رهانات الإسلام في فرنسا


فئة :  مقالات

رهانات الإسلام في فرنسا

-1-

يبدو "سطح" الإسلام في الغرب هادئا ساكنا في الأوقات العادية، لكنه سرعان ما يخرج عن مسارات هدوئه وسكونيته كلما استجد مستجد، من طبيعة سياسية أو اجتماعية أو دينية، ناهيك عن تبعات العمليات الإرهابية التي ينسبها منفذوها للإسلام وتحسب على المسلمين؛ أي تسجل ضمن "سيئاتهم" وما تقترفه أياديهم من فظاعات ومن شرور.

ولذلك، فإن رهانات الإسلام غالبا ما كانت ولا تزال مرتبطة بالأبعاد الأمنية الخالصة، فتجد تصريفاتها في القوانين والتشريعات واللوائح التي تطال هذا الجانب من الديانة الإسلامية أو ذاك؛ بيد أن ثمة مسألة جوهرية غالبا ما يتم تغافلها أو تجاوزها أو اعتبارها من القضايا الثانوية: مسألة تمثيلية الإسلام والمسلمين في فرنسا، في أوروبا وفي الغرب بوجه عام.

العلاقة بالدين ومع الدين في فرنسا تحتكم في جوهرها وصيرورتها لمبدأ العلمانية ولقانون العام 1905

يبلغ عدد المسلمين بفرنسا حوالي 5 مليون نسمة، أي ما نسبته 6 إلى 7 بالمائة من الساكنة، معظمهم من أصول مغاربية وإفريقية وتركية، جزء ضئيل منهم فقط هم فرنسيون أصليون، اعتنقوا الإسلام وارتضوا ممارسة شعائرهم في ظله. وعلى الرغم من تصنيفهم جميعا ضمن خانة "المجموعة المسلمة" الفرنسية، فإن "فضاءهم العام" مخترق من لدن فاعلين ذوي مصالح تتقاذفها التأثيرات والصراعات والتجاذبات، ناهيك عن تنوع الارتباطات والتحالفات التي ينسجونها أو تنسج باسمهم مع هذه الجهة الأجنبية أو تلك.

إن العلاقة بالدين ومع الدين في فرنسا تحتكم في جوهرها وصيرورتها لمبدأ العلمانية ولقانون العام 1905. الدولة، وفق ذوات المبدأ والقانون، لا تعادي الديانات ولا تضيق على ممارستها، لا بل ولا تتخذ موقفا منها. لكنها تصنفها حصريا ضمن المجال الخاص؛ أي لا تقبل بأن تجد الأديان تعبيراتها وتمظهراتها في الفضاء العام، أو بما هو مشترك عام كالمدرسة والإدارة وباقي المرافق العمومية...وهكذا.

 

ولأن العلمانية علمانيات، فإننا غالبا ما نجد توتّرا جليا بين القراءة الصارمة لها، والتي لا تقبل مثلا باستمرار بناء المساجد ودور العبادة والمدارس الدينية، وبين القراءة المعتدلة التي تتغاضى عن ذلك، كما الحال في منطقة اللورين، والتي لا تأخذ إلا ببعض جوانب قانون العام 1905 وبصورة مضمرة فضلا عن ذلك.

في الحالتين معا، نلاحظ أن الدولة الفرنسية غالبا ما تلجأ للاعتبارات الأمنية في تعاملها مع "المسألة الإسلامية"، فتعمد إلى تشديد المراقبة على المساجد وإغلاقها أحيانا، لا تتحرج من تتبع سلوك وممارسات الأئمة والمرشدين، ولا تتوانى في طرد من تبين لها أنه يخدم هذه الإيديولوجيا المتطرفة أو تلك.

في المقابل، فإن السلطات الفرنسية لا تتردد في القبول ببعض "السلفيين المعتدلين"، وتدفع بهم للواجهة كطرف محاور إن تأكد لديها احترامهم للنظام العام وتوقيرهم لـ"قيم الجمهورية" المتوافق بشأنها داخل المجتمع الفرنسي من عقود عدة مضت.

