رسالة حول الخلافة وحُكم الله للباحث ابن قرناس


فئة :  قراءات في كتب

رسالة حول الخلافة وحُكم الله للباحث ابن قرناس

قراءة في كتاب: رسالة حول الخلافة وحُكم الله للباحث ابن قرناس


كتاب "رسالة حول الخلافة وحُكم الله" للباحث السعودي المثير للجدل "ابن قرناس" صدر عن منشورات الجمل، الطبعة الأولى سنة 2008 وعدد صفحاته 206. لقد تناول الباحث مجموعة من المواضع المهمة والمثيرة طبعًا انتقد فيها المنادين بالخلافة الإسلامية انتقادًا حادًا، ومن هذه المواضع: مفهوم دولة الإسلام عند من ينادي بالخلافة: في إطار حديثه عن هذا الموضوع أشار إلى نقطة ذات أهمية كبرى، وهي أنّه منذ القرون الأولى للإسلام والناس كلما زاد اضطهادهم من الحكام لجّوا بالمناداة إلى العودة إلى تطبيق الشريعة، أي تطبيق تشريعات الإسلام في دولة إسلامية، أملاً أن يتحقق لهم العدل والمساواة وتحفظ لهم الحقوق. فهل تحقق ذلك؟ طبعًا وعلى سبيل المثال لماذا ذكر الباحث أنّه عندما أعلن العباسيون ثورتهم على الأمويين، هب الناس لمعاونتم، أملاً في تطبيق ما نادوا بتطبيقه من شعارات، تعيد الناس إلى تحكيم قوانين الله في دولة المسلمين، لكنّ العباسيين بدأوا حكمهم برجل سمي "السفاح" لكثرة ما أراق من الدماء، في سبيل تكميم أفواه من بقي على قيد الحياة، ومنعهم من محاولة نقد الحكومة أو المطالبة بالحقوق. في رسالة واضحة أنّ الإسلام وحكمه قد ولى وأنّ الدولة ملك لمن يستولي عليها. ومن ذلك الوقت والمسلمون يعيشون حياة الذل والمهانة، تحت تسلط سلاطين القهر والاستبداد وجبروتهم، وهم الذين استخدموا رجال الدين ليحولوا أوامرهم الملكية إلى شرع الله، وينسبوا كل تصرفاتهم للإسلام وليحكموا بالكفر على من ينادي بالعداوة لإسلام الله. وبسبب ذلك أصبح كل من يحاول التذكير بقوانين الله من "الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" وهؤلاء حكمهم "أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف". يتساءل ابن قرناس فأين يكمن الخلل هل في الحكام أم في التشريعات؟ طبعًا لقد استمر إصرار كثير من المسلمين، ومن مذاهب مختلفة، على أنّ الخلل ليس في التشريعات، ولكن في أشخاص الحكام الذين تولوا الحكومات المتتالية التي تسلطت على المسلمين أي أنّ الحكام الذين تولوا حكم المسلمين، كانوا يفتقرون لتوفر الصفات الواجب توفرها في الحاكم المسلم على الدوام، ومنها العدل التقوى، الأمانة التجرد من الأهواء والنزاهة والشفافية والحلم وغيرها من الصفات المثالية. ولو توفرت في واحد منهم فسيتوفر العدل، وستحقق المساواة وستحفظ الكرامات، وسيختفي الظلم، لأنّ الحاكم سيكون قادرًا على استنباط الأحكام التي تساهم في تحقيق ذلك، بجانب مصادر التشريع الأخرى المعتمدة عندهم.

وبناء على هذا يرى الباحث ابن قرناس أنّ المطالبين بعودة الحكم الإسلامي لم يقدموا دستورًا وقوانين مكتوبة، بديلاً لما تطبقه الحكومات المستبدة. وفي كل مرة تنجح جماعة مطالبة بعودة الحكم الإسلامي للوصول إلى الحكم، تقوم بتنفيذ بعض التصرفات الشكلية لتبرهن للناس أنّها حكومة إسلامية. عادة ما تكون عبارة عن تنفيذ حق القتل في قاتل، لم يتلق محاكمة عادلة، ولم ينظر في حيثيات وملابسات إقدامه على القتل. أو قطع يد سارق أعماه الجوع ولا حد عليه. أو رجم زان ينص القرآن أنّ حده الجلد ولا وجود للرجم... .دون أن تنجح هذه الدولة في تحقيق التكافل الاجتماعي، أو القضاء على الفقر والمشاكل الاجتماعية، أو إقامة العدل والمساواة بين الناس، أو حماية البيئة وعمارة الأرض. لأنّهم يعتقدون أنّ دولة الإسلام تقوم على ثلاثة أسس مجتمعة، وهي:

- خليفة يتمتع بمواصفات أخلاقية ودينية مثالية، وقادر على استنباط الأحكام الشرعية فيما يظن أن لا حكم له في القرآن.

