روايةٌ تكتُبُ الإرهابَ بِيَدٍ مُرْتعِشةٍ


فئة :  مقالات

روايةٌ تكتُبُ الإرهابَ بِيَدٍ مُرْتعِشةٍ

روايةٌ تكتُبُ الإرهابَ بِيَدٍ مُرْتعِشةٍ([1])

بقلم: عبد الدائم السلامي

في البداية، لا بد من التذكير بأنه مهما اختلفت القواميسُ في حَدِّ الإرهابِ وذِكرِ أنواعه (حكومي، ثوري، فئوي، طائفي، ...)؛ فإنّ أخطرَ ما فيه هو أنه يُفْنِي ولا يموتُ، لكأنّه كائنٌ بأرواحٍ سَبْعةٍ؛ فهو حاضرٌ في التاريخ البشريّ منذ بداياته إلى الآن، ويتحرّك فيه مدفوعًا بطاقتيْن: طاقة مَحْوِ الآخَرِ بالتخفّي والمباغتة، وطاقة سَرْدِ ذاك المَحْوِ بالإعلانِ. وهما طاقتان لطالما مثّلتا بالنسبة إليه سبيلَه إلى تجديدِ دمائه على الأرضِ، ومكّنتاه من أن يُسكِتَ ببلاغةِ عُنفِ حكايتِه حشودَ الآدميين، وأن يترحّلَ بيُسرٍ من حيِّزِ الطارئِ المفاجئِ إلى حيِّزِ المُمْكنِ المألوفِ، ومن فضاء الواقع إلى فضاء الغيبِ، كاتِبًا بذلك روايةً تخترق الجغرافيات والثقافات، فيها تمجيدٌ لقتلِ الناس وترهيبِهم بحُججٍ تَوَهُّميّةٍ يُلغي فيها الدّينيُّ الواقعيَّ ويَحُلّ مَحَلَّه، بدعوى أنه صانعُ حقيقةِ الشعوب ومانحُ أجوبةٍ مناسبةٍ لكلّ أسئلتها، وهي روايةٌ تبدو في الراهن العالميِّ أكثرَ تقبُّلاً من روايات المبدعين.

أولا: سرديّةُ الإرهاب

الحقُّ أنّ الإرهابَ ليس ظاهرةً يمكن للناس مراقبةُ تفاصيل تجلّيها أو تصنيفُها ضمن معنى النّادر من الأحداث، وإنما هو حكايةٌ تتغذّى على الواقع، فهو إذْ يقتل بعضَ الأفرادِ قتلاً باسم الله على غرار ما حدث مؤخَّرًا في مناطق من العالَم عديدةٍ يُحوِّلُ الباقين منهم إلى موتى، وهم أحياء: حيث يُفرِغُهم من طمأنينتِهم في الأرضِ ويملأُ لحظتَهم خوفًا منه ورهبةً، وذلك عبر ما يبثُّ لهم من صُوَرٍ له ومشاهدَ هوليوديةٍ أكثرَ إيلامًا من أصلِها الواقعيِّ، كأنّما هي الجحيمُ (على غرار مشهد حرق الطيّار الأردني معاذ الكساسبة). فإذا الناسُ واقعون تحت سياط دَلالات تلك الصّور، يعيشون وقتًا هَذَيانيًّا مفتوحًا على فضاءِ الرِّيبةِ والترقُّبِ، وإذا عملياتُ الإرهاب تزلزل الأرضَ من تحت أرجلهم زلزلةً يتردّد صداها على أذهانهم مُوَقَّعًا بـ"الله أكبر".

ومع كلّ صيحةِ "الله أكبر"، تتضخّم سرديّةُ الإرهابِ، وتستشري محكيّاتُها في العالَم خبرًا وتحليلاً وتأثيرًا، بفضل ما تُشحَنُ به من حُمولةٍ غَيْبيةٍ فيها من لذائذ الجَنّة ما يبدو أحلى من الجَنّة، وفيها من الثَّوابِ ما يُرغِّبُ في قتلِ الأبرياء، ومن ثَمَّ تتّسعُ في تلك المحكيّات دوائرُ التخييل، ويكثر مُتَلَقُّوها من المُهمَّشين والمقهورين، بل وحتى من خرّيجي الجامعات الذين أضعفت مجتمعاتُهم كياناتِهم وأفقدتهم مكاناتِهم.

