهوت على فن تأويل الكتاب المقدس وترجمته، فالتأويل هو "العلم الديني بالأصالة والذي يكوّن لب فلسفة الدين، ويقوم عادة بمهمتين متمايزتين تمامًا، هما:

1- البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس عن طريق النقد التاريخي.

2- وفهم معنى النص عن طريق المبادئ اللغوية."[3]

من هنا نستنتج أن الهيرمينوطيقا، أو فن التأويل، ليست بالشيء الجديد، وإنما يمكن اعتبار نشأتها نشأةً للتفكير الإنساني، فهذا جادمير يخبرنا أن أرسطو هو أول من وضع معالم التجربة التأويلية داخل مذهب القانون من خلال مناقشته لمشكل القانون الطبيعي ومفهوم الإيبوخيه في "الأخلاق إلى نقيوماخوس"[4]. لكن تطورًا كبيرًا حصل لهذا المصطلح بتطور مراحل التفكير البشري، ومع كل مرحلة تأخذ الهيرمينوطيقا تعريفًا يتناسب وخصائص ذلك التفكير. فما هي أهم تعريفات الهيرمينوطيقا؟ وما هي السمات المميزة لكل تعريف؟

كانت الهرمنيوطيقا قديمًا منهج تفسير للكتاب المقدس وأصوله وأحكامه، كما نجد عند القديس أوغسطين صاحب "تعقل كي تؤمن" و"تؤمن لكي تعقل"،[5] لكن نشأ مع نشأة المذهب العقلي المنهج التاريخي في اللاهوت، وأكدت المدرسة اللغوية والتاريخية في التفسير أن المناهج التأويلية السارية على الكتاب المقدس هي بعينها المناهج السارية على غيره من الكتب، وأن المعنى اللفظي في الكتاب المقدس يتحدد بالطريقة نفسها التي يتحدد بها في بقية الكتب، فقد كانت مادة الهيرمينوطيقا جزئية وسطحية استعملت لغايات تعليمية تمثلت في تفسيرات النصوص التي تعمل على تسهيل فهم الكتابات المقدسة. يقول غادمير: "تدل الهيرمينوطيقا في علم اللاهوت [التيولوجيا] على فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس [الأسفار المقدسة] بدقة، فهو في الواقع مشروع قديم أنشأه وأداره آباء الكنيسة بوعي منهجي دقيق".[6]

لكن مع عصر التنوير، ومع كتابات فرنسيس بيكون وتوماس هوبز في إنجلترا، ومع ديكارت والموسوعيين في فرنسا، وكانط في ألمانيا، بدأ يتبلور مفهوم جديد للهيرمينوطيقا على يد كلادينيوس الذي اهتم بالبحث عن وضع قواعد للتأويل، وكانت النتيجة أنه من الممكن الوصول إلى تفسير صحيح وكامل إذا اتبعنا قواعد سديدة، من هنا اعتبرت الهيرمينوطيقا فنًا تقنيًا ضروريًا للدراسات التي تعتمد على تأويل النصوص، فهل يمكن عبور الفجوة التاريخية بين النص وقارئه؟ وهل يمكن الوصول إلى معان جديدة للنص القرآني؟

1)شلايرماخر وفن الفهم:

إن تعريف الهيرمينوطيقا، باعتبارها "فن الفهم"[7] يعود إلى الألماني فريدريك شلايرماخر الذي حرر فن التأويل من كل عناصره العقدية والعرضية التي لا تحصل إلا على نمط ملحق في تطبيقاتها الإنجيلية على وجه الخصوص. إن في تعريف شلايرماخر وتصوره للهيرمينوطيقا نقد لما كان سائدًا قبله، وهو أن الهيرمينوطيقا مجموعة قواعد لتفسير النصوص كما كان لدى الفيلولوجيين، لقد حاول من خلال هذا النقد أن يجعل "الفهم منهجًا مستقلا بذاته"[8]، الغاية منه "تجنب سوء الفهم"[9]. وعلى هذا يمكن اعتبار هيرمينوطيقا شلايرماخر هي فن تجنب سوء الفهم. وقد كان السؤال الذي انطلق منه شلايرماخر هو: "كيف يمكن فهم أي عبارة أو قول؟"

يرى شلايرماخر أن عملية الفهم تتم عبر محددين هما:

- المحدد اللغوي: ويكون بتناول النص انطلاقًا من لغته الخاصة: لغة إقليمية، وتركيب نحوي، وشكل أدبي...الخ، وتحديد دلالة الكلمات، انطلاقًا من الجمل التي تركبها ودلالة هذه الجمل في ضوء النص بكليته.

