رواية "الخلود" تأليف ميلان كونديرا.. أن ترى العالم بمنظور الله


فئة :  قراءات في كتب

رواية "الخلود" تأليف ميلان كونديرا.. أن ترى العالم بمنظور الله

"وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها" (1 سفر التكوين).

يعتقد ميلان كونديرا مؤلف رواية الخلود أنّ الرواية لا يمكن عرضها أو اقتباسها أو تحويلها إلى فيلم، .. إنّها ليست حكاية تروى، فالجوهري في الرواية هو ما لا يمكن التعبير عنه إلا بالرواية، ولا يبقى في الاقتباس إلا ما هو غير جوهري، على أي شخص لديه ما يكفي من الجنون ليستمر في كتابة الروايات إن هو أراد ضمان حمايتها أن يكتبها بطريقة تجعل اقتباسها متعذرًا أو بعبارة أخرى تجعل حكيها متعذرًا، .. الروايات التي كتبت خاضعة لشرط قاعدة الحدث، أحداثها ووقائعها تقوم على تسلسل سببي واحد، هذه الروايات تشبه زقاقًا ضيقًا نطارد فيه الشخصيات ونحن نجلدها، إنّ التوتر الدرامي هو اللعنة الحقيقية التي حلت بالرواية لأنّه يحول كل شيء بما في ذلك أبدع الصفحات وأكثر المشاهد والملاحظات إدهاشًا إلى مجرد مرحلة تقود إلى الحل النهائي الذي يتركز فيه معنى كل ما سبقه، هكذا تحترق الرواية بنار توترها الخاص مثل حزمة قش.

.. ولا أدري بعد هذه المقدمة إن كنت قادرًا على تحدّي كونديرا، فبعد قراءة روايته ثلاث مرات أغامر بمحاولة تقديمها للقارئ ملتزمًا أو محاولاً الالتزام بما كررت قوله في سلسلة مقالات عن الفن بالنظر إليه دليلنا لفهم الدين أو بما هو "معرفة الله" وكما كانت الأسطورة أفضل الأوعية لاستيعاب الدين لدرجة أنّها بدت كما لو أنّها الدين، فقد ورثتها الرواية في عالم الفنون متفوقة برأيي على ضروب الفن الأخرى في استيعاب الدين وفهم العالم أو كما يقول إمبرتو إيكو الروائي ينظر بمنظور الله ومن ثم فإنّ الرواية هي العالم كما رآه الله (2 أمبرتو إيكو. مستقبل الكتب، محاضرة ألقيت في مكتبة الإسكندرية في عام 2008).

يتشكل بناء الرواية من مشاهد تبدو متوازية ولكن يربط بين أشخاصها وأحداثها روابط وعلاقات تجعلها متماسكة وليست مستقلة عن بعضها، وفي أثناء ذلك تدور حوارات طويلة حول الخلود والانتحار والحياة والموت والخالق والتحولات التي تجري في فرنسا وأوروبا والمعاني الجديدة للسياسة والثقافة... وفي ذلك فإنّ عرض الرواية سيكون على إعادة عرض (وتقديم) المشاهد والأحداث التي جاءت في الرواية.

في بداية الرواية نرى المؤلف كونديرا جالسًا مع صديقه البروفيسور أفيناريوس في نادي باريسي يتحدثان في مسائل عدة، وسنراهما لاحقًا يلتقيان ويناقشان الموضوعات التي يحب أن يطرحها المؤلف على هامش الأحداث والمشاهد التي تتشكل في الرواية، يشاهدان في النادي "إنييس" التي تمارس الرياضة والاسترخاء، وهي شخصية أساسية في الرواية مع زوجها بول وأختها لورا، وابنتها بريجيت.