ولا تُخفي وقائعُ معيشنا الراهن حقيقةَ أنّ الجهودَ السياسيةَ والعسكريةَ المبذولةَ لمكافحةِ الإرهابِ لم تُحقّق غاياتِها، ولم تنجح إلا في تَحْيِيد بعض الإرهابيّين، وخَلقِ ما سمّاه جون كلود شينيه "سُوق الخوف"([2]) ؛ تبتزّ فيها دولٌ كبيرةٌ أمنَ دُولٍ صغيرةٍ وثرواتِها واستقلالَها، وهو ما قد ساهم بشكل ضمنيّ في النَّفْخِ على جَمرةِ الإرهاب، وإذْكاءِ جِذْوَتِها في أذهان كثيرٍ من الفئات الاجتماعية.

ولمّا تبيّن أهلُ الفكرِ أنّ العنف لا يغيِّرُ أحوالَ الواقع، وإنّما هو يزيد من بؤسها، اشتدَّ فيهم نزوعُهم الإبداعيُّ إلى تفكيك بنية الإرهاب، ضمن سرديات مضادّةٍ وناسفةٍ لمشروعياته الموهومة، وحاملةٍ لأنموذج إتيقي، فيه دعوةٌ إلى ضرورةِ الانحياز إلى القِيَم الضامنة للعيش المشترَك السعيدِ.

وفي هذا الشأن، لا نعدم ظهور أعمال سرديّة أنْصَتتْ جيّدا لحركة واقعها، وتنبّأت بما سيكون فيه من نَبْتٍ فاسِدٍ، حيث كتب الأمريكيّ "دون ديليلو" بحسٍّ فنيٍّ استشرافيٍّ رواية "لاعبون"([3]) سنة 1977، وعَرَض فيها صورةً لتفكّك المجتمع النيويوركي، وتنامي تشوُّهاته القِيَمية ورتابة معيشه اليوميّ وعبادته المالَ والأعمالَ.

وتدور أحداث هذه الرواية حول مآل علاقةِ الزوج "ليل" العامل بوُول ستريت برفيقته "بامي" التي تعمل بأحد برجيْ مركز التجارة الدولية بمنهاتن، إذْ تتسع الهُوّة العاطفية بينهما، وتكثر خيانتُهما لبعضهما بعضًا، وهو ما أفسحَ المجال لظهور شخصياتٍ أخرى عمّقت تلك الهُوّةَ، وتدرّجت بها من الشخصيّ إلى العامِّ من خلال استقطاب الشابة "روزماري" للزوج "ليل"، وإخبارها له بأنها تُعدّ مع مجموعة من الإرهابيّين لعملية تفجير برجيْ مركز التجارة العالمية، وهو ما تحقّق فعلا خلال أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.

وفي السياق ذاته، ظهرت في العشريتيْن الماضيتيْن روايات عربية كثيرة أعلنت الحرب على الإرهاب بأدواتٍ فنيّةٍ، وانصبَّت فيها غايةُ كُتّابِها على فضحِ تهافُتِ مقولات التطرّف الدّينيّ وتهشيمِ بُنْيانه في المتخيَّلِ الجماعي، وإنْ اختلفت درجات ذاك التهشيم من جغرافيا إلى أخرى، ومن كاتب إلى آخر.

وإنّ ما أمكن لنا الاطلاع عليه من روايات عربية متصلٌ موضوعُها بالإرهاب يكشف عن رغبة المبدعين في الإيفاء بوظائفهم الحضاريّة عبر انحيازهم إلى القِيَم الكونية بوصفها فضاءً للوجودِ الحُرّ الكريم، غير أنّ اللافت للنظر هو أنّ تفاعل المبدعين مع هذه الثيمة قد نالَه تنوّعٌ، سواء أكان على مستوى تمثُّلِها أم على مستوى الطرائق الفنية المستعمَلة في كتابتها.

ووَفْقًا لما سبق، يجوز لنا القول إنّ المشترَكَ العامَّ في هذا التفاعلِ قد وقف بأغلب الروايات عند مستوى توصيف أثر الإرهاب في الفرد والأسرة والمجتمع، أي إنّ تلك الرواياتِ، أعني أغلبَها([4])، قد وقفت بجهدها الإبداعي عند تأريخ لحظتها الراهنةِ بوفرةِ عُنفِها الإرهابيّ دونما استشرافٍ منها لإمكانيات ظهورِ هذا الإرهاب في الواقع، ودون تُفكيكٍ لمنظومتِه الفكريةِ، بجميعِ حُجَجِها الدينيّةِ وإغراءاتِها الفِرْدَوْسيّةِ، كما لا نجد فيها اقتراحَ أنموذَجٍ لوعيٍ ثقافيٍ واجتماعيٍّ وسياسيٍّ، يُمكِّن من مقاومةِ هذا الإرهابِ.

