شمولية الاتصال، خصوصية الثقافة


فئة :  مقالات

شمولية الاتصال، خصوصية الثقافة

ثمة بين الاتصال والثقافة من عناصر الالتقاء والتكامل أكثر مما بينهما من مكونات الجفاء والاختلاف؛ فالثقافة ستنحصر وتركد لا محالة، إن هي لم تتكئ على وسائل للاتصال تضمن لها الذيوع والانتشار، والاتصال بدوره سيبقى دون جدوى تذكر إذا لم توافِه الثقافة بالمعلومات والمعارف والمضامين.

لا ينحصر الأمر في استوظاف الثقافة لوسائل الاتصال، بغاية كسر طوق العزلة وضيق السعة، ولا في لجوء وسائل الاتصال للثقافة لتجاوز بعدها الأدواتي الخالص، بل يتعدى ذلك ليطال طبيعة كليهما، وآليات تصريف الخطاب لدى كل منهما، وكذا المرجعية التي تحكم مسار كل واحدة منهما.

ولئن كانت الثورة التكنولوجية للعقود الثلاثة الأخيرة قد أثرت حقل الإعلام والمعلومات والاتصال أدوات ومضامين، فإنها وإن بوتيرة أقل، قد ساعدت إن لم يكن في إنتاج المعارف والرموز، فعلى الأقل في طرق وأنماط تنقلها وتداولها بين الأفراد والجماعات.

وعلى هذا الأساس، فشمولية الاتصال (ممثلة أساسا في انفجار الشبكات المعلوماتية وتكاثر الأقمار الصناعية وفورة التلفزة العابرة للحدود وغيرها) لم تزح (ولا يمكن لها بأي حال أن تزيح) عن الثقافة (عن الثقافات أعني) ما يميزها ويكون خصوصيتها، بقدر ما أصبح بإمكانها العمل بجهة توسيع فضاء إنتاجها وتوزيعها واستهلاكها.

ومعنى هذا أنه لو كان لشمولية الاتصال أن تفعل في الخصوصية الثقافية بجهة من الجهات، فلن يكون لها ذلك إلا بقدر قابلية ذات الخصوصية وتجاوبها مع الشمولية إياها، وقدرتها على ذلك،ومعناه أيضا أن ما يسمى منذ مدة بالتكنولوجيات الثقافية لا يخرج عن هذا السياق، سياق التجاوب بين شمولية الاتصال وخصوصيات المجال الثقافي.

والواقع أن العلاقة بين شمولية الاتصال وخصوصية الثقافة لا تنحصر فقط في جانب التجاوب المشار إليه، بل تتعداه إلى آليات من الارتباط جديدة /متجددة، إن لم تكن موحدة لاتجاه مسارهما؛ فهي تدفع بالتأكيد بجهة التفاعل والتأثير في بعضهما البعض.

هناك، فيما يبدو، ثلاثة مظاهر كبرى تستجلي ذلك وتؤكده:

- المظهر الأول، وتتغيا شمولية الاتصال من خلاله إبراز الخصوصيات الثقافية وتقييمها على نطاق واسع، على نقيض عهود حالت وسائل النقل والإعلام والاتصال دون تنقل المعطيات والرموز خارج الفضاء الواحد، بسبب ارتفاع الكلفة أو ضعف التجهيزات.

لا يروم التلميح هنا إلى ما للبث عبر الأقمار الصناعية من امتيازات، ولا ما لمتعدد الأقطاب من فضل، بل وكذلك ما لشبكة الإنترنيت من عطاءات لم يكن تداول الثقافة من قبلها جميعاً، يتعدى أبناء الفضاء الضيق الواحد، أو في أحسن الأحوال الفضاءات المجاورة المباشرة.

ولئن كانت الأقمار الصناعية قد ساهمت بعمق في تدفق المضامين الثقافية (على الأقل بالقياس إلى عدد القنوات الفضائية ذات الطبيعة الثقافية والتربوية والعلمية وغيرها)، فإن شبكة الإنترنيت لم تفتأ بدورها تسهم في بلوغ مكتبات ومعاهد ومتاحف ومراكز بحوث وجامعات ودور نشر، لطالما حالت "الندرة التكنولوجية" دون بلوغها أو معرفتها حتى.

لا نعتقد في المطلق بأن بلوغ الثقافات المحلية أو الوطنية لشبكات الإعلام والاتصال الكبرى، يمنحها صفة "العالمية" أو القدرة على الفعل المباشر في الثقافات الأخرى، لكنه يمنحها دون شك سبل "وضعها على المحك" مع الثقافات الأخرى، ويوفر لها وإن على المدى الطويل، إمكانيات كبيرة للتعارف والتلاقح.