- الشورى وهي مجموعة من الناس تقوم باقتراح حلول غير ملزمة للحكام في القضايا المختلفة.

- رجال دين، لتولي القضاء، والحسبة، والفتوى.

فيما يخص الخليفة، انطلق الباحث من مسألة اتفاق كل المطالبين بعودة الخلافة على التعريف الذي لخصه الماوردي بقوله إنّها تعني: "خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب" ويعلل وجوب زعيم بأنّه لولاه: "لكان الناس في فوضى مهملين مضاعين" فالخليفة هو الزعيم الراعي لمصالح المسلمين، سواء الدنيوية، أو الدينية، لامتلاكه سلطات الدولة كلها، ورأيه يعتبر ملزمًا شرعًا حتى في العبادات. ويقوم بإعطاء صلاحيات تشريعية وقضائية وتنفيذية لمن يختارهم للنيابة عنه. وخلال تاريخ المسلمين بعد رسول الله والممتد لأكثر من خسمة عشر قرنًا، لم يكن هناك سلطة تنفيذية خارج تحكم السلطان، ولم يكن هناك سلطات قضائية مستقلة، ولم يكن هناك سلطات تشريعية تسير بموجب قوانين ثابتة، أو تستطيع تشريع حكم يتيح محاسبة الحاكم، الذي بيده السلطة التشريعية، لأنّ أوامره يجب أن تنفذ، والسلطة التنفيذية، لأنّ من ينفذ الأوامر هم أفراد وهيئات عينها الحاكم، يعملون بموجب تعليماته، وبيد الحاكم السلطة القضائية أيضًا، فالأحكام تصدر من الحاكم نفسه، أو من القضاة ورجال الحسبة والشرطة وغيرهم ممن عينهم الحاكم وحدد مساراتهم. ولم يعترض أحد من المطالبين بعودة الخلافة على هذه المماراسات للحاكم (الخليفة)، لأنّهم يظنون أنّ وجود حاكم لدولة الإسلام، منصوص عليه في القرآن وفي الحديث وإجماع الصحابة.

وقد قام الباحث بالرد على من يستدل بالقرآن على وجوب نصب الإمام، معتبرًا أنّ ما جاء في الآيتين 48 و49 من سورة المائدة لا يتحدث عن وجوب تنصيب حاكم لأنّهما نزلتا ضمن آيات كثيرة تتحدث عن موقف أهل الكتاب من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وعن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) سورة النساء الآية 59 ثم قوله في الآية 83 (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم...) فقول بعضهم إنّ الحكام هم المقصودون في الآيتين لا يصح، يقول ابن قرناس "وتكون الآيتان 59 و83 من سورة النساء لا تخاطب الناس في زمن متأخر عن زمن الرسول، وليس لها علاقة بمن سيأتون في أزمنة لاحقة ويستولون على البلاد والعباد ويسمون حكامًا، ثم يطلق عليهم فقهاء منتفعون، مصطلح ولاة الأمر، الذي كان يحاكي المصطلح القرآني (أولي الأمر) في شكل بعض حروفه إلا أنّه يتنافر معه في المعنى". كما قام برد الأحاديث التي اتخذها الفقهاء حجة لوجوب نصب الإمام. وبخصوص البيعة يقول ابن قرناس رأيًا "متى أصبح هناك خليفة للمسلمين فرجال الدين يوجبون طاعته، ويحكمون بالكفر على من يخرج عليه، ولو كان قد استولى على السلطة بالقوة، وقهر غيرها عليها. يضيف ابن قرناس وبالرغم من أنّ الاستلاء على الحكم بالقوة، يعني خروجًا على حاكم سابق، إلاّ أنّ رجال الدين يحرمون الخروج على الحاكم، برًّا كان أم فاجرًا، ولو ضرب ظهرك وأكل حقك. ومن مات وليس في عنقه بيعة لحاكم فقد مات ميتة جاهلية، معتمدين على أحاديث منسوبة إلى الرسول.
لكن حسب ابن قرناس فإنّ رجال الدين في مقابل ما سبق لم يبينوا إن كان الحاكم الذي خرج على حاكم سابق واغتصب الحكم منه، قد كفر فترة نزاعه مع الحاكم السابق، وكان دمه حلالاً، لأنّه خرج عن الجماعة وشق عصا الطاعة. وأنّ استتباب الحكم له أعاده إلى حظيرة الدين. أم أنّه بقي كافرًا ولكنّ طاعته واجبة. لأنّ المهم عندهم أنّ بقاء الناس تحت حاكم، ولو كان ظالمًا فاجرًا، خير من الخروج في سبيل البحث عن حاكم آخر قد يكون يكون أقل ظلمًا وجورًا وهذا منطلق بعيد عن المنطق.