إنييس في النادي تشعر باختناق وبغربة قاسية بسبب اهتمام النساء وحديثهم حولها في النادي، تتحدث واحدة عن مقدم برنامج تلفزيوني متغطرس، تقول إنّها تعشق الناس المتغطرسين، وعن الساونا والحمامات، هي تعشق الحمامات الباردة، وتسأل إنييس عن رأيها في مقدم البرنامج، ولكن إنييس تقول إنّها لم تشاهد البرنامج...

تتذكر إنييس والدها وأنّها سألته في إحدى النزهات التي كانت ترافقه بها، هل تؤمن بالرب؟ فأجاب: أؤمن بحاسوب الخالق، ظل الجواب عالقًا بذهن الطفلة، كان والدها يتحدث عن الخالق وليس عن الربّ، وسألته إن كان يصلي أحيانًا، فقال: صلاتي لأديسون حين يحترق مصباح الكهرباء.. وراود إنييس سؤال؛ ما نمط الحياة التي برمجها الحاسوب بعد الممات؟

والد إنييس أستاذ جامعي أمضى حياته من الوحدة إلى الوحدة مرورًا بالزواج، وعندما توفي أوصى بثروته للبحث العلمي ولكن تبين أنّه أودع في حساب ابنته إنييس معظم ثروته، ولم يترك شيئًا لابنته الثانية لورا..

إن لم تكن إنييس ألمانية فلأنّ هتلر خسر الحرب، لأول مرة في التاريخ يجرد المهزوم من مجده تمامًا: حتى مجد الغرق المؤلم، لم يكتف الغالب بالانتصار، بل قرر محاكمة المغلوب، فحاكم أمة بأسرها، لهذا لم يكن سهلاً على المرء في تلك الفترة أن يتحدث بالألمانية ويكون ألمانيًّا.

كان جدّا إنييس من جهة الأم يملكان ضيعة عند حدود المناطق الناطقة بالفرنسية وتلك الناطقة بالألمانية في سويسرا، حتى إنّهما كانا يتكلمان اللغتين، أما جداها لأبيها فقد كانا ألمانيين يعيشان في هنغاريا، وبعد الحرب ألحقت إنييس بمدرسة فرنسية، ولم تكن تستهو الأب باعتباره ألمانيا إلا متعة واحدة: أن يتلو لابنته البكر أبياتًا لغوتة بلغته الأصلية.. هي أشهر قصيدة ألمانية في كل العصور، يتعين على كل طفل ألماني أن يحفظها عن ظهر قلب:

على كل القمم

يخيم الصمت

على رؤوس الأشجار

بالكاد تشعر

بنسمة

وتلوذ الطيور الصغيرة بالصمت في الغابة

اصبر فقريبًا

سترتاح أنت أيضًا

فكرة القصيدة في غاية البساطة، ليست رسالة الشعر أن يبهرنا بفكرة مدهشة، ولكن أن يجعل لحظةً في الوجود لا تنسى وتستحق حنينًا لا يطاق.

اكتشفت إنييس أنّها تحب الوحدة، فذات يوم حين مرضت زميلتاها واشتغلت بمفردها لأسبوعين في المكتب لاحظت باندهاش أنّها تكاد لا تشعر بالتعب.. الوحدة هي غياب عذب للنظرات.

تذكرت أنّها كانت مفتتنة في طفولتها بفكرة أنّ الرب يراقبها باستمرار، يمنحها ذلك شعورًا باللذة التي تساور البشر عندما يكونون تحت الأنظار، لمّا ينتهك النظر حرماتهم، كانت أمها تقول لها: الرب يراك، آملةً بذلك أن تنزع منها عادة الكذب وقضم الأظافر وإدخال إصبعها في خياشيمها، ولكن العكس هو ما كان يحصل، فإنييس لم تكن تتخيل الرب تحديدًا إلا في هذه اللحظات التي كانت تمارس فيها عاداتها السيئة، أو في لحظات خزيها.