من يمثل المجموعة المسلمة في فرنسا، وفي الغرب بوجه عام؟ يمثلها الأعيان: وهم خليط من الأئمة ورؤساء جمعيات مدنية ودينية، ومنتخبون وتجار ورجال أعمال وممثلو وكالات أسفار...وهكذا...مزيج من مواصفات مختلفة ومهن متباينة ومستويات تكوين موزعة بين علماء مشهود لهم بالكفاءة والاعتدال، وعامة لا تلوي إلا على معرف سطحية لقضايا العقيدة والشريعة وما سواهما.

يتعذر على المرء والحالة هذه، أن يقيم تمايزا دقيقا بالنسبة لهؤلاء الأعيان، بين "الممارسة الدينية للمصالح الخاصة"، وبين الديانة باعتبارها إشكالية محيلة على رهانات متداخلة قوية: اقتصادية فيما يتعلق بإشكالية الحلال والحج ومصادر التمويل الخارجية، ثم سياسية فيما يخص طبيعة العلاقة مع الفاعلين السياسيين والدينيين داخل فرنسا وخارجها، ثم دينية فيما يحيل على المؤسسات التمثيلية للمسلمين، لا سيما فيما يتعلق، منذ بداية الألفية، بانتخاب أعضاء المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وفروعه الجهوية والمحلية.

ولذلك، نجد أن المساجد الكبرى (بباريس وستراسبورغ ومارسيليا وبوردو وغيرها) غالبا ما تكون مكمن تجاذبات وصراعات فيما بين فرقاء عدة من الجمعيات والتمثيليات الدينية...أو من يتحدث باسمها لدى السلطات المركزية والجهوية والمحلية على حد سواء.

-2-

لا تسلم تمثيلية مسلمي فرنسا من تدخلات البلدان الأجنبية، لا سيما الجزائر وتركيا والمغرب، حيث جالياتها هي الأكثر عددا وعديدا هناك، ناهيك عن بعض بلدان الخليج التي تروج لهذه المنظومة العقدية أو تلك، وتدعم من يعمل على تصريفها بالغرب، بالمال وبالبنية اللوجيستية.

القسمة لم تعد خافية إذن، بل باتت ثابتة وقارة: للمغرب "اتحاد مساجد فرنسا"، للجزائر "الفيديرالية الوطنية لمسجد باريس الكبير"، ولتركيا "لجنة تنسيق المسلمين الأتراك بفرنسا"... إلى جانب "اتحاد المنظمات الإسلامية لفرنسا" التابع لجماعة الإخوان المسلمين، والتي تتوفر على شبكة واسعة من الجمعيات وعشرات المساجد، وعدد لا يستهان به من اللقاءات الدورية التي تعقد بهذه الجهة من فرنسا أو تلك وبصورة منتظمة...أضف إلى ذلك التواجد الكثيف لشبكات إسلامية متعدية الحدود، من قبيل حركة التبليغ أو الحركات السلفية التي تتحكم في مئات المساجد، مرافقا وخطبا بالمنابر.

ولذلك، فليس من المبالغة في شيء القول بأن البعد الدولي في المسألة، إنما هو بعد أساس وجوهري، لا سيما على مستوى تدبير قضايا الديانة الإسلامية وقضايا المسلمين في فرنسا. والدليل على ذلك أن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي أنشئ في العام 2003، بتوافق مع الدولة الفرنسية، بات بعد مدة قصيرة من عمره فقط، مكمن صراعات وتجاذبات قوية بين الدولة والأعيان من البلدان الأجنبية والفيدراليات الكبرى التي تمثل الديانة الإسلامية...لدرجة فقد معها المجلس جزءا كبيرا من مصداقيته وأدى إلى نفور العديد من المندوبين، ونأيهم بأنفسهم خلال عمليات التصويت على هياكله وبنياته، ناهيك عن انتخاب أو تزكية الرئيس.

ولهذا السبب، وعلى الرغم من ذلك أو كنتيجة حتمية له، بات البعض ينظر إلى هذا المجلس باعتباره أداة طيعة بين يدي البلدان الأجنبية التي تدبر من خلاله أمور ديانة المنتمين إليها من جاليتها، أو الممثلين لها من بين ظهرانيه...ولو من خلف ستار.