- المحدد النفسي: بالاعتماد على حياة المؤلف الفكرية والعامة والدوافع والحوافز الذي دفعته للتعبير والكتابة والبحث عما يمثله النص في حياة المؤلف وفي السياق التاريخي الذي ينتمي إليه، وهو يرمي بذلك إلى إعادة معايشة العمليات الذهنية للمؤلف.

لقد جعل شلايرماخر الهيرمينوطيقا في تأويل لغوي قواعدي جنبًا إلى جنب مع تأويل نفسي، وإذا كان أمر الجانب الأول محسومًا لا يمكن الاختلاف حوله، فإن أمر الجانب الثاني، وهو التأويل النفسي، بما يرمي إليه من إعادة معايشة العمليات الذهنية للمؤلف، لا يمكن تقبله من قبل من يؤمن بربانية نص مقدس سماوي، والمقصود هنا القرآن الكريم. نعم، قد يقبل هنا السياق العام للنص ومقاصده وأسباب نزوله، فإن ذلك من شأنه أن يضيء جوانب الفهم فيه.

وأما بخصوص تصوره حول ضرورة الفهم في ضوء معناه العام وسياقه الكلي، أو فهم الجزئي في ضوء الكلي فهو أمر مطلوب ومحمود، بل مهم جدًا بخصوص فهم نص سماوي، قال به الأصوليون في الفكر العربي الإسلامي، ومنهم الإمام الشاطبي رحمه الله الذي يقول: "وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلاً في جزئيّ معرضًا عن كليّه فقد أخطأ، وكما أن من أخذها لجزئيّ معرضًا عن كليّه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيّه".[10]

2)دلتاي والتجربة:

يعتبر ربط الهيرمينوطيقا بالعلوم الإنسانية أساسًا مهمة فلهلم دلتاي، الذي رأى في الهيرمينوطيقا أساس كل العلوم الإنسانية والاجتماعية، ونقطة البدء في هذا الأمر هي الخبرة العيانية التي ينبغي أن يتم فهمها في مقولات فكرية تاريخية لأن الخبرة نفسها تاريخية في عمقها. وهذه التاريخية هي التي حددت الأساس النظري للهيرمينوطيقا الحديثة. وقد عرف دلتاي الهيرمينوطيقا تعريفات، استقاها بول ريكور من مقاله الكبير "تكوينالتأويل"، تدور في مجملها حول معاني الحياة والتجربة الإنسانية، إذ يقول: "نطلق اسم التفسير أو التأويل على ذلك الفن من فهم التجليات الحيوية الثابتة بشكل دائم."[11] ويقول: "يدور الفهم حول تأويل الشهادات الإنسانية التي حافظت الكتابة عليها."[12] ويقول أيضًا: "إننا نعطي اسم التفسير والتأويل لفن فهم التجليات المكتوبة للحياة."[13]

ويميز دلتاي بين نوعين من التجربة:

1ـ التجربة المعيشة التي استعملها في وصف علوم الفكر أو العلوم الإنسانية.

2ـ التجربة العلمية التي تخص علوم الطبيعة، وتتمتع بطابع العلمية الذي يجعل من التجربة المعيشة والتجربة الممارسة وجهين للحقيقة. وبطابع الجدلية والتاريخية فإن التجربة في طابعها العلمي والإبستمولوجي تعني تكرار المعطيات والنتائج للوصول إلى تنظير عام ومتفق عليه. وفي طابعها التاريخي والجدلي هي تجربة لا تتكرر، تنفي كل ما سبقها بحيث لا يمكن معاينة التجارب السابقة ومعايشتها بالمقاصد والدوافع نفسها وتختفي هي الأخرى بخصوصيتها وفرديتها.[14]

إن التجربة الإنسانية عنصر مشترك بين جميع البشر، وما الفهم إلا إسقاط التجربة الشخصية على تجربة المؤلف عبر عمله، وعملية الفهم تتم عبر التفاعل الحيوي بين أفق النص بوصفه نتاج تجربة حياتية يعرضها المؤلف، وبين أفق القارئ الذي تمثله تجربته الخاصة المراكمة عبر حياته التي يستخدمها لفهم النص، وبانصهار هذين الأفقين ينتج الفهم. وعليه يمكن القول إن الفهم حسب دلتاي هو انصهار خبراتي أفقي للنص والقارئ، ويمكن القول إن انصهار التجربتين من شأنه أن يعمل على تجديد معنى النص وتطويره وتعدده.

