سلطة الفرد وسلطة القانون


فئة :  مقالات

سلطة الفرد وسلطة القانون

سلطة الفرد وسلطة القانون

تمكنت أوروبا بعد مئات السنين من الصراع بين قوى التسلط الديني والقوى الليبرالية من إحداث التغيير الجوهري والعميق في بيئتها المركزية؛ فقد تمكنت من جعل الليبرالية والعلمانية قاعدتي ارتكاز لبيئتها الجامعة التي تضم كافة الأنظمة المسيرة لها، وقد يختلط على الكثيرين التمييز بين المصطلحين اللذين يمثلان عمودي الحضارة المعاصرة بقيادة الغرب الأطلسي الأوروبي والأمريكي؛ فالليبرالية عبارة عن منظومة الحريات في المجتمع، كالحريات الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية، وهي منظومة تتصف بالتطور والتوسع بناء على تطور بيئتها الحاضنة. أما العلمانية، فهي نظام العلاقة بين الأنظمة المسيرة للبيئة، فالمجتمعات البشرية المعاصرة تنظم شؤون حياتها عدة أنظمة كالنظام السياسي والقانوني والنظام الديني والنظام الاقتصادي والنظام الثقافي، وجميعها تتفرع منها تكتلات ومؤسسات تقوم على هياكل أيديولوجية ومعرفية متباينة، والعلمانية مهمتها تنظيم العلاقة بين هذه الأنظمة على أساس الفصل والاستقلال وعدم هيمنة نظام على آخر، على نقيض البيئات الشمولية الحديدية التي تقوم على التولتارية والقمع والتسلط، حيث يهيمن مثلا نظام أيديولوجي على كافة الأنظمة (كوريا الشمالية مثالا) أو يهيمن النظام الديني على البيئة (أفغانستان مثلا) أو يهيمن النظام السياسي على الأنظمة الدينية والاجتماعية والثقافية كما في الكثير من بلدان العالم الثالث.

تقوم العلمانية الليبرالية في الغرب على تنظيم العلاقة بين أنظمة البيئة الإنسانية، وأهمها العلاقة بين النظامين الديني والقانوني؛ وذلك بتحييد الدين كسلطة قانونية وإيكال الالتزام بتعاليمه وأحكامه (أي قوانينه النافذة) إلى الفرد والأسرة والمجتمع، بينما في المجتمعات العربية لا تزال القوانين الدينية والقيمية جزءا من القانون العام بتفاوت بين بلد وآخر؛ فالواجبات العبادية مثلا موكولة لسلطة الفرد ولا علاقة للقانون العام في شأنها في معظم البلدان العربية والإسلامية. أما المحرمات الدينية، وهي كثيرة جدا على مستوى الفرد، فتتفاوت بين بلد وآخر، فتناول المشروبات الروحية، وهو المثال الأبرز والأكثر جدلا، محرم في الإسلام تحريما قاطعا، إلا أن بعض الدول توكل أمر الالتزام بحرمته لسلطة الفرد على نفسه لا للقانون العام، وبعض الدول الأخرى للقانون العام، وممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج محظور في أغلبية البلدان العربية والإسلامية بحكم القانون العام لا سلطة الأفراد، وفي المسيحية محرم أيضا خارج الزواج، إلا أن الالتزام به في بلدان العالم الغربي موكول لسلطة الأفراد لا القانون العام. الألعاب التجارية كذلك، وفي مقدمتها القمار محرمة إسلاميا ويهوديا ومسيحيا، تحظرها أغلبية البلدان العربية والإسلامية بموجب قوانينها العامة، إلا أن مصر مثلا تجيزه لغير المصريين، ومحظور في القانون العام الإسرائيلي، ومسموح في أغلبية القوانين العامة في البلدان الأوروبية.

إذن ثمة ثلاثة مستويات للتعامل مع القوانين الدينية والقيمية في بلدان العالم المعاصرة؛ أولها تكليف الفرد والأسرة والمجتمع بها بغض النظر عن تلاقي بعضها مع القوانين العامة، والثاني إيكال بعضها للفرد وبعضها الآخر للسلطة العامة، والمستوى الثالث ضم معظمها للقانون العام وتقليص مساحة سلطة الفرد إلى أضيق الحدود كما في أفغانستان وكوريا الشمالية على سبيل المثال.