ثانيا: وحشٌ في الرواية

بقدر ما اعتنت الروايات التونسية الصادرة حديثا بمناقشة ثيمات السجون والعنف السياسي والمقدَّسِ وحال المرأة والثورة والحريّة، لم تُقْبِلْ على التعاطي مع تيمة الإرهاب إقبالَ كثيرٍ من الروايات العربية عليه، وما ذكِرَ فيها من إرهابٍ، إنّما هو إحالاتٌ على وقائع إرهابيةٍ، حتّى لكأنّ وحشَ الإرهابِ قد نجح في إخافة الروائيّين، وتمكّن من زرع الرُّعب فيهم، وجعل أيديهم ترتعش كلّما حاولت كتابتَه.

وإنّ بحثًا في أمْرِ ما كُتِبَ عن الإرهاب في الرواية التونسية، يوقفنا على وجودِ روايتيْن تمكّنتا من الخوضِ في موضوع الإرهاب باقتدار فنيّ وبوعيٍ ثقافيّ، وإنْ بَقِيَتَا تتحرّكان ضمن محور تفسيره، أُولاهما بعنوان "غِلالات بين أنامل غليظة"([5]) للكاتبة عفيفة سعودي السّميطي، وثانيتُهما موسومةٌ بـ"أرصفة الضَّباب أو الطريق إلى داعش"([6]) للكاتبة منيرة درعاوي.

ينعقد السرد في رواية "غِلالات بين أنامل غليظة" حول حكاية أسرة تونسيّة تتكوّن من الأمّ "سحر" والزوج "عبد الله" والابن الضرير "عمر". تُخلِصُ "سحر" جهدَها لعملها الصحفي، ويستغرق زوجُها كلّ وقته في العمل السياسي، وهو ما سبّب له تصدُّعًا في حياته الأسرية وانتهى به إلى الالتحاق بإحدى خلايا تيّارٍ سلفيّ جهادي صحبة قريبه "زيد"، بعد أن تمّ تجنيدهما من قبل الإرهابيّ "طلحة"، وتأهيلهما للقيام بأعمال انتقامية. وإذّاك، لم يبق للأمّ من خيارٍ حياتيٍّ سوى الاعتناء بابنها الضرير، دون أن تفقد أملَها في عودة زوجها إليها يومًا ما.

يقع هذا الزوج في الأَسْر على إثر عملية إرهابية، ويتمّ سجنه زمنًا، ثُمّ إنه يتمكّن من الفرار من سجنه، ليُعلن ارتدادَه عن ميوله الإرهابيّة، وينشغل إذّاك بالبحث عن دفء أسرته وعن شعور الأبوّة فيه بعد أنْ كان أضاعه بسبب انشغالاته السياسية.

ولا يَخفى على قارئ هذه الرواية، أنّ كاتبتَها تعمّدت جعل الابن "عمر" ضريرًا، ليكون كنايةً بليغةً عن أنّ "زواجًا بالإرهاب لا يثمر إلّا العمى ولا يمكن أن يثمر نسلا سويّا" على حَدّ عبارة الدكتور محمد الباردي.

وتقدّم رواية "أرصفة الضَّباب أو الطريق إلى داعش" صورةَ شابٍّ تونسي خرّيج إحدى الجامعات يُدعى "رمزي عبد الرحمن"، ضاقت به السُّبل، وحاصره الفقرُ بعد أن فشل في اجتياز مناظرة التدريس، فلم يجد من حلٍّ سوى الزواج بعجوز إيطالية والرحيل معها إلى بلادها.

بعد عشر سنوات، يكتشف رمزي أن زوجتَه قد أخفت عنه كل رسائل أهله إليه، فينتابه غضبٌ شديد ينتهي به إلى قتلها. وحينئذٍ يتكفّل صديقه الجزائري "ميلود" بتهريبه من إيطاليا إلى ليبيا، هناك تسلَّمَه معسكرٌ من معسكرات داعش، ليستخدمه في نشاطاته الإرهابية المدعومة سِرًّا من جهات خارجيةٍ عديدةٍ. حينها يتنبّه هذا الشاب إلى حقيقةِ أنّ أربابَ المال هم الذين يلوذون بفكرةِ الله وسذاجة الناسِ سبيلاً إلى إنجاز مشاريعهم السياسية والمالية.