الناس يتميزون بوجوههم، تقول إنييس، واسمنا نلاقيه بالصدفة دون أن نعرف متى ظهر في هذا العالم، ولا كيف علق بأحد الأجداد المجهولين، نحن لا نفهم هذا الاسم، ولا نعرف شيئاً عن تاريخه، ومع ذلك فإنّنا نحمله بإخلاص مبجل، وتعجب به كثيرًا، ونعتز به على نحو مضحك، كما لو أنّنا نحن من ابتكرناه في دفق من الإلهام العبقري، والأمر نفسه بالنسبة إلى الوجه... أيقظت الموسيقى في نفسها ذكرى والدها فبكت، لكن لما تعالى صوت الأداجيو في الغرفة للمرة الثامنة أو التاسعة بدأ نفوذ الموسيقى يخفت، وعند المرة الثالثة عشرة لم تشعر إنييس بأدنى أثر كما لو كانت تسمع نشيد الباراغوي الوطني، وبفضل هذا التمرين لم تنتحب أثناء الجنازة.

كان بول يرى الطبيعة متوحشة، ليست سوى حقل من الآلام، وكان سعيدًا برؤية الإنسان يغطي الأرض بالخرسانة، كان الأمر بالنسبة إليه مثل أسر حيوان ضار.

بالنسبة إلى إنييس كان عالم الدروب هو عالم الأب، في حين أنّ عالم الطرق هو عالم الزوج. تنتهي قصة إنييس بشكل دائري: من عالم الدروب إلى عالم الطرق، ثم تعود الآن من جديد إلى نقطة الانطلاق.. يراودها شعور غريب عندما تجد نفسها في وسط الزحام أنّها لا يجمعها شيء بهذه المخلوقات الغربية التي تمشي على قدمين وتحمل رأسًا فوق العنق وفماً في الوجه. هل معنى هذا أنّها قاسية القلب؟ ولكن لا أحد يتصدق مثلها على المتسولين، ولكن لكرمها مع المتسولين خلفية سلبية: إنييس تهبهم الصدقات لا لأنّهم ينتمون إلى الجنس البشري، بل لأنّهم غرباء عنه، ومُقْصَوْن منه، وربما لأنّهم يتنصلون منه مثلها.

كيف العيش في عالم نختلف معه؟ كيف العيش مع أناس لا نشاركهم عذاباتهم وأفراحهم؟ كان يلتحق بالدير قديمًا من كانوا على خلاف مع العالم ولا يحفلون بأحزانه وأفراحه، ولكن بما أنّ قرننا يرفض الاعتراف للناس بحقهم في أن يكونوا على خلاف مع العالم فقد ولى عهد الأديرة.

لا أثر للسعادة في الحياة، أن يحيى المرء معناه أن يحمل أناه المتألمة عبر العالم، لكن الوجود سعادة، الوجود معناه أن تتحول إلى نافورة، أي إلى حوض من الحجر يتساقط فيه العالم كمطر فاتر.

وتفكر إنييس باعتزال الناس والإقامة وحيدة في سويسرا، .. وفي الطريق وهي تقود سيارتها في الليل تفاجئها فتاة في منتصف الطريق تحاول الانتحار، فتحاول أن تتجنبها فتنحرف سيارتها، وتموت إنييس وتنجو الفتاة!

الخلود

ليس الناس سواسية أمام الخلود، يقول كونديرا، ينبغي التمييز بين الخلود الصغير، كذكرى شخص في أذهان من عرفوه، والخلود العظيم هو ذكرى شخص في أذهان من لم يعرفوه، الخلود شغل به الناس على أنحاء واتجاهات مختلفة. غوته وجده في البقاء حيًّا بعد الموت، الرئيس ميتران وضع للخلود مكانة رفيعة في فكره، وضع في مراسم الاحتفال بتتويجه رئيسًا ثلاث وردات على قبور ثلاثة من المشاهير، ذلك أنّ الموت والخلود عاشقان لا ينفصمان، وخالف بذلك سلفه فاليرى جيسكار ديستان الذي تناول وجبة إفطار في الإليزيه مع الزبالين، ولم يكن ميتران بذلك القدر من السذاجة حتى يسعى إلى التشبه بالزبالين فذلك أمر لن ينجح فيه أي رئيس دولة.

