صناعة التطرف الإسلامي


فئة :  مقالات

صناعة التطرف الإسلامي

تعبير "صناعة التطرف الإسلامي" الذي أدرجناه عنوانا لهذه المقالة، ليس من اختيارنا، ولا هو من التعابير الدخيلة على دراسة الظاهرة الدينية في العالم، وضمنها بالتأكيد ظاهرة الإسلام في الغرب. "صناعة التطرف" التي نحن بصددها هنا، إنما تروم التوقف عند تقرير مهم للغاية، مفصل وشامل، أنجزه المهندس والأكاديمي الفرنسي حكيم القروي، لفائدة "معهد مونطيني للبحوث والدراسات"، والصادر ضمن منشوراته لشهر شتنبر من هذه السنة (يقع في حوالي 620 صفحة من الحجم الكبير، ومتوفر بموقع المعهد على الإنترنيت).

تقرير معهد مونطيني يقدم للقارئ بانوراما شاملة وموثقة، تاريخية وسوسيولوجية، لخلفيات ومرجعيات وآليات ومصادر إنتاج التطرف

ومع أن التقرير صيغ في الأصل في أفق الاستشارات الواسعة التي أطلقتها الحكومة الفرنسية، على مستوى المناطق والأقاليم والجهات، بغرض جمع المقترحات الكفيلة ببلورة تصور جديد للإسلام في فرنسا أو للإسلام الفرنسي، كان الرئيس مانويل ماكرون قد وعد به في برنامجه الانتخابي، فإن أهميته تتأتى أيضا من اعتبارين اثنين آخرين:

+ الاعتبار الأول، كون هذا التقرير يقدم للقارئ عموما (وللقارئ الفرنسي على وجه التحديد) بانوراما شاملة وموثقة، تاريخية وسوسيولوجية، لخلفيات ومرجعيات وآليات ومصادر إنتاج التطرف، سواء في الشرق العربي، وفي بعض بلدان الخليج حصريا، أو في الغرب، حيث لذات التطرف مصادره ومستوياته ومؤسساته، الرسمي منها كما غير الرسمي على حد سواء.

+ الاعتبار الثاني، لأن هذا التقرير جاء في خضم حمى النقاشات المستمرة حول المشاكل المترتبة عن التنظيم السائد للديانة الإسلامية، ومن ثمة مستقبلها، باعتبارها ثاني أكبر ديانة سماوية بفرنسا، لا سيما على ضوء تزايد مد الأطروحات الأصولية، المعتدل منها كما المتشدد، التي يتم تفريخها أو الترويج لها من خلال وعبر ما يسميه صاحب التقرير بـ "مصانع إنتاج التطرف الإسلامي".

بيد أن حكيم القروي (وهو صاحب تقارير سابقة من ذات الطينة) لا يكتفي بهذا التشخيص الجاف، ولا يقتصر عمله على المعاينة الخالصة لتموجات ظاهرة باتت محط مزايدة من لدن جهات عدة، داخلية وخارجية، بل يعمد إلى بلورة توصيات عملية قياسا إلى الخلاصات والاستنتاجات التي أفضى إليها.

يحدد التقرير التطرف الإسلامي في كونه "تلك الإيديولوجية المعاصرة التي تستهدف إقامة مشروع إسلامي كوني"، من رافدين اثنين كبيرين: رافده الأول أن يكون الإسلام إطارا حياتيا شاملا للفرد وللمجتمع على حد سواء...ورافده الثاني، وضع رؤية كونية شاملة للإسلام...يكون الغرض منها ليس فقط إدماج الأفراد والجماعات في صلب هوية جمعية جديدة ومتجددة، بل أيضا تكريس أطروحة "الإحياء الإسلامي"، التي تراجعت أو انحسر مدها أو ضاقت بها السبل جراء هذا الإكراه، الموضوعي والذاتي، أو ذاك.

