سؤال الهوية في عالم سكوني أزمة وجود


فئة :  مقالات

سؤال الهوية في عالم سكوني أزمة وجود

سؤال الهوية في عالم سكوني

أزمة وجود[1]

أسئلة كثيرة تلح على الأذهان:

ما هو الفعل الاجتماعي العربي لإنتاج الوجود، وحصاده المعنوي من فكر وثقافة قرين حصاده المادي من إنجازات تقانية، ويمثل ثمرة جهود فعاليات ذاتية للتكيف الحضاري على مدى قرابة الألف سنة الأخيرة؟ هل صنع العالم العربي على اتساعه تاريخا على مدى هذه القرون؟ هل أنشأ فكراً وثقافة على مدى هذا الزمن؟

قلت يوما، إن العالم العربي بكل بلدانه لم يصنع تاريخاً، ولم يبدع ثقافة جديدة، وليس له فكر اجتماعي جديد، وإنما رصد جهده وطاقته لتحقيق حلم عودة أو ردة إلى الزمان الماضي، وبعث الحياة في عصر ذهبي مضى زمانه.

ليس التاريخ امتداداً زمنيا فارغا من أحداث تجسد فعالية إبداعية منظمة وهادفة للمجتمعات، وإن تكرار حدث ما لا يمثل جديداً، ولا يصنع تاريخا، تماما مثلما أن تكرار فكرة برسمها ومضمونها لا يعني فكراً جديداً وإبداعا غير مسبوق. التاريخ هو اطراد فعل التغير الاجتماعي بإرادة اجتماعية حرة قدر الطاقة على مدى الزمان. التاريخ إنجاز وحركة واعية، وإبداع متجدد في توافق مع سهم الزمان الذي لا يرتد إلى الوراء، وليس أبداً البحث عن هوية في غيابات الماضي، لم تحدد عناصرها، ولا كيف نشأت، ولم تتفق الآراء بشأنها، بل هي حلم صاغه خيال عاطل عن الفعل، ولذلك غابت عنه وغامت صورتها، ولم يكتشف السائل أن الهوية هي ذاته الفاعلة، وليست فعالية مضى زمانها وأصحابها، ذاته الفاعلة في سياق حضارة العصر.

اخترنا الهوية في ادعاء مقولات تاريخية انتقائية، وقال البعض الإسلام.. أي إسلام نقصد وهناك العديد من المذاهب والفرق؟ وأية مقولات لأي مذهب إسلامي نلتزم بها دون سواها؟ أو لأي مفكر أو فقيه أو إمام؟ أم نحن فقهاء عصرنا؟

وما قبل ذلك منفي قسراً، وغير ذلك منفي اعتسافا، والجديد مرفوض فكراً، ولم يبق لنا غير الحنين المرضي إلى مقولات انتقيناها بعد أن مضى زمانها، فأضحت تهويما وتحليقا في فراغ الزمان والمكان، ونسينا أن الإنجاز الإبداعي الأهم والأكبر على مدى تاريخ الحياة على الأرض هو الحرية، حرية الإرادة والفعل، الحرية التي كما يقول دانييل دنيت: تطورت من حرية أولية Proto-freedom إلى أن بلغت ذروتها مرحليا في حرية مؤسسة على الإرادة والوعي والطموح إلى المستقبل...الحرية التي تجسدت ذروتها في نشأة وتطور الجهاز العصبي، ونشأة الثقافة، أي نحن البشر وآخذة في مسيرتها التطورية من إنسان حيوي إلى إنسان حيوي إلكتروني bio – electronic فائق القدرة والذكاء والفعالية.

لذلك، جمدت الحياة بهذا المعنى فوق أراضي البلدان العربية، هي اتساع أو امتداد مكاني، ولا فعالية أو إنجاز أو مشاركة. ومع عشقنا الفج للماضي نسينا أن الهوية هي الوجود الاجتماعي النشيط الفعال المتجدد المبدع، فهكذا تكون الأصالة، وهكذا تزدهر الأنا الاجتماعية أو الهوية، ومع التطور الاجتماعي وتغير الواقع تنشأ ثقافة جديدة، صورة جديدة عن الذات والعالم، بنية جديدة للنحن الاجتماعية لا تنفي السابق ولكنها تعلوه، تنفيه جدليا، بينهما اتصال وانفصال، وقطيعة معرفية تطورية.