الرؤساء اليوم تخلدهم الصور، فهل تغيرت خصائص الخلود في عصر الكاميرا؟ يتساءل كونديرا ويجيب لم تتغير في العمق لأنّ عدسة الكاميرا كانت موجودة قبل اختراعها، فالناس كانوا يتصرفون كما لو يجري تصويرهم دون أن تكون ثمة كاميرا مصوبة عليهم.

لم يكن الأمر يتعلق بالحب، بل بالخلود، يقول كونديرا منهيًا الاسترسال في قصة غوتة والعلاقة بينه وبين بيتينا، الفتاة التي أحبته بجنون، ويتوقف عند إحدى رسائلها التي تقول فيها لغوته: لقد استقر عزمي على أن أثبت على حبك إلى الأبد، يدعو كونديرا إلى تأمل الجملة التي تبدو مبتذلة، فعبارتا إلى الأبد واستقر عزمي أهم بكثير من كلمة أحبك...

إنّ الولد الذي يسجل في سن العشرين في الحزب الشيوعي أو يلتحق بالمقاتلين في الجبال متأبطًا بندقيته مفتون بصورته الخاصة كثائر: فهي التي تميزه عن كل الآخرين، وهي التي تجعله هو نفسه في منشأ نضاله يوجد حب جارف وغير مشبع لأناه التي يتوق لرسم حدودها بوضوح قبل أن يبعث بها عبر أداء إيماءة الخلود إلى خشبة التاريخ التي تتجه إليها ملايين الأنظار، ونحن نعلم أنّ الروح حين تكون تحت أنظار كثيفة لا تكف عن التنامي والتورم والتضخم لكي تطير في النهاية نحو الأعالي كمنطاد مضاء على نحو بديع.

إنّ ما يدفع الناس إلى رفع أيديهم وتناول بندقية الانتصار جماعيًّا لقضايا عادلة أو غير عادلة ليس العقل بل الروح المتضخمة، إنّها الوقود الذي لا يمكن أن يدور محرك التاريخ بدونه، وبدونها أيضًا كانت أوروبا ستبقى مستلقية على العشب تراقب بكسل السحب الراكضة في السماء.

يقول كونديرا في حواره مع أفيناريوس ليس هناك كفاح فعال وعقلاني ضد ديابولوم (الشيطان) فقد حاول ماركس ذلك مثلما حاول كل الثوريين، وفي نهاية المطاف استولى ديابولوم على كل المنظمات التي أنشئت للقضاء عليه. لقد قادني كل ماضيّ الثوري إلى طرح الأوهام، واليوم لم يعد يهمني غير هذا السؤال: ماذا بوسع من أدرك استحالة النضال المنظم والعقلاني الفعال ضد ديابولوم أن يفعل؟ ليس أمامه سوى حلّين: إمّا أن يستسلم ويكفّ عن أن يكون هو ذاته، وإمّا أن يستمر في رعاية حاجته الحميمة إلى التمرد، وأن يعلن عنها بين الفينة والأخرى، وذلك ليس بغرض تغيير العالم كما كان يتمنى ماركس قديمًا، بل وبدافع واجب أخلاقي.

في حوار متخيل بين غوته وهمنغواي يقول غوته بحزم ردًّا على مقولة همنغوي إنّك لا تتطابق تمامًا مع الصورة التي بقيت عنك، أقر بأنّك حدت عنها قليلاً، لكنك لا تزال حاضرًا فيها مع ذلك: لست حاضرًا حتى في كتبي، من يعدم الوجود لا يمكن أن يكون حاضرًا. لقد قررت أخيرًا أن أستفيد من وضعي كميّت لكي أنام وألتذّ بمتعة اللاوجود الكامل.