وعلى هذا الأساس، فإن التطرف الإسلامي المقصود هنا، إنما يتمحور حول ثلاثة أركان أساس: تمثل واحد وموحد للعالم، كل العالم، ثم رؤية معينة لتنظيم المجتمع في مرجعياته وفلسفته الحياتية، ثم دور مركزي فاعل للدين كمدخل من مداخل ممارسة السلطة. وعلى هذا الأساس، فإن كل العلاقات الاجتماعية (بين المسلم وغير المسلم، بين الرجل والمرأة، بين الجماعة المسلمة والجماعة الأخرى الكافرة) والاقتصادية (المحيلة على المالية الإسلامية مثلا) والسلوكية (من قبيل ارتداء الحجاب وترك اللحية)...إلخ، إنما يجب أن تخضع، في تصور معتنقي التطرف الديني، لهذه الثلاثية في الزمن كما في المكان على حد سواء: اعتبار الإسلام المحدد الأساس لطبيعة وآليات اشتغال الدولة، ثم الارتكان إلى الشريعة، باعتبارها تجسيدا لشكل هذه الدولة وإطارها القانوني المرجعي.

عن التطرف الإسلامي كتمثل كوني شامل

القول هنا بأن التطرف الإسلامي هو تمثل كوني شامل، هو من القول بأن الإيديولوجية الثاوية خلفه، إنما تتغيا بلوغ هدفين أساسيين اثنين: أولا، إعادة أسلمة المجتمعات المسلمة بغرض إقامة الدولة الإسلامية الخاضعة في نمط حكمها للشريعة، وثانيا، نشر الإسلام على نطاق عالمي واسع، بالدعوة والتبليغ المباشرين على الأرض، أو بالارتكاز على ما حملته تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال من أدوات ومزايا وفرص.

هذا التصور، القائم، أو المراهن على إقامته، ليس وليد الزمن الحاضر، ولا هو من التموجات المعاصرة التي تدور هنا أو هناك. أبدا. هو تصور يرجعه صاحب التقرير إلى جذور فكرية وثقافية موغلة في القدم، برزت نبتتها في الهند في القرن الثامن عشر، وبرزت نبتة أخرى في العالم العربي منذ أواسط القرن التاسع عشر وما تلاه...فضاءان متمايزان دون شك، لكنهما يشتركان في خاصية كون الفضاءين معا كانا ضحية احتلال أوروبي مباشر، ثم هيمنة غربية واسعة، كان للإسلام بإزائها ردود فعل حدت من تأثيراتها ومن نفوذها، وإن في ظروف عصية وصعبة.

ولذلك، فقد برزت للوجود، نتيجة ذلك، حركات تبشيرية إسلامية وأحزاب سياسية ذات هوية دينية في الهند ثم في مصر (من لدن جماعة الإخوان المسلمين تحديدا) ثم في تركيا، ثم في المشرق، ثم في المغرب العربي وهكذا دواليك... إلى جانب التيار السلفي الوهابي، الذي نشأ وترعرع بالعربية السعودية وبات من حينه وبدون منازع، الإيديولوجية الدينية الرسمية للبلاد، والتي لم تتوان في تقويته بالداخل، ثم العمل على تصديره بآليات خشنة وناعمة إلى هذا الجزء من العالم أو ذاك.

عن التيار السلفي

ليس ثمة من شك في أن التيار السلفي (المعتدل منه كما المتشدد على حد سواء) و"تيار" الإخوان المسلمين" إنما باتا، بنظر صاحب التقرير، القلب النابض للتطرف الإسلامي في العالم. وعلى الرغم مما قد يكون اختلافا فيما بين التيارين، فإنهما يبقيان مع ذلك يرتويان من نفس المعين ويتقاسمان نفس الخاصيات: فهما معا عرب وسنة، ثم إنهما يراهنان على إعادة أسلمة المجتمعات والمؤسسات الإسلامية، عن طريق التربية والتعليم والعمل الجمعوي والتبليغ والدعوة، حتى وإن كانت بعض الأجنحة ضمن هذا التيار كما ضمن ذاك، ترفع لواء العنف في وجه الغرب أو في وجه بعض النظم السياسية الحاكمة التي تدور في فلكه، أو لا تحتكم إلى الشريعة في أحكامها، وفق ما تظن وتتصور.

على الرغم من طابعها المتشدد ومواقفها الحادة في الغالب الأعم، فإن للإسلاموية قوة جذب واستقطاب هائلة

التطرف الإسلامي في أوروبا

بهذه النقطة، يلاحظ التقرير أن الإيديولوجيا الإسلاموية، الإخوانية والسلفية الصرفة، قد تموطنت في بلدان أوروبا (في بريطانيا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا وغيرها) منذ موجة الهجرات الأولى القادمة من تركيا، ثم من المستعمرات القديمة، من الهند وباكستان، ثم من بلدان المغرب العربي، المغرب والجزائر وتونس، والتي كانت تحت الاحتلال أو الوصاية الفرنسية المباشرة.

