زيجمونت باومن: بصدد نقد الأزمنة المعاصرة


فئة :  أبحاث محكمة

زيجمونت باومن:  بصدد نقد الأزمنة المعاصرة

زيجمونت باومن:

بصدد نقد الأزمنة المعاصرة

الحسين أخدوش

ملخص:

تتسم الأزمنة المعاصرة بكونها حالة حضارية مبنية على ثنائية الإنتاج والاستهلاك، وتتميز بفقدان الاستمرارية والثبات. وقد جعل التحوّل الدائم المقرون بغياب الإحساس بالسلام والطمأنينة هذه الأزمنة تتسم بسمة أساسية هي السيولة واللاتحدّد. ففي ظلّ ديمومة المؤقّت وغياب الإحساس بالأمن والطمأنة، يبدو أنّ الإشباع الفوري قد أصبح إستراتيجية مغرية ومعقولة لهذا الوضع البشري الهشّ، ومن ثمّ يكون أيّ شيء وقع في يد الإنسان إلاّ وتوجّب عليه استثماره واستنفاذه فورا، مادام لا أحد يعلم ما سيحدث غدا.

إنّها الأزمنة السائلة بالتوصيف الذي ارتآه لها «زيجمونت باومان»[1]، حيث قلق الحضارة، رغم تعاظم التجمعات البشرية المعاصرة وكبر حجمها، وبالرغم من كلّ ما تعجّ به الأمكنة من صخب وتجمهر البشر في المحطات المختلفة والساحات العامّة والملاعب والشواطئ، ورغم كلّ هذه الرفاهية الملحوظة، ظلّ هذا القلق متعاظمًا، بل وازداد الخوف وتمدّد ونما، متخذا أبعادا ثقافية وصحية خطيرة. فكيف يعالج هذا المفكّر الناقد للحداثة السائلة هذه الحالة الثقافية العامة التي تسم الأزمنة المعاصرة؟

يؤاخذ بعض الناس على العولمة كونها سرّعت من وثيرة استحكام النزوع الاستهلاكي، رغم ما لها من فوائد أخرى. لكن ارتكازها على اقتصاد المؤثّرات أفقد الحياة المعاصرة الثبات والاستقرار، حيث أصبح التحول الدائم في كلّ شيء مقرونا بالشعور بعدم الأمن والطمأنينة.[2] فقد غاب الإحساس بالأمن في ظل ديمومة هذا المؤقت، وبدا الإشباع الفوري طاغيا على الأذواق ممّا أفقد الحياة المعاصرة معناها الأصيل.[3]

تأثّرت الأزمنة المعاصرة بهذا الشرط الثقافي أيّما تأثّر، حتى أصبح يستوجب كلّ ما في متناول اليد الاستثمار والاستهلاك فورا؛ إذ لا أحد يعلم ما سيحدث في الغد. فالواقع أنّ طفرة العولمة أدت إلى تذويب الفضاءات والقيم والعلاقات والعواطف، ومن ثم تسليعها في صيغ نسبية لا نهائية من المنقولات التي يسوّق لها اقتصاد المؤثّرات - المحرّك الأبرز لهذا النزوع. لذلك، المستهلكون غالبا ما يلتقون في فضاءات استهلاكية مختلفة، كقاعات الحفلات الموسيقية وقاعات المعارض والمنتجعات السياحية ومواقع الأنشطة الرياضية والمجمعات التجارية والمطاعم، إلاّ أنهم في الواقع لا يحققون أيّ تفاعل اجتماعي أو تواصلي حقيقي. في ظل استشراء هذا النزوع، أصبح كل شيء قابل للاستهلاك يقوّم بسعر الدولار التي هي العملة المعولمة بامتياز؛ غير أنّ نعم العولمة الرأسمالية سرعان ما تحوّلت إلى وبالٍ على من لا يحوز هذه العملة.[4]