يقول غوته لهمنغواي (كما يتخيل كونديرا بالطبع) كنت أعتقد بالطبع أنّني سأخلف صورة ستكون امتدادًا لي، أجل، كنت مثلك حتى بعد موتي كان من المتعذر على التسليم بأنّني لم أعد موجودًا. إنّه لأمر غريب كون الإنسان فانيًا يعد تجربة إنسانية أساسية، ومع ذلك لم يكن الإنسان قادرًا قطّ على قبولها وفهمها، والتصرف بمقتضاها لا يعرف الإنسان كيف يكون فانيًا، ولما يموت لا يعرف حتى كيف يكون ميتًا.

رامبو الذي فرض على العالم أن يكون حديثًا كان شاعر طبيعة متشردًا، تغض قصائده بألفاظ نسيها الإنسان المعاصر، صراصير الليل، أشجار البندق والسنديان، .. ثم هناك الدرب:

سأجوب الدروب في أمسيات الصيف الزرقاء

تنقرني حبات القمح وأدوس العشب الصغير..

لن أتكلم

ولن أفكر في شيء

سأذهب بعيدًا، بعيدًا جدًّا مثل بوهيمي

وسأسعد بالطبيعة كما لو كنت مع امرأة

لقد مزقت منذ ثمانية أيام

على حصى الدروب حذائي

في الميديا والثقافة والحب

يكرر الساسة خطاباتهم دون حرج، فهم يعلمون أنّ الجمهور لن يستوعب إلا بعض الكلمات التي يرددها الصحفيون، وبهذا لم يعد فن السياسة اليوم يتمثل في تسيير المدينة (التي صارت تسير نفسها بنفسها حسب آلياتها الغامضة والخارجة عن السيطرة) بل يتمثل في ابتكار جمل صغيرة ستحدد صورة رجل السياسية وتوجه فهم خطابه وكذا شعبيته في استطلاعات الرأي وتحسم من ثم في انتخابه من عدمه.

رجل السياسية تابع للصحفي لكن لمن يتبع الصحفيون؟ لمن يؤدون إليهم أجورهم، وهؤلاء هم وكالات الإعلان التي تشتري حيزًا في الصحف والإذاعات لإعلاناتها. ولكن تخطئ وسائل الإعلان باعتقادها أنّ التوسع في الإعلان يساهم في ترويجها، يكفي تأمل ما كان يجري من توزيع ملايين الصور للينين في الدول الشيوعية، لا أحد يعتقد أنّ هذه الصور المنتشرة جعلت لينين محبوبًا لدى الناس! لقد نسيت وكالات إشهار الحزب الشيوعي منذ فترة طويلة الغاية التي أنشئت من أجلها (جعل الناس يحبون الحزب الشيوعي) وصارت هي غاية في ذاتها.. لقد انتصرت الصورلوجيا على الأيديولوجيا في العقود الأخيرة نصرًا تاريخيًّا، كل الأيديولوحيات منيت بالهزيمة، انكشفت أوهام عقائدها، ولم يعد الناس يأخذونها على محمل الجدّ.

وتمثل استطلاعات الرأي الوسائل الحاسمة في سلطة الصورلوجيا، فالاستطلاعات تشكل الواقع وصار هذا الواقع المتشكل هو الحقيقة، بل الحقيقة الأكثر ديمقراطية التي لم يعرف لها التاريخ نظيرًا من قبل.. يقول كونديرا وعلى الرغم من أنّني أعلم أنّ كل شيء إنساني يلحقه التلف، فإنّني لا أستطيع أن أتصور قوة بمقدورها أن تحطم هذه السلطة.