كما تطرق لموضوع الشورى منتقدًا إيّاها يقول "تُعرّف الشورى عند المسلمين بأنّها: قيام جماعة بتداول الآراء ووجهات النظر للتوصل إلى اقتراح تشريع لقضية من القضايا، وللحاكم الأخذ به أو رفضه أو تعديله ظنًّا منهم أنّ الاستشارة المذكورة هي المعنية في قوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إنّ الله يحب المتوكلين). ويرى ابن قرناس أنّ الشورى لها وجود صوري فقط وأحكامها غير ملزمة، لأنّه بطبيعة الحال لو أنّ زعيمًا وصل للحكم بالغلبة وحيازة الشوكة، أي بالقوة، لوجبت طاعته كما يقول رجال الدين، ولن يلتفت لرأي أهل الشورى إن كان مخالفًا. كما انتقد ما يسمى بأهل الحل والعقد وذلك لأنّ ما يصدر منهم عبارة عن مقترحات غير ملزمة ولا تؤهلهم أن يسموا بأهل الحل والعقد، وهو النقد نفسه الذي وجهه لما يسمى برجال الدين.

وفيما يخص حديثه عن دولة الخلافة البكرعمرية نبّه إلى أنّ تصوير المنادين بعودة الخلافة، عصر أبي بكر وعمر بأنّه عصر تحققت فيه كل المثاليات التي يحلم بها الإنسان، فالحقيقة حسب ابن قرناس أنّ تلك الخلافة لا تزيد عن كونها حكومة عشائرية لها حاكم واحد، متفرد بالسلطة، ولم تعرف الشورى التي يتصورونها. إلاّ أنّ الحاكم أبا بكر كان شديد الحرص على عدم مخالفة تعاليم الدين التي يعرفوها، ومحاولة الأخذ بكل ما يعتقد أنّه عدل وفي مصلحة الأمة، وهذا لا يكفي لكي ينعم المسلمون بالعدل والحياة السعيدة. يضيف كذلك أنّ اختيار أول زعيم للمسلمين بعد الرسول لم يتم بناء على مقترحات شورية قدمها أهل الحل والعقد، ولكن جاء بفرض رأي مجموعة من المسلمين - حزب المهاجرين ومن معهم من الأوس - على غيرهم.

وفيما يتعلق بموضع الدولة الإسلامية وإدارتها ذهب ابن قرناس إلى أنّه طوال تاريخ المسلمين لم تتح الفرصة للإدارة الإسلامية أن تسيّر دولة المسلمين، بعد وفاة الرسول. وإن كنا لا نعلم ما الذي جرى في عصر أبي بكر وعمر تحديدًا، لأنّ المعلومات المتوفرة لدينا عن ذلك العصر مصدرها قصص وحكايات كتبت في القرون اللاحقة، وبعد أن أصبح الحكم ملكًا عشائريًّا متسلطًا، عمل على تشويه الحقائق أن كانت ستجرم سياسته وتفضح تسلطه. وأنّ ما نقله التاريخ عنها لا يمثل الإدارة الإسلامية التي يجب أن تسود في دولة الإسلام من عدة وجوه:

- دولة الإسلام ليس لها حاكم بشري فالله وحده الملك والناس عبيد عليهم الطاعة.

- الاحتكام يكون لكتاب الله وحده، ولا يكون التشريع بيد بشر سواء كان فردًا حاكمًا أو رجل دين.

- قيام دول الإسلام واجب ديني على كل المسلمين.

ليختم كتابه بموضع مهم وهام وهو "لو قامت دولة الإسلام" يقول "سيتحقق للجميع المساواة في التعامل والعدل، ولن يكون هناك تمايز أو حصانة لبعضهم أكثر من الآخرين أو عنصرية وعصبية. وسيطرد الظلم بكل أشكاله من المجتمع، ولو حدث هذا ألاّ تكون الدولة الفاضلة التي حلم بها البشر طوال تاريخهم قد تحققت على أرض الواقع، بعد أن فشل أفلاطون".
هكذا يكون ابن قرناس في كتابه "رسالة حول الخلافة وحُكم الله" قد انتقد انتقادًا لاذعًا المنادين بالخلافة الإسلامية، وقد يكون ابن قرناس مصيبًا في بعض ما طرح من نقط ومواضع، لكنّه تجاهل تلك الفئة التي تسعى لإقامة دولة ديمقراطية أساسها العدل بغض النظر عن المذهب والدين، ومنهم من كلفه ذلك حياته. ويبقى الكتاب مع كل هذا كتابًا مثيرًا للجدل.