المفارقة هنا أنه على الرغم من تحفظ الدولة الفرنسية على "تدخل" البلدان الأجنبية في مسألة هي من صميم سيادتها ومصالحها، فإنها لا تتوانى في التنسيق مع هذه البلدان، لا سيما في فترات التوتر المترتبة عن العمليات الإرهابية التي تتعرض لها فرنسا، فيختلط الأمني بالديني وبالسياسي في صورة تثير الانتباه دون جدال.

ولعل صعوبة تدبير الديانة الإسلامية هنا، إنما يجد جزءا من أسبابه في هذه الاعتبارات الأمنية، التي باتت تطغى على سياسات التعاون والتنسيق بين فرنسا والبلدان الأجنبية ذات الجاليات الكثيفة والتواجد القوي.

هذه العناصر، البنيوية في جزء كبير منها، هي التي تمثل اليوم الخيط الناظم لكل محاولات إعادة هيكلة "الحقل الديني الإسلامي" في فرنسا. ومع ذلك، وعلى الرغم من ترهله واشتداد المزايدة من حوله، فإن الدولة الفرنسية لا تستطيع تجاوز المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، على الرغم من كونها أقامت من مدة "هيئة للحوار مع الإسلام" بغاية ضبط تنوع المسلمين، لا سيما من خلال مفكريهم وزعمائهم الجمعويين.

صحيح أن الهيئة المذكورة غير كافية، لكنها مدخل أساس بالنسبة للسلطات الفرنسية بجهة إعادة طرح الإشكاليات القائمة (المزمنة يقول البعض) من قبيل تكوين الأئمة وتمويل المرافق الدينية وتدبير المداخيل وضمان تمثيلية سليمة للديانة الإسلامية...مع استحضار خشية أن ينتج عن العلاقة بين المجلس والفيدراليات الكبرى تشنجات قد يكون من شأنها العودة إلى النقطة الصفر.

السلطات الفرنسية لا تتردد في القبول ببعض "السلفيين المعتدلين"، وتدفع بهم للواجهة كطرف محاور إن تأكد لديها احترامهم للنظام العام

-3-

إن تدبير الديانة الإسلامية بفرنسا مسألة معقدة للغاية، والرهانات التي تجرها من خلفها عديدة ومتنوعة:

+ فالدول الأجنبية تراهن على تدبير "إسلام جالياتها" وفق مرجعيتها وبالاحتكام إلى ترتيباتها، لا بل وتعتبر ذات الجالية امتدادا لها، جزءا من منظومتها، وهو السلوك الذي يمكن أن نلاحظه في حالة الجزائر والمغرب وتركيا. بالإضافة إلى ذلك، تراهن بعض بلدان الخليج، لا سيما العربية السعودية والإمارات وقطر، على استمالة جزء من مسلمي فرنسا وإغرائهم بالمال في الغالب الأعم، لتبني أيديولوجيتها الدينية ومنظومتها العقدية...ناهيك عن التيارات السلفية المتشددة التي قد لا يستطيع المرء تحديد طبيعة انتماءاتها ولا استشراف مواقفها وسلوكها، ولا نوعية تواجدها بهذه الجهة من فرنسا أو تلك.

+ بالمقابل، نلاحظ أن الدولة الفرنسية تراهن على استنبات إطار جديد لتدبير الديانة الإسلامية. إنها تريد "إسلاما حقيقيا"؛ أي "إسلاما فرنسيا، محليا"، أكثر تمثيلية للخمسة مليون مسلم المتواجدين على ترابها، يكون إذا لم يكن مستقلا، فعلى الأقل "بعيدا عن توجيهات القنصليات" كما يقال. هو الوحيد الذي يبدو للدولة الفرنسية ناجعا ليس فقط لمواجهة خطاب الكراهية الذي يروج له اليمين المتطرف، بل أيضا لمحاربة الفكر التكفيري الذي يدفع به "الجهاديون" مباشرة بالمرافق الدينية، أو من خلال منصات وشبكات التواصل الاجتماعي والشبكات الرقمية...والذي يعتبر أفق "إقامة أمة إسلامية" هو الأفق الذي يجب الاشتغال عليه...