وهكذا فقد تحولت المآسي وقصص الموت إلى أخبار وتسلية ليست فظيعة إلا بالنسبة إلى من ماتوا والمقربين منهم، الموت في الأخبار الإذاعية يأخذ المعنى نفسه الذي يتخذه في روايات أغاثا كريستي، هذه الكاتبة التي تعد أكبر ساحرة في التاريخ لأنّها عرفت كيف تحول القتل إلى تسلية، ليس فقط قتلاً واحدًا بل مئات جرائم القتل المتسلسلة المرتكبة بقصد إمتاعنا، نسيت المحارق ومعسكرات الإبادة لكن محارق أغاثا كريستي ستظل ترسل دخانها إلى الأبد، ولن يزعم أنّه دخان مأساة إلا رجل بالغ السذاجة.

هناك كثير من البشر وقليل من الأفكار، فكيف السبيل ليتميز البشر بعضهم عن بعض؟ ولأجل ذلك ربما أعلنت الشابة أنّها تحب الحمامات الباردة والمتغطرسين حتى تبدو مختلفة ومتميزة.

الإنسان لم يعرف منذ بداية تاريخه غير التراجيديا وهو عاجز عن الخروج من هذا العالم، ولا سبيل لإنهاء عهد التراجيديا إلا بالتفاهة، لم يعد الناس يعرفون من تاسعة بتهوفن سوى المقاطع المصاحبة لإعلان عطر "بيلا"... إنّ التفاهة علاج جذري للنحافة، بفضلها تفقد الأشياء تسعين في المائة من دلالتها وتصير خفيفة، وبتخفيف الأجواء سيختفي التعصب، وتصير الحرب مستحيلة.

الحرب والثقافة هما قطبا أوروبا، وهذا الانحراف الأوروبي المسمى تاريخًا أنتج الثقافة الرفيعة، ولا سبيل إلى الفصل بينهما، إنّ زوال أحدهما يعني زوال الآخر فيختفيان معا، فخلو أوروبا من الحروب مرتبط على نحو غريب بكوننا لم نعرف منذ خمسين سنة شخصًا مثل بيكاسو.

التناقض في حدّ ذاته ينتمي إلى الثقافة الرفيعة، وهذا يذكر بالشباب الذين كانوا ينتمون الى النازية أو الشيوعية ليس بدافع الرغبة في الإيذاء، ولا بدافع الوصولية، ولكن بسبب ذكائهم المفرط، لا شيء في الواقع يستنفد مجهودًا فكريًّا أكثر من حجاج يتوخى تبرير اللافكر، .. كان المثقفون يدخلون كالعجول إلى الحزب الشيوعي الذي ينتهي بتصفيتهم جميعًا وبغبطة وبشكل منهجي.

كان بول يعلم أنّ حداثة الغد ستكون مخالفة لحداثة اليوم، وأنّ على المرء انسجامًا مع متطلبات الحداثة الأبدية أن يعرف كيف يتخلى عن مضمونها المؤقت، مثلما عليه أن يعرف كيف يتنكر لأشعار رامبو، ففي سنة 1968 بباريس رفض الطلبة العالم كما هو، عالم الرفاهية السطحي، عالم السوق والإشهار، عالم ثقافة الجماهير البليدة التي تحشو عقول الناس بميلودراماتها، عالم المواضعات، عالم الأب.

قضى بول في هذه الفترة أيامًا خلف المتاريس، وصدح صوته بجسارة، ولم يكن ثمة شيء يستطيع إحباط عزيمته، اعتمد على الذراع التي مدها له التمرد الطلابي وراح يبتعد عن عالم الآباء لكي لا يبلغ سن الرشد إلا وهو ابن الخامسة والثلاثين، .. ثم انساب الزمن وكبرت ابنته، وارتاح للعالم كما هو، عالم التلفزة والروك والإشهار وثقافة الجماهير والميلودرامات، عالم المغنين والسيارات والموضة والمتاجر الفاخرة ورجال الصناعة الأنيقين الذين صاروا نجومًا.