ولا يمكن توظيف تصور دلتاي حول الفهم في النص القرآني، لأن القرآن الكريم لا يعرض تجربة، بل هو كتاب هداية وأحكام وقانون للبشر، باستثناء ما يعرض من قصص الأنبياء والأقوام السابقين، من هنا لا مجال للحديث عن تجربة النص.

3)جادمير وتاريخية الفهم:

أما جادمير، فنجد في التأويل عنده تطويرًا لما عرضه هيدجر، إذ يتخذ من تحليله مرتكزًا وأساسًا ونقطة انطلاق تحليله للوعي التاريخي، فيرى من المستحيل وجود فهم بلا فروض أو أحكام مسبقة، وهذا يعني التخلي عن تفسير عصر التنوير للعقل، وأن يسترد التراث والسلطة مكانتهما التي كانتا يحتلانها قبل عصر التنوير، لأن عصر التنوير لا يقبل بأي سلطة سوى سلطة العقل، "فالتغلب على جميع الأحكام المسبقة، وهو المطلب العام لعصر التنوير، سوف يتبين أنه هو نفسه حكم مسبق، والتخلص من هذا المطلب يمهد الطريق أمام فهم مناسب للتناهي الذي لا يهيمن على إنسانيتنا فقط، بل يهيمن على وعينا التاريخي أيضًا."[15]

يجعل جادمير الأحكام المسبقة شروطًا للفهم، وينادي باستعادة سلطة التراث، لأن التراث عنده ليس شيئًا يقف عائقًا أمامنا، وإنما هو شيء نوجد فيه، بل إن هذا التراث له أفق يجادل أفق المرء، فالقارئ الذي يجد نفسه أمام نص أو تراث له أفقه وأسئلته ومطالبه وإشكالاته، يسأل النص، لا في حروفه وكلماته المرسومة، وإنما في أفقه وأهدافه ومقاصده. ومن هنا يرى جادمير أن أساس الهيرمينوطيقا هو التوتر القائم بين الحاضر والماضي، وعليه فإن الفهم عنده لا بد أن يجيب عما يقوله النص للحالة التي نعيشها، ويرفض ما ذهب إليه شلايرماخر من كون فهم النص يتم عبر الانسجام الروحي والنفسي مع المؤلف، أو إعادة معايشة العملية الذهنية للمؤلف.

إن الأحكام المسبقة عند جادمير شرط للفهم، وهذا يطرح سؤالاً مهمًا وهو: من أين يكتسب القارئ أحكامه المسبقة؟ هل يتم ذلك من التراث؟ وكيف يكون الأمر عندما يكون القارئ إزاء التراث نفسه؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالقرآن الكريم ، من أين يستقي القارئ أحكامه المسبقة؟

إن الاجتهاد في معرفة مصدر الأحكام المسبقة أمر ضروري لقارئ يريد فهم النص القرآني، وربما تبدو هنا سيرة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وسنته، وسيرة جميع الأنبياء السابقين عليهم السلام، والأقوام السابقة، وكذلك التاريخ وواقع الإنسان القارئ، أهم ما يشكل أحكامه المسبقة لارتباطها بالنص المدروس. ويذهب جادمير إلى أن كل تفسير للنص تفسير صحيح، وكل قراءة له تعتبر صحيحة، وهذا أمر على جانب كبير من الصواب، وفي سير النبي، صلى الله عليه وسلم، كثير من الشواهد على ذلك، كما في قوله بعد العودة من غزوة الأحزاب: "‏لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي ‏‏بَنِي قُرَيْظَةَ"[16]، إذ فهم بعض الصحابة الحديث على حرفيّته فلم يصلِّ العصر إلا في بني قريظة رغم فوات الوقت، ومنهم من فهم الحديث على أنه حثٌّ على السرعة، فصلى العصر حيثما أدركته، وأقر الرسول، عليه الصلاة والسلام، الفريقين.