الإنسان الأول أدرك هويته، عندما استخدم يديه والآلة لتحقيق وجوده، وعى فعاليته وقدرته على الفعل والتغيير، ورأى ذاته/ هويته في ما أنجزه، ودفعته الحاجة الاجتماعية مثلما دفعه الطموح المتفائل، إلى تطوير إنجازه وتطوير أداته وتراكم خبراته وأفكاره؛ أي إلى الإبداع، ومن ثم الثقافة والهوية الثقافية المبدعة التي رسخت في نفسه مشاعر الانتماء والأمان والأمل.

بدون ذلك، يلوذ العاطل المفلس من الفعل والفكر بالماضي، ويفقد الشعور بالأمان على وجوده والأمل في المستقبل، وتمضي القرون دون جديد، ويصبح وجوده/ هويته في خطر إن لم تنقذه فعالية جديدة، وخلفية ثقافية تعزز جهده، وتحشد طاقته لا من أجل إحياء الماضي، وإنما من أجل إبداع وجوده وخلق ثروته، وصوغ الأمل الجديد، والطموح في المستقبل.

إن المجتمعات حين تواجه كارثة وجود تهدد هويتها تسأل نفسها أحد سؤالين:

ما الخطأ فينا؟

أو من فعل بنا هذا؟

اليابان على سبيل المثال، واجهت كارثة تهدد وجودها إثر هجوم الأميرال البحري الأمريكي بيري عام 1853، وكان السؤال الطبيعي والخلاق الكاشف عن هويتها هو السؤال الأول: ما الخطأ فينا؟ وكانت الإجابة جهود النخبة وكل أبناء المجتمع الياباني من أجل مراجعة الذات فكراً وعملاً، وحشد الجهود من أجل إصلاحات جذرية في الموروث الفكري، وفي النظام التعليمي، وفي مؤسسات المجتمع بناء على دراسة وتحليل للواقع المحلي والعالمي ومظان الخطأ والتخلف وأوجه التصحيح، وشهدت البلاد صراعا حاميا بين دعاة التقليد ودعاة التحديث. جرى ذلك كله في عصر الطوكوجاوا الذي مهد لعصر الميجي – الإصلاح ونهضة اليابان التي نعرفها.

المأساة أن المجتمعات العربية في ظل واقعها الاستاتيكي/ السكوني اعتادت أن تسأل السؤال الثاني دون الأول، وذلك بحكم ثقافتها، ثقافة الكلمة لا ثقافة الفعل والتغيير، ثقافة الكلمة التي تعزز مشاعر النرجسية والفخار الأجوف، بعيداً عن اعتبارات الزمان والمكان، وقفزت بالأمل على الواقع إلى واقع افتراضي آخر متعال على الزمان والمكان، تحظى فيه بالنعيم والبركة.

ومع غياب النقد الذاتي، نتحدث دائما عن المؤامرة ضد هويتنا، ونحشد الجهود في الاتجاه الخاطئ، والفهم الخاطئ للدفاع عن هوية صاغها غيرنا.

وحيث إننا نوحد الماهّية والعقيدة، فإننا نريح أنفسنا بآلية معروفة، وهي الطرح خارجا externalization أي تحميل المسؤولية للآخر، ومن ثم توجيه الأنظار إلى الخارج دون الداخل، ونَغْفل عن عمد عن حقيقة أن الوجود صراع، والصراع يأخذ أشكالا متعددة، ونقنع بالحديث عن مؤامرات الخارج، والحال باق على ما هو عليه، وهو موقف يتنافى مع طبيعة البيئة السوية التي تتميز بما نسميه إعادة تنظيم الذات auto-regulation.

لقد اختلقنا شياطين حملناها مسؤولية جمود المجتمع ومسؤولية التخلف والتخلي عن هويتنا/ عقيدتنا التي لا نعرفها ولا نتفق عليها، ومن هذه الشياطين المدعاة والمصطنعة: شيطان العلمانية، وشيطان التنوير، وندعي إنها من بدع الغرب وضلالاته تماما، مثلما ادعى بعض الفقهاء ضد البيروني أنه مارق فاسق، لأنه يستخدم أسماء الشهور الإغريقية، ونسينا أن مفهوم العلمانية الذي يعني إعمال العقل في شؤون الدنيا أخذه الغرب عن بلاد المسلمين، وقتما كانت لهم حضارة، أخذه البروتستانت عن فتوى لابن رشد في كتاب الفتاوى "غابة المجتهد"، حيث قال إن الزمن نقيمه بالمال، وهذه قصة لا نزال نعيشها عن موضوع الربا أم الفائدة في التعامل مع البنوك.