وفي هذا الشأن، تذهب الكاتبةُ منيرة درعاوي إلى اعتبارِ الدِّين في روايتها أحبولةً حاكتها أصابع غِيلانِ الاقتصاد والسّياسة، وبها اقتنصت العقولَ والمداركَ، لتتمكّن من رسم معالِمِ العالَم الجديدِ الذي يخدم استراتيجيّاتِها ومخطّطاتِها الجيو- سياسيّة؛ فأضحى اللّه، بما هو الخيرُ المطلَقُ والسّلامُ المطلَقُ، الطُّعْمَ المثاليَّ للإيقاع بأجيالٍ عاشت طغيانَ النُّظم السّياسيّة في بلدان ترزح منذ آماد طويلة تحت حُكم الرَّجُلِ الواحدِ والحِزب الواحدِ، في مجتمعاتٍ جُفِّفت كلُّ منابعها الثقافية والعقديّة فما عادت تعرف عن هويّتها ودينها، إلاّ ما تُمرّره القنواتُ الفضائيّةُ أو شبكات التّواصل الاجتماعيّ من تمثُّلاتٍ وحركاتٍ تتّخذ لها أسماءً مشتقّةً من معجم دينيّ محضٍ، فهي "جند الله" حينا و"أحباب محمّد" حينا آخر، وهي في أحيان أخرى "عطر الجنّة" أو "عبير الفردوس". وما الدّين عند مُهَندسي العالَم الجديد غيرُ ورقةٍ لامعةٍ لتغليف إيديولوجيا محبوكةِ المراحل، ليس لها من هدف سوى خلقِ عالَمٍ يتقاتل فيه الناسُ مع بعضهم بعضًا بحُجّة الدفاع عن الدّين. فما معنى أن يُشهر أحدُهم سيفَه ليجزّ رأسَ أخيه مُهلّلا مكبِّرًا، بينما يصرخ ضحيّتُه ناطقا بالشّهادتين؟

من هذا المنطلق المأساوي، لم تكن "داعش" ـ بوصفها الأنموذج المثاليّ للإرهاب الدّينيّ ـ إلا وليدًا مُشوَّهًا لسياسةٍ قذرةٍ، واقتصادٍ ليبراليٍّ متوحِّشٍ، لا يريد غيرَ قطعان بشريّةٍ تستهلك ما يُقدَّم لها دون سؤالٍ ولا تمحيصٍ. وما معسكراتُ الصّحارى التي تطرّقت إليها الرّوايةُ إلاّ أورامٌ خبيثةٌ تفشّتْ داخل جسدِ الإنسانيّةِ قاطبةً، وأنهكت فيه القدرةَ على الحياة.

ما نخلص إليه من أمر علاقة الرواية العربية بالإرهاب هو ملاحظةُ أنّ حجمَ حضورِ ثيمة الإرهاب في رواياتنا العربية المعاصرةِ، أصغر من حجمِ حضورِه في واقعنا الراهن، وهي ملاحظةٌ متى نزّلناها في سياقها الثقافي تكشَّفَتْ لنا منها أمورٌ عديدةٌ، نذكر منها فجائية الحدث الإرهابي، وتنويعه من ملامحه وأمكنته وأزمنته تنويعًا يُصعِّبُ على الروائي عمليةَ التعاطي معه سرديا. يُضاف إلى ذلك، توفُّرُ نفرٍ من روائيّينا على ثقافة سلفيّةٍ لا تظهر في سلوكهم اليوميّ، وإنّما هي تهيج فيهم لحظة الكتابة مانعةً إيّاهم من الخوض في مسألة الإرهاب.

وإجمالا نقول: إنّ قراءةَ الروايات العربية التي ناقشت مسألةَ الإرهاب، تُخوّلُ لنا توزيعَها على فئتيْن: فئة أولى ينتصر فيها الإرهابُ على بطل الرواية، ولا يترك له من قدرة سوى الهرَب منه إلى أراضٍ بعيدة، تاركا شعبه يعاني الويلات على غرار ما نُلفي في بعض روايات واسيني الأعرج، وفئة ثانية تراهن على "توبة" الإرهابي وعودة الإرهابيّين إلى رشدهم على حدّ ما مرّ معنا من أمر بطليْ "غِلالات بين أنامل غليظة" و"أرصفة الضباب أو الطريق إلى داعش".

_______________________________________________________________

[1] - نشر المقال بمجلة ذوات العدد48

[2] - Jean-Claude CHESNAI : "Histoire de la violence en Occident de 1800 à nos jours", Ed. Robert Laffont, Paris, 1981

[3] - Don DELILLO: "Joueurs", Trad. Marianne Véron, Actes Sud, Paris 1993

[4] ـ نذكر من تلك الروايات على سبيل التمثيل: "المخطوطة الشرقية" لواسيني الأعرج، "رغبات ذاك الخريف" لليلى الأطرش، "خرفان المولى" لياسمينة خضرا، "فرانكشتاين في بغداد" لأحمد السعداوي، "رقص"، لمعجب الزهراني، "حماقة ماركيز" لعواد علي.

[5] ـ عفيفة سعودي السّميطي: "غلالات بين أنامل غليظة"، دار البدوي للنشر- تونس، 2014

[6] - منيرة درعاوي: "أرصفة الضباب أو الطريق إلى داعش"، الثقافيّة للنّشر، سليانة- تونس، 2017