بطبيعة الحال، لا يمكن القول إن التنمية والبناء الحضاري والتفوق يقوم على الاختيار الأول؛ أي جعل القوانين الدينية والقيمية والاجتماعية وما في حكمها منوطة بشكل تام أو شبه تام بسلطة الفرد لا السلطة العامة كأول خطوة نحو الخروج من التخلف والالتحاق بركب الحضارة. من وجهة نظري يجب أن تكون طريقة التعامل مع هذه الإشكالية العويصة من خلال النظرة الواقعية الثاقبة لمتطلبات التنمية وشروط النهضة، فكلما وقفت القوانين الدينية والأعراف السائدة والقيم الراسخة والأنماط الثقافية المتجذرة في وجه التنمية، وجب إيكالها لسلطة الأفراد لا السلطة العامة، أتذكر أني كنت في بلد عربي ودخلت مركز تسوق كبير وكان لحم الخنزير متاحا، بطبيعة الحال حرمة شرائه وتناوله موكول هنا لسلطة الأفراد لا للسلطة العامة؛ ففي هذا البلد يعيش غير المسلمين ومن حقهم أن يمارسوا أنماطهم الاجتماعية والدينية، تماما مثلما يمارس المسلمون أنماطهم في بلدان المهجر، حيث المطاعم الحلال الخالية من لحم الخنزير والمشروبات الكحولية. إن الوصول إلى هذه المستوى المتقدم من الوعي وهذه المرحلة من الأفق الرحب من الحقوق والحريات، حيث توكل القوانين الدينية المعطلة للتنمية لسلطة الأفراد لا للسلطة العامة، يحتاج حقا إلى إجراء عملية جراحية صعبة في بنية مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فالدين بلا شك ليس عائقا أمام النهضة، ولكن السلطوية الدينية من أخطر عوامل رسوخ التخلف الحضاري والتهاوي الإنساني في المجتمعات المعاصرة.

يعتقد البعض أن الدين عندما يسقط كسلطة عامة في البلدان الغربية، فإن دوره سينتهي، وهذه مغالطة فادحة، فالدين قوي ونشط في المجتمعات الغربية؛ إذ لا يزال الرؤساء الأمريكيون يقسمون على الإنجيل ويتلقون مباركة رجال الكنيسة عند تبوئ مناصبهم، ولا يزال الملك في إنجلترا رئيسا للكنيسة الأنجليكانية، ولا تزال الكنيسة تمارس دورها الروحي والثقافي في مجتمعاتها؛ فالتغيير الجوهري الذي حدث في تلك الأمم هو تحول الكنيسة من السلطة العامة إلى سلطة الفرد والمجتمع، ومن مؤسسة سلطوية إلى مؤسسة مدنية، حتى المثلية الجنسية التي هي غير مقبولة ولا معترف بها في البلدان العربية والإسلامية وفي كثير من بلدان العالم كل الذي حدث في تلك البلدان أنها انتقلت من سلطة القانون العام إلى سلطة الأفراد، فسابقا كانت محرمة ومجرمة من جانب القانون العام، وانتقلت إلى سلطة الأفراد على أنفسهم وقبله كان تغيير الجنس، حيث كان القانون العام يحظره، إلا أن أمر إجازته وتحريمه انتقل بعد ذلك إلى الأفراد، فكل فرد يتعامل معه إباحة وحرمة وفق مرجعيته الدينية والقيمية.

هذا لا يعني أنه يجب أن نصل إلى هذه المرحلة المبالغة فيها من منح الأفراد السلطة على أنفسهم وتقليص السلطة العامة. إن هذه القضية الشائكة والمهمة جدا، والتي تعد حجر الأساس في الانطلاق الفعلي والحقيقي للتنمية في البلدان العربية، تشبه إلى حد ما إشكالية القطاع العام والقطاع الخاص، وإلى أي مدى يمكن أن تصل الخصخصة وملكية الأفراد واستقلالهم وتقليص القطاع العام أو العكس، إضافة إلى الصراع الخطير الذي قد يقع بين التيارات والقوى وذوي المصالح والنفوذ، مما ينتج عنه في أغلب الأحيان شيوع الاستبداد والسلطوية كنتيجة للفشل في إحداث التوازن المطلوب ووضع حلول عملية وإيجابية تضمن شق الطريق نحو التنمية والإعمار.

إن صيام رمضان مثلا عبادة موكولة للفرد، إلا أنها تتشابك مع الجماعة، وتتأرجح ما بين سلطة الفرد وسلطة القانون العام؛ فمعظم البلدان العربية والإسلامية تحرم الإفطار والشرب العلني في نهار رمضان، وهذه إشكالية كبيرة وقف عندها الكثيرون؛ فالصيام عبادة فردية، ولكنها تنعكس على المجتمع؛ لأن الجميع صائمون، وبالتالي فإن المناخ العام يتعاطى بشكل كبير جدا مع هذه الفريضة، وتتغير أنماط الحياة بشكل كبير ومثير في شهر رمضان في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، إلا أن تجريم المفطرين علنا أمر يحتاج إلى حوار قانوني وحقوقي مجزي؛ فالصيام عبادة فردية وتناول الطعام والشراب حق إنساني، وفي نفس الوقت فإن الإفطار العلني يجرح ويستفز فعلا. لذلك، فإن مراعاة كافة هذه العناصر سيؤدي حقا إلى إيجاد مخرج مناسب من خلاله يمارس الفرد حقه في الصيام دون التعرض لاستفزاز، باعتباره في النهاية عبادة فردية لا شأن للسلطة العامة بها إلا بما يضمن الحق في أدائها.