وعلى ضوء ما سبق، نكون إزاء ثقافتين تمايزان بوضوح بين المجتمع الاستاتيكي/ السكوني، والمجتمع الديناميكي المتفاعل مع الواقع في سياقه الزماني المكاني، وهاتان الثقافتان أسميهما ثقافة الوضع، وثقافة الموقف وتتوزع بينهما المجتمعات، ولكن ليس على نحو قدري، بل تخضعان للإرادة الحرة الواعية.

ثقافة الوضع قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخي الموروث، والمعرفة عندها، أو قل العلم الأسمى، لا يتجاوز حدود تأمل هذا الرصيد، وأقوال الأولين، والأمل عود على بدء... ومن ثم عزوف عن الإبداع والتجديد. فشر الأمور المحدثات، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والزمان امتداد متجانس فارغ من الأحداث، إلا الحدث الأول، المنتقي انحيازا، فهو بداية التاريخ وغايته.

وثقافة الموقف إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار عزم على التغيير والتجديد، وفهم مجريات الأحداث والظواهر، وتراكم جدلي متجدد ومتطور لرصيد الخبرات والمعلومات والمعارف، ومن ثم تطور وارتقا ء مطرد للهوية الثقافية التي هي عين الفعل الاجتماعي النشط في الزمان، وليس السكوني والبحث النظري عن هوية مجهولة في غيابات التاريخ.

ثقافة الوضع تقف على قارعة طريق الحياة، تتأملها تجليات لإرادة من خارج. وثقافة الموقف تخوض غمار نهر الحياة الصاخب الدفاق، تتجدد وتتغير، وتبني وتتحدى، وتستجيب تأسيسا على الفهم والوعي والعقل الحر الناقد الفعال، إنها ثقافة إبداع الحياة وصناعة التاريخ.

ثقافة الوضع مثواها المجتمع الاستاتيكي/ السكوني، وهو مجتمع له خصائصه من حيث طبيعة مؤسساته الفكرية والسياسية والثقافية المحافظة، إنه أولا مجتمع تعطلت فيه أهم خاصيات الإنسان، ألا وهي فعالية إنتاج الوجود المتطور بالإرادة الحرة، وبالتالي تعطل الفكر والإبداع بكل صوره إلا ما هو شكلاني تجريدي، والزهو بعراقة الموروث الثقافي الاجتماعي، وهو ما يعني ثباته وجموده أمام التحديات، ورفضه الآخر، ورفضه لمبدأ التغيير والتطور، وكذا رفض التفاعل الفكري مع الآخر، بل ورفض الآخر؛ وحيث إن الرفض ينفي تماما فرصة التنافس والصراع بين الأفكار أحادية وشمولية النظر والفكر في استعلاء، ومن ثم فإن البديل ليس التفاعل والتجديد، بل العنف وقتل الآخر، قتله فكريا أو معنويا أو ماديا.

ولهذا، يؤسس المجتمع السكوني لقوانين وأعراف وشرائع ونظم حكم تحقق له هذا الغرض وتضمن له، في رأيه، الثبات والبقاء والاستدامة، ويصوغ هذه الأعراف والشعائر، كما يقول دافيد ديوتش في كتابه "بداية اللانهاية"، في صورة التابوهات أو المحارم، والتي تأخذ صيغة مقدسة، ووظيفتها الحيلولة دون التغيير، ويفرض المجتمع ذلك كله قسرا من خلال التنشئة والالتزام بالثقافة السائدة وتحريم وتجريم سواها. ويشرع المجتمع السكوني لإجراءات تقمع أي نقد للواقع الراهن، ويجري تطبيق ذلك من خلال تدابير في التنشئة في الإعلام والتربية والتعليم. وتؤكد على أن الفضيلة الكبرى هي الطاعة والتجانس وعدم المروق. ويقترن هذا كله بإجراءات ثقافية تهدف إلى تعجيز وتعطيل أي مصدر لتوليد أفكار جديدة؛ أعني وأد روح الإبداع منذ الطفولة.