كل الأدبيات التي تم الترويج لها، من خلال التنظيمات والجمعيات التي أنشئت لهذا الغرض، إنما كان الغرض منها تشكيل خطاب هوياتي إسلامي، يكاد يكون على النقيض مما هو سائد في بلدان أوروبا، لا بل ويراهن على إقامة "مجتمع مضاد" إسلاميا خالصا، على أنقاض مجتمعات لا يزال يرى إليها باعتبارها تهين الإسلام والمسلمين في هذه البقعة من العالم أو تلك...كان الغرض هو استنبات مواطنة إسلامية، على النقيض تماما مع المواطنة السياسية القائمة في بلدان المهجر، بلدان الغرب.

إسلاموية كتمثل كوني شامل، كمنظومة سلفية وكإطار تنظيمي مرجعي...هذه هي المفاصل الكبرى التي تبني وتؤسس للإيديولوجيا الإسلاموية، خطابا وعلى مستوى السلوك والممارسة... وهي إيديولوجية رصدت لها الوسائل والإمكانات والموارد الضخمة...إذ جندت لها بالسعودية مثلا، بنى تحتية متنوعة من قبيل "الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة" ورابطة العالم الإسلامي والجمعية العالمية للشباب المسلم والمنظمة الدولية للإغاثة الإسلامية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها.

وعلى الرغم من طابعها المتشدد ومواقفها الحادة في الغالب الأعم، فإن للإسلاموية قوة جذب واستقطاب هائلة، لا سيما لدى شباب (ومن مختلف أجيال الهجرة) يتماهى مع إسلام أرثوذوكسي، "نقي وصافي"، لا بل ورافض لكل مظاهر الحداثة التي تعرفها بلدان الغرب، والتي يطالب السلفيون بالانفصال عنها ثقافيا، باعتبارها نموذج واقع استيلاب وتفسخ.

ولذلك، فإن التقرير لا يتردد في تحميل المسؤولية، وإن بصورة غير مباشرة، للمستويات المؤسساتية الرسمية، التي أوكل إليها أمر الشأن الديني، لكنها لم تنجح فيه لهذا السبب أو ذاك. ويعطي المثال في حالة فرنسا تحديدا، بنموذج المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي لم يسهم كثيرا في تنظيم الإطار التنظيمي للإسلام في فرنسا، ولا حال دون تزايد مد الإيديولوجيا الإسلاموية بين الأفراد والجماعات هناك.

لذلك، نجده يقترح، على النقيض من هذا المجلس، إنشاء "جمعية إسلامية للإسلام في فرنسا"...تكون "محايدة ومستقلة عن البلدان/الأصل، أي عن تلك التي تهيمن اليوم على المساجد"، تكون مصادر تمويلاتها في غنى عن التمويلات الخارجية التي غالبا ما تكون مصحوبة بإكراهات والتزامات، وخاضعة لأجندات لا تخدم دائما واقع الإسلام والمسلمين هناك (ضريبة على المأكولات والمنتوجات الحلال، على مصاريف الحج والعمرة، على الزكاة وعلى تبرعات المحسنين...إلخ).

بمعنى أن يتكفل الدين الإسلامي بنفسه، تنظيما وتمويلا لدور العبادة والمؤسسات الإسلامية، دون الحاجة إلى هذه الدولة أو تلك، بما فيها الدولة الفرنسية ذاتها.

كما يقترح التقرير إلى جانب ذلك، توجيه الخطاب بجهة المسلمين المعتدلين، كي يعيدوا بدورهم توجيه بوصلة النقاش...ثم بجهة بلدانهم/الأصل، لا سيما فيما يخص القضايا العقدية الدقيقة... ثم فتح مسالك للحوار بين المسلمين المعتدلين والسلفيين على المستوى الأوروبي...لا سيما مع التيار الوهابي الذي يعتبره مثالا حيا للتطرف الإسلاموي... ولذلك، فليس من باب الغرابة في شيء أن يذهب القروي، في إحدى خلاصاته، إلى أنه "لا يمكن أن نحارب السلفية بنجاعة دون العربية السعودية".