- المظهر الثاني (في امتداد للأول) ونعتقد في خضمه بأن شمولية الاتصال لا تدفع فقط بجهة تقييم الثقافات المحلية أو الوطنية، بل وأيضا بجهة إفراز خصوصيات بقيت لعهود طويلة لصيقة بفضائها ومحيطها المباشر.

ليس المقصود هنا عملية الموسطة التي منحتها تكنولوجيا الاتصال لخصوصيات أفرزتها الحروب (في البلقان كما في إفريقيا كما في غيرها)، ولكن أيضا الحق في خلق قنوات فضائية تتحدث بلغة ذات الخصوصيات (الأكراد ضمن أقليات أخرى) أو خلق مواقع بالإنترنيت تعتمد اللغة إياها، حتى وإن كان زوار ذات المواقع هامشيين كحال الطوائف مثلا أو غيرها.

والمقصود هنا باختصار أن شمولية الاتصال قد منحت الخصوصيات الثقافية فرصا للبروز، بعدما كانت الثقافات الطاغية قد أوشكت على طمس معالمها الكبرى.

- المظهر الثالث، ويتجلى لنا بالأساس في قدرة شمولية الاتصال على إفراز صناعات ثقافية لخصوصيات تبقى محلية في غياب الوسائل والأدوات إياها.

ليس التلميح هنا فقط إلى الأقراص المدمجة المتضمنة للعديد من مآثر وطقوس وتمثلات ذات الخصوصيات، ولا إلى شيوع العديد من الرموز الثقافية منحصرة التأثير إلى حين عهد قريب، ولكن أيضا إلى انتشار مواقع بالإنترنيت تتغيا التعريف بذات الخصوصيات، والدفع بتميزها، وإن كان لمجرد التميز من أجل التميز أو هكذا يبدو أحيانا.

ولئن كان من شبه القار أن مد العولمة المتسارع منذ ثمانينيات القرن الماضي، قد أدى إلى اتجاه العديد من الخصوصيات إلى التقوقع والانغلاق ورفض الآخر (جراء المد التنميطي المتزايد)، فإن العديد من الخصوصيات الثقافية قد سارعت إلى مواجهة ذات المد، عبر لجوئها إلى ما توفره تكنولوجيا الاتصال من سبل وإمكانات، وأيضا عبر تمكنها من تملك ذات التكنولوجيا والنجاح في موطنتها.

والسر في ذلك لا يكمن فقط في خصوصية القيم التي تجاوبت مع ذات التكنولوجيا (أو تفوقها على ما سواها من قيم) ولكن لربما هو كامن في قدرة أصحاب القرار على إنجاح ما يمكن تسميته ب "التقاطعات" بين التقني والثقافي، على خلفية من السيادة الضمنية للمرجعية الثقافية الأصل، وهو أمر تكفي دولة كماليزيا أو الهند أو العديد من "الجيوب التكنولوجية" بدول أمريكا اللاتينية، لتبيانه.

إذا كانت شمولية الاتصال قد "مدت يد العون" للثقافات الوطنية، قصد تبيان تميزها عن بعضها البعض، وإبراز أوجه الخصوصية التي تطبعها، فإنها بالمقابل (وعلى النقيض من ذلك) قد ساهمت وإلى حد ما في تقويض بعض من أسسها، أو المس ببعض من مميزاتها.

والسر في رأينا، لا يكمن فقط في كون لكل منهما وتيرته (السرعة والآنية بالنسبة للاتصال، التأني والمدى الطويل بالنسبة للثقافة)، ولا في الطبيعة المتمايزة التي تطاولهما (الانسياب بالنسبة للاتصال والقارية بالنسبة للثقافة)، ولكن نراه كامناً أيضا في ثلاثة مستويات أخرى:

- المستوى الأول (المعبر عن تنافر شمولية الاتصال مع خصوصية الثقافة) ويتراءى لنا في البعد السلعي الذي يعمل الاتصال على إلباسه للثقافة، وطبعها بطبعه في الشكل كما في الجوهر.

والمقصود بهذا، إنما القول بأنه مع تقدم اقتصاد السوق (ممثلا في العولمة) وتكريس "ثقافة" السوق، فإن الرائج ألاّ قيمة للشيء، إن هو لم يقيم كسلعة وفق منطق العرض والطلب، سيان في ذلك (أو يكاد) مواد الاستهلاك الجماهيرية ورموز الهوية والذاتية وقيم التميز الحضارية.