ويتمثل هذا كله في نسيج واحد اسمه التراث والتقليد الذي يخلق مزاجا اجتماعيا يضيق بالخروج عنه، ويصوغ بنية ذهنية أيديولوجية تتفكك وتنحل عند أية مواجهة ولا حماية لها سوى صد الأبواب أمام الآخر، ويشب أبناء المجتمع أسرى منظومة ثقافية جامدة للحكم على أنفسهم وعلى الآخرين مع شعور زائف بالاستعلاء. وقد لا يقنعون بذلك، بل يتشددون ويرون أن رسالتهم إبلاغ وهداية الآخر طوعا أو إلزامه قسرا وكرها بإطارهم الثقافي، أو يستثمرون في سبيل ذلك ما هو مقرر لديهم من جزاءات أو توابات مرجأة ضمانا لاستدامة الموروث التقليدي والتعبئة العاطفية ضد المخالفين، وهو ما نجده واضحا ومجسدا في الكثير من النزاعات والحروب الطائفية في عديد من البلدان.

وطبيعي أن تكون السلطة / السياسية أو الدينية تجسيدا لهذه الثقافة، فتسود ثقافة التسلط أو الاستبداد.. الاستبداد السياسي، واستبداد الثقافة والفكر، استبداد يمارسه الجميع تاريخيا، أفراد وجماعات وسلطات. ويقترن باعتقاد يؤكد أن الهوية هي العقيدة، وأن أي مساس بها هو اعتداء على الذات/ العقيدة، والدفاع عنها دفاع عن شرف وجود الذات/ العقيدة، ومن باب التقية والأمان حظر كل المعارف المخالفة الوافدة من الخارج أو تلك يبدعها عقل محلي. وتعيش هذه المجتمعات في حالة من الانفصام، تقنع بالبقاء، ولكنها تنعم بإنجازات الآخر، وهي إنجازات تحمل قيم أهلها، ولكن لا بأس من استعمالها قصد التباهي والتفاخر. ونظن ظنا آثما زائفا أننا أبناء الحضارة الحديثة، وننسى أن الحضارة هي الإبداع العلمي التقني قرين الإطار الفكري القيمي الثقافي بفضل الفعالية الاجتماعية الذاتية على مسيرة التطور والتجديد، ولكن حالة الانفصام تبدو صارخة حين تتأمل كلام أبي الأعلى المودودي في كلمة له ألقاها أمام مؤتمر كراتشي عام 1967 بمناسبة مرور 14 قرنا على نزول الوحي: "ليس في الدنيا قديما وحديثا كتاب كالقرآن، كان ولا يزال منطلق الإشعاع الفكري والروحي، بل والإشعاع الحضاري الإنساني على مدى العصور؟ فكان من إنجازات القرآن ما عرفه العالم كله من بناء للحضارة، وتنمية لمختلف أنواع العلوم والمعارف، لذا ليس عجيبا أن يقف نابليون مستغربا دهشا أمام هذه الإنجازات السلمية".

لا ريب في أن واقع حال المجتمعات الاستاتيكية شاهد صدق على الحقيقة، وحري أن نؤمن بأن السبيل الوحيدة لإنقاذ أنفسنا من أزمة الوجود التي امتدت قرونا هو فهم وتفسير حالنا موضوعيا في ضوء منهج علمي، وإدراكنا لتاريخ تطور الحضارات والأديان، وأن البشرية الآن تعيش حضارة عالمية ذات بنية شبكية، ولنا أن نختار أن نكون عنصرا فاعلا ومشاركا، أو أن نكون أشبه بمنطقة معطلة في مخ كوكبي. حضارة العصر هي أيضا حضارة الإنسان العام الذي يمارس حياته وفكره، ويختار طريقه بإرادة حرة في تفاعل إيجابي ووعي نقدي عبر شبكة عالمية، وعبر مدونات تتجاوز قيود الرقابة وتحكم السلطات، يحاور ويعرف، ولابد أن تتوافر لديه بفضل التنشئة والتعليم والمناخ السياسي، والقدرة على التفكير النقدي والثقة بالنفس وبأهليته. وليكن شعارنا في ضوء وسائل المعرفة المتاحة نحن فقهاء عصرنا...

ولكن حياة المجتمع السكوني وما يقتضيه من وصاية ونزعة تسلطية على جميع المستويات في الفكر والثقافة والسياسة، تأبى أن يكون مثل هذا الإنسان إنسانها، وهو ما يرسخ أزمة الوجود التي لن يحسمها تكرار تعاليم التراث، ولن يفيد معها غلق الأبواب والمنافذ التي انتهي عصرها.

ليكن هدفنا تأملا علميا نقديا لحياتنا ابتغاء الحقيقة العلمية، لأن البناء لا يقوم على كذبة أو ادعاء زائف.

[1] - مجلة ذوات العدد41