المجد ليس وقفًا على المشاهير، فكل شخص يعرف ولو لمرة واحدة ويشعر ولو للحظة في حياته بما شعرت به غريا بغاربو أو نيكسون أو نمر مسلوخ، وكان فم الإعلامي برنار الفاغر يضحك في الصور المعلقة على كل جدران المدينة، وكان ذلك يشعره كما لو أنّه مربوط إلى عمود التشهير: ينظر جميع الناس إليه ويتفحصونه ويحكمون عليه، .. لولا لمسة الجنون لما استحقت الحياة أن نحياها.. لماذا نقلّب كل تصرف من تصرفاتنا فوق مقلاة العقل كما تقلب فطيرة؟

يفترض أنّ الحضارة الأوروبية قائمة على العقل، لكن يمكن القول إنّ أوروبا حضارة قائمة على العاطفة أيضًا: فهي خلقت نمطًا إنسانيًّا أود أن أسميه الإنسان العاطفي.

تفرض الديانة اليهودية على معتنقيها قانونًا تزعم أنّه يدرك بالعقل، فالتلمود تفكير عقلي دائم حول التعاليم التوراتية، فهي لا تتطلب من المؤمنين بها حسًّا غامضًا بالخوارق ولا طاقة خاصة ولا شعلة صوفية تلفح الروح، معيار الخير والشر موضوعي: هو القانون المكتوب الذي يتعين فهمه وملاحظته.

تنشأ العاطفة بداخلنا في غفلة منا وغالبًا ما يكون ذلك ضد إرادتنا، وبمجرد ما نتعمد الإحساس بها (بمجرد ما نقرر الإحساس بها كما فعل دون كيخوته حين قرر أن يحب دولثينيا) لا تعود العاطفة عاطفةً، بل تتحول إلى محاكاة عاطفة، وإلى استعراض لها، وهو ما يعرف عامة بالهستيريا، لهذا فإنّ الإنسان العاطفي هو بعبارة أخرى ذلك الذي رفع العاطفة إلى مقام القيمة؛ هو شبيه في الواقع بالإنسان الهستيري.

إنّ المفهوم الأوروبي للحب متجذر في تربة الحب الخالي من الجماع، ولم ينجح القرن العشرون الذي يتبجح بتحرير الجنس، ويسخر من العواطف الرومانسية في إعطاء الحب معنى جديدًا، (إنّه إحدى إخفاقات هذا القرن) بحيث أنّه لما ينطق شاب أوروبي هذه الكلمة العظيمة يجد نفسه محمولاً على أجنحة من البهجة، شاء ذلك أم أبى إلى النقطة التي عاش فها فورتر حب لوت، وحيث كاد دومينيك أن يسقط عن صهوة جواده.

يقول لما تلقيت الرسالة الأولى من فرنسا وأنا في براغ، وختمت السكرتيرة في دار غاليمار للنشر بالقول أرجو سيدي العزيز أن تتقبلوا أصدق المشاعر المتميزة، طرت فرحًا وقلت في نفسي توجد في باريس امرأة تحبني، وهي لا تشعر نحوي بالحب فحسب، بل تشير صراحة إلى أنّها مشاعر متميزة، لم أسمع مثل هذا قط من امرأة تشيكية.

هناك حضارات تفوقت على الحضارة الأوروبية من الناحية المعمارية، وستبقى التراجيديا الإغريقية إلى الأبد لا تضاهى، غير أنّه لم تنجح حضارة من الحضارات في أن تخلق من الصوت تلك المعجزة المتمثلة في تاريخ الموسيقى الأوروبية العريق، بكل غناه الشكلي والأسلوبي! أوروبا: موسيقى عظيمة وإنسان عاطفي، إنّهما توأمان ينامان جنبًا إلى جنب في المهد نفسه.