لكن القول بإطلاق تعدد المعنى وتطوره وعدم ثباته، وإن كان يخلد خلود النص عند تباعد الزمان واختلاف المكان، فإنه قد يهدد الحكم الذي جاء به النص، وقد يصل الأمر عند تقادم الزمان إلى نقيض الحكم والمقصد. وفي واقع الفكر العربي الإسلامي كثير من الشواهد على ذلك، من ذلك مثلاً أن هناك من يرى أن "كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس، والتي يحتويها القرآن الكريم الكريم والسنة، دعك من سائر مراجع التشريع الإسلامي، لم يقصد لها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا حلولاً مؤقتة احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم وبيئتهم، وليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا، بل من واجبنا، أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه، وما نعتقد أنه الآن أكفل بتحقيق الغايات الإسلامية العليا."[17]

إن الخلاصة التي يقود إليها اعتبار السياق الاجتماعي، أو السياق الخارجي، هي "إسقاط كثير من تلك الأحكام، بوصفها أحكاما تاريخية، كانت تصف واقعًا أكثر مما كانت تصنع تشريعًا، وحتى العقائد بهذه القراءة التاريخية هي تصورات مرتهنة بمستوى الوعي وبتطور مستوى المعرفة في كل عصر. والنصوص الدينية قد اعتمدت في صياغة عقائدها على كثير من التصورات الأسطورية في وعي الجماعة التي توجهت إليها بالخطاب."[18]

يتجاوز نصر حامد أبو زيد أسباب النزول إلى التاريخية، بل يربط كل حكم كان له علاقة بذلك المجتمع بالتاريخية. ولم يقتصر على الأحكام العملية، أو التشريعات، بل تعداها إلى الاعتقادية منها، وحجته في ذلك أن العقيدة ارتبطت بتصورات أسطورية. وقد يتبادر في هذا المقام السؤال التالي: ألا يمكن التواضع على ضوابط تحقق خلود النص، بتعدد معناه، دون انتهاك حرمته واندثار حكمه ومقصده؟ وهو سؤال يقود مباشرة إلى جدلية العلاقة بين النص والمقصد والواقع التي تطرح تحديًا أمام القارئ الذي يريد فهم النص من غير إضرار بأحد هذه العناصر الثلاثة. وهذا يجر إلى نقطة محورية في هيرمينوطيقا جادمير، وهي التحام أفق القارئ بأفق النص، ويمكن التعبير عن هذه النقطة بحاجات القارئ ومقاصد النص، وقد تناول أهل المقاصد الشرعية هذه النقطة عبر محورين كبيرين هما: مقاصد المكلفين، ومقاصد الشرع.[19]

4)ريكور وتحطيم الأسطورة:

الهيرمينوطيقا في نظر بول ريكور هي "نظرية عمليات الفهم في علاقتها مع تفسير النصوص"[20] بهدف تجاوز المسافة بين عصر النص وعصر القارئ، وتتلخص في نظامين:

- نزع الطابع الأسطوري، ويمثل هذا النظام رودولف بولتمان الذي كان يعتقد أن مخاطبي العهد الجديد الأوائل كانت لهم رؤية كونية خاصة، وهي رؤية أسطورية. والمراد بالأسطورة هنا "التفسير ما قبل العلمي للنظام الكوني والأخروي، والذي صار غير معقول للإنسان المعاصر."[21]

- نزع الزيف، ويمثله سيجموند فرويد بنظرية المثل والأوهام، وفريديريك نيتشه بجنيالوجيا الأخلاق، وكارل ماركس بنظرية الإيديولوجيات، فقد أراد هؤلاء الثلاثة فضح الزيف من خلال شكهم في العقيدة والثقافة بغية العثور على المعنى الحقيقي للعقيدة.

يقول ريكور عن أبطال الشك الثلاثة وثاقبي الأقنعة هؤلاء: "فما يريده ماركس، هو تحرير التطبيق العملي عن طريق معرفة الضرورة، ولكن هذا التحرير لا ينفصل عن "امتلاك الوعي" الذي يرد بانتصار على خداع الوعي الزائف، وما يريده نيتشه هو زيادة قدرة الإنسان، وإنشاء قوته. ولكن ما يريده بقوله إرادة القوة يجب أن يغطيه تأمل بأرقام "الإنسان الأعلى"، و"العود الأبدي"، و"اليونيسوس"، وهذه أمور من غيرها لن تكون القوة سوى العنف من جانب الانحطاط. وأما ما يريده فرويد، فهو أن المحلَّل، إذ يتبنى المعنى الذي كان غريبًا عنه، فإنه يوسع حقل وعيه ويحيا بصورة أفضل، وإنه ليكون أخيرًا أكثر حرية، وإذا أمكن أكثر سعادة."[22]

تحاول هيرمينوطيقا الارتياب الإبقاء على الطابعين العلمي والفني للتأويل من غير إفراد أحدهما بمنزلة دون الآخر، والتفاعل مع النص في نظر ريكور ينشد إيمانًا استعاريًا يتجاوز الطابع الأسطوري وتحطيم الأصنام.