إن تجربة دبي في هذا المضمار تستحق الإشادة؛ إذ تسمح السلطات للمطاعم بتقديم الوجبات في نهار الصيام، كانت سابقا بشرط وضع ساتر، ولكنها في السنوات الأخيرة ألغت هذا الشرط، وفي لبنان تناول الطعام والشراب في نهار رمضان خاضع لسلطة الأفراد مطلقا، ولا يوجد أي نص قانوني عام يحظره.

في السويد وتحديدا في أزمة كورونا، احتارت السلطات بين سلطة الفرد وسلطة القانون فيما يتعلق بالالتزام بالإجراءات الاحترازية لمكافحة الفيروس، وأقرت في النهاية أن الالتزام بالإجراءات من سلطة الفرد لا سلطة القانون، فكانت دول العالم تفرض على مواطنيها الالتزام بارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي وحظر التجول إلا السويد، حيث كان مواطنوها يعيشون حياة طبيعة، إلا أن ذلك لم يدم طويلا فقد تفشى الفيروس، واكتظت المستشفيات بالمرضى وتوفي مئات الأشخاص فاجتمع البرلمان ومنح الحكومة سلطة فرض الإجراءات الاحترازية لمواجهة الوباء، وانتقلت بذلك سلطة الالتزام بها من الفرد إلى القانون.

في أوروبا توجد بنوك لحفظ النطف بغرض الإنجاب، والتعامل معها يخضع بكل الأحوال لسلطة الأفراد بناء على اعتقاداتهم الدينية؛ فالفقه الإسلامي مثلا يجيزها في حياة الزوج، فإذا توفى لا يجوز للزوجة أن تستخدم نطفة زوجها؛ لأن العلاقة الزوجية انتهت بوفاته. ويسمح في دبي بعمليات لتحديد نوع المولود، فالإباحة والحرمة هنا لسلطة الفرد، ولكنها في بعض البلدان الغربية محظورة ولا يحق للأفراد تحديد جنس مولودهم بناء على قوانين صارمة لمكافحة التمييز الجندري.

في بلادنا العربية والإسلامية، لا بد من إعادة الاعتبار لسلطة الفرد، باعتبارها إحدى أهم عناصر الحريات المدنية، وأهم الحقوق الإنسان المعاصر، وحتى لا تكون القوانين الدينية والأعراف السائدة والقيم الراسخة عائقا أمام التنمية، وأن الفرز الدائم والمستمر بين سلطة الفرد وسلطة القانون ضمان لتنمية دائمة ومستمرة، فمع المضي في التحديث والعصرنة، لا بد أن تواجه المجتمعات معوقات وحواجز وعراقيل وإشكاليات لا بد من تجاوزها؛ ومن أهمها الحقوق والحريات على صعيدي الفرد والمجتمع، وبين ما يجب أن يكون من سلطة الأفراد على أنفسهم وبين ما يجب أن تكون تحت مظلة القانون العام. إن هذا ما كان من أمر بغداد في عصرها الذهبي؛ فقد كانت تحوي المتناقضات والمتنافرات الدينية والاجتماعية حتى وصفها بعض علماء الدين بأنها دار فتنة لا يجب أن يعيش فيها تقي لكثرة ما فيها من المحرمات، وكذلك كانت قرطبة التي عاشت فيها أصناف دينية وعرقية وقومية متعددة، إلا أنها في كلتا الحاضرتين كانت تحت مظلة قانون عام يقر بسلطة الأفراد على أنفسهم، مما حول بغداد وقرطبة إلى منارتين مشعتين بالمدنية والحضارة، وكذا البلدان الغربية لم تتقدم إلا بعد استيعابها للكثير من العرقيات والقوميات والانتماءات الروحية والأيديولوجية كالعرب والآسيويين واللاتينيين، مما تطلب نقل الكثير من القوانين من سلطة القانون إلى سلطة الفرد، واستحداث قوانين في اتجاهات متعددة بهدف منحهم المزيد من الحقوق والحريات، لكي يندمجوا في بيئتهم الجديدة، وحتى يمكن الاستفادة منهم بضخ مهاراتهم وقدراتهم وإمكانياتهم في الاقتصاد والتنمية والإعمار.

إن الخروج من وحل التخلف والتأخر يبدأ أولا وآخرا، بالإنسان الذي لن ولن يكون مجرد عنصر بلا إرادة أو كائن خاضع، بل إنه محور الحضارة وجوهر المدنية والاعتراف بسلطته على نفسه والإقرار بحقوقه وحرياته، وأن أي تعامل مع فرد أو مجتمع أو شعب أو أمة بغير هذه العناصر البديهية، لن يؤدي سوى للمزيد من الانحدار والضياع.