الانتحار

الفتاة التي حاولت الانتحار، جلست في الطريق ووضعت رأسها بين راحتيها منتظرة أن تدوسها سيارة، لماذا قررت أن تنتحر؟ يجيب كونديرا الانتحار ليس رغبة ناتجة عن سبب خارجي، بل تنمو في تربة كينونة المنتحر، نمت ببطء ثم تفتحت كزهرة سوداء، نمت فيها الرغبة في تدمير الذات ببطء، وفي يوم من الأيام لم تعد تقوى على المقاومة، أتخيل أنّ المظالم التي حلت بها لم تكن قاسية، لكنها كانت تتعرض للمظالم والإهانات الصغيرة باستمرار، لمّا يحل الشرّ بالإنسان يسارع إلى عكسه على الآخرين، وهذا ما نسميه خصامًا أو شجارًا أو ثأرًا، لكن الضعيف لا يملك القوة اللازمة لعكس الشرّ الذي يصيبه، فيشعره ضعفه بالخزي والقهر، ويظل عاجزًا إزاءه، ولا يعود أمامه إلا تدمير ضعفه عبر تدمير ذاته، وهذا ما حصل للفتاة.

إنّ الموت الذي كانت تتوق إليه ليس اختفاءً، بل نبذًا، نبذًا للذات، لم تشعر قط بالرضا على يوم من أيام حياتها، ولا على كلمة تفوهت بها، كانت تحمل نفسها خلال الحياة كعبء ثقيل تمقته، غير قادرة على التخلص منه، لهذا  كانت تتوق إلى رمي نفسها مثل ورقة مكمّشة، مثلما يلقى بتفاحة متعفنة، كانت ترغب في الإلقاء بنفسها كما لو أنّ الملقي والملقى به شخصان متباينان، كانت تتخيل نفسها ترمي بنفسها من النافذة، لكن الفكرة بدت لها سخيفة لأنّها كانت تقطن بالطابق الأول، وحتى المتجر الذي كانت تعمل فيه كان في الطابق السفلي وليس له نوافذ، كانت تتوق إلى الموت بلكمة قوية تصدر صوتًا شبيهًا بالصوت الصادر عن سحق خنفساء كبيرة، إنّها رغبة جسدية في الانسحاق شبيهة بالحاجة التي يشعر بها المرء في الضغط براحته على موضع مؤلم في جسده.

لما كانت تتوجه بالخطاب إلى الآخرين لم يكن أحد يسمعها كانت بصدد فقدان صلاتها بالعالم، وأنا أقصد بلفظ عالم ذلك الجزء من الكون الذي يستجيب لنداءاتنا (حتى ولو كان ذلك بصدى لا يكاد يسمع) والذي نسمع نحن أيضًا نداءاته، كان العالم بالنسبة إليها يتحول شيئًا فشيئاً إلى كيان أخرس، ويكف عن أن يكون عالمها. كانت تبقى منكفئة على ذاتها وغارقة في عذابها، هل كان بوسعها على الأقل أن تنتشل نفسها من عزلتها عبر رؤية عذاب الآخرين؟ كلا، لأنّ عذاب الآخرين كان يحدث في عالم انقطعت صلتها به، عالم لم يعد عالمها، فلو كان كوكب المريخ كله عذابات وحتى لو أنّ كل صخوره تصرخ ألمًا فلن يؤثر ذلك فينا، لأنّ المريخ لا ينتمي إلى عالمنا، إنّ الإنسان الذي انفصل عن العالم يفقد الإحساس بآلام العالم، والحدث الوحيد الذي انتشلها للحظة من عذابها هو مرض كلبها الصغير وموته.

ولكن ما حدث أنّ الفتاة لم تمت وماتت إنييس، .. وأسائل نفسي الآن وبخوف ورهبة من الإجابة هل كانت إنييس تريد الانتحار؛ وكانت الفتاة تريد الحياة؟