إن ما يمكن استنتاجه من هيرمينوطيقا الارتياب، التي تسعى إلى تحطيم الأسطورة والأصنام وتجاوز كل فهم ساذج بغية الوصول إلى المعنى الحقيقي للعقيدة، هو الاضطراب الطويل الذي عرفته العقيدة المسيحية بسبب الانحراف الذي لحقها، خاصة عقيدة التثليث التي لم يستسغها كثير من مفكري الغرب قديمًا وحديثًا، وكذلك عقيدة الصليب التي أدرجها بول ريكور ضمن الأسطورة، ويقول عنها: "فإن الأسطورة تعد فضيحة إضافية تضاف إلى الفضيحة الحقيقية، إلى فضيحة "جنون الصليب"."[23] وما ظهور الهيرمينوطيقا إلا خير معبر عن هذا الاضطراب، فقد كان هم مؤولي الكتاب المقدس هو انسجامه مع العقل وواقع البشر، فلا يستقر الفكر الديني الغربي على حال أو يؤمن بعقيدة، بل جعل كل جهده لنقد هذه العقيدة وكتابها المقدس، كما هو الحال لدى اسبينوزا.

ويحكي جاك لوغوف عن آثار هذا الاضطراب في وصفه لإنسان العصر الوسيط فيجملها في أربعة آثار[24] هي:

- هيمنة العقيدة اللاهوتية المسيحية على العقول.

- صورة الإنسان المتشائم الضعيف الخائف من ارتكاب الخطايا والذنوب في كل لحظة.

- الزهد في الحياة الدنيا واحتقارها واعتبارها دار عبور إلى الحياة الحقيقية، حياة النعيم والخلود إلى الدار الآخرة.

- هيمنة العقلية الرمزية أو الخيالية على وعي الناس.

إن المؤمن بالقرآن الكريم المعتقد بربانيته وقدسيته وصدقه لا يرى أثناء قراءته أصنامًا ولا أساطير ولا خرافات ولا زيفًا، بل إن القرآن نفسه يحكي هذا عن معاصري نزوله الذين لم يؤمنوا به وقالوا: "أساطير". فالإيمان بالقرآن ينافي وصفه بالأسطورة، لكن هذا لا يمنع من الاعتراف ببعض التفسيرات الأسطورية التي أعطاها بعض المفسرين للنص القرآني؛ ذلك أن الظروف آنذاك لم تكن تسعف إلا بذلك. وهنا تبدو مهمة المعاصرين أساسًا في إعطاء معنى جديد يساير ما وصل إليه العقل الإنساني وتطورات حياته من غير مساس بالجانب الغيبي للنص القرآني المطلوب الإيمان به.

خلاصة:

إن وظيفة الهيرمينوطيقا تكمن في عبور الفجوة التاريخية دون تتجاوز الضوابط التي سبقت الإشارة إليها أعلاه. وعليه تكون وظيفة قارئ القرآن الكريم اليوم هي:

- البحث في معاني السابقين وتفسيراتهم وأفهامهم ومدى صلاحيتها اليوم.

- البحث عن معانٍ جديدة، تتجاوز أفهام السابقين، تحقق للنص خلوده من غير مساس بقدسيته.

وهذا يقتضي:

- التزود بفنون اللغة، كما ذكر شلايرماخر.

- إدراك مقاصد القرآن الكريم وأسباب نزوله.

- فقه الواقع الذي ينتمي إليه القارئ، ويدخل هنا جميع مكونات هذا الواقع وبكل علومه ومخترعاته.


المراجع:

- ديفيد كوزنز هوى، الحلقة النقدية.. الأدب والتاريخ والهيرمينوطيقا الفلسفية، ترجمة وتقديم: خالدة حامد، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2005

- هانس جورج غادمير، فلسفة التأويل، ترجمة: محمد شوقي الزين، الجزائر، منشورات الاختلاف، بيروت، الدار العربية للعلوم، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط2، 2006

- حسن حنفي، تأويل الظاهريات الحالة الراهنة للمنهج الظاهراتي وتطبيقه في الظاهرة الدينية، ج1، مكتبة النافذة، ط1، 2006

- ينظر حسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي في الأسس والتطبيقات، بيروت، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2004

- Frieddrich. Schleiermacher, Le Statut de la Théologie, traduction Bernard Kaempf),Labor et Fides, Genève, Les éditions de Cerf, Paris, 1994).