لقد تسيّد اللايقين المشهد، وسكن الخوف العقول والقلوب معا، ولا شيء أمكن فعله باطمئنان في زمن تسيّد النيوليبرالية الأمريكية؛ فالكلّ تحت ضغط الخوف من المستقبل ما لم يوفّر الربح الدائم. وهكذا أصبح العيش، بين وفرة متنوعة وأساليب عيش مختلفة، دون ضمان موثوق، بل غدا محفوفا بالمخاطر، حيث يتطلب ثمنا سيكولوجيا باهظا. فكيف يقارب باومن هذه الحالة الثقافية ضمن تصوّره لسيولة الأزمنة المعاصرة؟

[1]- ولد زيجمونت باومان Zygmunt Bauman)) في بوزنان، بولندا عام 1925 لأبوين بولنديين، يهوديين. خدم باومن في الجيش البولندي الأول الذي كان بقيادة سوفيتية كمدرس في العلوم السياسة. شارك في معارك كولبرج (كولوبرزيج حاليًا) وبرلين. وخلال عمله في فيلق الأمن الداخلي، درس باومن بدايةً علم الاجتماع في أكاديميّة وارسو للعلوم الاجتماعية. ثم ترك علم الاجتماع ودرس الفلسفة في جامعة وارسو. وفي عام 1954م أصبح مُحاضرًا في جامعة وارسو، حيث استقر بها إلى عام 1968م. خلال تواجده في قسم الاقتصاد في جامعة لندن، وعندما كان روبيرت ماكينزي المشرف عليه، جهز بومان دراسته عن الحركة الاشتراكية البريطانية، التي أصبحت فيما بعد كتابه الأول في مجال تخصصه. نُشر الكتاب باللغة البولنديّة عام 1959م، وتمّ تنقيحه وترجمته إلى الإنجليزيّة في طبعة ظهرت عام 1972م. استمر باومن في نشر كتب أخرى، منها كتاب "علم الاجتماع للحياة اليومية" باللغة البولندية عام 1964م، والذي وصل إلى شريحة شعبيّة كبيرة في بولندا، والذي شكل لاحقًا أساسًا لمقرّر باللغة الإنجليزيّة "تفكير بشكل اجتماعي" عام 1990م. مبدئيًا، كان باومن قريباً من المذهب الماركسي الأرثوذكسي، ولكن كان أيضاً متأثراً بأنطونيو غرامشي وجورج زيمل، حيث عُرف بعد ذلك بشكل واسع بأنه ناقد للحكومة الشيوعية البولندية. ولهذا السبب، لم يحصل أبداً على لقب الأستاذ حتى بعد أن اكتمل تأهيله لهذا. لكن بعد أن أوجد معلمه السابق جوليان هوفيلد منصب نائب مدير اليونيسكو لقسم دراسات علوم الاجتماع في باريس عام 1962م، ورث بومان كرسي هوفيلد. في نهاية التسعينيات، كان باومن عاملاً مؤثراً في حركة مضادة للعولمة، أو وبشكل آخر تغيير العولمة. في مقابلة له عام 2011م مع مجلة بولندية "بوليتكا"، انتقد باومن إسرائيل بقوله إن إسرائيل لم تكن مهتمه إطلاقًا بالسلام، بل كانت تستخدم الهولوكوست كعذر لشرعنة أفعالها المتوحشة. توفي باومن في 9 يناير 2017 عن عمر يناهز اثنتي وتسعين سنة نشر باومن الكثير من الكتب والمقالات والدراسات، ومن أهم هذه الكتب ندكر ما يأتي: الحداثة والإبهام؛ الحداثة والهولوكوست؛ الحرية؛ الأخلاق في عصر الحداثة السائلة؛ حياة بلا روابط؛ عن الله والإنسان؛ سلسلة السيولة، وتتضمن ما يلي: الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الحب السائل، الشر السائل، الخوف المسائل، المراقبة السائلة، الثقافة السائلة؛ إلخ.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[2]- زيجمونت باومن، الأزمنة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم ومراجعة هبة رؤوف عزت؛ الطبعة الأولى، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، 2017. ص 29

[3]- برنار نويل، الموجز في الإهانة، ترجمة محمد بنيس، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 2017، ص 75

[4]- Gilles Lipovetsky, Le Crépuscule du devoir; éd Gallimard, Paris, 1992, p.67