قد لا يبدو العيب كبيرا (مع العولمة واقتصاد السوق وانفجار تيارات المعلومات والمعارف) في ثقافة السلعة؛ فهي المهيمنة وهي المرجعية أو تكاد، لكن العيب لربما يأتي من التوجه إلى "تسليع" الثقافة، وتحويل مضامينها إلى بضائع وأدوات ومواد للاستهلاك العابر.

بالتالي فحتى لو تم التسليم جدلا بمركزية السوق في تقييم "السلع الثقافية" (كتبا كانت أو أسطوانات أو لوحات فنية أو غيرها)، فإنه من المستحيل إخضاع الثقافة، كتمثلات ونمط عيش وطريقة تفكير، لطقوس السوق وآليات اشتغاله.

هذا المستوى في التنافر مركزي فيما نتصور، لا على اعتبار توازي خط كل من الاتصال والثقافة، ولكن أيضا بسبب تعذر اختزال فضاء أحدهما في فضاء الآخر.

- المستوى الثاني، ويتمثل في اتجاه الاتصال بجهة الشمولية، في الآن الذي تتشبث فيه الثقافة بمبدإ الخصوصية، حتى وإن في تطلعها إلى الكونية.

إذ لما كانت العولمة (وفي صلبها اقتصاد وثقافة السوق) تدفع بجهة الشمولية (غير آبهة بما قد يكون تشبثا بالخصوصيات)، فإنها بذلك إنما تدفع بجهة سيادة "الثقافة الأقوى"؛ أي تلك التي لها من إمكانات الاتصال ما يجعلها حاضرة بقوة في فضاء الخصوصيات، وهو السبب الجوهري وراء وجود "ثقافات كونية" لا تقيم توازناً بين العالمي والمحلي، بقدر ما تعمل على ارتهان الثاني لفائدة الأول، وابتلاع مقوماته وسبل المناعة لديه والممانعة من بين يديه.

ليس المقصود مما سبق، القول ب "نهاية الخصوصيات الثقافية" في ظل "سيادة" ثقافة كونية (أنجلوساكسونة بالأساس)، ولكن المقصود هو التأشير على حقيقة التقدم المطرد لمنظومة في تصور العالم على خلفية من ابتزاز الصناعة والتقنية والسوق، لقيم الخصوصية والتميز التي تدفع بها الثقافة ومنظومات القيم "المستهدفة". بالتالي، فالمطالب به، في هذه النقطة بالذات، هو التسليم بمبدإ الكونية، لكن الكونية الدافعة بالخصوصيات، لا العاملة على توحيدها وإدغامها في الأقوى منها أو ضمنها.

- المستوى الثالث ويكمن، في اعتقادنا، في التوظيف الإيديولوجي الذي يخضع له مبدأ شمولية الاتصال، بغرض إقامة و"تسييد" ثقافة كونية من جانب واحد، على غرار مبدإ الخصوصية الثقافية الذي هو القاعدة الأساس.

لا يتعلق الأمر هنا، كما في الحالات السابقة، في تقديم "قيم" الليبرالية الجديدة وإخضاع "السلع" الثقافية لها (بمنظمة التجارة العالمية، كما بالمنظمات المختصة الأخرى) دونما إيلاء اعتبار يذكر لمطالب الدول والشعوب (المستضعفة أقصد)، ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى التوجه بجهة إخضاع المجال الثقافي ذاته لسياسات عهدناها موضوعة أصلاً لمجال الاتصال، من قبيل سياسات التحرير وإعادات التقنين والخوصصة وما سواها.بالتالي، فشمولية الاتصال، في نظر الخطاب الإيديولوجي السائد، لا توازيها في نهاية المطاف، إلا كونية الثقافة... تماما كما حاول نائب الرئيس الأمريكي السابق آل غور، التأسيس لذلك من خلال دفعه بأطروحة "المجتمع الكوكبي" الحميمي؛ أي المجتمع الكوني..."المنصهر" في إيديولوجيا "ثقافة الاتصال".

يقول برزنسكي (مستشار كارتر) في السياق ذاته: "إن المجتمع الوحيد الذي بلغ مستوى المجتمع الكوني؛ أي أصبحت في ظله نماذج الحياة والسلوك وتنظيم المجتمع وتنظيم المقاولات، طبيعية، هم الولايات المتحدة"، بالتالي (يضيف) "لم يعد وارداً استخدام مصطلح الإمبريالية، لأن المجتمع الكوني أصبح النموذج والمرجع الذي يجب تقليده من لدن باقي دول العالم".

أي معنى إذن، لا بل وأي مستقبل، للخصوصيات الثقافية إذا كان توجه الأقوياء ينحو منحى من هذا القبيل؟