- هانس جورج جادمير، الحقيقة والمنهج.. الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة: حسن كاظم وعلي حاكم صالح، مراجعة: جورج كتورى، طرابلس ليبيا، دار أويا، ط1، 2007

- H.G.Gadamer, L’art de comprendre, Ecrits I, Herméneutique et tradition philosophie, traduit par Marianna Simon, Aubier Montaigne.

- الشاطبي، الموافقات، تعليق محمد حسنين مخلوف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت، 3/3

- بول ريكور، صراع التأويلات.. دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة: منذر عياشي، مراجعة جورج زيناتي، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2005

- ينظر محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات... فصول في الفكر الغربي المعاصر، بيروت والدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 2002

- صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم.

-محمد النويهي، نحو ثورة في الفكر الديني، بيروت، منشورات الآداب، ط1، 1983

- نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، القاهرة، 1992

- بول ريكور، من النص إلى الفعل... أبحاث التأويل، ترجمة: محمد برادة وحسان بورقية، الرباط، دار الأمان، ط1، 2004

- ينظر هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوربي، بيروت، رابطة العقلانيين ودار الطليعة، ط2، 2007


[1]- ديفيد كوزنز هوى، الحلقة النقدية.. الأدب والتاريخ والهيرمينوطيقا الفلسفية، ترجمة: وتقديم خالدة حامد، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2005، ص 13

[2]- هانس جورج غادمير، فلسفة التأويل، ترجمة: محمد شوقي الزين، الجزائر، منشورات الاختلاف، بيروت، الدار العربية للعلوم، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط2، 2006، ص 63

[3]- حسن حنفي، تأويل الظاهريات الحالة الراهنة للمنهج الظاهراتي وتطبيقه في الظاهرة الدينية، مكتبة النافذة، ط1، 2006، ج1، ص 384

[4]- غادمير، فلسفة التأويل، ص 84

[5]- ينظر حسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي في الأسس والتطبيقات، بيروت، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2004، ص 37

[6]- غادمير، فلسفة التأويل، ص 64

[7]- Frieddrich. Schleiermacher, Le Statut de la Théologie, traduction Bernard Kaempf, (Labor et Fides, Genève, Les éditions de Cerf, Paris, 1994). p 59

[8]- هانس جورج جادمير، الحقيقة والمنهج.. الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة: حسن كاظم وعلي حاكم صالح، مراجعة جورج كتورى، طرابلس، دار أويا، ط1، 2007، ص 272

[9]- H.G.Gadamer, L’art de comprendre, Ecrits I, Herméneutique et tradition philosophie, traduit par Marianna Simon, Aubier Montaigne, p 31

[10]- الشاطبي، الموافقات، تعليق محمد حسنين مخلوف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت، 3/3

[11]- بول ريكور، صراع التأويلات.. دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة منذر عياشي، مراجعة جورج زيناتي، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2005، ص 97

[12]- نفسه، ص 97

[13]- نفسه، ص 97

[14]- ينظر محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات.. فصول في الفكر الغربي المعاصر، بيروت والدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 2002، ص ص 34-35

[15]- جادمير، الحقيقة والمنهج، ص 381

[16]- صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم.

[17]- راجع محمد النويهي، نحو ثورة في الفكر الديني، بيروت، منشورات الآداب، بيروت، ط1، 1983، ص 152

[18]- نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، القاهرة 1992، ص 106. ومثل هذا الكلام في الكتاب كثير.

[19]- ينظر هنا مثلا الشاطبي، الموافقات 2/2 إذ يقول: "والمقاصد التي ينظر فيها قسمان: أحدها يرجع إلى قصد الشارع، والآخر إلى قصد المكلف".

[20]- بول ريكور، من النص إلى الفعل.. أبحاث التأويل، ترجمة: محمد برادة وحسان بورقية، الرباط، دار الأمان، ط1، 2004، ص 53

[21]- ريكور، صراع التأويلات، ص 448

[22]- نفسه، ص ص 193-194

[23]- ريكور، صراع التأويلات، ص 448

[24]- ينظر هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي، بيروت، رابطة العقلانيين ودار الطليعة، بيروت، ط2، 2007، ص ص 18-20